والترك ، وتوضيح ذلك بالمثال الآتي :
إنّ الإنسان العاقل الواقف على وجود الطاقة الكهربائية في الأسلاك المنزوعة من جلدها ، لا يمسّها كذلك ، كما انّ الطبيب لا يأكل سؤر المجذومين والمسلولين لعلمهما بعواقب فعلهما ، وفي الوقت نفسه يرى كل واحد منهما نفسه قادراً على ذلك الفعل ، بحيث لو أغمض العين عن حياته وهيّأ نفسه للمخاطرة بها ، لَفَعَلَ ما يتجنبه ، غير انّهما لا يقومان به لكونهما يحبّان حياتهما وسلامتهما.
فإن شئت قلت : إنّ العمل المزبور ممكن الصدور بالذات من العاقل والطبيب ، غير انّه ممتنع الصدور بالعرض والعادة ، وليس صدوره محالاً ذاتياً وعقلياً ، وكم فرق بين المحالين ، ففي المحال العادي يكون صدور الفعل من الفاعل ممكناً بالذات ، غير انّه يرجح أحد الطرفين على الآخر بنوع من الترجيح بخلاف الثاني (المحال الذاتي) فإنّ الفعل فيه يكون ممتنعاً بالذات ، فلا يصدر لعدم إمكانه الذاتي.
وإن شئت فلاحظ صدور القبيح منه سبحانه أمر ممكن بالذات ، داخل في إطار قدرته فهو يستطيع أن يدخل المطيع في نار الجحيم ، والعاصي في نعيم الجنة ، غير انّه لا يصدر منه ذلك الفعل لكونه مخالفاً للحكمة ومبايناً لما وعد به وأوعد عليه ، وعلى ذلك فامتناع صدور الفعل عن الإنسان معا لتحفظ على الأغراض والغايات ، لا يكون دليلاً على سلب الاختيار والقدرة.
فالنبي المعصوم قادر على اقتراف المعاصي وارتكاب الخطايا ، حسب ما أُعطي من القدرة والحرية ، غير أنّه لأجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى ، واكتساب العلم القطعي بآثار المآثم والمعاصي ، واستشعاره بعظمة الخالق ، يتجنب عن اقترافها واكتسابها ولا يكون مصدراً لها مع قدرته واقتداره عليها.