أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

ولا يخفى أنّ هذا يرد (١) على أكثر الأفعال.

والحقّ : أنّ المعتبر في اتّصاف ذات بالمبدإ في الحال هو أن يقال في العرف : إنّها متّصفة به ، وهذا متحقّق ما دام الفاعل مباشرا للفعل بالمباشرة العرفيّة ، أي ما دام لم يحصل فصل بين أجزاء الفعل بحيث يقول العرف : زالت المباشرة.

واستدلّ عليه أيضا : بأنّه لو لم يكن الإطلاق المذكور حقيقة ، لما صدق المؤمن على النائم والغافل حقيقة ؛ لأنّ الإيمان بأيّ معنى اخذ غير موجود لهما (٢).

وهذا الدليل أيضا غير تامّ ؛ لأنّه يمكن أن يقال : هذا الإطلاق مجازي ، أو مبدأ الإيمان موجود في خزانة النفس عند النوم والغفلة.

وقد استدلّ عليه بأدلّة أخر أيضا إلاّ أنّها غير تامّة ، كما قالوا : قد يطلق الضارب ـ مثلا ـ على من انقضى عنه الضرب ، ويقال : زيد ضارب أمس ، والأصل في الإطلاق الحقيقة (٣).

وقد عرفت (٤) أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة في أمثال هذه الصور ، فالمعتمد ما قدّمناه (٥).

هذا ، واستدلّ على المذهب الثاني بوجوه كلّها مندفعة ، وعمدة أدلّتهم : أنّه لو كان إطلاق الضارب ـ مثلا ـ على من انقضى عنه الضرب حقيقة ، لما صدق قولنا : « زيد ليس بضارب الآن » مع أنّه صادق بالاتّفاق.

والجواب : أنّ في (٦) « الآن » ليس ظرفا للنفي حتّى يكون المراد أنّه يصدق في (٧) الآن أنّه ليس بضارب مطلقا ؛ لأنّه عين النزاع ، بل هو ظرف للمنفيّ ، أعني ضاربا ، كما هو المتبادر من هذا التركيب ، فيكون المراد أنّه يصدق أنّه ليس بضارب بضرب موجود في الحال ، ولا ينافي ذلك قولنا : إنّه يصدق في الحال أنّه ضارب مطلقا.

واورد عليه : بأنّ قولنا : « زيد ليس بضارب الآن » وقتيّة ، وهي مستلزمة للمطلقة العامّة بشرط اتّحاد موضوعهما ، فيصدق قولنا : « زيد ليس بضارب في الجملة » ؛ لأنّ المطلقة أعمّ

__________________

(١) في « أ » : « لا يرد ».

(٢ و ٣) راجع : المحصول ١ : ٢٤٠ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ٨٦ ـ ٨٨.

(٤) راجع ص ٦٧ ـ ٦٩.

(٥) في ص ٨٠.

(٦ و ٧) كذا في النسختين. ولكنّ كلمة « في » زائدة.

٨١

القضايا الفعليّة ، وصدق الخاصّ يستلزم صدق العامّ ، وهو ينافي قولنا : زيد ضارب مطلقا (١).

واجيب : بمنع التنافي بين المطلقتين المختلفتين كيفا. هذا. مع أنّا لا نسلّم كون « زيد ليس بضارب الآن » وقتيّة ، بل هي أيضا مطلقة ؛ لأنّ « الآن » ليس ظرفا لسلب مطلق الضرب ، بل قيد للمحمول ، والمراد أنّه ليس بضارب بضرب موجود في الحال ، فكأنّه قيل : « زيد ليس بضارب بالضرب الفلاني ». ويشترط في الوقتيّة أن يكون الوقت وقتا للنفي ، وإذا كانت مطلقة فيكفي للمورد الإشارة إلى ثبوت التنافي بينها وبين المطلقة الموجبة ، ولم يكن له حاجة إلى تجشّم بيان الاستلزام (٢).

وعلى التقديرين فإيراده ساقط ؛ لأنّه ـ كما اشير إليه ـ لا تنافي بينها وبين المطلقة الاولى ؛ إذ لا تنافي بين المطلقتين ؛ لأنّ النفي في الجملة لا ينافي الثبوت في الجملة.

وغير خفيّ أنّ هذا الجواب غير صحيح ؛ لتحقّق التكاذب بين المطلقتين المختلفتين كيفا عرفا ، فإنّه يقال في الردّ على من قال « زيد قائم » : « هو ليس بقائم » والتكاذب العرفي مستلزم للتنافي اللغوي ، مع أنّ صحّة النفي من خواصّ المجاز ، فينافي الحقيقة.

والحقّ في الجواب أن يقال : صدق النفي المطلق لغة ممنوع ، بل هو عين النزاع كما عرفت ، فلا يجوز لغة أن يقال : « زيد ليس بضارب ». نعم ، يجوز ذلك عقلا ؛ بناء على أنّ صدق نفي الضرب الحالي مستلزم عقلا لصدق نفي الضرب في الجملة.

مثاله : أنّه لا يجوز لغة أن يقال : « ليس الإنسان بحيوان » ويجوز عقلا أن يقال ذلك ؛ بناء على أنّ حيوانا ما كالحيوان الصاهل منفيّ عنه ، ولكنّ جواز السلب في الجملة عقلا لا ينافي الثبوت حقيقة ، فإنّ الحيوان حقيقة في الإنسان ؛ لكونه من أفراد مفهومه مع جواز سلبه عنه في الجملة عقلا. وسرّ ذلك أنّ بناء الحقيقة على اللغة لا على العقل.

واستدلّوا أيضا بأنّه لا يطلق الكافر على المؤمن الذي أسلم بعد الكفر ، وإلاّ لصدق على أكثر الصحابة في حال إسلامهم أنّهم كفّار ، وكذا لا يصدق على العنب الحلو أنّه حامض ،

__________________

(١) راجع المحصول ١ : ٢٤٠ ـ ٢٥٠.

(٢) راجع نهاية السؤل ٢ : ٧٣ ـ ٩٠.

٨٢

وعلى التمر اليابس الأسود أنّه رطب أخضر (١).

واجيب عن الأوّل : بأنّ المنع فيه شرعي. وعن أخويه : بأنّ المنع فيهما عرفي ، واللغة لا تأبى عن الإطلاق المذكور وإن كان مستبعدا عند العقل (٢).

وإن خصّص الدعوى بما إذا لم يطرأ على المحلّ ضدّ أو نقيض ـ كما ذكره بعض (٣) ـ فيندفع هذا الدليل ؛ لأنّ عدم الإطلاق في الامور المذكورة يكون حينئذ اتّفاقيّا ؛ لأجل طريان الضدّ ، ويكون خارجا عن الدعوى ، إلاّ أنّ الاتّفاق المذكور لم يثبت ، بل خلافه ثابت. فالحقّ في الجواب ما ذكر أوّلا.

إذا عرفت هذا ، تعلم حقيقة الحال في المذاهب الأخر ، والتخصيصات المذكورة ، ووجه فسادها.

ثمّ إنّ فروع هذا الأصل كثيرة :

منها : إذا وقف أحد شيئا على سكّان موضع مخصوص ، فعلى ما اخترناه لا يبطل حقّ بعض السكّان بالخروج ، وإن كان مدّة كثيرة.

ومنها : بقاء كراهية الطهارة بالماء المسخّن بالشمس بعد برده.

ومنها : كراهية الحدث تحت الأشجار التي أثمرت في الماضي ولم تكن مثمرة بالفعل.

وأمثال هذه الفروع كثيرة. وكيفيّة التفريع في جميعها ظاهرة عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه.

فصل [١٩]

كلّ واحد من المشتقّات يدلّ على ذات ما مع صفة معيّنة ، ولا يدلّ على خصوصيّة الذات من كونه جسما أو إنسانا أو حجرا أو غيرها ؛ فإنّ الأبيض لو دلّ على خصوصيّة الذات مثل كونها جسما ، لكان حمل الجسم عليه غير مفيد مع أنّه مفيد قطعا.

__________________

(١) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٨٩.

(٢) قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : ٦٨ و ٦٩.

(٣) تقدّم في ص ٧٩ ـ ٨٠.

٨٣

ويظهر الفائدة في الأحكام في التعليقات والأيمان وأمثالهما ، وفيما صدر مشتقّ من كلام الشارع ولم يكن قرينة تدلّ على تعيين الذات.

فصل [٢٠]

الحقّ أنّ الواو العاطفة لمطلق الجمع ، ولا تدلّ على ترتيب أو معيّة. صرّح بذلك رؤساء اللغة (١) حتّى أنّ أبا عليّ الفارسي نقل إجماع الادباء على ذلك (٢).

وذكره سيبويه في خمسة عشر موضعا من كتابه (٣) ؛ واستدلّ أيضا بأمثلة يتعيّن في بعضها الحمل على المعيّة ، وفي بعضها الحمل على تقدّم ما بعد الواو على ما قبلها.

والحقّ أنّ الحمل على المجازيّة فيها ممكن ، فالمناط ما ذكر أوّلا.

والفرّاء ومن تبعه على أنّها للترتيب (٤). واحتجّ بأمثلة لا بدّ فيها من حمل الواو على الترتيب ، وهو لا يفيد مطلوبهم ؛ لأنّه مستفاد من القرائن الخارجيّة ، فلا يدلّ على تعيّن كونها حقيقة فيه فقط.

إذا علمت ذلك تعرف أنّه يجب حمل الواو عند الإطلاق على الجمع مطلقا.

وكيفيّة التفريع أنّه إذا قال رجل لزوجته : « إن كلّمت زيدا وعمرا فأنت عليّ كظهر أمّي » فتحرم بمطلق تكلّمهما ، ولا يتوقّف (٥) على تقدّم تكلّم الأوّل على الثاني ، وكذا إذا قال رجل لآخر : « وكّلتك في بيع أرضي ومتاعي » يتخيّر الوكيل في بيعهما بأيّ نحو شاء ، ولا يلزم عليه بيع الأرض أوّلا.

ثمّ الحقّ أنّ الواو العاطفة يجوز حذفها مطلقا إذا دلّت عليه قرينة ، كما ذهب إليه الأكثر ، وإن منعه ابن جنيّ في غير الشعر (٦). فمن أورد جملا متعاطفة بتقدير العاطف في المعاملات ،

__________________

(١) منهم : ابن هشام في مغني اللبيب ٢ : ٣٥٤ ، والفارسي كما في المحصول ١ : ٣٦٣.

(٢) حكاه عنه الفخر الرازي في المحصول ١ : ٣٦٣ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٢ : ١٨٥ ، والعلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول ١ : ٣١٣.

(٣) راجع كتاب سيبويه ١ : ١٧٧ ـ ١٧٩.

(٤) راجع : الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٩٦ ، ومغني اللبيب ٢ : ٣٥٤.

(٥) أي الحكم ، وهو هنا الحرمة.

(٦) حكاه عنه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٤٤٩ ، القاعدة ١٥٧.

٨٤

أو الإيقاعات ، أو التعليقات وادّعى ذلك يقبل قوله.

وذكر بعض النحويّين (١) أنّ هذا الواو مع الاثنين بمنزلة ألف التثنية ، ومع الثلاثة فصاعدا بمنزلة واو الجمع ، فيلزم على ذلك أن لا يكون فرق بين إيراد الكلام في العقود والإيقاعات وغيرهما بلفظ التثنية والجمع ، أو بالواو مع الاثنين والأكثر ، إلاّ أنّ الفقهاء (٢) ذكروا أنّه إذا أوصى رجل في مرض موته بعتق سالم وغانم مثلا ، ولم يف الثلث بهما ، يعتق الأوّل خاصّة ، وعلى القاعدة يلزم أن يعتق جزء من كلّ منهما أو يقرع بينهما ؛ لأنّ الحكم فيما إذا قال : « أعتقوا هذين العبدين » كذلك (٣).

وهنا فرق آخر ، وهو أنّه إذا قال رجل : « لزيد عليّ ثلاثة دراهم إلاّ درهما » يلزمه درهمان قولا واحدا. وإذا قال : « له عليّ درهم ودرهم ودرهم إلاّ درهما » فعلى القاعدة الحكم كذلك ، إلاّ أنّ بعضهم (٤) على أنّ الاستثناء يعود إلى الجملة الأخيرة ، فيبطل الاستثناء ؛ لكونه مستغرقا.

قاعدة

الفاء العاطفة موضوعة لمعان :

منها الترتيب ، وهو إمّا ذكري ، وهو عطف مفصّل على مجمل ، نحو « توضّأ ، فغسل وجهه ويديه ، ومسح رأسه ورجليه ». وإمّا معنوي ، نحو « جاء زيد فعمرو ».

ومنها التعقيب ، وهو في كلّ شيء بحسبه ، نحو « تزوّجت فولدت » و « دخل المدينة فمكّة » ، فهو يشتمل التراخي أيضا.

ومنها السببيّة ، نحو ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ )(٥) ، فتقدّم الأوّل في المعاني الثلاثة معتبر إلاّ في الترتيب الذكري.

__________________

(١) نسبه الشهيد الثاني إلى ابن مالك في تمهيد القواعد : ٤٤٧ ، القاعدة ١٥٧.

(٢) منهم العلاّمة في تحرير الأحكام ٣ : ٣٤٣ ، المسألة ٤٧٥٨ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ١٠ : ١٢٠ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٤٤٦ ، القاعدة ١٥٧.

(٣) فيما إذا كانت قيمتهما زائدة عن الثلث.

(٤) ذهب إليه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٤٤٨ ، القاعدة ١٥٧.

(٥) البقرة (٢) : ٣٧.

٨٥

وذهب الفرّاء إلى أنّها لا تفيد الترتيب مطلقا (١) ، واحتجّ بقوله تعالى : ( أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ )(٢).

والجواب أنّ الترتيب فيه ذكري ، أو التقدير : « أردنا إهلاكها » كما في كثير من نظائره.

وكيفيّة التفريع : أنّه إذا حلف رجل إن دخل الدار فتكلّم فعليه كذا ، فيشترط تقدّم الدخول على التكلّم ، وإذا قال : « بعتك بدرهم فدرهم » فعلى القاعدة يلزم بطلان البيع ؛ لأنّ الفاء تقتضي أن يثبت الأوّل قبل الثاني ، والثمن يثبت جميعه دفعة. ويمكن الحمل على التعقيب الذكري ، فينعقد البيع بدرهمين.

ثمّ إنّ بعض النحاة مصرّحون بأنّ الفاء الداخلة على خبر المبتدأ ـ نحو : الذي يأتيني فله كذا ـ تدلّ على الاستحقاق ، وحذفها لا يدلّ عليه (٣).

ويتفرّع عليه استحقاق الجعل وعدمه في حالتي اشتمال كلام المالك على الفاء وعدمها ، كما صرّح به بعض الأصحاب (٤).

وبعضهم قال بالاستحقاق في صورة عدم الفاء أيضا ؛ لدلالة العرف عليه مع قطع النظر عنها ؛ لأنّ الجعالة من العقود الجائزة التي يكتفى في ثبوتها بما دلّ عليها (٥). وهو حسن.

ووقع الخلاف بين النحاة في أنّ الفاء الجزائيّة ، نحو « من يأتيني (٦) فأكرمه » هل تدلّ على التعقيب ، أم لا؟ (٧)

وفرّع عليه العامّة استتابة المرتدّ وعدمه ؛ نظرا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من بدّل دينه فاقتلوه » (٨) فإنّه لو كانت للتعقيب دلّت على قبول توبته ؛ لأنّه لا يتصوّر هنا فائدة للتعقيب إلاّ الأمر

__________________

(١) معاني القرآن ١ : ٣٧١.

(٢) الأعراف (٧) : ٤.

(٣) منهم ابن مالك في التسهيل : ٥١ ، وحكاه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٤٥٢ ، القاعدة ١٥٧.

(٤) منهم الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٤٥٢ ، القاعدة ١٥٧. ولكنّه لم يستقرّ عليه ، بل احتمل الاجتزاء بدون الفاء لاستحقاق الجعل وقال : « هذا متّجه ».

(٥) هو مختار الشهيد الثاني أخيرا في المصدر.

(٦) كذا في النسختين. والصحيح : « من يأتني ».

(٧) راجع تمهيد القواعد : ٤٥٣ ، القاعدة ١٥٨.

(٨) الفردوس بمأثور الخطاب ٣ : ٥٢٧ ، ح ٥٦٤٧.

٨٦

بالتوبة ، فإن تاب لم يقتل ، وإلاّ قتل ، ومجرّد تأخير القتل من الارتداد يعلم من الفاء إذا كانت لمجرّد الترتيب ، ففائدة التعقيب منحصرة فيما ذكر ، ولا يصحّ هذا التفريع عندنا ؛ لأنّ المسألة عندنا منصوصة بقبول توبة المرتدّ الملّي دون الفطري (١).

ضابطة

الحقّ أنّ « ثمّ » يفيد ثلاثة امور : التشريك في الحكم ، والترتيب ، والمهلة. وقد يفيد مجرّد الترتيب دون المهلة ، كالفاء.

وخلاف جماعة في كلّ واحد منها لا اعتداد به. والأمثلة التي استدلّوا بها مأوّلة ، فلو قال رجل لوكيله : « بع هذا ثمّ اشتر الشيء الفلاني » يلزم عليه أن يراعي الترتيب مع المهلة المتعارفة هنا ، ولو قال : « عليّ أن أصوم يوما ثمّ يوما » فعليه الفصل بيوم ؛ لأنّ المهلة لا تتحقّق إلاّ بذلك ؛ لعدم مدخليّة الليل في الصوم. واحتمل بعض الاكتفاء به (٢) ، ومع تعيين (٣) النيّة يلزم العمل بها.

فائدة

لفظة « أو » تقع لمعان :

منها التخيير ، وهي الواقعة بين شيئين يمتنع الجمع بينهما ، نحو « اجعل هذا الثوب أسود أو أحمر ».

ومنها الإباحة ، وهي الواقعة بين شيئين يجوز الجمع بينهما ، نحو « جالس العلماء أو الحكماء ».

ثمّ إن دخلت « لا » الناهية ، أفادت لزوم الاجتناب عن الجميع ، نحو ( وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً )(٤) ، فعلى هذا لو قال رجل بعنوان النذر أو الحلف : لا آكل هذا أو هذا ، يلزم

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢٥٦ ، باب المرتدّ ، ح ١ ، ووسائل الشيعة ٢٨ : ٥٤٥ ، أبواب حدّ المرتدّ ، الباب ١ ، ح ٢ ، ٣ ، ٥.

(٢) منهم الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٤٥٦ ، القاعدة ٥٩.

(٣) في « ب » : « تعيّن ».

(٤) الدهر (٧٦) : ٢٤.

٨٧

عليه الاجتناب عن كليهما ، وإذا قال : آكل هذا أو هذا ، يبرأ (١) بأكل أحدهما. وهكذا الحكم في التعليقات ، والأقارير ، والشهادات.

ومنها التقسيم (٢) ، نحو « الموجود إمّا واجب ، أو ممكن ».

ومنها الجمع ، كالواو ، نحو قوله تعالى : ( وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ )(٣).

ثمّ معرفتها في كلّ موضع بأنّها من أيّ قسم تظهر من المقام والقرائن.

قاعدة

« الباء » (٤) موضوعة لمعان معروفة ، وقد وقع الخلاف في كونها للتبعيض ، وأنكره سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه (٥).

وقد ورد به النصّ الصحيح (٦) عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ )(٧). وعليه بعض المحقّقين (٨) من النحاة ، فلا اعتداد بكلام سيبويه. ويظهر منه جواز المسح ببعض الرأس كما هو مذهبنا.

ثمّ كيفيّة التفريع في الأحكام ـ بعد تشخيص معناها في كلّ مقام ـ ظاهرة عليك.

ضابطة

« في » تقع لمعان :

منها الظرفيّة ، إمّا حقيقيّة كزيد في الدار ، أو مجازيّة ، كقولنا : « في العلم حياة ».

__________________

(١) كذا في النسختين ، ولكنّ الصحيح أن يكون « يبرّ » أي يطيع بالوفاء بالنذر.

(٢) كذا في النسختين والصحيح أنّ التقسيم لا يرد على الموجود ، بل الوارد عليه هو الترديد دون التقسيم ، إلاّ أن يراد بالموجود مفهوم الموجود لا مصداقه ، فهذا المثال قابل للتقسيم والترديد كليهما.

(٣) النور (٢٤) : ٦١.

(٤) في « ب » : « ومنها الباء ».

(٥) راجع : مغني اللبيب ١ : ١٤٢ ، والمحصول ١ : ٣٧٩ ، ونهاية الوصول إلى علم الأصول ١ : ٣٢٦.

(٦) الكافي ٣ : ٣٠ ، باب مسح الرأس والقدمين ، ح ٤.

(٧) المائدة (٥) : ٦.

(٨) شرح الرضيّ على الكافية ٤ : ٢٨١.

٨٨

ومنها السببيّة ، نحو قوله تعالى : ( فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ )(١).

ومنها المصاحبة ، نحو ( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ )(٢).

وأنكر فخر الدين الرازي كونها للسببيّة ؛ مستدلاّ بعدم النقل من أهل اللغة (٣).

وردّ عليه بجواز نقل أهل اللغة وعدم الوصول إلينا (٤).

وفيه ما فيه ، مع أنّ أصالة عدم الاشتراك تؤيّد قوله. وعلى هذا يجب حملها في قوله عليه‌السلام : « في خمسة أوسق زكاة ، وفي خمس من الإبل شاة ، وفي أربعين شاة شاة » (٥) ، وأمثالها على الظرفيّة حقيقة أو مجازا. وحينئذ يجب الزكاة من عين النصاب وتكون داخلة فيه ، حتّى لو تلف بعض النصاب بعد الحول وقبل تمكّنه من أداء الزكاة يسقط من الزكاة بحسبه. وإن حملت على السببيّة ، لا يجب الزكاة من عين النصاب ، بل تكون خارجة عنه ، ولا يسقط شيء منها في الفرض المذكور.

ثمّ نظر من (٦) حملها على السببيّة إلى أنّ الشاة ـ مثلا ـ ليست داخلة في حقيقة الإبل حتّى يتحقّق الظرفيّة ، فالمراد أنّه بسبب خمس من الإبل يجب شاة.

والجواب : أنّ الظرفيّة المجازيّة ممكنة ؛ نظرا إلى القيمة ؛ فيكون المراد في خمس من الإبل مقدار شاة.

وبهذا يظهر ضعف قول من استدلّ على مجيئها لغة للسببيّة (٧) بقوله عليه‌السلام : « في النفس المؤمنة مائة من الإبل » (٨) مع أنّه إن تعيّن حملها في مثال على السببيّة لأجل قرينة ، لا يلزم منه الوضع حتّى يكون حقيقة ، بل يكون من باب المجاز.

ثمّ إذا وقعت مطلقة في الكلام ، فالظاهر حملها على الظرفيّة ؛ لأنّها الغالب ، فإذا قال

__________________

(١) يوسف (١٢) : ٣٢.

(٢) القصص (٢٨) : ٧٩.

(٣) المحصول ١ : ٣٧٧.

(٤) راجع معارج الاصول : ٥٨.

(٥) الكافي ٣ : ٥٣١ ، باب صدقة الإبل ، ح ١.

(٦) احتمله الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٤٣٠ ، القاعدة ١٥٤.

(٧) قاله الزركشي في البحر المحيط ٢ : ٤١.

(٨) قد ورد هذا الحديث في كتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أهل اليمن. انظر المنتفى من أخبار المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله لابن تيميّة ٢ : ٦٩٢ ـ ٦٩٣.

٨٩

أحد : « لزيد في هذا العبد مائة درهم » فيحتمل أن تكون للظرفيّة الحقيقيّة ، بأن يكون عند العبد مائة من مال زيد. وأن تكون للظرفيّة المجازيّة ، بأن يكون زيد شريكا في قيمته بهذا القدر ، أو يكون ذلك من القائل بعنوان الوصيّة أو الهبة. وأن تكون للسببيّة ، بأن يكون العبد جانيا على زيد جناية توجب ذلك. وأن تكون للمصاحبة ، والمثال كما ذكر في الظرفيّة الحقيقيّة. وأن تكون بمعنى « من » على ما ذكر بعض من أنّ « في » قد تكون مرادفة « من » أيضا (١) ، والمثال كما ذكر في الظرفيّة المجازيّة. فحينئذ يلزم أن يكلّف البيان ، ومع عدم الإمكان ، فالظاهر الحمل على الظرفيّة المجازيّة ، فتأمّل.

ثمّ إنّ لفظة « في » للظرفيّة المطلقة. ولا يستفاد منها لزوم كون المظروف في أوّل الظرف ، أو وسطه ، أو آخره. فإذا باع شيئا مؤجّلا على أن يؤدّي الثمن في شهر كذا أو يوم كذا ، فيشمل جميع الشهر واليوم ، ولا يختصّ بجزء معيّن منهما. وحينئذ يتوجّه بطلان البيع ؛ للزوم تعيين الأجل بحيث لا يحتمل الزيادة والنقصان. وكذا الحكم في السلم ، والإجارة ، وغيرهما ممّا يلزم فيه تعيين الزمان. وإذا وكّل رجلا في اشتراء دار في بلدة ، لا يلزم على الوكيل أن يشتري دارا في وسط البلد ، أو موضع مخصوص منه ، بل يصحّ اشتراء كلّ دار فيها وإن كان من الدور الخارجة المتّصلة بها.

فصل [٢١]

اللام موضوعة لمعان. وأكثرها دورانا :

الاستحقاق ، نحو « الحمد لله » ، و « العظمة له ».

والملك ، نحو « المال لزيد ».

والاختصاص ، نحو « الجنّة للمؤمنين ».

والتعليل ، نحو ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )(٢) أي لأجل حبّ المال لبخيل.

والتمليك ، نحو « وهبت هذا المال لزيد ».

__________________

(١) راجع تمهيد القواعد : ٤٢٩ ، القاعدة ١٥٤.

(٢) العاديات (١٠٠) : ٨.

٩٠

ثمّ لا يخفى أنّ الفرق بين الاستحقاق والملك ظاهر ، وهما لا يستلزمان الاختصاص ، فيمكن تحقّقهما بدونه ، ولكنّ الاختصاص يستلزم الملك ، أو الاستحقاق ، أو كليهما.

والحقّ ـ كما صرّح به بعض المحقّقين (١) ـ أنّ اللام عند الإطلاق تفيد الاختصاص عرفا ، وإن لم تفد لغة.

وكيفيّة التفريع : إذا قال رجل : « هذا لزيد » يكون إقرارا بالملك ، فإن قال : أردت أنّه في إجارته أو عارية عنده ، لا يسمع. ولو قال بعنوان اليمين أو التعليق وأمثالهما : « لا أركب الدابّة التي للعبد » لا يتحقّق له الحنث ؛ لأنّ العبد لا يملك شيئا ، ويمكن أن يتحقّق بإرادة المجاز بأن يقصد بها ما عرف (٢) به. ولو حلف أن لا يدخل الدار التي لزيد ، يجب أن يراد بها المملوكة.

وفي حكم اللام الإضافة ، كأن يقول : « دابّة العبد » أو « دار زيد ».

ويتفرّع على ما حقّقنا أنّ اللام في قوله عليه‌السلام في الصحيفة : « اللهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك » (٣) إلى آخره تفيد الاختصاص عرفا ، فيدلّ على كون المقام مختصّا بخلفاء الله ، ولكن لا يدلّ على نفي وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة ؛ لعدم لزوم حمل « المقام » على صلاة الجمعة والعيدين ، كما بيّنّا في الرسالة التي ألّفناها في هذه المسألة (٤).

فصل [٢٢]

« من » يستعمل لمعان :

منها ابتداء (٥) الغاية.

ومنها التبيين.

ومنها التعليل ، كقوله : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (٦).

__________________

(١) راجع الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٩٥.

(٢) « عرف يعرف عرفا : الفرس : قصّ عرفه أي شعر عنقه ». معجم اللغة العربيّة ٦ : ٨٥٦ ، « ع ر ف ».

(٣) الصحيفة السجّاديّة : ٤٧٤ ، دعاؤه يوم الأضحى ويوم الجمعة ، الدعاء ٤٩.

(٤) ليست هذه الرسالة في متناول أيدينا.

(٥) في « ب » : « الابتداء للغاية ».

(٦) الكافي ٥ : ٤٣٧ ، باب الرضاع ، ح ٢ ، ووسائل الشيعة ٢٠ : ٣٧١ ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، الباب ١ ، ح ١.

٩١

ومنها التبعيض.

ويظهر المطلوب منها في كلّ مقام بمعونة القرائن ، فلو قال : « بع من أموالي ما شئت » ، و « أعط منها ما شئت » وأمثالهما ، يجب حملها على التبعيض ، ولا يمكن للوكيل (١) بيع الجميع. ولو قال : « خذ مالي من فلان » ، يجب حملها على الابتداء ، فيكون مبدؤها الفلان ، ولا يتعدّى إلى غيره ، فلو مات ليس له الأخذ من ورثته.

ثمّ إنّ لفظة « من » تزاد في النفي ، والنهي ، والاستفهام وفاقا ، بشرط كون مدخولها نكرة ، نحو ( ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ )(٢).

وأمّا في الإثبات ، فذهب سيبويه (٣) وأكثر البصريّين (٤) إلى عدم الجواز. وذهب الأخفش (٥) إلى الجواز مطلقا ؛ لقوله تعالى : ( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ )(٦) ، وبعض (٧) إلى الجواز بالشرط المذكور ، نحو ( يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ )(٨) ، وحملها في الآيتين على التبعيض ممكن ، فالظاهر الأوّل.

ومن فروعه : أنّه إذا قال وليّ الزوجة أو وكيلها : « زوّجت من زينب » أو « من موكّلتي » يكون العقد باطلا ، بناء على الأوّل والثالث ؛ لكونه لحنا ، وعلى الثاني يكون صحيحا. وكذا الحكم إذا قال البائع أو الموجر مخاطبا للمشتري أو المستأجر : « بعت منك » أو « آجرت منك ».

فصل [٢٣]

« إلى » موضوعة لانتهاء الغاية. واختلف في دخولها في ذي الغاية. فقيل به مطلقا. وقيل بالعدم كذلك.

__________________

(١) في « ب » : « الوكيل ».

(٢) الأعراف (٧) : ٥٩.

(٣ و ٤) راجع : مغني اللبيب ١ : ٤١٩ ـ ٤٢٦ ، والمحصول ١ : ٣٧٧ ، ونهاية الوصول إلى علم الأصول ١ : ٣٢٥.

(٣ و ٤) راجع : مغني اللبيب ١ : ٤١٩ ـ ٤٢٦ ، والمحصول ١ : ٣٧٧ ، ونهاية الوصول إلى علم الأصول ١ : ٣٢٥.

(٥) راجع تمهيد القواعد : ٤٢٤ ، القاعدة ١٥٢.

(٦) الأحقاف (٤٦) : ٣١.

(٧) المقتضب للمبرّد ٤ : ١٣٧.

(٨) الكهف (١٨) : ٣١.

٩٢

وقيل بالدخول إن كان الغاية من جنس ذي الغاية ، نحو « أكلت السمكة إلى رأسها » ، وبعدمه إن لم تكن من جنسه (١) ، كقوله تعالى : ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ )(٢) ؛ فإنّ الليل ليس من جنس النهار الذي يقع فيه الصوم.

وقيل بالدخول إن لم يتميّز الغاية حسّا ، كالمرفق في آية الغسل (٣) ، وبعدمه إن تميّزت حسّا ، كالليل في آية الصوم (٤).

وقيل في المسألة وجوه أخر (٥).

والحقّ عدم الدخول مطلقا ، كما ذهب إليه أكثر المحقّقين ؛ لأنّ غاية الشيء آخره ، وما ينتهي الشيء عنده ، فلا يدخل فيه أصلا ؛ ولدلالة العرف على ذلك. ودخول بعض الغايات في ذويها لأجل القرائن الخارجيّة ، مثلا دخول المرفق في آية الغسل من باب المقدّمة لا لكونه غاية.

وكيفيّة التفريع : أنّه إذا باع شيئا إلى شهر كذا ، أو يوم كذا ، يحلّ الأجل بأوّل جزء منهما.

وهكذا في باقي العقود المؤجّلة إلى وقت كذا.

ثمّ كما أنّ حدّ الانتهاء لا يلزم أن يكون داخلا في المحدود ـ أعني ذا الغاية ـ فكذلك حدّ الابتداء ، فكما أنّ ما بعد « إلى » لا يدخل في المحدود ، فكذلك ما بعد « من » ، فإذا قال : « بعتك من السرداب إلى الحجرة » لا يدخل السرداب والحجرة في المبيع ، وإذا قال : « آجرتك من شهر رمضان إلى شهر كذا » يكون مبدأ الإجارة آخر رمضان.

نعم ، إذا دلّت القرينة على أنّ حدّ الابتداء داخل في المحدود ، يعمل بها ، كما إذا قال : « آجرتك من رمضان إلى شوّال » فإنّه إن لم يكن مراده أوّل رمضان ، لكان لغوا.

__________________

(١) راجع : شرح الرضيّ على الكافية ٤ : ٢٧١ ، ومغني اللبيب ١ : ٧٤ ، والتمهيد للإسنوي : ٢٢١.

(٢) البقرة (٢) : ١٨٧.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) ، المائدة (٥) : ٦.

(٤ و ٥) راجع : شرح الرضيّ على الكافية ٤ : ٢٧١ ، ومغني اللبيب ١ : ٧٤ ، والتمهيد للإسنوي : ٢٢١.

(٤ و ٥) راجع : شرح الرضيّ على الكافية ٤ : ٢٧١ ، ومغني اللبيب ١ : ٧٤ ، والتمهيد للإسنوي : ٢٢١.

٩٣

تنبيه

الضمير إذا صلح لأن يعود إلى مضاف ومضاف إليه ، فالظاهر إرجاعه إلى المضاف ؛ لأنّه المخبر عنه ، والمضاف إليه إنّما ذكر لأجل تعريفه ، أو تخصيصه ، فإذا قال أحد : « لزيد عليّ ألف درهم ونصفه » ، يلزم عليه ألف وخمسمائة. وقس عليه نظائره.

واعلم أنّ المجاز لا يقع في نفس الحروف مطلقا ، بل في متعلّقات معانيها ، فيقع المجاز فيها أوّلا ثمّ يسري فيها تبعا ، وهو الذي يسمّى في البيان بالاستعارة التبعيّة ، مثلا يقول (١) : « في » للظرفيّة ، و « على » للاستعلاء ، فإذا شبّه أحدهما بالآخر ، ثمّ ذكر الحرف الموضوع للمشبّه به ، فهو الاستعارة التبعيّة ؛ لوقوع المجاز أوّلا في الاستعلاء أو الظرفيّة اللتين (٢) من متعلّقات معنى الحرفين لا معناهما ، وإلاّ لكانتا (٣) اسمين ، فلو حلف أو نذر أن لا يكون على الظلم مثلا ، يكون مبنى كلامه على المجاز ، ويكون صحيحا ، ويلزم عليه الكفّارة بارتكاب الظلم.

__________________

(١) في « ب » : « تقول ».

(٢) تغليب التأنيث غير متعارف.

(٣) أي كلمتا « على » و « في ».

٩٤

الباب الثالث

في المبادئ الأحكاميّة

فصل [١]

اعلم أنّ الشائع عند القوم تقسيم الحكم إلى الشرعي والوضعي ، وهو يشعر بعدم دخول الثاني تحت الأوّل ، كما صرّح به جماعة (١).

والحقّ أنّ أحكام الوضع كلّها داخلة في أحكام الشرع ؛ لأنّ كون الشيء سببا ـ ككون الوقت سببا لوجوب الصلاة ـ أو شرطا ـ ككون الطهارة شرطا لصحّة الصلاة ـ أو مانعا ـ ككون النجاسة مانعة من صحّتها ـ إنّما هو بجعل الشارع ووضعه.

ولا نعني بالحكم الشرعي إلاّ ما استفيد منه ، فيجب أن يعرّف الحكم الشرعي بحدّ يدخل فيه الحكم الوضعي ، وقد عرّف بتعريفات كثيرة أكثرها لا يخلو عن شيء ، وأصحّها ما ذكره بعض المحقّقين وهو أنّه خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين من حيث الاقتضاء ، أو التخيير ، أو الوضع (٢).

ويمكن تصحيح الحدّ بدون القيد الأخير ؛ نظرا إلى دخول الحكم الوضعي في الاقتضاء ؛ لأنّه لا معنى لكون الزنى مثلا سببا للجلد إلاّ وجوبه عنده ، ولا معنى لكون الطهارة شرطا للصلاة إلاّ جواز الدخول فيها عندها وحرمته دونها ، وكذا لا معنى لكون نجاسة المبيع مانعة من بيعه إلاّ حرمة الانتفاع عندها. وقس عليه أمثاله.

__________________

(١) منهم : الفخر الرازي في المحصول ١ : ٩٣ ، والأسنوي في التمهيد : ٤٨ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٣٤ ، القاعدة ٢.

(٢) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٣٢.

٩٥

ثمّ على ما ذكرنا ينقسم الحكم الشرعي إلى الوضعي بأقسامها الآتية ، والخمسة المعروفة ، أعني :

الوجوب ، وهو الحكم الذي يقتضي الفعل اقتضاء مانعا من النقيض ، أو ما يستحقّ تاركه لا إلى بدل ذمّا أو عقابا.

وقولنا : « لا إلى بدل » لإدخال الكفائي وكلّ واحد من أفراد المخيّر ، فلا ينتقض الحدّ بالركعتين الأخيرتين من الصلوات (١) الرباعيّة في المواضع الأربعة (٢) ، والزائد على الإصبع الواحدة في المسح ، وأمثالهما ؛ فإنّ المكلّف إن أتى بها (٣) اتّصفت بالوجوب مع كون الفعل حينئذ متّصفا بالأفضليّة ، وإن تركها وأتى بالركعتين والإصبع الواحدة مثلا ، يكون الركعتان والإصبع الواحدة متّصفتين بالوجوب مع عدم الأفضليّة ، وتكونان بدلين عن الركعات الأربع والمسح بالثلاث ، فما ترك لم يترك من غير (٤) بدل ، بل أتى به.

وقد عرّف الوجوب بتعريفات أخر لا تخلو عن بعض النقوض ، أو المناقشات.

والصحيح ما ذكرناه ، وما في معناه.

والفرض مرادف للوجوب عندنا ، خلافا للحنفيّة ؛ حيث ذهبوا إلى أنّ الفرض ما ثبت بالقطعيّات ، كالآيات القطعيّة ، والسنّة المتواترة. والوجوب ما ثبت بالظنّيات ، كأخبار الآحاد وأمثالها (٥).

ويظهر الفائدة عندهم لو نذر أحد أن يؤدّي فريضة ، أو واجبا. وأمّا عندنا فلا يظهر فائدة ، ويرادفهما الحتم ، واللزوم.

والحرمة ، وهو ما يقتضي الترك اقتضاء مانعا من النقيض ، أو ما يستحقّ فاعله ذمّا أو عقابا ، ويرادفها الحظر ، والزجر ، والعصيان ، والقبح.

والندب ، وهو ما يقتضي الفعل اقتضاء غير مانع من النقيض ، أو ما يستحقّ فاعله مدحا

__________________

(١) في « ب » : « الصلاة ».

(٢) وهي : المسجد الحرام ، ومسجد الكوفة ، ومسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والحائر الحسيني عليه‌السلام.

(٣) أي الرباعيّة والمسح بالزائد عن الإصبع الواحدة.

(٤) في « ب » : « بغير ».

(٥) راجع : المحصول ١ : ٩٧ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٤٠ ، والتمهيد للإسنوي : ٥٨ ، ٥٩.

٩٦

أو ثوابا ، ولا يستحقّ تاركه ذمّا أو عقابا ، ويرادفه التطوّع ، والاستحباب ، والنفل ، والسنّة.

والكراهة ، وتعريفها ظاهر بعد العلم بأنّه (١) مقابل الندب.

والإباحة ، وهو الحكم الذي لا يقتضي شيئا من الفعل والترك ، بل هما متساويان ، أو لا يستحقّ فاعله وتاركه شيئا من المدح أو الثواب (٢) ، والذمّ أو العقاب ، ويرادفها الجائز ، والحلال.

اعلم أنّه ظهر من التقسيم انحصار أقسام الحكم (٣) في الفعل دون الترك ، وقد صرّح به القوم (٤) أيضا.

واستدلّوا عليه : بأنّ الترك أمر عدمي ، والتكليف لا يتعلّق بالمعدوم ؛ لأنّ المكلّف به لا بدّ أن يكون شيئا يمكن إحداثه وتركه ، والمعدوم لا يقدر على إيجاده ؛ لاستلزامه تحصيل الحاصل (٥).

واورد عليه بأنّ الفقهاء كثيرا ما يستعملون أقسام الحكم في الترك ، فيقولون : يستحبّ في الصلاة ترك السود وترك الثوب الرقيق ، ويكره ترك الرداء للإمام (٦).

واجيب : بأنّ المراد من الترك في كلامهم إيجاد الضدّ ، أو توطين النفس عليه ، أو جعله مستمرّا. فالمراد من استحباب ترك السود استحباب فعل يشتمل على ترك السود ، أعني لبس البيض مثلا ، أو توطين النفس على الترك المذكور والعزم عليه بعد ما كان فارغ القلب عنه ، أو الاستمرار على الترك المذكور والبقاء عليه. وحينئذ يكون متعلّق الحكم الفعل دون الترك (٧).

أقول : الحقّ أنّه لا فرق في ورود الإيراد المذكور وجوابه بين أن يكون متعلّق الحكم الفعل أو تركه ؛ لأنّه إن اخذ متعلّق الحكم الترك ، فلا بدّ في فعل الترك ـ أعني إيجاد نفس الترك ـ إلى الجواب بأحد الوجوه المذكورة ، وفي تركه لا يحتاج إليه ؛ لأنّ ترك الترك هو الفعل.

__________________

(١) كذا في النسختين. والأولى : « بأنّها ».

(٢) في « ب » : « أو الذمّ ».

(٣) والمراد أقسام متعلّقات الحكم.

(٤) فإنّهم عرّفوا الحكم الشرعي بأنّه خطاب الله تعالى ، المتعلّق بأفعال المكلّفين. راجع التمهيد : ٤٨ ، وغيره.

(٥) حكاه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٣٥ ، القاعدة ٢.

(٦) المصدر.

(٧) راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : ٤٣.

٩٧

وإن أخذ متعلّق الحكم الفعل ، فلا بدّ في تركه إلى الجواب بأحد الوجوه ؛ لأنّه أمر عدمي غير مقدور عليه ، وفي إيجاده لا يحتاج إليه ، غاية ما في الباب أنّ إضافة الفعل والإيجاد وأمثالهما إلى الترك ، وإطلاق ترك الترك على الفعل تجوّز ، وأمّا في ورود الإيراد المذكور. فلا فرق في الواقع بين أن يكون متعلّق الحكم الفعل أو الترك.

ثمّ إن اعتبر كون [ متعلّق ](١) الحكم فعلا ـ على ما فعله القوم ـ لا يكون نقيض كلّ واجب حراما وبالعكس ، ولا يكون نقيض كلّ مستحبّ مكروها وبالعكس ؛ لأنّ كلّ واحد منها أمر وجوديّ ونقيضه عدميّ ، فلا يدخل في الأحكام ، وإن لم يعتبر ذلك ، بل عمّم [ متعلّق ](٢) الحكم بحيث يشمل الفعل والترك ، يلزم أن يكون نقيض كلّ واجب حراما وبالعكس ، ونقيض كلّ مستحبّ مكروها وبالعكس ، كما يظهر من تعريفاتها بعد عدم اعتبار (٣) كونها امورا وجوديّة.

وكلام القوم في هذا المقام غير منقّح ؛ فإنّهم ذكروا أنّ كلّ فعل كان مستحبّا لا يكون تركه مكروها ، بل قد يكون وقد لا يكون. مثلا قالوا : الرداء مستحبّ لغير الإمام من المصلّين وتركه ليس مكروها له ، ويستحبّ للإمام وتركه مكروه له ، مع أنّه إن اعتبر كون [ متعلّق ] الحكم فعلا وجوديا يجب أن لا يكون ترك حكم حكما (٤) مطلقا ، وإن لم يعتبر ذلك ، بل كان شاملا للترك أيضا ـ وإن كان بأحد التوجيهات المذكورة ـ يلزم أن يكون ترك كلّ واجب حراما وبالعكس ، وترك كلّ مستحبّ مكروها وبالعكس ، كما يظهر من حدودها بعد حذف قيد الفعليّة.

هذا ، مع أنّه قيل : المكروه مشترك بين ثلاثة معان : الحرام ، والمنهيّ بنهي تنزيه ـ وهو ما كان تركه خيرا من فعله وإن لم يكن فيه عقاب ـ وترك الأولى كترك النافلة. وهذا الترك لا يسمّى مكروها لكونه منهيّا عنه ، بل لكثرة الثواب في فعله (٥).

__________________

(١ و ٢) أضيفت بمقتضى الضرورة.

(٣) لم يرد في « ب » : « اعتبار ».

(٤) أي ترك متعلّق حكم متعلّقا لحكم مطلقا.

(٥) قاله الفخر الرازي في المحصول ١ : ١٠٤.

٩٨

ويظهر من كلام بعض أنّ ترك كلّ مكروه مستحبّ ، كما قال في تمهيد الاصول (١) عند ذكر جواز كون الترك (٢) حكما : إنّ الفقهاء يقولون : يستحبّ ترك كذا وكذا ، إذا كان فعله مكروها (٣).

وهذا الكلام كما ترى يشعر بأنّ ترك كلّ مكروه مستحبّ ، فتأمّل.

وتلخيص إيرادنا على القوم : أنّهم ذكروا أنّ ترك المستحبّ قد يكون مكروها ، وقد لا يكون ، وبالعكس. وكذا في الواجب والحرام ، مع أنّه إن بني معرفة الأحكام على حدودها يلزم كلّية الحكم إمّا إيجابا ؛ بناء على عدم الاعتبار المذكور ، أو سلبا ؛ بناء على وجوده. وإن لم يبن معرفتها عليها ، بل على الأدلّة والقرائن الخارجيّتين ، يلزم كون الحدود مختلّة.

وإن كان بناء القوم على كلّيّة الحكم في البعض دون البعض ، مثل أن يقولوا : يكون ترك كلّ واجب حراما ، وبالعكس ، ولا يقولوا بكون ترك كلّ مستحبّ مكروها ، وبالعكس ، يكون الأمر أشنع ، والاختلال في كلامهم (٤) أظهر ، كما لا يخفى.

فصل [٢]

اعلم أنّه لمّا كان البحث في المبادئ الأحكاميّة عن نفس الحكم ، والحاكم ، والمحكوم فيه ، والمحكوم عليه. ومعرفة الحاكم كانت موقوفة على تحقيق الحسن والقبح حتّى يظهر أنّهما بأيّ معنى شرعيّان حتّى يكون الحاكم فيهما هو الشارع ، وبأيّ معنى عقليّان حتّى يكون الحاكم فيهما هو العقل. وهل التلازم بين الشرعيّين والعقليّين ، حتّى كان الحاكم الشرع والعقل معا؟ جرت عادة القوم هنا بالبحث عن الحسن والقبح ، وكونهما عقليّين أو شرعيّين.

وتنقيح هذا البحث موقوف على بيان امور :

[ الأمر ] الأوّل : الحسن والقبح يطلقان على أربعة معان :

الأوّل : استحقاق المدح والذمّ.

__________________

(١) الظاهر مراده منه هو تمهيد القواعد للشهيد الثاني.

(٢) فيه مسامحة واضحة.

(٣) نسبه الشهيد الثاني إلى أكثر الفقهاء في تمهيد القواعد : ٣٥ ، القاعدة ٢.

(٤) في « ب » : « كلامه ».

٩٩

الثاني : صفة الكمال والنقص.

الثالث : ملاءمة الطبع ومنافرته.

الرابع : ما لا حرج في فعله ، وما حرج فيه.

ولا خلاف في كون المعاني الثلاثة الأخيرة عقليّة ، وإنّما وقع الخلاف في المعنى الأوّل.

فذهب الأشاعرة إلى أنّهما بهذا المعنى شرعيّان ، ولا سبيل للعقل إلى إدراكهما ، بل موقوفان على أمر الشارع ونهيه ، ولو أمر بالقبيح ينقلب حسنا ، ولو نهى عن الحسن ينقلب قبيحا (١).

وذهب المعتزلة إلى أنّهما بهذا المعنى عقليّان ، إلاّ أنّ العقل يدرك حسن بعض الأشياء وقبحها بهذا المعنى بالضرورة ، وفي بعضها يدركه بالنظر ، وفي بعضها لا يدركه ؛ لقصوره وإن كان عقليّا ، وهذا كالعبادات وكيفيّاتها وكمّيّاتها (٢).

وهذا مذهب أصحابنا ، وهو الحقّ لوجوه :

منها : أنّ استحقاق المدح على بعض الأفعال ـ كالإحسان وإغاثة المظلومين ـ والذمّ على بعضها ـ كالظلم وإعانة الظالمين ـ بديهي ، وإنكاره سفسطة ، ولذا قال بهما وبأمثالهما منكر والشرائع والنبوّات.

والظاهر أنّ إنكار الأشاعرة في مقام الجدال وهم في حين الغفلة يعترفون به ، سيّما في مقام الموعظة والنصيحة ، كما يظهر من كتاب إحياء العلوم وغيره من كتبهم (٣).

وأيضا إنّهم يقولون بالقياس والاستحسان ولا يتمّان بدون القول به.

ومنها : لو لم يكن الحسن والقبح عقليّين ، لم يقبح من الله شيء. ويلزم منه ثلاثة محالات :

عدم قبح كذبه تعالى ، فيرتفع الوثوق بوعده ووعيده ، ولا يمكن إثبات صدقه تعالى بالسمع ؛ لأنّ ثبوته موقوف على صدقه تعالى.

وجواز أن يظهر الله المعجزة على يد الكاذب ، فلا يعرف النبيّ من المتنبّئ.

وجواز نسبة التثليث ، والكفو ، والولد ، وأمثالها إليه تعالى.

__________________

(١ و ٢) راجع المحصول ١ : ١٢٣ و ١٢٤.

(١ و ٢) راجع المحصول ١ : ١٢٣ و ١٢٤.

(٣) راجع : إحياء العلوم ١ : ٧٨ ـ ٨٢ ، والبحر المحيط ١ : ١١١ و ١١٢.

١٠٠