إدراكه بعد حصوله ، مع أنّها لو كانت متعرّضة لنفي حجّيته لكانت شاملة للضروريّات أيضا.
وفي دفع ثانيهما : أنّا ندّعي الحجّية في قطع العقل على تقدير حصوله ، لأنّه عبارة عن انكشاف الواقع ووجوب الأخذ بالواقع بعد انكشافه ضروريّ ، ويكفي فيه أدلّة الواقع ولا حاجة له إلى دليل آخر ، والعلم الإجمالي بوقوع الخطأ في النظريّات لا يمنع عن حصول القطع في بعض الموارد ، وبعد حصوله يستحيل تجويز الخطأ فيه من القاطع ، وتجويزه من غيره لا يقدح في حجّيته للقاطع على معنى وجوب ترتيب آثار الواقع على المقطوع به ، لأنّه في نظر القاطع ليس إلاّ الواقع.
المقام الثالث
في أنّ الأشاعرة بعد مخالفتهم العدليّة في أصل التحسين والتقبيح العقليّين وإنكارهم حكومة العقل رأسا ، تنزّلوا من باب المماشاة عمّا ادّعوه من السلب الكلّي إلى إنكار حكم العقل في مسألتين تتفرّعان على مذهب العدليّة :
إحداهما : وجوب شكر المنعم ، فقالوا : بأنّه لا حكم للعقل فيها.
واخراهما : الأشياء الغير الضروريّة النافعة قبل ورود الشرع ، فقالوا : بأن لا حكم له فيها أيضا لا بإباحة ولا حظر.
ووافقهم في الثانية بعض المعتزلة واختلف الآخرون ، فبعضهم إلى أنّه يحكم بالإباحة وآخر إلى أنّه يحكم بالحظر ، وثالث إلى الوقف ، ولا يرجع ذلك إلى قول الأشاعرة لأنّه نفي لحكم العقل وهذا توقّف في الحكم وعدمه ، ومعناه أنّه لا يدري أنّه يحكم أو لا؟ وعلى الأوّل بأيّ شيء يحكم؟
ومن الأعلام (١) من زعم في هذا المقام أن ليس في الأشياء ما اتّفق العدليّة على حكم العقل بإباحته ، تعليلا بأنّه إذا كان نحو شمّ الورد وأكل الفاكهة ممّا اختلف في إباحته وحظره ، فأيّ شيء يبقى ليكون إباحته ممّا اتّفقت عليه العدليّة؟
ثمّ أورد على من قال بأنّ ما يستقلّ فيه العقل ينقسم عند العدليّة إلى الأحكام الخمس مؤذنا بدعوى إجماع العدليّة عليه ، ورماه بالغفلة في هذه الدعوى لما زعمه من عدم اتّفاق العدليّة على الحكم بإباحة شيء ، ولا خفاء في أنّه ليس كما زعم ، لأنّ ما اتّفق العدليّة على
__________________
(١) القوانين ٢ : ٩.