ومنه جعل التكليف إيجابا في الواجبات وتحريما في المحرّمات على طبق تلك المصلحة ، ومنه نصب أدلّة قطعيّة على التكاليف المجعولة ، ويندرج فيه إنزال الكتب وإرسال الرسل ونصب الأوصياء وإعطاء العقل المستقلّ ، بل الأصل فيما لا يستقلّ به العقل بعد الكتاب هو النبيّ والوصيّ بعده ، بل لا نعقل بعد الكتاب والعقل دليلا قطعيّا منصوبا من الله سبحانه إلاّ النبيّ والوصيّ ، والسنّة القطعيّة بالتواتر أو الاحتفاف بقرائن القطع من فروعهما ، كما أنّ الضرورة والإجماع حيث يوجدان وقلنا بكون ثانيهما دليلا قطعيّا أيضا من فروعهما ، ومنه أيضا إيجابه تعالى التبليغ ونصب الوصيّ على النبيّ ، وإيجابه حفظ ما بلّغه النبيّ من التكاليف المجعولة ، وتبليغ من لم يصل إليه من المكلّفين تبليغ النبيّ من تلك التكاليف ، ومنه أيضا إيجابه تعالى على الرعيّة إطاعة النبيّ والوصيّ ومعاونتهما فيما يحتاجان إلى المعاون لتبليغ التكاليف وإقامة الحدود وإحقاق الحقوق وجهاد الكفّار والمشركين وغير ذلك.
وهذا كلّه يسمّى لطفا وفسّر بما عرفت ، وقيّده المحقّقون ـ من المتكلّمين ـ بكونه على وجه لا يصل إلى حدّ الإلجاء ، إذ الواجب على الله تعالى وعلى رسوله والوصيّ بعده في جميع مراتب اللطف هو الإراءة والإرشاد إلى الحقّ ، لا الإيصال إلى المطلوب على وجه يؤول إلى الجبر والإلجاء السالبين للاختيار عن المكلّف ، أو عن غيره ممّن يمنع من الأعادي والمعاندين من توصّله إلى الحقّ المطلوب منه ، والمعتبر في الدليل القطعي المنصوب هو ذاك أيضا ، وضابطه كونه كافيا نافعا لمن يرجع إليه وينظر فيه ، ويحسن النظر ولم يقصّر فيه ، وقد احترزوا بالقيد المذكور ـ بالمعنى الّذي شرحناه ـ عن أمرين لا يندرجان في اللطف الواجب عليه تعالى ولا يجبان لوجوبه عليه.
أحدهما : أنّ المكلّف قد يكون لتقصيره وسوء اختياره وخبث باطنه لا يرجع إلى الدليل المنصوب له ولا ينظر فيه ، بل يعوّل على رأيه واستحسانه وقياسه ، وقد لا يتبع النبيّ أو الوصيّ بعده ولا يعاونهما ، بل يتّبع الجبت والطاغوت ويعاون أعاديهما ، وقد يتّبع هوى نفسه في ركوب المعاصي ولا يبالي في أمر دينه ويسامح في إطاعة النبيّ أو الوصيّ عصيانا ، فليس في حكم العقل ما يقضي بوجوب إجباره وإلجائه بحيث يتحقّق منه ما هو المطلوب منه قهرا عليه وبلا اختياره ، إذ في تركه لا يلزم إخلال باللطف الواجب عليه ، ولا قبح من نقض غرض أو بخل ، لأنّ ما يفوت من نحو هذا المكلّف من منافع التكاليف