وأضعف من الإيراد المذكور ، ما أورد على الآية الاولى من أنّ « ظنّا » نكرة ، وهو ظنّ في اصول الدين جزما ، فيحمل عليه الظنّ في قوله ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي ) لضابطة أنّ سبق مدخول « اللام » ينهض قرينة على إرادة العهد من « اللام » ، كما في قوله : ( كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ... )(١).
فإنّ سبق الذكر لا يقاوم ظهور التعليل ، مع أنّه في نفسه لا ينهض قرينة على إرادة العهد ، بل يحتاج إلى قرينة اخرى حاكمة على أصالة الحقيقة ، حتّى أنّ الحمل على العهد في الآية المستشهد بها ليس لمجرّد السبق بل لشخصيّة القضيّة ، فإنّ المراد من فرعون إنّما هو الشخص الخارجي المعهود الّذي دعاه موسى عليهالسلام إلى الحقّ فعصاه ، فلا يحتمل « الرسول » إلاّ إرادة موسى ، وهذا هو الموجب للحمل على العهد ، لا سبق الذكر كما توهّمه النحاة.
ولكن مع هذا كلّه نهوض الآيتين دليلا على أصالة حرمة العمل بالظنّ بالمعنى المبحوث عنه مشكل ، إذ الحقّ الّذي لا يغني عنه الظنّ إمّا أن يراد به ما هو في طول الظنّ أعني الواقع ، فيراد بعدم إغناء الظنّ عنه عدم كفايته في إحراز الواقع وترتيب آثاره على المظنون ، ومرجعه إلى نفي طريقيّة الظنّ إلى الواقع ، إمّا لكثرة ما يتّفق فيه من عدم المطابقة ، أو لما يتضمّنه من تجويز خلاف الواقع ، فإنّ ما أخذ في مفهومه خلاف الواقع كيف يحرز به الواقع من دون جعل شرعي؟
أو يراد به ما هو في عرض الظنّ أعني العلم ، فيكون معنى عدم إغناء الظنّ عنه عدم كفايته في سقوط التكليف ، ومرجعه إلى نفي بدليّته عن العلم وقيامه مقامه.
والاستدلال إنّما يتمّ على الأوّل ، وبه يثبت عموم المنع من العمل بالظنّ سواء كان في الاصول أو في الفروع في صورة انفتاح باب العلم أو صورة انسداد بابه ، ولكن لا دلالة في الآيتين على تعيّنه لا صراحة ولا ظهورا ، بل اختصاص المورد باصول الدين ربّما يوجب ظهور إرادة الثاني كما فهمه بعض المفسّرين.
وعليه فغاية ما يفيده الآيتان إنّما هو عدم إغناء الظنّ عن العلم في محلّ وقوع التكليف بالعلم ، فيختصّ باصول الدين فلا يعمّ الفروع ، لأنّ وقوع التكليف بالعلم إنّما يثبت في اصول الدين ، أو بصورة انفتاح باب العلم ، فلا يعمّ صورة الانسداد ، لأنّ وقوع التكليف بالعلم في الفروع إنّما يصحّ على تقدير الانفتاح لا مطلقا ، فأصالة حرمة العمل بالظنّ
__________________
(١) سورة المزّمّل : ١٥ و ١٦.