وليس عند الأصحاب ممّا عدا هذين النوعين من الأدلّة العقليّة النظريّة ما يتمسّكون به على وجه الاستناد للتوصّل إلى الأحكام الشرعيّة ، وليس لأحد في هذين النوعين علم إجمالي بوقوع خطأ فيها فضلا عن كثيره.
فإن قلت : لعلّ نظر هؤلاء إلى ما ورد في الأخبار من « أنّ دين الله لا يصاب بالعقول » وأنّه « لا شيء أبعد عن دين الله من عقول الناس » (١) وما يقرب من ذلك.
قلت : مع أنّ ذلك لا يلائم كلام المحدّث ـ المصرّح بكون الجهة المانعة كثرة الغلط والاشتباه ، وأنّ هذه الأخبار معارضة بما هو أكثر وأرجح منها من الأخبار الدالّة على مرجعيّة العقل ممّا يستفاد منه كون العقل أيضا حجّة من الحجج ، وأنّه الرسول الباطني الّذي هو شرع من داخل ، كما أنّ الشرع عقل من خارج ، وأنّه حجّة باطنيّة ، وأنّه ما يثاب ويعاقب به ، وأنّه ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان (٢) ، إلى غير ذلك ممّا تقرب من هذه المضامين ـ أنّ مورد هذه الأخبار نظرا إلى سياقاتها إعمال العقل في إدراك علل الأحكام التوقيفيّة للتوصّل بها إلى نفس الأحكام ، نظرا إلى أنّ الأحكام منوطة بعلل خفيّة لا يدركها عقول الناس القاصرة ، بل لا يطلع عليها إلاّ الله سبحانه والراسخون في العلم الّذين عصمهم الله من الخطأ والزلل ، وأودعهم أحكامه وأوقفهم على عللها ومناطاتها.
وبالجملة : هذه الأخبار مسوقة في ردّ العامّة المخالفين حيث يستعملون عقولهم الناقصة في استنباط علل الأحكام من الطرق العقليّة الغير العلميّة المتداولة لديهم ، وكلامنا ليس في نحو هذه العقول المستعملة فيما ذكر ، وأصحابنا أيضا لا يجوّزون الركون إلى العقل بهذا المعنى ، كيف وأنّ المنع من القياس من ضروريّات مذهبنا.
فإن قلت : يمكن أن يكون نظرهم إلى ما يستفاد من جملة من الأخبار من أنّ الواجب علينا امتثال الأحكام الّتي بلّغها حجج الله تعالى الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، فكلّ حكم لم يكن الحجّة واسطة في تبليغه لم يجب امتثاله ، بل يكون من قبيل « اسكتوا عمّا سكت الله عنه » (٣) ـ على معنى كونه ممّا لم يأمر الله تعالى حججه بتبليغه ـ مثل ما رواه زرارة بسند صحيح ـ على الصحيح ـ عن أبي جعفر عليهالسلام في حديث في الإمامة قال :
__________________
(١) كمال الدين : ٣٢٤ ح ٩ والوسائل : ٢٧ : ٢٠٣ / ٦٩ و ٧٣ ، ب ١٣ ، من أبواب صفات القاضي.
(٢) الكافي ١ : ١١ و ١٦ / ٣ و ١٢.
(٣) لم نعثر عليه بعينه ، نعم جاء في نهج البلاغه هكذا : « وسكت عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلّفوها » نهج البلاغة الحكمة : ١٠٥.