أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

ثمّ الظاهر عدم الخلاف بيننا في جواز الرواية بالإجازة إذا تحقّقت في إحدى الصور المذكورة ، ووجوب قبولها والعمل بها إذا نقل المجاز له إلى غيره.

والقول بنفيه مطلقا ممّا نسب إلى بعض العامّة (١) ، وهو ضعيف ؛ لأنّك عرفت أنّ الإجازة إخبار إجماليّ (٢) ـ إلى آخره ـ وما هذا شأنه لا مجال للتوقّف في قبوله.

وربما نسب القول بالنفي إلى المرتضى أيضا ؛ لما يوهمه كلامه في الذريعة (٣).

وهو لا يدلّ على ذلك ، كما لا يخفى على المتأمّل فيه.

الخامسة : أن يقول : « أجزت الكتاب الفلاني » أو « مسموعاتي لجميع الامّة الموجودين » ، وهذه إجازة معيّن أو غير معيّن لغير معيّن ، وقد وقع فيها الخلاف.

والحقّ ـ كما ذهب إليه أعاظم علمائنا ـ قبولها (٤) وكونها كالصور المتقدّمة ؛ لأنّها مثل الإجازة للموجودين المعيّنين ؛ إذ (٥) العامّ في حكم الأفراد ، ولا فرق بينهما إلاّ بالاختصار والتطويل. فلو أجازه لغير العامّ المبهم كأن يقول : « أجزت لرجل » أو « رجلين » أو « لزيد » وكان مشتركا بين جماعة لم يصحّ. ولو كان المجاز له واحدا يعرفه المجيز باسم أو وجه ، أو جماعة كذلك ، صحّ وإن لم يعرفهم بأعيانهم.

والتعليق في الإجازة مبطل ؛ لاستلزام الإبهام ، كأن يقول : « أجزت لمن يشاء فلان ».

ولو كانت الإجازة في قوّة المطلقة ، فالظاهر صحّتها ، نحو : « أجزت لفلان إن شاء الإجازة » أو « لمن شاء الإجازة » ؛ لأنّ ذلك ليس تعليقا حقيقيّا ، بل حكاية حال.

وتصحّ لغير المميّز من المجانين والأطفال. وقد أجاز بعض مشايخنا لأولاده الصغار (٦) ،

__________________

(١) نسب ابن الصلاح في مقدّمته : ١٠٦ بطلان الإجازة والرواية بها إلى إبراهيم بن إسحاق الحربي وأبي محمّد عبد الله بن محمّد الأصبهاني ، الملقّب بأبي الشيخ ، والحافظ أبي نصر الوائلي السنجري.

(٢) تقدّم في ص ٣٠٠.

(٣) الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٥٦١.

(٤) منهم : الشهيد حيث طلب من شيخه السيّد تاج الدين ابن معيّة الإجازة له ، ولأولاده ، ولجميع المسلمين. راجع شرح البداية : ١٣٩.

(٥) في « أ » : « إذا ».

(٦) منهم السيّد ابن طاوس لولده غياث الدين. راجع شرح البداية : ١٤١. وعنه في مقباس الهداية ٣ : ١٢٨. ومنهم المحقّق الخوانساري لولده جمال الدين ، كما في الرسائل الرجاليّة للكلباسي ٢ : ٥٤٢.

٣٠١

وبعضهم استجاز من مشايخه لأطفاله (١).

والظاهر صحّتها للحمل أيضا وإن لم ينفصل ، وإن وقع فيه الخلاف. وكذا للفاسق والكافر.

والدليل على الجميع : أنّ الغرض من الإجازة ترتّب فائدة عليها ، وهي صحّة الرواية. وهو مشروط (٢) بالشرائط المعيّنة من الإيمان ، والبلوغ ، والتكليف ، فالإجازة لهؤلاء (٣) ليست مطلقة ـ أي بلا اشتراط ـ بل بشرط اتّصافهم في وقت الرواية بالشرائط ؛ لعلم المجيز بأنّه لا يقبل الرواية من الراوي بدونه ، فكلّ واحد من هؤلاء إذا اتّصف في وقت الرواية بالشرائط ، لا يروي إلاّ إذا علم الإذن له في الرواية ، وبعد علمه بأنّ الشيخ الفلاني قد أذن له ، فيصحّ روايته كغيره.

ومن هذا يعلم أنّه يصحّ الإجازة للمعدومين أيضا ، كأن يقول : « أجزت لنسل فلان » أو « لمن يولد من فلان » إلاّ أنّ المعظم لم يجوّزوها (٤) ؛ نظرا إلى أنّ الإجازة لا تخرج عن الإخبار في الجملة ، وهو لا يعقل للمعدوم ابتداء. وبعضهم (٥) أجازها في صورة العطف على الموجود ، كأن يقول : « أجزت لفلان ولمن يولد له » كالوقف.

وممّا ذكر يظهر كيفيّة الحال إذا قال : « أجزت لمن أدرك جزءا من حياتي ».

ثمّ إنّه لا خلاف في جواز التعبير عن الإجازة بقوله : « أنبأني » و « نبّأني » وأمّا التعبير عنها بقوله : « حدّثني » و « أخبرني » مطلقين أو مقيّدين بقوله : « إجازة » ، فحكمه كما ذكر في القراءة على الشيخ من غير فرق.

ورابعها : المناولة ، وهي إمّا مجرّدة عن الإجازة ، وهي أن يناوله كتابا ، وقال : « هذا سماعي » واقتصر عليه.

والمعظم على عدم جواز الرواية بها ؛ لعدم إذنه فيها (٦).

__________________

(١) كما استجاز الشهيد عن شيخه السيّد تاج الدين بن معيّة. راجع شرح البداية : ١٣٩. نقله عنه في توضيح المقال : ٢٥٧.

(٢) كذا في النسختين. والصحيح : « وهي مشروطة ».

(٣) أي للصغار ، والحمل ، والفاسق ، والكافر.

(٤) راجع مقدّمة ابن الصلاح : ١٠٨ و ١٠٩.

(٥) نسبه ابن الصلاح في مقدّمته : ١٠٩ إلى أصحاب الشافعي وإلى أبي بكر بن أبي داود السجستاني.

(٦) راجع المصدر : ١١٣.

٣٠٢

وقيل بجوازها بها ؛ لحصول العلم بكونه مرويّا له ، والإشعار بالإذن (١).

ولا يخفى أنّه لو علم منه الإذن جزما في الرواية ، فلا تأمّل في جواز الرواية ؛ لأنّها في حكم السماع حينئذ ، ويجوز التعبير عنها بما يعبّر به عنه لا حقيقة ، بل مجازا ؛ ووجهه ظاهر ممّا تقدّم.

وإن لم يعلم منه الإذن جزما ، فالظاهر عدم اختلاف حكمها فيما ذكر ؛ لأنّا نمنع اشتراط العلم القطعي بإذنه في صحّة الرواية ، كما في القراءة عليه ؛ لأنّ المناط حصول العلم بكونه مرويّا له.

وإن لم يكتف (٢) بذلك (٣) وقيل هناك : القراءة عليه ، والسكوت في معرض النقل عنه يدلّ على إذنه فيه.

قلنا : يتأتّى هذا هنا أيضا ؛ لأنّ رفع الكتاب ، والتصريح بأنّه سماعي في معرض النقل عنه يدلّ هنا على إذنه فيه.

هذا ، ويدلّ على جواز الرواية بمطلق المناولة رواية أحمد بن عمر الحلاّل عن الرضا عليه‌السلام (٤).

وإمّا (٥) مقرونة بها ولها صور :

منها : أن يناوله كتابا وقال : « هذا سماعي » أو « روايتي عن فلان فاروه عنّي » أو « أجزت لك روايته ».

ومنها : أن يقرأ الشيخ على الطالب حديثا من أوّل المناول وحديثا من وسطه وحديثا من آخره ، ثمّ يجيزه المجموع ، وهذه أعلى من الاولى. وقد ورد بها الرخصة عن الصادق عليه‌السلام في صحيحة عبد الله بن سنان (٦).

ومنها : أن يدفع الطالب إليه سماعه ، فتأمّله وأعاده إليه ، وقال : « هذا سماعي » أو

__________________

(١) حكاه الخطيب عن طائفة من أهل العلم كما في المصدر.

(٢) في « أ » : « إن يكتف ».

(٣) أي بالعلم بكونه مرويّا له.

(٤) الكافي ١ : ٥٢ ، باب رواية الكتب والحديث ، ح ٦.

(٥) عطف على « إمّا مجرّدة عن الإجازة » في ص ٣٠٢.

(٦) تقدّم في ص ٢٩٩.

٣٠٣

« روايتي فاروه عنّي » ، وبعضهم سمّى ذلك عرضا (١) ، وقد تقدّم (٢) أنّ القراءة عليه تسمّى عرضا. فالأولى أن يسمّى ذلك عرض المناولة.

والحقّ حجّيّة جميعها وجواز الرواية بها ، وكلّ واحد منها أعلى وأقوى من الإجازة المجرّدة ؛ ووجهه ظاهر. ويجوز التعبير عنها بما يعبّر به عن الإجازة.

وخامسها : الكتابة ، وهي أن يكتب مسموعه لغائب أو حاضر بخطّه. أو يأذن لثقة أن يكتبه ، أو كتب : « أنّ الكتاب الفلانيّ سماعي ». فإن اقتصر على ذلك ، كان كتابة مجرّدة عن الإجازة. وإن زاد عليه « اروه عنّي » أو « أجزت لك روايته » أو كتب : « أجزت لك أن تروي ما صحّ عندك أنّه من مسموعاتي » كان كتابة مقرونة بها.

والثانية كالمناولة المقرونة بها قوّة وصحّة ، بشرط معرفة الخطّ والأمن من التزوير ، وإن اقيم البيّنة عليه صارت أقوى.

والاولى قد اختلف في جواز الرواية بها. والحقّ الجواز بشرط معرفة الخطّ ، وأمن التزوير ؛ لما تقدّم (٣) ، ولفعل النبيّ (٤) والأئمّة عليهم‌السلام (٥) وأصحابهم (٦). والتعبير عنها بقوله : « كتب إليّ فلان » أو « أخبرنا » أو « حدّثنا مكاتبة (٧) ».

فائدة : الكتابة ـ وإن صحّت ـ لا تساوي السماع ، بل هو أرجح منها ، ووجهه ظاهر ، فيرجّح ما روي به على ما روي بها مع تساويهما في الصحّة وغيرها من المرجّحات.

وسادسها : الإعلام ، وهو أن يعلم الشيخ الطالب أنّ هذا الكتاب أو الحديث سماعه مقتصرا عليه. وجليّة الحال فيه ظاهرة عليك بعد الإحاطة بما تقدّم.

وسابعها : الوصيّة ، وهي أن يوصي لرجل عند موته ، أو سفره بكتاب يرويه. والظاهر

__________________

(١) نسبه ابن الصلاح في مقدّمته : ١١٢ إلى غير واحد من أئمّة الحديث.

(٢) في ص ٢٩٨.

(٣) وهو عدم اشتراط العلم القطعي بإذنه في صحّة الرواية. راجع ص ٣٠٣.

(٤) ككتابه إلى كسرى وقيصر. راجع شرح البداية : ١٤٨.

(٥ و ٦) راجع مقباس الهداية ٣ : ١٧٠ و ١٨١ ـ ١٨٥.

(٧) قيد لكلّ واحد من « أخبرنا » و « حدّثنا ».

٣٠٤

عدم حجّيّتها ، وعدم جواز الرواية بها ؛ لبعدها عن الإذن.

وثامنها : الوجادة ، وهي أن يجد شخص روايات بخطّ راويها ، سواء كان معاصرا له أو لا. فله حينئذ أن يقول : « وجدت » أو « قرأت بخطّ فلان » أو « في كتابه عن فلان » ويسوق باقي الأسناد والمتن بشرط أن يثق بأنّه خطّه. وإن لم يثق يقول : « وجدت في كتاب ظننت » أو « ذكر كاتبه أنّه بخطّ فلان » وأمثال ذلك.

ولا يجوز التعبير عنها بقوله : « عن فلان » أو « قال فلان » أو « حدّثني » أو « أخبرني فلان » مطلقا ـ أي في صورة الوثوق وعدمه ـ لأنّ ذلك تدليس محرّم.

ثمّ إن اقترنت بالإجازة وعلم كونه من خطّه ومرويّا له ، فلا إشكال في صحّة الرواية والعمل بها ، ويجوز التعبير عنها بما يعبّر به عن مطلق الإجازة.

وإن لم تقترن بها ولم يثق بكونه من خطّه ، فلا خلاف في منع الرواية بها ، وعدم جواز العمل بها. وإن وثق بذلك ، ففيه خلاف. ولعلّك تعرف حقيقة الحال فيها ممّا تقدّم. وقد دلّ على الجواز رواية شينولة عن الجواد عليه‌السلام (١).

اعلم أنّ جميع الطرق المذكورة مشتركة في إفادة بقاء اتّصال الإسناد إلى المعصوم عليه‌السلام ـ وهو أمر مطلوب للتيمّن ـ وصحّة العمل فيما لم يكن متعلّقها متواترا ، كبعض الكتب غير المتواترة عن مصنّفيها. وأمّا إذا كان متعلّقها متواترا ، نحو كتبنا الأربعة ، فلا يظهر لها فائدة بالنسبة إلى العمل.

نعم ، يترتّب على السماع والقراءة فائدة التصحيح ، والأمن من الغلط والتصحيف ، ومعرفة بعض اصطلاحاتهم عليهم‌السلام ، وغيرها ، فهي تزيد وجه الحاجة إليهما.

فصل [٢٤]

قد تقدّم (٢) أنّ فعل المعصوم عليه‌السلام من السنّة ، فهو حجّة تشترك الامّة معه فيه ، وهو معنى التأسّي به. ثمّ كلّ فعله ليس ممّا يشترك فيه الامّة معه ، وما اشتركت فيه معه ليس كلّه ممّا يجب

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٣ ، باب رواية الكتب والحديث ، ح ١٥.

(٢) في ص ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

٣٠٥

عليهم التأسّي به فيه ، بل التأسّي في بعضه يكون واجبا ، وفي بعضه ندبا ، وفي بعضه مباحا ، كما سيجيء تفصيله (١).

وقبل الخوض فيه لا بدّ من بيان مقدّمة. وهي أنّ التأسّي في الفعل هو أن يفعل صورة ما فعل الغير على الوجه الذي فعله لأجل أنّه فعل. وفي الترك هو أن يترك مثل الذي ترك لأجل أنّه ترك.

والاتّباع قد يكون في الفعل والترك وهو مثل التأسّي. وقد يكون في القول وهو امتثال ما يقتضيه من الفعل والترك.

وقد وقع الخلاف في أنّ الحكم بثبوت التأسّي به هل هو شرعي فقط ، أو شرعي وعقلي معا؟ والظاهر الأوّل ، وفاقا للشيخ (٢) وجماعة (٣) ؛ لأنّه يجوز اختلاف مصالح العباد في الشرعيّات ، كاختلاف حكم الفقير والغنيّ ، والحائض والطاهر ، والحاضر والمسافر ، والصحيح والعليل ، وغير ذلك ممّا لا يحصى. وإذا جاز ذلك ، فلا يمتنع أن يكون مصالح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائه عليهم‌السلام مخالفة لمصالح الرعيّة ، فلا يحكم العقل بثبوت التأسّي.

واحتجاج الخصم بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث ليبيّن الشرائع للامّة قولا أو فعلا ، فكلّ ما صدر منه يشترك فيه جميع الناس (٤) ، يظهر فساده ممّا ذكر. فظهر أنّ إثبات كون الامّة مثله فيما يجري فيه التأسّي موكول إلى السمع.

وإذا عرفت ذلك ، فلا بدّ من بيان الصور المتصوّرة في أفعاله ، والإشارة إلى أنّ أيّ (٥) صورة يجري فيها التأسّي سمعا وجوبا أو ندبا ، وأيّها (٦) لا يجري فيها.

فنقول : أفعاله عليه‌السلام لا تخلو عن ثمانية (٧) صور :

[ الصورة ] الاولى : ما ظهر كونه من الأفعال الطبيعيّة ، كالأكل والشرب ، والنوم

__________________

(١) في ص ٣٠٧.

(٢) العدّة في أصول الفقه ٢ : ٥٧٠ و ٥٧١ و ٥٧٦.

(٣) منهم : السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٥٧٠ ، والبصري في المعتمد ١ : ٣٤٦ ، والعلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول ٢ : ٥٥٦.

(٤) راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول ٢ : ٥٥٦ ـ ٥٥٧.

(٥ ـ ٧) كذا في النسختين. والأولى : « أيّة ، أيّتها ، ثماني ».

٣٠٦

واليقظة ، والحركة والسكون ، والقيام والقعود وأمثالها ، ولا ريب في إباحته له عليه‌السلام ولجميع الامّة ولا خلاف فيه.

[ الصورة ] الثانية : ما علم اختصاص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به ، سواء كان عبادة ، كوجوب التهجّد ، والوتر ، وجواز الوصال في الصوم ، أو غيرها ، كالمشاورة ، والزيادة على الأربع ، وتخيير نسائه فيه ، وغير ذلك من خواصّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولا خلاف فيه أيضا بأنّه لا يشاركه غيره.

[ الصورة ] الثالثة : ما علم جهته من الوجوب ، والندب ، والإباحة. والحقّ ثبوت التأسّي فيه. فإن علم وجوبه عليه ، يكون التأسّي به واجبا. وإن علم استحبابه عليه ، يكون ندبا. وإن علم إباحته له ، يكون مباحا.

وبالجملة ، تكون الأمّة مثله فيه ، وفاقا لأكثر المحقّقين ، وخلافا لمن ذهب إلى أنّه (١) مطلقا ، أو إذا كان غير عبادة ، كما لم يعلم جهته (٢). وقد جنح المحقّق (٣) إلى الشقّ الأوّل (٤) وتوقّف فيه ؛ لتوقّفه فيما لم يعلم جهته.

لنا : قوله تعالى : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ )(٥) أي يؤمن بالله واليوم الآخر ، فيعلم من أصله (٦) أنّ التأسّي لازم للإيمان بالله ، ولازم الواجب واجب ، كما يعلم من عكس نقيضه (٧) أنّ عدم الإيمان به لازم لعدم التأسّي ، وملزوم الحرام حرام.

وأيضا إيقاع الخبر في مقام الإنشاء للمبالغة في التهديد على ترك التأسّي ، فيكون واجبا.

وقد عرفت (٨) أنّه الإتيان بالفعل أو الترك على الوجه الذي فعل أو ترك. فإذا علم وجه

__________________

(١) أي ما علم جهته.

(٢) نسب البصري التفصيل بين العبادة وغيرها إلى أبي عليّ بن خلاّد في المعتمد ١ : ٣٥٤.

(٣) معارج الاصول : ١١٨.

(٤) أي مطلقا.

(٥) الأحزاب (٣٣) : ٢١.

(٦) أي المؤمن بالله متأسّ برسول الله. والموضوع ملزوم والمحمول لازم.

(٧) أي غير المؤمن بالله غير متأسّ برسول الله. والمراد بالحرام في المتن هو عدم الإيمان ، والمراد بالملزوم عدم التأسّي.

(٨) تقدّم في ص ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

٣٠٧

الفعل أو الترك يجب الإتيان بمثله.

فإن قيل : على ما ذكرت تدلّ الآية على عموم وجوب التأسّي ، بمعنى وجوب كلّ ما فعله وعلم وجهه علينا ، ومنه المندوب والمباح ، فيلزم وجوبهما علينا (١).

قلت : مقتضى الآية ذلك ، ولكن دلّ الدليل الخارجي على عدم وجوب التأسّي فيهما ، فيخرجان عن عمومها ، ويكون التأسّي في الندب ندبا ، وفي المباح مباحا.

أو نقول : المفهوم من الآية مطلق طلب الاسوة الشامل للواجب والمستحبّ ، والذمّ والتهديد باعتبار أحد جزءيه (٢) ، ولا يشمل الاسوة فيها الاسوة في المباح ؛ لأنّ المراد من الاسوة فيها الاسوة فيما قصد فيه القربة ، كما يدلّ عليه سياقها.

والإيراد المذكور يرد ظاهرا على جميع ما نذكر ممّا يدلّ على عموم وجوب الاتّباع والتأسّي. وينبغي الجواب عنه بأحد الوجهين.

وقد أجاب المحقّق (٣) عن أصل الاحتجاج بأنّ « الاسوة » ليست من ألفاظ العموم ، فتصدق بالمرّة الواحدة ، وقد توافقنا على وجوب التأسّي به في بعض الأشياء ، فلعلّ ذلك هو المراد.

ولا يخفى أنّ العرف يفهم منه وجوب التأسّي به في جميع الامور ؛ فإنّه لا يقال عرفا :

« لفلان اسوة في فلان » إذا كان تابعا له في أمر واحد.

ولنا أيضا : قوله تعالى : ( فَاتَّبِعُوهُ )(٤) ، وقوله تعالى : ( فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ )(٥) ، والأمر للوجوب ، والاتّباع يشمل الاتّباع في القول والفعل. والثاني الإتيان بالفعل بالوجه الذي فعله ، وهو ما نحن بصدد إثباته ، فثبت منه (٦) المطلوب.

والإيراد عليه بمثل ما اورد على آية الاسوة قد عرفت جوابه (٧) بأحد الوجهين.

__________________

(١) مع كونهما غير واجبين عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) كذا في النسختين. والأولى : أحد فرديه.

(٣) معارج الاصول : ١١٩.

(٤) الأنعام (٦) : ١٥٣.

(٥) آل عمران (٣) : ٣١.

(٦) في « ب » : « فيثبت عنه ».

(٧) آنفا.

٣٠٨

والجواب عن الاستدلال بمثل ما أجاب به المحقّق عن آية الاسوة قد عرفت فساده.

ولنا أيضا : القطع برجوع الصحابة إلى أفعاله المعلومة جهتها ؛ فإنّهم خلعوا في الصلاة لمّا خلع فيها ، وحلقوا لمّا حلق ، وذبحوا لمّا ذبح ، ولم يتمتّعوا بالعمرة إلى الحجّ لمّا لم يتمتّع ، مع أنّه أمرهم بذلك ، فأقرّهم عليها ، ولم ينكر عليهم. ومتابعتهم له فيها لم تكن لمطلق فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل إمّا لأنّها كانت من هيئات الصلاة والحجّ ، واستفادوا وجوبها من قوله : « صلّوا كما رأيتموني » (١) وقوله : « خذوا عنّي مناسككم » (٢). أو لأنّهم فهموا القربة فيها فرأوها مندوبة لا واجبة. وسيجيء (٣) أنّ الفعل إذا كان بيانا للمجمل الواجب واجب ، وكلّ فعل ظهر فيه قصد القربة يكون ندبا على الأصحّ.

وقبّل عمر الحجر ، وقال : أعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ، ولو لا أنّي رأيت رسول الله قبّلك ما قبّلتك (٤).

ورجعوا في وجوب الغسل وعدمه بالتقاء الختانين إلى عائشة ، فقالت : فعلت أنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاغتسلنا (٥) ، فأوجبوا الغسل بمجرّد فعله. وفهم الوجوب لم يكن من مجرّد الفعل ، بل إمّا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل » (٦).

أو لأنّه كان بيانا لقوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا )(٧) ، والأمر للوجوب ، فيكون بيانا للواجب.

أو لأنّه من شروط الصلاة ، فيكون بيانا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « صلّوا كما رأيتموني » (٨).

وسألت أمّ سلمة عن جواز قبلة الصائم ، فقالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يفعل. فقال السائل :

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ٢٢٦ ، ح ٦٠٥.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ٩٤٣ ، ح ٣١٠ / ١٢٩٧ مع اختلاف يسير.

(٣) في ص ٣١٢.

(٤) ذكره أصحاب المجاميع الحديثيّة كالبخاري ومسلم في فضل تقبيل الحجر الأسود من كتاب الحجّ والمناسك ، وحكاه العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول ٢ : ٥٣٨.

(٥) مسند أحمد ٢ : ٥٩٥ ، ح ٦٦٨٢.

(٦) كنز العمّال ٩ : ٣٧٦ ، ح ٢٦٥٤٤.

(٧) المائدة (٥) : ٦.

(٨) تقدّم آنفا.

٣٠٩

إنّ الله غفر لنبيّه ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وليس سبيله سبيل غيره؟ فأخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنكر ذلك ، وقال : « إنّي أرجو أن أكون أخشاكم » (١).

ولا ريب أنّ جهة الفعل هنا كانت ظاهرة ؛ لأنّه لا يتحمّل سوى الإباحة.

ولنا أيضا : قوله تعالى : ( فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ )(٢) ، ولو لا تشريك الامّة معه ، لما أدّى تزويجه إلى ذلك.

لا يقال : الاحتجاج به يتوقّف على العلم بوجه تزويجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الوجوب والندب والإباحة ، ولا يعلم ذلك منه ؛ لأنّ (٣) نفي الحرج عن فعل يحتمل الأحكام الثلاثة ـ مع عدم التعرّض لإثبات الوجوب والندب ـ يقتضي إباحته ، فوجه تزويجه يكون معلوما ، وهو الإباحة.

وأيضا لا ريب أنّه يفهم منه التشريك ، وهو يقتضي أن يفعل الامّة مثل فعله ؛ إذ لا معنى لتشريك الله العباد لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فعل إلاّ أن يطلب منهم الفعل على الوجه الذي طلب منه ، وبه يثبت المطلوب.

وقد احتجّ بعض من وافقنا (٤) بقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ )(٥) ، والأمر يطلق بالاشتراك على الفعل والقول.

وبقوله : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )(٦) ، والإطاعة كما تتحقّق بامتثال القول ، فكذا تتحقّق بالتأسّي في فعله ، والأمر للوجوب.

وبقوله : ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ )(٧) ، وما فعله فقد آتانا ، والأمر للوجوب.

والحقّ : أنّ الاحتجاج بها لا يتمّ ؛ لأنّه يمكن الجواب عن الأوّل بعدم تسليم الاشتراك ،

__________________

(١) صحيح البخاري ، ٢ : ٦٨٠ ، ح ٨٢٦ بتفاوت ، وصحيح مسلم ٢ : ٧٧٩ ، ح ٧٤ / ١١٠٨.

(٢) الأحزاب (٣٣) : ٣٧.

(٣) هذا بمنزلة قوله : « لأنّا نقول » أي هو تعليل للنفي لا المنفيّ.

(٤) كابن سريج وأبي سعيد الاصطخري وابن أبي هريرة وأبي عليّ بن خيران والحنابلة وجماعة من المعتزلة كما في نهاية الوصول إلى علم الأصول ، للعلاّمة الحلّي ٢ : ٥٣٤.

(٥) النور (٢٤) : ٦٣.

(٦) النساء (٤) : ٥٩.

(٧) الحشر (٥٩) : ٧.

٣١٠

بل هو حقيقة في القول ، مجاز في الفعل ، كما ثبت في محلّه.

والقول بأنّه وإن سلّم الاشتراك لكنّ المشترك لا يحمل على كلا معنييه (١) ، ضعيف عندنا ؛ لما تقدّم في موضعه (٢).

وعن الثاني : بأنّ الإطاعة لا تكون إلاّ بفعل ما أمر به ، وليس للفعل مدخليّة في ذلك إلاّ أن يقترن به قول يقتضي التأسّي به.

و [ الجواب ] عن الثالث : بأنّ المتبادر من ( ما آتاكُمُ ) ما أمركم به بقرينة قوله : ( وَما نَهاكُمْ ).

هذا ، واحتجّ الخصم (٣) ، بأنّه لمّا جاز اختلاف تكليف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والامّة ، وعلم اختصاصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخصائص لا يشترك فيها غيره ، فكلّ ما فعله يحتمل أن يكون منها وإن علم جهته بالنسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيكون حكمه بالنسبة إلينا كما لم يعلم جهته.

وجوابه : أنّ هذا الجواز بالنظر إلى العقل. وأمّا السمع ، فقد دلّ على عموم ثبوت التأسّي به ، واشتراك الامّة معه فيما يفعله إذا علم وجهه ـ كما ذكر ـ خرج ما صرّح باختصاصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به ، ويبقى الباقي داخلا فيه ، ولو لا ذلك لزم طرح جميع النصوص المذكورة ، وهو باطل.

ثمّ إنّ النصوص المذكورة كما تدلّ على ثبوت التأسّي واشتراك الامّة معه في الفعل المعلوم جهته من الوجوب والاستحباب ، تدلّ عليه في ترك الفعل [ المعلوم ](٤) صفته من الحرمة والكراهة ، فكلّ ترك صدر منه وعلم أنّ فعله حرام أو مكروه ، فالامّة مثله في ذلك.

وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الفروع لهذه الصورة كثيرة ، كالحكم باستحباب التباعد عن الناس بحيث لا يرى عند التخلّي ؛ تأسّيا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ير قطّ على بول ولا غائط (٥) ، وقد علم بالقرائن أنّ التباعد بهذا النحو لم يكن واجبا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبكراهة استصحاب ما عليه اسم الله ، كخاتم ومصحف عنده ؛ لوضع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتمه

__________________

(١) نسبه البصري إلى القيل في المعتمد ١ : ٣٤٩.

(٢) في ص ٤٥.

(٣) أي من لم يقل بثبوت التأسّي فيما علم جهته.

(٤) اضيف بمقتضى السياق.

(٥) الآيات المتقدّمة آنفا.

٣١١

عند التخلّي (١) ، وقد علم بالقرائن أنّ الاستصحاب المذكور لم يكن حراما عليه. وقس عليهما أمثالهما.

[ الصورة ] الرابعة : ما كان بيانا لمجمل ، وعلم جهته من الوجوب والندب ، وحكمه في الجهة حكم المبيّن. فإنّه إذا علم وجوب شيء بالإجمال ، أو استحبابه ، ولم يعلم الكيفيّة ، يلزم التوقّف حتّى يعلم بيانها من الشارع. وبعد بيانها منه قولا أو فعلا يلزم أن يكون حكمه حكم المبيّن ، إن عامّا فعامّا وإن خاصّا فخاصّا ، وإلاّ خرج المجمل عن جهته.

[ الصورة ] الخامسة : أن يكون بيانا لمجمل مركّب علم أنّ بعض أجزائه واجب وبعضها مستحبّ. وحينئذ فكلّ جزء علم وجوبه أو استحبابه ، فيحكم به. وإن تردّد فيهما ، فيكون حكمه حكم ما لم يعلم جهته ، كما يأتي (٢).

ثمّ الأفعال التي تقع في مقام البيان ، فما كان منها مستحدثا لم يكن المعصوم عليه قبل ذلك يحكم بأنّه من هيئات المبيّن ، وربما حكم على بعضه بأنّه خارج عنها ، كسرعة ما ، أو بطء ما في بعض الأفعال ؛ فإنّ العرف يحكم بأنّ السرعة والبطء بهذا النحو الخاصّ ليسا من الكيفيّة. وربما تردّد في بعضها بأنّه منها أم لا ، كالموالاة في الوضوء. والظاهر عدّه منها إن لم يحكم العرف صريحا بخروجه ؛ لما عرفت (٣). ثمّ معرفة كونه واجبا أو مستحبّا تظهر ممّا يأتي (٤).

وما لم يكن مستحدثا ، بل كان المعصوم عليه قبل ذلك ، فلا يحكم بدخوله في الكيفيّة إلاّ بدليل ، كالستر في الصلاة.

والفروع لها كثيرة في أفعال الطهارة ، والصلاة ، والصوم ، والحجّ وغيرها من الواجبات المجملة. وقد تقدّمت (٥) الإشارة إلى بعضها.

__________________

(١) قاله القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١١٤.

(٢) في ص ٣١٥.

(٣) تعليل لظهور عدّ المردّد من هيئات المبيّن. والمراد بما عرفت ما جاء في ذيل قوله في ص ٣٠٩ : « ولنا أيضا القطع ... ».

(٤) في ص ٣١٦.

(٥) تقدّم آنفا.

٣١٢

وكيفيّة التفريع في الجميع ظاهرة عليك.

[ الصورة ] السادسة : أن يكون بيانا لمجمل لم يعلم كونه عادة أو عبادة. أو علم كونه عبادة ولم يعلم جهته من الوجوب وغيره ، فيكون داخلا تحت ما لم يعلم كونه عبادة أو عادة. أو ما علم كونه عبادة ولم يعلم جهته ، كما يأتي (١).

ثمّ معرفة كونه بيانا إمّا بالقول ، كقوله عليه‌السلام : « صلّوا كما رأيتموني » (٢) و « خذوا عنّي مناسككم » (٣). أو بالقرينة ، كغسل الوجه واليد على النحو الخاصّ بعد ما نزل قوله تعالى :

( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ )(٤) ، وقطع يد السارق من الكوع (٥) دون المرفق والعضد بعد ما نزل قوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما )(٦).

[ الصورة ] السابعة : ما تردّد فيه بين كونه من الجبلّة والعادة ، أو من الشرع والعبادة. فقيل بالأوّل (٧) ؛ لأصالة عدم التشريع. وقيل بالثاني (٨) ؛ لأنّه بعث لبيان الشرعيّات ؛ ولعموم أدلّة التأسّي.

والحقّ : أنّه لمّا كان مردّدا بين العبادة وغيرها ، فيجري فيه الاحتياط ، وهو مستحبّ على الأقوى في موضع يمكن فيه إجراء أصل البراءة ، كما نحن فيه ، فيلزم أن يكون عبادة مستحبّة. وما دلّ على عموم ثبوت الاتّباع قد عرفت (٩) أنّه يجري في فعل علم فيه وجهه ، وإن كان الوجوب يكون واجبا ، وإن كان الندب يكون ندبا. وإن سلّم دلالته على ما نحن فيه ، فلا يفيد أزيد من الاستحباب ، وهو ظاهر. ويتفرّع عليها امور ذكرها الشهيد (١٠) :

منها : جلسة الاستراحة ، وهي ثابتة من فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١١). وعلى ما اخترناه يلزم كونها عبادة

__________________

(١) في ص ٣١٤ ـ ٣١٥.

(٢ و ٣) تقدّما في ص ٣٠٩.

(٤) المائدة (٥) : ٦.

(٥) الكوع : طرف الزند. المصباح المنير : ٥٤٤ ، « ك و ع ».

(٦) المائدة (٥) : ٣٨.

(٧) قاله القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١١٥.

(٨) ذهب إليه الشهيد في القواعد والفوائد ١ : ٢١١ و ٢١٢ ، القاعدة ٦١.

(٩) أي ما دلّ على عموم ثبوت الاتّباع هو قول الخصم بأنّ « النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث ليبيّن الشرائع ... » راجع ص ٣٠٦.

(١٠) القواعد والفوائد ١ : ٢١١ ، القاعدة ٦١.

(١١) صحيح البخاري ١ : ٢٨٣ ، ح ٧٩٠.

٣١٣

مستحبّة ، مع أنّه ثبت عندنا بدليل آخر (١) أنّها عبادة. وزعم بعض العامّة (٢) أنّها للجبلّة ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما فعلها بعد ما بدن وحمل اللحم ، ورووا عنه أنّه قال : « لا تبادروني بالركوع والسجود ... إنّي قد بدّنت » (٣) وهذا ينافي ما روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن سمينا (٤).

ومنها : دخوله مكّة من ثنيّة كداء ـ بفتح أوّله مع المدّ ـ وهي الثنيّة العليا ممّا يلي المقابر ، وخروجه من ثنيّة كدى (٥) ـ بالضمّ والقصر ـ وهي السفلى ممّا يلي باب العمرة ، فهل ذلك لأنّه صادف طريقه ، أو لأنّه سنّة؟ وتظهر الفائدة في استحبابه لكلّ داخل. وعلى ما اخترناه لا يخفى حقيقة الحال.

ومنها : نزوله بالمحصب (٦) لمّا نفر في الأخير (٧) ، وتعريسه لمّا بلغ ذا الحليفة (٨) ، وذهابه بطريق في العيد ، ورجوعه بآخر (٩).

وبعد ما أحطت بما ذكر تعرف الحقّ فيها وفي أمثالها.

[ الصورة ] الثامنة : أن يعلم كونه عبادة ـ أي ظهر فيه قصد القربة ـ ولم يعلم جهته ، ففي وجوبه واستحبابه والتوقّف فيه أقوال ، أوسطها وسطها ؛ لأنّه لمّا ظهر قصد القربة يثبت الرجحان. والمنع من الترك زيادة لا يثبت إلاّ بدليل ، والأصل عدمها ، والرجحان بدون المنع من الترك هو الندب ؛ وما ذكر من حكاية الاحتياط (١٠) يدلّ على ذلك أيضا.

احتجّ الموجب بالأدلّة الدالّة على عموم وجوب التأسّي ، كما تقدّم (١١).

وقد عرفت (١٢) أنّ معنى التأسّي إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله ، وغاية ما دلّت عليه

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ٨٣ ، ح ٣٠٥.

(٢) المغني لابن قدامة ١ : ٥٦٧.

(٣) كنز العمّال ٧ : ٦٠٣ ، ح ٢٠٤٦٧.

(٤) لم نظفر عليه.

(٥) صحيح البخاري ٢ : ٥٧١ ، ح ١٥٠٠.

(٦) المحصب : هو الشعب الذي مخرجه إلى الأبطح بين مكّة ومنى. راجع النهاية في غريب الحديث والأثر ١ : ٢٣٢ ، « ح ص ب ».

(٧ ـ ٩) راجع سنن ابن ماجة ٢ : ١٠١٩ ـ ١٠٢٦ ، ح ٣٠٦٧ ـ ٣٠٧٤.

(١٠) في ص ٣١٣.

(١١) في ص ٣٠٦.

(١٢) في ص ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

٣١٤

ثبوته وكون الامّة مثله ، ومجرّد ذلك لا يدلّ على أنّ كلّ فعله واجب علينا ، بل إثبات الوجوب علينا يتوقّف على العلم بوجوبه عليه ، والمفروض هاهنا خلافه.

واحتجّ أيضا بأنّ الاحتياط يقتضي حمله على الوجوب ؛ ليأمن الإثم قطعا ، كما في صلاة نسيها ولم يعلمها بعينها.

وجوابه : أنّ كلّ احتياط ليس واجبا ، بل موارده مختلفة ، والواجب منه إنّما هو فيما ثبت وجوبه ، وعلم اشتغال الذمّة به يقينا ، كالصلاة المنسيّة ، أو كان ثبوته هو الأصل ، كصوم الثلاثين من رمضان إذا شكّ فيه ؛ إذ الأصل بقاؤه حتّى يعلم المزيل. وأمّا فيما لم يثبت وجوبه ولم يكن ثبوته هو الأصل ، فليس الاحتياط فيه واجبا ، سيّما إذا كان ثبوت خلافه هو الأصل كما نحن فيه ، بل الاحتياط حينئذ مستحبّ على الأقوى ، كما يجيء تحقيقه مفصّلا (١).

هذا ، ويرد عليه : أنّه إذا كان اتّباعه في جميع ما فعله ولم يعلم جهته واجبا علينا ، يلزم كون فعل واحد واجبا وندبا أو مباحا علينا ؛ للقطع بأنّ بعض ما فعله ولم يعلم جهته ندب ، أو مباح.

والتزام أنّ جميع ما فعله ممّا لم يعلم جهته فعلى وجه الوجوب ، بعيد عن الحقّ.

واحتجّ المتوقّف بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفعل العبادة الواجبة والمستحبّة ، والمفروض عدم الإشعار للفعل بوجهه الذي وقع عليه ، فيتساوى فيه الاحتمالان ، ومعه يلزم التوقّف (٢).

وقد ظهر جوابه ممّا ذكر (٣).

وكيفيّة التفريع : أنّه كان اللازم ـ على ما اخترناه ـ الحكم باستحباب الموالاة في الطهارات الثلاث ، وفي الطواف والسعي ، وخطبة الجمعة والعيد ، والقيام في الخطبة ، والمبيت بمزدلفة ، إلاّ أنّ كلّ ذلك ثبت وجوبه عندنا بدليل من خارج ، سوى الموالاة في الغسل ؛ فإنّ الحكم فيها موافق القاعدة. وقس عليها أمثالها.

__________________

(١) في باب الاشتغال.

(٢) حكاه العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول ٢ : ٥٥١.

(٣) آنفا.

٣١٥

فائدة

طريق معرفة فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه واجب أو ندب أو مباح إمّا نصّه عليه‌السلام ، أو أمارة دالّة ، أو كونه بيانا ، أو بدلا لواحد منها.

ويعرف الندب خاصّة بوجود صفة حسنة فيه مع عدم ما يدلّ على وجوبه.

والمباح خاصّة بعدم ما يدلّ على مرجوحيّته مع عدم الدلالة على وجوبه وندبه.

والواجب خاصّة بكون الفعل قبيحا وممنوعا لو لم يكن واجبا ، كالركوع والقيام الزائدين في ركعة واحدة ؛ فإنّ الزيادة عمدا في الصلاة مبطلة ، فحيث شرعت ـ كما في الكسوف ـ تكون واجبة.

ويتفرّع عليه وجوب الختان ؛ لأنّ قطع العضو قبيح ، فمشروعيّته دليل على وجوبه ، وهذا بإطلاقه في الذكر دون الانثى والخنثى ؛ لأنّه فيها (١) سنّة ، فهو مخالف للقاعدة بدليل من خارج ، وفيه (٢) إن كان واضحا فالحكم واضح ، وإن كان مشكلا فهو (٣) مشكل ؛ لتعارض احتمال وجوب ختانه حملا على غيره مع مراعاة القاعدة ، وحرمة قطع العضو بدون الدلالة الناقلة ، وهي هنا مفقودة.

وممّا يتفرّع عليه وجوب سجود السهو في الصلاة على قول من أثبته فيها في بعض المواضع (٤).

فصل [٢٥]

لا تعارض بين فعليه صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن تناقض حكمهما ، كالصوم في يوم ، والإفطار في آخر ؛ لإمكان الوجوب في وقت ، والجواز في آخر.

نعم ، إن دلّ دليل على وجوب تكرير حكم فعل واستمراره ثمّ فعل ما يناقض حكمه

__________________

(١) أي في الانثى.

(٢) أي الخنثى.

(٣) أي في الانثى.

(٤) راجع مختلف الشيعة ٢ : ٤١٨ ، المسألة ٢٩٧. والأقوال بين أربعة وخمسة وستّة مواضع.

٣١٦

حكمه ، كان نسخا لحكم الدليل إن كان دلالته بالنصوصيّة ، أو تخصيصا له إن كان دلالته بالعموم ، لا لحكم الفعل ، أمّا بالنظر إلى الماضي ، فلأنّ رفع ما وجد محال ، وأمّا بالنظر إلى الاستقبال ؛ فلأنّه لا يقتضي التكرير.

ثمّ وجوب التكرير إن كان له صلى‌الله‌عليه‌وآله وللامّة معا أو للامّة فقط ، فتحقّق النسخ أو التخصيص يتوقّف على وجود الدلالة على وجوب التأسّي به في الفعل الثاني ، وإلاّ لم يتحقّق التعارض في حقّ الامّة. وإن كان له فقط ، فيكون الفعل الثاني ناسخا ، أو مخصّصا مطلقا (١).

ولو وقع التعارض بين فعله وقوله ، فله ستّ وثلاثون صورة ـ لم يقع في بعضها التعارض حقيقة كما تعلم (٢) ـ لأنّه إمّا يتقدّم الفعل ، أو يتأخّر ، أو يجهل الحال ، وهذه ثلاثة أنواع ، وفي كلّ منها إمّا أن يدلّ دليل على تكرير الفعل واستمراره ، وعلى وجوب تأسّي الأمّة به ، أو لا يدلّ عليهما ، أو يدلّ على أحدهما فقط ، فيشتمل كلّ منها (٣) على أربعة أصناف ؛ فيحصل اثنا عشر صنفا ، وفي كلّ منها إمّا يختصّ القول به ، أو بالامّة ، أو يعمّهما ، فيشتمل كلّ منها (٤) على ثلاث صور شخصيّة ؛ فيحصل ستّ وثلاثون صورة شخصيّة ، هو مضروب الاثني عشر في الثلاث. وبملاحظة كلّ نوع مع أصنافه الأربعة ـ الملحوظ كلّ واحد منها مع صوره الثلاث الشخصيّة ـ يحصل اثنتا عشرة صورة شخصيّة ، وها هي كما نذكره :

النوع الأوّل : أن يتقدّم الفعل ، وأصنافه أربعة :

[ الصنف ] الأوّل : أن لا يوجد دليل على التكرير ، ولا على وجوب التأسّي ، وصوره الشخصيّة ثلاث :

أن يكون القول مختصّا به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كأن يفعل فعلا ثمّ يقول : « لا يجوز لي هذا الفعل ». وحينئذ لا تعارض ؛ لأنّ القول في هذا الوقت لا تعلّق له بالفعل في الزمان الماضي ؛ إذ حكمه يختصّ بما بعده ، ولا في المستقبل ؛ إذ لا حكم للفعل بالنظر إليه ؛ لأنّ المفروض عدم التكرير.

__________________

(١) أي سواء كان الدليل على وجوب التأسّي في الفعل الثاني موجودا ، أم لا.

(٢) في ص ٣١٨ وما بعدها.

(٣) أي من ثلاثة أنواع.

(٤) أي من اثني عشر صنفا.

٣١٧

وأن يكون مختصّا بالامّة ، ولا تعارض أيضا ؛ لأنّ القول يختصّ بالامّة ، والفعل به عليه‌السلام بفرض عدم وجوب التأسّي ، فلم يتواردا على محلّ واحد.

وأن يعمّهما ، وحكمه كما تقدّم (١) من عدم التعارض في حقّه وفي حقّهم.

[ الصنف ] الثاني : أن يدلّ دليل على تكرار الفعل ووجوب التأسّي به فيه ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :

أن يكون القول خاصّا به ، فلا يتحقّق تعارض في حقّ الامّة أصلا ، وفي حقّه فالقول ناسخ لحكم الدليل حقيقة ـ لا لحكم الفعل كما عرفت (٢) ـ إن كان دلالته بالنصوصيّة ، ومخصّص له إن كان دلالته بالعموم.

وأن يكون خاصّا بالامّة ، فلا تعارض في حقّه أصلا ، وفي حقّهم يكون ناسخا أو مخصّصا ، كما ذكر.

وأن يكون عامّا لهما ، فيكون ناسخا أو مخصّصا في حقّهما. ووجهه ظاهر.

[ الصنف ] الثالث : أن يدلّ الدليل على التكرار دون وجوب التأسّي ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :

أن يكون القول خاصّا به ، ويكون ناسخا أو مخصّصا في حقّه ، ولا مدخليّة للامّة فيه ؛ لعدم ثبوت حكم الفعل في حقّهم.

وأن يكون خاصّا بالامّة ، فلا تعارض حينئذ أصلا. ووجهه ظاهر.

وأن يكون عامّا لهما ، ولا تعارض في حقّ الامّة ، ويكون ناسخا أو مخصّصا في حقّه.

[ الصنف ] الرابع : أن يدلّ الدليل على وجوب التأسّي دون التكرار ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :

أن يكون القول خاصّا به ؛ وأن يكون خاصّا بالامّة ؛ وأن يتناولهما.

ولا تعارض في هذه الصور أصلا ، لا في حقّه ولا في حقّ الامّة ؛ لما تقدّم في الصورة الاولى من الصنف الأوّل. هذا إذا تقدّم التأسّي على القول ، وإن تأخّر عنه فيتحقّق في حقّ

__________________

(١) آنفا.

(٢) في ص ٣١٦ ـ ٣١٧.

٣١٨

الامّة التعارض عند تناول القول لهم خصوصا أو عموما ، فيكون القول ناسخا.

النوع الثاني : أن يتأخّر الفعل ، وأصنافه أيضا أربعة :

[ الصنف ] الأوّل : أن لا يدلّ دليل على التكرار والدوام والفعل (١) ، ولا على وجوب التأسّي به فيه ، وصوره الشخصيّة ثلاث :

[ الاولى : ] أن يكون القول مختصّا به ، مثل أن يقول : « يجب عليّ الكفّ عن هذا الفعل في وقت كذا » ثمّ يفعله فيه ، كان فعله ناسخا لحكم القول. وهو مبنيّ على جواز النسخ قبل التمكّن من الفعل. ويمكن أن يفرض (٢) لهذه الصورة فيما لا يكون جواز النسخ مبنيّا على هذا القول (٣) ، وذلك فيما دلّ القول المتقدّم على وجوب الدوام والتكرار بالنصوصيّة ، مثل أن يقول : « صوم يوم كذا واجب عليّ دائما » ثمّ يفطر فيه بعد مضيّ سنين ، فيكون نسخا بعد التمكّن من الفعل. وبعد التنصيص على الدوام والتكرار لا مجال لتوهّم كونه تخصيصا لا نسخا.

نعم ، إن دلّ القول المتقدّم على التكرير والدوام بالعموم ثمّ فعل ما ينافي حكمه ، كان تخصيصا ، ولو لم يدلّ القول على الدوام أصلا ، لا بالنصوصيّة ولا بالعموم ، ولا على الوجوب في وقت معيّن بأن يقول : « يجب عليّ فعل كذا » وفعله في وقت ما ، ثمّ تركه بعد ذلك ، لم يكن ذلك من باب التعارض أصلا. وكذا لو دلّ على الوجوب في وقت معيّن وفعله فيه ثمّ ترك بعد ذلك.

[ الثانية : ] وأن يكون مختصّا بالامّة ، ولا تعارض حينئذ ؛ لما تقدّم (٤) في الصورة الثانية من الصنف الأوّل من النوع الأوّل.

[ الثالثة : ] وأن يعمّهما ، ولا تعارض حينئذ في حقّ الامّة ، وفي حقّه يكون الفعل ناسخا ، كما ذكر في الصورة الاولى من هذا الصنف. وتحقّق النسخ في حقّه إنّما إذا كان تناول القول

__________________

(١) كذا في النسختين. والظاهر : « في الفعل ».

(٢) أي يفرض مثال.

(٣) أي جواز النسخ قبل التمكّن.

(٤) في ص ٣١٨.

٣١٩

له على سبيل النصوصيّة بأن يقول : « لا يجب عليّ ولا عليكم » ، وأمّا إذا تناوله بالعموم بأن يقول : « لا يجب على أحد » ، فلا يكون الفعل ناسخا ، بل مخصّصا.

[ الصنف ] الثاني : أن يدلّ الدليل على التكرار في الفعل ووجوب التأسّي به فيه ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :

أن يكون القول خاصّا به ، ولا معارضة حينئذ في حقّ الامّة بوجه ، وفي حقّه يكون الفعل ناسخا أو مخصّصا ، كما تقدّم (١) مثله في الصورة الاولى من الصنف الثاني من النوع الأوّل.

وأن يكون خاصّا بالامّة ، فلا تعارض في حقّه أصلا ، وفي حقّهم يكون الفعل ناسخا أو مخصّصا.

وأن يكون عامّا لهما ، فيكون الفعل ناسخا في حقّهما. ووجهه ظاهر.

[ الصنف ] الثالث : أن يدلّ الدليل على التكرار دون وجوب التأسّي ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث ، وهي الاحتمالات الثلاثة للقول ، وحكم كلّ واحد من هذه الثلاثة حكم نظيره من الصور الثلاث الشخصيّة من الصنف الثالث من النوع الأوّل. ولا فرق إلاّ في أنّ الناسخ هناك فيما يثبت فيه النسخ كان قولا ، وهنا يكون فعلا.

[ الصنف ] الرابع : أن يدلّ الدليل على وجوب التأسّي دون التكرار ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :

أن يكون القول خاصّا به ، ولا تعارض حينئذ في حقّ الامّة. وفي حقّه يكون الفعل ناسخا على نحو ما تقدّم (٢) في الصورة الاولى من الصنف الأوّل من هذا النوع.

وأن يكون خاصّا بالامّة ، ولا تعارض حينئذ في حقّه وهو ظاهر. وفي حقّهم يتحقّق التعارض ، ويكون الفعل ناسخا.

وأن يكون عامّا لهما ، ففي حقّه يكون الفعل ناسخا ، كما تقدّم (٣). وكذا في حقّهم.

__________________

(١) في ص ٣١٨.

(٢) في ص ٣١٩.

(٣) تقدّم آنفا.

٣٢٠