ففيما نحن فيه إنّما يصحّ وقوع العقاب على المخالفة منه تعالى إذا لم يكن فيه قبح عقلي ، فلابدّ لمدّعي الأصل العقلي من نفيه ، وأنّى له بذلك ، كيف والعقل مستقلّ بقبح مؤاخذة من امر بمركّب علم عدّة من أجزائه وشكّ في جزئيّة الشيء الفلاني أيضا ، واستفرغ وسعه وبذل جهده في طلب الدليل على جزئيّته فلم يقف عليه ، على وجه أحسّ من نفسه العجز واليأس عن الوقوف عليه ، ثمّ اقتصر في امتثال الأمر بالمركّب المذكور على الإتيان بأجزائه المعلومة وترك المشكوك فيه. ومرجعه إلى أنّ الجهل بجزئيّته مع العجز عن العلم بها عذر عقلي رافع للعقاب على المخالفة على تقديرها ، لقبحه في حكم العقل. ولا يتفاوت الحال في ذلك بين ما لو لم ينصب الآمر دلالة على الجزئيّة أصلا وبين ما لو نصبها ثمّ اختفت على المكلّف.
وبالجملة الجاهل بجزء المكلّف به الملتفت إليه العاجز عن العلم به يجري عند العقل مجرى الجاهل الغافل الغير الملتفت إليه أصلا ، وهما عنده يجريان مجرى الجاهل الغير الملتفت والجاهل الملتفت العاجز عن العلم بأصل التكليف في قبح العقاب على المخالفة.
لا يقال : هذا منقوض ببناء العقلاء على لزوم مراعاة الاحتياط في مسألة الشكّ في جزئيّة شيء للمأمور به في الأوامر العرفيّة والامور المتعلّقة بهم.
ألا ترى أنّه إذا أمر الطبيب المريض بشرب دواء مركّب عن أجزاء ، فشكّ المريض في جزئيّة شيء له ولم يترتّب على وجوده في الدواء ضرر فهو لا يزال مراعيا للاحتياط والإتيان بذلك الجزء المشكوك فيه أيضا ، بحيث لو تركه مع القدرة على إتيانه فصادف المخالفة كان ملوما عند نفسه وعند غيره.
لأنّا نمنع استقرار بناء العقلاء على الالتزام بالاحتياط فيما هو من قبيل محلّ البحث ، وما ذكر من مثال أمر الطبيب ليس منه ، لأنّ أوامر الطبيب إرشاديّة صرفة ولا يترتّب على موافقتها ثواب ولا على مخالفتها عقاب ، وليس الغرض إلاّ إحراز خاصيّة تترتّب على ذات الفعل المأمور به وهو البرء من المرض ، ففي صورة عدم الإتيان بالجزء المشكوك فيه يحتمل عدم ترتّب الخاصيّة وهو احتمال للضرر الدنيوي ولو باعتبار البقاء في المرض ، لأنّ الكون في المرض ضرر واحتماله احتمال عقلائي ، ولا شبهة في أنّ بناءهم في نحو ذلك على مراعاة الاحتياط بما يدفع هذا الضرر المحتمل ، وكلامنا في الأوامر الشرعيّة الّتي يقصد بها الإطاعة والموافقة فيترتّب على موافقتها الثواب وعلى مخالفتها العقاب. واحتمال