أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

لا يخفى على الناظر في كتبهم الاصوليّة (١) والفروعيّة (٢) ـ يمكن حصول القطع حينئذ باشتماله على دخول قول المعصوم.

فظهر ممّا ذكر صحّة كلّ من الطريقين ، وأنّ كلّ ما يصحّ إثبات حجّيّته بالطريق الأوّل يصحّ بالثاني أيضا ، إلاّ أنّه لا بدّ لكلّ مجتهد من الفحص عن كلّ إجماع ليعلم أنّه ممّا يمكن إثبات حجّيّته بكلّ منهما ، أو بالثاني فقط.

فعلى الأوّل : إن حصل له العلم بنفس الإجماع يحصل له العلم بدخول قوله عليه‌السلام أيضا كما سبق (٣) ، ولا ريب حينئذ في حجّيّته وتعيّن العمل به. وإن حصل له الظنّ به يحصل له الظنّ به أيضا ، ويتعيّن العمل به إن لم يكن له معارض ، سواء كان له معاضد أو لا. وإن كان له معارض ، وجب عليه النظر في كلّ منهما وما يعاضدهما ، واعتبار القواعد المقرّرة في الترجيح ، فيأخذ بأقوى الظنّين الحاصلين منهما.

وعلى الثاني : يلزم عليه أن ينظر بأنّه هل هو ممّا يحصل به القطع على اشتماله على قول المعصوم فيجب عليه العمل به ، أو يحصل به الظنّ على اشتماله عليه ، أو لا يحصل به شيء منهما؟ وعلى الأخيرين : هل يوجد له مخالف أو لا؟ وعلى التقادير : هل يوجد له معاضد أو معارض من الأدلّة الأخر أو لا؟ وعلى جميع الصور : هل يدّعى إجماع على خلافه أو لا؟ فتصير الصور كثيرة. ولا بدّ له في كلّ منها من النظر ، واعتبار الضوابط الممهّدة للترجيح ، والأخذ بما يقتضيه.

[ الطريق ] الثالث (٤) : ما ذهب إليه الشيخ ، وهو أنّه تواتر الأخبار بأنّه إذا وقع إجماع على باطل يجب على الإمام أن يظهر القول بخلافه ، فإذا لم يظهر ظهر أنّه حقّ (٥) ، وايّد ذلك بحجّيّة تقريره عليه‌السلام.

قيل : هذا يجري في إجماع لم يكن له مخالف أصلا ، ولم يوجد خبر على خلافه ؛ لأنّ

__________________

(١) المصادر.

(٢) المعتبر ١ : ٣١ ، وتمهيد القواعد : ٢٥١.

(٣) في ص ٣٥٩.

(٤) هذا هو المعروف بالإجماع اللطفي.

(٥) العدّة في أصول الفقه ٢ : ٦٤١ و ٦٤٢.

٣٦١

القائل به لم يقل بأنّه يجب على الإمام أن يعرّفهم نفسه ويردّهم ، بل اكتفى بمجرّد ظهور قول منه بخلاف ما أجمعوا عليه ، وهو يتحقّق بنصّ منه ، وبمخالفة فقيه جهل أو عرف (١).

لا يقال : الأخبار الواردة في هذا الباب تدلّ على أنّ الأرض لا تخلو في كلّ زمان عن حجّة لئلاّ يقع الناس في باطل وضلالة (٢) ، فيلزم منه حقّيّة ما استمرّ بينهم ، ونحن نرى أحكاما إجماعيّة خالف فيها فقيه ، أو ورد خبر على خلافها ، ومع ذلك استمرّت من الصدر الأوّل إلى زماننا هذا ، ولو لم تكن صحيحة وكان مخالفة الفقيه ، أو ورود الخبر إلقاء الخلاف منه عليه‌السلام ، لكان اللازم رجوعهم منها.

لأنّا نقول : وإن دلّ بعضها في بادئ النظر على ذلك ، إلاّ أنّه يخالف ما هو الظاهر من عدم وجوب الردّ القهريّ عليه ؛ لأنّ شأنه إراءة الطريق ، فيجب حملها على أنّ المراد منها أنّ الأرض لا تخلو عنه ليعرف الناس الحقّ والباطل ، كما يدلّ عليه بعض آخر منها.

نعم ، يمكن أن يقال حينئذ : إنّ إلقاء الخلاف على النحو المذكور (٣) لا يكفي في إراءة الطريق ؛ لأنّ دأب الفقهاء عدم الاعتناء بمخالفة واحد سيّما إذا كان معروف النسب ، والحكم بشذوذ خبر خالف الإجماع ولزوم طرحه. وعلى هذا لا يضرّ شيء منهما (٤) بهذا الطريق.

ولكنّ أصل الطريق لا يخلو عن مناقشة ؛ لأنّه يفهم من هذه الأخبار وجوب وجود الإمام في كلّ عصر لهداية الناس إلى جميع الأحكام على ما هي عليه في الواقع ، بحيث لا يزاد شيء فيها ولا ينقص شيء عنها ، ولا يهمل شيء عنها ، وهذا كما يدلّ على أنّه لا يتركهم أن يجتمعوا على الخطأ ، يدلّ على أنّه يدفع عنهم الخلاف بحيث لا يرتابوا في شيء منها ، ويقيم كلّ واحد من حدود الله وأحكامه بحيث لا يعطّل شيء منها ، مع أنّا نرى أنّ جلّ الأحكام الإلهيّة معطّلة ، كالحدود ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والمسائل الخلافيّة المشكلة كثيرة ، والإشكال في بعضها بلغ حدّا حارت فيه الأنظار ، ولا يكاد يهتدي

__________________

(١) حكاه الشيخ في العدّة في أصول الفقه ٢ : ٦٠٣.

(٢) راجع الكافي ١ : ١٧٨ ـ ١٨٠ ، باب أنّ الأرض لا تخلو عن حجّة.

(٣) أي مخالفة فقيه أو ورود نصّ.

(٤) أي مخالفة فقيه أو ورود خبر.

٣٦٢

إليه الأفكار ، ولا ريب أنّ المصيب فيها واحد وغيره على الخطأ ، فكان اللازم على الإمام أن يبيّن لهم وجه التفصّي ، ويقيم الأحكام كما هي بمقتضى هذه الأخبار.

وبيان وجه التفصّي على النحو المتعارف بين القوم لا يكفي لبيان إراءة الطريق ، ولو كفى لم يحتج إلى إمام في كلّ عصر ، وهو خلاف ما دلّ عليه الأخبار. فالصحيح أنّ المراد من الأخبار أنّه يجب وجود إمام في كلّ عصر ؛ ليفعل ما ذكر إلاّ أنّ فعله ذلك مشروط بعدم تقيّة (١) ، أو مصلحة اخرى في عدم إظهاره ، وبدونه ـ كما في زمان الغيبة ـ لا يجب عليه ذلك ، وحينئذ كما لا يجب عليه إقامة الحدود وبيان المسائل الخلافيّة ، لا يجب عليه ردّ الناس إلى الحقّ لو اجتمعوا على الخطأ.

هذا ، والمنكر لحجّيّته إمّا منكر لحجّيّة الإجماع المعتبر عند الخاصّة ، أو عند العامّة.

واحتجّ الأوّل بوجوه ضعيفة عمدتها : أنّ كلّ إجماع يدّعى أو يستنبط إمّا يعلم اشتماله على قول المعصوم ، فيكون الحجّة قوله والإجماع لغوا ؛ أو لا ، فلا يكون حجّة (٢).

وقد عرفت جوابه (٣).

والثاني بقوله تعالى : ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ )(٤) ، وقوله : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ )(٥) ونحوهما ، دالاّ على أنّ مرجع الأحكام الكتاب والسنّة لا غير.

وبما ورد نهيا عامّا لكلّ الامّة عن خطأ ما نحو : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ )(٦) وأمثاله ، ومنه قوله عليه‌السلام : « لا ترجعوا بعدي كفّارا » (٧) ولو لا جواز اجتماعهم عليه ما أفاد.

وبخبر معاذ ، حيث سأله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أدلّة الأحكام فعدّ ما عدّ ـ كما سبق (٨) ـ ولم يعدّ

__________________

(١) في النسختين « نفيه » ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) راجع الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ١٢٩.

(٣) في ص ٣٥٨.

(٤) النحل (١٦) : ٨٩.

(٥) النساء (٤) : ٥٩.

(٦) البقرة (٢) : ١٩٦.

(٧) وسائل الشيعة ٢٩ : أبواب القصاص في النفس ، الباب ١ ، ح ٣.

(٨) في ص ٣٣٠.

٣٦٣

منها الإجماع ، وأقرّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ » (٢) وكذا « تعلّموا الفرائض وعلّموها ، فإنّها أوّل ما تنسى » (٣).

وقوله عليه‌السلام : « خير القرون القرن الذي أنا فيه ، ثمّ الذي يليه ، ثمّ الذي يليه حتّى يبقى حثالة (٤) كحثالة التمر لا يعبأ الله بهم » (٥). دلّت هذه الأخبار على خلوّ الزمان من جمع تقوم الحجّة بقولهم (٦).

والجواب عن الأوّل : أنّ كون الكتاب تبيانا لكلّ شيء لا ينافي كون غيره أيضا تبيانا.

وعن الثاني : أنّه يختصّ بالمنازع فيه ، والمجمع عليه لا يفتقر إلى الردّ ، ولذا عدّ (٧) من أدلّة حجّيّة الإجماع ، كما سبق (٨).

وعن الثالث : أنّه منع لكلّ واحد لا للكلّ. وعلى فرض التسليم نقول : النهي لا يستلزم الوقوع.

وعن الرابع : أنّه لم يذكر الإجماع لعدم تقرّر مأخذ حجّيّته بعد.

وعن الأخبار الأخيرة : أنّها تدلّ على انقراض علماء الإسلام ، وحينئذ لا يتحقّق إجماع حتّى يكون حجّة.

والخبر الأوّل منها (٩) يدلّ ظاهرا على أنّ أهل الإسلام هم الأقلّون في ابتدائه وانتهائه ، وحينئذ لا يدلّ على المطلوب أصلا.

وإذا عرفت ذلك فلا يخفى عليك ما يتفرّع عليه من المسائل الوفاقيّة والخلافيّة ، وموارد

__________________

(١) كنز العمّال ١٠ : ٥٩٤ ، ح ٣٠٢٩١ ، ووسائل الشيعة ٢٧ : ٥٢ ، أبواب صفات القاضي ، الباب ٦ ، ذيل الحديث ٣٨.

(٢) كنز العمّال ١ : ٢٤٠ ، ح ١٢٠١.

(٣) المصدر ١٠ : ١٦٦ ، ح ٢٨٨٦٢ باختلاف يسير.

(٤) الحثالة : كلّ ما يسقط من قشر الشعير والأرزّ والتمر وكلّ ذي قشارة إذا نقّي. الصحاح ٣ : ١٦٦٦ ، « ح ث ل ».

(٥) جامع الاصول ٨ : ٥٤٧ ـ ٥٥١ ، ح ٦٣٥٥ ـ ٦٣٦٠ ، وكنز العمّال ١١ : ٥٢٦ ـ ٥٢٧ ، ح ٣٢٤٤٩ ـ ٣٢٤٥٧ باختلاف في العبارات.

(٦) حكاها جميعا الفخر الرازي في المحصول ٤ : ٥١ ـ ٥٣.

(٧) والضمير المستتر راجع إلى قوله : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ .... )

(٨) تقدّم في ص ٣٦٣.

(٩) وهو قوله : « بدأ الإسلام غريبا ... ».

٣٦٤

التفريع فيه متعدّدة ، وكيفيّته في الجميع ظاهرة عليك بعد الإحاطة بما ذكر. مثلا : لو عثرت على إجماع وعلمت أنّه لم يخالف فيه سوى معروف النسب ، تعلم أنّه لا عبرة به ، سواء كان واحدا أو ألفا. وكذا لو خالف مجهول النسب إن حصل (١) لك العلم بدخوله عليه‌السلام. وهذا ما يقتضيه اصولنا ، كما عرفت مفصّلا (٢).

وأمّا العامّة ، فاتّفقوا على عدم انعقاد الإجماع بمخالفة غير نادر ، واختلفوا في انعقاده بمخالفة النادر وعدمه على أقوال : ثالثها : عدم انعقاده وكونه إجماعا قطعيّا ، إلاّ أنّه يكون حجّة (٣).

أمّا الأوّل : فلأنّ الأدلّة لم تنهض إلاّ في اتّفاق كلّ الامّة.

وأمّا الثاني : فلأنّه يدلّ ظاهرا على وجود راجح ، وإلاّ لم يذهب إليه الأكثر.

والحقّ أنّه لا يقدح مخالفة النادر في تحقّق إجماع كلّ الامّة ؛ لاضمحلاله كاضمحلال شعرات بيض في حيوان أسود ، ولذا لا يمنع (٤) صدق الأسود عليه. فالحقّ أنّ النادر يلحق بجنسه لا بنفسه (٥).

ويتفرّع عليه فروع كثيرة ، كبقاء الخيار لو طال مجلس المتعاقدين بحيث يخرج عن العادة ؛ إلحاقا له بجنسه ، وإلحاق الولد به (٦) لو أتت به لستّة أشهر أو سنة ؛ لما ذكر. وقس عليها أمثالها.

فصل [٦]

الإجماع المنقول قد يفيد القطع ، وهو المنقول بالتواتر.

واستبعاد تحقّق التواتر في النقل ـ لتوقّفه على وجود عدد التواتر في جميع طبقات

__________________

(١) هذا القيد راجع إلى الفرض الثاني كما يأتي في ص ٣٦٩ ، فيقال : كيف لا يضرّ مخالفة ألف معروف النسب في تحقّق الإجماع؟!

(٢) تقدّم في ص ٣٥٧.

(٣) قاله الغزالي في المستصفى : ١٤٦ و ١٥٥ ، والفخر الرازي في المحصول ٤ : ١٨١ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٩٤ ، ونسبه أيضا إلى الأكثر.

(٤) أي وجود شعرات بيض.

(٥) أي الأقلّ محكوم بحكم الأكثر.

(٦) أي بالوالد.

٣٦٥

الناقلين ، وسماع الطبقة الاولى مشافهة عن جميع أهل الإجماع المنتشرين في المشارق والمغارب ، ونقلهم للثانية وهم للثالثة وهكذا إلى الأخيرة وهو بعيد ـ تشكيك في مقابلة الضرورة ، كما تقدّم (١).

وقد يفيد الظنّ ، وهو المنقول بخبر الواحد. وهو مثله في الحجّيّة ؛ لكون كلّ منهما إخبارا عن رأي المعصوم فيشتركان في الدليل. ويجري فيه ما يجري في الخبر صحّة وضعفا ، وإسنادا وإرسالا إذا نقله من لم يكن من أهل الإجماع ، ولم يدركهم وأسنده إلى واحد منهم ، ووقفا إذا لم يسنده. وإذا لو نقله ثقة ولم يكن له معارض ، يجب العمل به ، وإن كان له معارض ، يجب أن يفرض خبرا إن نقله واحد فقط ، وخبرين إن نقله اثنان وهكذا. وينظر في معارضه وفي القواعد المصحّحة للترجيح ، ويحكم بما يقتضيه.

وربّما قيل بأولويّته لقطعيّة دلالته دون الخبر (٢).

وفيه : أنّ الخبر إن كان مجملا فليس بحجّة ، وإن كان نصّا فدلالته قطعيّة. واحتمال كونه ظاهرا وكون خلافه مرادا يأتي فيه أيضا ؛ لأنّ ناقل الإجماع إمّا أن يطّلع عليه بالسماع من المجمعين ، أو بما نظر من عباراتهم الدالّة على آرائهم. واحتمال خلاف الظاهر ـ كالتجوّز والتخصيص وغيرهما ـ في كلّ منهما قائم.

وقيل بأولويّته باعتبار احتياج الخبر الآن إلى تعدّد الوسائط في النقل ، وانتفاء ذلك في الإجماع ، وقلّة الوسائط من وجوه الترجيح (٣) ، كما يأتي (٤).

واورد عليه بأنّه معارض في الغالب بقلّة الضبط في نقل الإجماع من المتصدّين له بالنسبة إلى نقل الخبر ، والنظر في باب التراجيح إلى وجه من وجوهها مشروط بانتفاء ما يساويه. أو يزيد عليه في الجانب الآخر (٥).

واحتجّ بعضهم على حجّيّته بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نحن نحكم بالظاهر » (٦) أي بما يفيد الظنّ.

__________________

(١) في ص ٣٥٥.

(٢) قاله الشيخ حسن في معالم الدين : ١٨١.

(٣) المصدر.

(٤) في ص ٣٦٧.

(٥) حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : ١٨١.

(٦) ذكره ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٧٨.

٣٦٦

وهو خلاف الظاهر ؛ لأنّ الظاهر منه هنا ظاهر (١).

هذا ، واحتجّ المنكر لحجّيّته بأنّه إثبات أصل بظاهر (٢).

وفيه : أنّ المختار جوازه ـ كما اشير إليه ـ ولذا اثبتت السنّة به ، وهي أعظم الاصول.

واعلم أنّه كما يفيد خبر الواحد العلم بانضمام القرائن المفيدة إليه ، فكذا الإجماع المنقول به ؛ لاشتراك الدليل بينهما. وكيفيّة التفريع بعد ما ذكر ظاهرة.

تتمّة

قد ظهر ممّا ذكر أنّ حكم الإجماع حكم الخبر بعينه ، فيشترط في قبوله ما يشترط هناك ، ويثبت له الأحكام الثابتة له من التعادل والترجيح وغيرهما ، فمن نقله لا بدّ له من بيان الطريق التي وصل بها إليه حتّى ينظر إليها في مقام الترجيح ، فربّما علمه بإحدى الطرق المفيدة للعلم ، كالتواتر والخبر المحفوف بالقرائن ، وربما اطّلع عليه بإخبار واحد ولا يكون مفيدا للعلم ولا بدّ له من بيانه ؛ لأنّ النقل بالإطلاق يشعر الاستناد إلى العلم ، فلو لم يكن مستندا إليه يلزم التدليس.

فصل [٧]

خرق الإجماع المركّب باطل عندنا ، وله صورتان (٣) :

إحداهما : أن يختلف أهل العصر على قولين لا يتجاوزونهما ، كأن يطأ المشتري البكر ثمّ يجد بها عيبا ، فقيل : الوطء يمنع الردّ (٤) ، وقيل بجوازه مع الأرش (٥). وخرقه بأن يحدث قول ثالث ويقال بجوازه مجّانا. وكذا لو اختلفوا على ثلاثة أقوال أو أكثر ، وخرقه بأن يحدث قول رابع أو خامس.

وثانيتهما : أن لا يفصل الامّة بين مسألتين ، كما في زوج وأبوين ، وزوجة وأبوين ، فمن

__________________

(١ و ٢) حكاهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٤٣.

(٣) يعبّر عن الاولى بعدم القول بالفصل ، وعن الثانية بالقول بعدم الفصل بين المسألتين. وخرق الاولى بإحداث قول ثالث في المسألة ، وخرق الثانية هو التفريق بين المسألتين.

(٤ و ٥) حكاهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٣٠ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ٦١.

٣٦٧

قال : للامّ ثلث التركة قال في الموضعين ، ومن قال : [ لها ] ثلث الباقي قال فيهما. وخرقه بأن يفصل بينهما ويقال : لها ثلث الأصل في أحدهما (١) وثلث الباقي في الأخر ، كما قال به ابن سيرين (٢).

ومنه وجوب الغسل وعدمه بالوطء في دبر المرأة والغلام عند الشيعة (٣) ، فمن قال منهم بالوجوب قال في الموضعين ، ومن قال بعدمه قال فيهما ، وخرقه أن يفصل بينهما ، ويقال بوجوبه في أحدهما دون الآخر.

والدليل على بطلانه في الصورتين : أنّ المعصوم مع إحدى الطائفتين قطعا ، فخرقه يستلزم مخالفته جزما.

وقال بعض أصحابنا وطائفة من العامّة : إن نصّت الامّة في الصورة الأخيرة على المنع من الفصل ، فلا يجوز ؛ وإن عدم النصّ ، فإن علم اتّحاد طريق الحكم فيهما فكذلك ، كالمثال الأوّل ، واتّحاد الطريق بين المسألتين فيه ظاهر ، وكتوريث العمّة والخالة ؛ فإنّ من ورّث العمّة ورّث الخالة ، ومن لم يورّثها لم يورّثها ، واتّحاد الطريق هنا مساواة حكم ذوي الأرحام في التوريث في الجملة وإن لم يعلم اتّحاد الطريق بينهما ، فالحقّ جواز الفرق عملا بالأصل السالم عن مخالفة الإجماع (٤).

ولا يخفى أنّه بعد العلم بعدم الفصل فلا وجه لهذا التفصيل ، أمّا عندنا ، فلما ذكر (٥). وأمّا عند العامّة ؛ فلأنّ العلم بعدم قائل منهم بالفصل يدلّ التزاما على حكمهم بالمنع عن القول بالفصل ؛ فإنّه إذا علم أنّ الامّة اختلفت في مسألة على قولين لا يتجاوزونهما (٦) ، فلا ريب أنّ كلّ طائفة أوجب القول بقولها أو بقول الاخرى ، ومنعت من غيرهما ، فاتّفقوا على أنّه لا فصل بينهما ، فالقول به خرق لاتّفاقهم. فالمناط حصول العلم بعدم القول بالفصل ، ومعه

__________________

(١) أي الموضعين.

(٢) حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٣٣ ، والشيخ حسن في معالم الدين : ١٧٨.

(٣) راجع مختلف الشيعة ١ : ١٦٧ ، المسألة ١١١.

(٤) قاله الرازي في المحصول ٤ : ١٢٨ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٣١ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ٦١ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٣ : ٢٦٩ ، والعلاّمة في مبادئ الوصول : ١٩١ و ١٩٢.

(٥) تقدّم آنفا.

(٦) هذا تعرّض للصورة الاولى ، وكلام بعض الأصحاب وطائفة من العامّة في الصورة الثانية.

٣٦٨

لا يجوز القول بالفصل ، سواء نصّوا على عدم جوازه أو لا ، وإن لم يحصل يجوز ، كما يأتي (١). ويمكن حمل كلام هذا القائل على ما ذكرنا بتكلّف.

هذا ، ولهذه الصورة ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يحكم بعض الامّة في المسألتين بحكم والبعض الآخر فيهما بحكم آخر ، كما سبق مثاله (٢). وصدق الحكمين حينئذ فيهما على سبيل الانفصال الحقيقي.

وثانيها : أن يحكم جميع الامّة فيهما بحكم واحد. وصدقه فيهما حينئذ على سبيل منع الخلوّ ، فباعتبار يتحقّق إجماعان بسيطان ، وباعتبار آخر يتحقّق إجماع مركّب.

وثالثها : أن لا ينقل منهم إلينا حكم فيهما ، وحينئذ إذا ثبت حكم لإحداهما ثبت للاخرى ، وإلاّ لزم رفع ما علم اجتماعهم عليه من عدم الفصل.

[ الإجماعات المركّبة ]

ثمّ الإجماعات المركّبة كالبسيطة تختلف مراتبها في الاطّلاع على تحقّقها.

فمنها يقينيّ الحصول ، إمّا للنصّ من جماعة يفيد قولهم العلم بتحقّقه ، أو لفحص تامّ انضمّ إليه القرائن المفيدة.

ومنها ظنّيّ الحصول ، إمّا بتصريح بعض لا يفيد قولهم إلاّ الظنّ ، أو بتتبّع ناقص لا يحصل منه سواه.

ولكلّ من العلم والظنّ مراتب ، ويختلف ذلك بالنسبة إلى الأشخاص ، فربّ إجماع مركّب كان قطعيّا عند شخص ، ظنّيّا عند آخر.

وما تقدّم (٣) من عدم العبرة بمخالفة المعروف مطلقا (٤) ، والمجهول إذا علم دخول قول المعصوم ، يأتي هنا أيضا. وعلى هذا يمكن القول بتحقّق الإجماع المركّب في مسألة القصر والإتمام ، وعدم الاعتبار بمخالفة ابن أبي عقيل (٥).

__________________

(١) في ص ٣٧١.

(٢) في ص ٣٦٧.

(٣) في ص ٣٦٥.

(٤) أي ولو كان المخالف ألفا.

(٥) حكاه العلاّمة عنه في مختلف الشيعة ٢ : ٥٣٩ ، المسألة ٣٩٥.

٣٦٩

ثمّ الإجماع المركّب إن كان قطعيّا لا يجوز مخالفته ، وكذلك إن كان ظنّيّا ولم يوجد له معارض ، وإلاّ فيجب الرجوع إليهما وإلى القواعد الترجيحيّة والعمل بما تقتضيه ، فربّما وجب العمل بالمعارض إذا كان الظنّ الحاصل منه أقوى من الظنّ الحاصل منه ، بل ربّما حصل من المعارض ظنّ ولم يحصل منه شيء أصلا ؛ إذ لا يبعد أن يكون على حكم أدلّة متنافية واحد منها قويّ والبواقي ضعيفة فاطّلع أهل عصر ـ كلاّ أو بعضا ـ على الضعيفة منها دون القويّ ، فعمل بعضهم ببعضها والآخرون بالآخر ، فإذا جاء المتأخّر عنهم ووجد القويّ منها ، يجوز له العمل به وترك الضعيفة ، والأقوال المحدثة من الفقهاء من هذا القبيل. هذا كلّه ما يقتضيه اصولنا (١).

وأمّا العامّة فأكثرهم على عدم جواز الفصل مطلقا (٢) ، وبعضهم على جوازه (٣) كذلك. [ و ] (٤) فصّل الحاجبي بأنّه إن رفع مجمعا عليه فممنوع ، وإلاّ فلا (٥). والأوّل كمسألة البكر ؛ للإجماع على أنّها لا تردّ مجّانا. والثاني كمسألة الامّ ، ومسألة فسخ النكاح بالعيوب الخمسة ، قيل : يفسخ بها كلّها (٦) ، وقيل : لا يفسخ بشيء منها (٧). فالقول بالفسخ في البعض دون البعض إحداث قول ثالث ، إلاّ أنّه يجوز ؛ لأنّ القائل به وافق في كلّ مسألة مذهبا فلم يخالف الإجماع.

وما يوضحه : أنّه لو قال بعضهم : لا يقتل مسلم بذمّيّ ، ولا يصحّ بيع الغائب ، وقال الآخرون : يقتل ، ويصحّ ، فجاء ثالث وقال : يقتل ، ولا يصحّ ، أو لا يقتل ، ويصحّ لم يخالف الإجماع ؛ لأنّهما مسألتان خالف في إحداهما بعضا ، وفي الاخرى بعضا ، والممنوع مخالفة الجميع فيما أجمعوا عليه.

والضابط في معرفة ذلك : أنّ كلّ مسألة اشتملت على موضوع كلّي ، فالحكم فيها إمّا

__________________

(١) راجع الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ١٥٤.

(٢) للمزيد راجع : المحصول ٤ : ١٢٧ ، ونهاية السؤل ٣ : ٢٦٩.

(٣) المصدر ، ونهاية السؤل ٣ : ٢٦٩.

(٤) اضيف للضرورة.

(٥) منتهى الوصول لابن الحاجب : ٦١.

(٦ و ٧) راجع المغني لابن قدامة ٧ : ٥٧٩ ـ ٥٨١ ، المسألة ٥٤٩٨ و ٥٤٩٩.

٣٧٠

بالإيجاب الكلّي أو السلب الكلّي ، أو الإيجاب والسلب الجزئيّين. فإن اختلف أهل العصر على الاحتمالين الأوّلين بأن يقول بعضهم بالإيجاب الكلّي والباقون بالسلب الكلّي يجوز إحداث القول بالتفصيل ، لأنّ القائل به وافق في كلّ قسم منه مذهبا. وإن اختلفوا على غيرهما بأن يقول بعضهم بالإيجاب الكلّي أو السلب الكلّي ، والباقون بالتفصيل ؛ أو يقول بعضهم بتفصيل خاصّ والباقون بتفصيل آخر ، فلا يجوز إحداث قول ثالث ؛ لأنّه يرفع حكما مجمعا عليه.

وغير خفيّ أنّ القول بالتفصيل (١) في صورة اختلاف الامّة على الاحتمالين الأوّلين يرفع المجمع عليه ؛ لأنّ كلاّ من الإيجاب والسلب الكلّيين في قوّة المنع عن نقيضه ، أي السلب والإيجاب الجزئيّين ؛ ضرورة أنّ من يقطع بثبوت شيء يقطع ببطلان نقيضه ، فالموجب للفسخ بالعيوب الخمسة يمنع عدم الفسخ ببعضها ، والقائل بعدم الفسخ بها يمنع الفسخ ببعضها ، فاتّفق الكلّ على بطلان القول بالتفصيل ، أي الإيجاب في البعض والسلب في البعض.

وبهذا ظهر ضعف ما قيل : إنّ المفصّل خالف الموجب في قوله بالإيجاب الكلّي ، والنافي في قوله له بالسلب الكلّي ، وكلّ منهما خالف الآخر في قوله ، فهو لم يخالف المجمع عليه (٢). وإنّ القول بالتفصيل ليس حكما واحدا مخالفا لما اتّفق عليه الكلّ ، بل في الحقيقة حكمان مختلفان خالف القائل به في كلّ منهما جماعة. وإنّ عدم القول بالتفصيل ليس قولا بعدمه ، وإنّما يمتنع القول بما قالوا بنفيه لا بما لم يقولوا بثبوته.

لما عرفت أنّ نفي التفصيل حكم واحد مجمع عليه بين الكلّ ، كيف لا؟ وكلّيّة الحكم ـ سواء كان إيجابا أو سلبا ـ كانت ممّا اتّفق عليه الكلّ وهي مسألة واحدة ، والقول بالتفصيل يخالفها ؛ والقياس على مسألتي الذمّيّ والغائب باطل ؛ لأنّ عدم جواز إحداث القول الثالث مخصوص بقولين تعلّقا بمسألة واحدة حقيقة ، كمسألة البكر ، أو حكما كمسألة الفسخ بالعيوب الخمسة ؛ لتحقّق قدر مشترك بينهما حينئذ ، وكونه مسألة واحدة ،

__________________

(١) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٦١.

(٢) فصّله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٣٢.

٣٧١

وكون الثالث تفصيلا لها (١) ، ومسألتا الذمّيّ والغائب متغايرتان حقيقة وحكما ، ولا يخطر بالبال قدر مشترك بينهما ، واعتباره تفصيلا (٢) ، وجعله مسألة واحدة تعسّف.

هذا ، ولقائل أن يقول : ما ذهب إليه الحاجبي إحداث المذهب الثالث ؛ لأنّ الامّة اختلفوا على قولين : جواز إحداث المذهب الثالث مطلقا ، ومنعه مطلقا ، فالقول بجوازه في البعض والمنع في البعض إحداث مذهب ثالث ، فتأمّل.

هذا ، واحتجّ المجوّز مطلقا بوجوه ضعيفة (٣) أعرضنا عن ذكرها ؛ لظهور فسادها ، فثبت أنّ الحقّ على اصول العامّة أيضا عدم القول بالفصل ، كما ذهب إليه أكثرهم.

والفروع له كثيرة وقد تقدّم بعضها (٤).

ومنها : اجتماع الجدّ مع الأخ. قيل : يرث المال كلّه ويحجب الأخ (٥). وقيل : يقاسم الأخ (٦). فالقول بحرمانه (٧) قول ثالث (٨).

ومنها : اشتراط النيّة في الطهارات ، قيل به في كلّها (٩). وقيل به في بعضها (١٠). والقول بعدمه في الكلّ قول ثالث (١١).

وهذان الفرعان ممّا فرّعهما عليه العامّة (١٢).

ومنها : انفعال الماء القليل بالنجاسة ، فقيل بانفعاله من جميع النجاسات (١٣). وقيل بعدم انفعاله من شيء منها (١٤). فالقول بانفعاله من البعض دون البعض قول ثالث. وهذا ممّا فرّع عليه أصحابنا.

__________________

(١) في « أ » : « نقيضا » والصحيح ما أثبتناه.

(٢) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٦١.

(٣) راجع الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٣٣ و ٣٣٤.

(٤) تقدّم في ص ٣٦٨ و ٣٦٩.

(٥ و ٦) راجع : بداية المجتهد ٢ : ٣٧٧ ، والمغني لابن قدامة ٧ : ٦٤.

(٧) أي الجدّ.

(٨) راجع : بداية المجتهد ٢ : ٣٧٧ ، والمغني لابن قدامة ٧ : ٦٤.

(٩ ـ ١١) راجع : الخلاف ١ : ٧١ و ٧٢ ، المسألة ١٨ ، وبداية المجتهد ١ : ٨ و ٩.

(١٢) راجع : المحصول ٤ : ١٢٨ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٣٣ ، ونهاية السؤل ٣ : ٢٧٠.

(١٣) مختلف الشيعة ١ : ١٣ ، المسألة ١ ، والخلاف ١ : ١٩٤ ، المسألة ١٤٩.

(١٤) حكاه العلاّمة عن ابن أبي عقيل في مختلف الشيعة ١ : ١٣ ، المسألة ١.

٣٧٢

تتمّة

إذا افترقت الإماميّة في مسألة فرقتين ، فإن كان كلّ منهما ـ كلاّ أو بعضا ـ مجهول النسب ، فإن كان مع إحداهما دلالة قطعيّة تعيّن العمل بقولها ؛ لأنّ الإمام معها قطعا ، وإلاّ فالذي يقتضيه النظر الاحتياط بالجمع إن أمكن ، وإلاّ فالتوقّف. والظاهر إمكان القول بالتخيير في العمل حينئذ ، كما ذهب إليه الشيخ (١).

والإيراد عليه (٢) : بأنّه يقتضي استباحة ما حظّره الإمام ، يبطل التخيير عند تعارض الأخبار وانسداد باب الترجيح وهو باطل ، فما يجاب به هناك يجاب به هنا.

والقول باطّراح القولين حينئذ والرجوع إلى دليل آخر ـ كما ذهب إليه بعض (٣) ـ يقتضي اطّراح قول الإمام ؛ لأنّ الإمام مع إحداهما قطعا.

وإن كان إحداهما معلومة النسب ولم يكن الإمام أحدهم ، قيل : كان الحقّ حينئذ في الطائفة الاخرى (٤).

وهذا صحيح على الطريق الأوّل ، إلاّ أنّه لا يكون إجماعا مركّبا ؛ لتوقّفه على صلاحية كلّ من القولين لدخول قول المعصوم فيه ، والمفروض حينئذ تعيّن دخوله في إحداهما ، فهو إجماع بسيط. وعلى هذا الطريق لو كان كلّ منهما معلوم النسب ، لم يتحقّق إجماع مركّب ولا بسيط. وعلى الطريق الثاني يكون حكمهما ما ذكر في الشقّ الأوّل (٥).

تذنيبات

[ التذنيب ] الأوّل : موت إحدى الطائفتين المختلفتين أو تكفيرها كاشف عن خطئها وإصابة الاخرى ، أمّا عندنا ، فظاهر. وأمّا عندهم ؛ فلصيرورة الباقين كلّ الامّة ، فيتناولهم أدلّة الإجماع (٦).

__________________

(١) العدّة في أصول الفقه ٢ : ٦٣٦.

(٢) المورد هو المحقّق الحلّي في معارج الأصول : ١٣٣.

(٣) قاله الاسترآبادي في الفوائد المدنيّة : ١٠٤ ـ ١٠٥.

(٤) حكاه المحقّق الحلّي في معارج الاصول : ١٣٣ ، والشيخ حسن في معالم الدين : ١٧٩.

(٥) تقدّم آنفا وهو : « فإن كان كلاّ أو بعضا مجهول النسب ... ».

(٦) راجع : المحصول ٤ : ١٤٤ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣١٧ ، ونهاية السؤل ٣ : ٢٩٤.

٣٧٣

وما يناسب فروعه : ما إذا مات رجل وخلّف وارثين ، فأقرّ أحدهما بثالث ، وأنكره الآخر ، ثمّ مات المنكر ولم يكن له وارث سوى المقرّ ، فيشاركه المقرّ به ؛ لانحصار الإرث فيه.

[ التذنيب ] الثاني : لا يجوز عندنا تعاكسهما (١) في القولين. ووجهه ظاهر. ووافقنا بعض العامّة (٢) ، وأكثرهم على جوازه (٣). ومبنيّ على خلافهم في أنّه هل يجوز خطأ كلّ الامّة في مسألة واحدة على البدل ، أم لا؟

[ التذنيب ] الثالث : الحقّ جواز تحقّق الإجماع بعد الخلاف ، وله صور كلّها جائزة :

الاولى : أن يتّفق أهل عصر في مسألة على قول بعد اختلافهم فيها على قولين من غير أن يستقرّ خلافهم. والظاهر الوفاق على جوازه ، وكونه إجماعا وحجّة ، ووجهه ظاهر.

الثانية : أن يتّفقوا عليه بعد استقرار خلافهم. وجوازه عندنا ظاهر ؛ لأنّه يمكن أن يطّلعوا بعد الخلاف على أنّ المعصوم قائل بأحد القولين فيجب اتّفاقهم عليه ، ويكون حجّة. وأمّا العامّة ، فأنكره بعضهم (٤) ، وجوّزه آخرون (٥).

ثمّ اختلف المجوّزون ، فقال بعضهم : حجّة (٦). وقال آخرون : ليس بحجّة (٧). وكلّ من اعتبر منهم انقراض العصر في الإجماع قطع بجوازه وحجّيّته. وما يقتضيه قواعدهم جوازه وحجّيّته مطلقا.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه لا إجماع عندهم إلاّ عن مستند ، كما يأتي فيمكن أن يظفروا على ما يصلح مستندا لأحد القولين بعد خلافهم ؛ لعدم عثورهم عليه ، وحينئذ يجب اتّفاقهم عليه.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّه اتّفاق كلّ الأمّة ؛ لأنّه لا قول حينئذ لغيرهم ، وقول بعضهم بعد ظهور خطئه والرجوع عنه لم يبق معتبرا ، فيتناوله أدلّة الإجماع.

__________________

(١) راجع معارج الاصول : ١٣٠. والمراد بالتعاكس هو أن يرجع كلّ طائفة إلى قول الطائفة الاخرى.

(٢) راجع المحصول ٤ : ١٤٦.

(٣) راجع نهاية السؤل ٣ : ٣١٥.

(٤) نسبه الفخر الرازي إلى الصيرفي في المحصول ٤ : ١٣٥ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٤٠.

(٥) قاله الفخر الرازي في المحصول ٤ : ١٣٥ ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٣ : ٢٨٣ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٣ : ٢٨١.

(٦) قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٣ : ٢٨٣ ، والأسنوي في التمهيد : ٤٥٨.

(٧) قاله الفخر الرازي في المحصول ٤ : ١٣٥ ، وحكاه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٥٦.

٣٧٤

هذا ، مع أنّه ورد في طرقهم وقوعه ، كما رووا أنّ الصحابة اختلفوا في موضع دفن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ اتّفقوا على قول عليّ عليه‌السلام (١). وفي وجوب الغسل بالتقاء الختانين ، ثمّ اتّفقوا على وجوبه به (٢).

الثالثة : أن يتّفق أهل العصر الثاني على إحدى القولين اللذين اختلف أهل العصر الأوّل عليهما ، وهي كالتي قبلها جوازا وحجّة واستدلالا من دون تفاوت.

ويدلّ على وقوعه أيضا ما روي أنّ الصحابة اختلفوا في بيع امّهات الأولاد ، وأجمع من بعدهم على المنع منه (٣) ، ومنع عمر عن متعة العمرة إلى الحجّ ، ثمّ صار جوازه مجمعا عليه (٤) ، كما قال البغوي (٥).

واحتجّ المنكرون بوجوه (٦) لا يخفى فسادها على أحد ، ولذلك أعرضنا عنها.

وكيفيّة التفريع : أنّ المسائل التي كان أهل عصر فيها على قولين أو أكثر ، كمسألة القياس ، ومسألة القصر والإتمام ، وأمثالهما ، ثمّ اتّفق أهل العصر الثاني على أحد القولين أو الاثنين يكون اتّفاقهم حجّة لأهل العصر الثالث ، ولا يجوز لهم مخالفته.

فصل [٨]

الحقّ أنّ انقراض عصر المجمعين غير مشترط لانعقاد إجماعهم.

أمّا عندنا ؛ فلأنّ الحجّة قول المعصوم ، وهو في جملة أقوالهم انقرضوا أم لا.

وأمّا عند العامّة ؛ فلعموم الأدلّة.

ولعدم الخلاف في حجّيّة الإجماع بعد انقراض العصر ، فهي إمّا للاتّفاق ، أو للانقراض ، أو كليهما. والأخيران باطلان ، وإلاّ كان الموت مؤثّرا في حجّيّة القول ، فالحقّ الأوّل.

ولعدم تحقّق إجماع عادة لو كان الانقراض شرطا ؛ لتلاحق المجتهدين بعضهم بعضا ؛

__________________

(١) رواه ابن هشام في السيرة النبويّة ١ : ٣١٤.

(٢) راجع : المحصول ٤ : ١٣٥ و ١٣٦ ، ونهاية السؤل ٣ : ٢٨١.

(٣ و ٤) المصدر.

(٥) معالم التنزيل ١ : ١٧٠ ، ذيل الآية ١٩٦ من البقرة (٢).

(٦) راجع : المستصفى : ١٥٦ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٤٠ و ٣٤١ ، وسلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٣ : ٢٨٠.

٣٧٥

فإنّ الصحابة لم ينقرضوا حتّى حدث في عصرهم من التابعين مجتهدون ، وهم لم ينقرضوا حتّى لحقهم من تابعيهم آخرون ، وهلمّ جرّا ، فيجوز مخالفة كلّ طبقة من اللاحقين لطبقة سابقة عليه ؛ لعدم انقراضها ، وحينئذ لا ينعقد إجماع ؛ لأنّه يتوقّف على انقراض عصر كلّ من يجوز له المخالفة ، وهو محال عادة.

والقول بأنّه لا مدخليّة للاّحقين ؛ لأنّ المجمعين هم الأوّلون الموجودون عند حدوث الواقعة ، فالشرط انقراض عصرهم فقط (١) ، فاسد ؛ إذ لا شبهة في جواز مخالفة اللاحقين ؛ لأنّه لم يسبقهم إجماع يكون حجّة عليهم ؛ لعدم انعقاده بعد ، وهو (٢) لإمكان أن يكون قول المجمعين على الخطأ بوجود معارض ، وهو لا يرتفع بموتهم.

هذا ، واحتجّ المشترط ـ وهو أحمد بن حنبل وابن فورك ـ : بأنّه يمكن أن يوجد معارض ذهل عنه المجمعون ، وهم ـ ما داموا أحياء ـ لمّا كانوا مشتغلين بالبحث والنظر في أدلّة الأحكام ، فربّما عثروا عليه وتغيّر اجتهادهم الأوّل ، فلا يستقرّ الإجماع إلاّ بعد وفاتهم (٣).

وفيه : أنّ هذا بعيد ، ولو قدّر لا يعمل به ؛ لأنّ الإجماع قاطع ، ولا يرجع عنه بالاجتهاد. وهذا كما لو اطّلع عليه بعد الانقراض.

والقول بأنّه ربّما كان إجماعهم عن ظنّ (٤) ، ثمّ اطّلعوا على القاطع ، أو ظنّ (٥) أقوى منه ، ينتقض بإمكان الاطّلاع عليه بعد الانقراض أيضا.

والحلّ : أنّ تحقّق اتّفاق عن ظنّيّ مع وجود قاطع على خلافه محال عادة ، ومع وجود ظنّيّ أقوى منه بعيد جدّا ، مع أنّ الإجماع عند العامّة قاطع وإن حصل عن اجتهاد ودليل ظنّيّ ، فالحكم المجمع عليه يصير بعد الاتّفاق عليه قطعيّا وإن كان مستنده ظنّيّا ، فلا يجوز الرجوع عنه بالاجتهاد.

__________________

(١) حكاه الآمدي عن أحمد بن حنبل في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣١٨.

(٢) كذا في النسختين. والظاهر زيادة « هو ».

(٣) حكاه عنهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣١٨.

(٤ و ٥) كذا في النسختين. والأولى : « ظنّيّ » كما فيما يأتي بعد سطرين.

٣٧٦

فصل [٩]

اتّفق الناس ـ إلاّ من شذّ (١) ـ على أنّه لا إجماع إلاّ عن مستند ، وهو بديهيّ الصحّة عند الفريقين.

أمّا عندنا ، فظاهر. وأمّا عندهم ؛ فلأنّه يمتنع عادة اجتماع الجمّ الغفير على أمر من دون داع ، كالاجتماع على أكل طعام واحد ؛ ولأنّ بيان الحكم الشرعي من دون مستند خطأ ، فلو اجمع عليه من دونه لزم الإجماع على الخطأ.

وفيه نظر لا يخفى.

ثمّ الحقّ ، أنّ كلّ ما علم حجّيّته وصلاحيّته لتأسيس الحكم الشرعي ، يصحّ أن يكون مستندا له ، سواء كان قطعيّا أو ظنّيّا.

وما قيل : إنّه لمّا كان دخول قول المعصوم شرطا في الإجماع عند الإماميّة وهو لا يقول إلاّ عن دليل قطعيّ ، فإجماعهم لا يصدر عن مستند ظنّيّ وإن كان أقوال من عداه عليه‌السلام من المجمعين مستندة إلى الحجّة الظنّيّة ، كخبر الواحد ومثله (٢) ، منظور فيه ؛ لأنّ قوله وإن لم يكن إلاّ عن قاطع ، إلاّ أنّه لا يصحّح كون إجماعهم مطلقا عن مستند قطعي ؛ لأنّ هذا يتوقّف على قطعيّة الطريق إلى قوله ، وإن كان الطريق إليه ظنّيّا لا يصدق عليه أنّه وقع عن قاطع.

هذا ، واحتجّ من لم يشترط المستند فيه بأنّه لو كان عنه ، لاستغني به عنه ، فلم يكن للإجماع فائدة (٣).

والجواب : فائدته سقوط البحث ، وحرمة المخالفة ، والتقوية والتأييد ، كما سبق (٤).

ثمّ العامّة على أنّ كلّ إجماع قطعيّ ؛ نظرا إلى الأدلّة وإن كان مستنده ظنّيّا (٥). وأصحابنا على أنّ ما علم دخول قوله عليه‌السلام فيه يكون قطعيّا ، وإن ظنّ دخوله فيه يكون ظنّيّا (٦) ، كما تقدّم (٧).

__________________

(١) هو أبو عبد الله البصري كما في المحصول ٤ : ١٩٣ ، وتهذيب الوصول : ٢١٢.

(٢) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٢٦.

(٣) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٤ : ١٨٨.

(٤) تقدّم في ص ٣٥٨.

(٥) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٢٥ و ٣٢٩.

(٦) قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ١٤٦ ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : ١٣٠ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢١١.

(٧) ص ٣٦٠.

٣٧٧

فصل [١٠]

إذا استدلّ أهل العصر بدليل أو أوّلوا تأويلا ، فالأكثر على أنّه يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر. وهو حقّ ؛ لأنّه لم يزل العلماء في الأعصار يستخرجون الأدلّة والتأويلات من غير نكير (١).

نعم ، إن كان التأويل الثاني مبطلا للأوّل ، فالظاهر عدم جوازه ؛ للزوم مخالفة الإجماع ، فلو أوّل (٢) الأوّلون المشترك بأحد معنييه لم يجز لمن بعدهم حمله على المعنى الآخر إن تنافيا ، وإن لم يتنافيا ، فإن جوّز استعمال المشترك في إطلاق واحد في معنييه حقيقة ـ بأن يكون من عموم الاشتراك ـ أو حقيقة ومجازا ـ بأن يكون من عموم المجاز ـ فجاز ، وإلاّ لم يجز.

فصل [١١]

اتّفق أصحابنا (٣) ـ إلاّ من شذّ (٤) ـ على أنّ الإجماع السكوتيّ ـ وهو قول البعض وسكوت الباقين مع معرفتهم به ـ ليس إجماعا ولا حجّة ؛ لأنّ السكوت أعمّ من الرضاء ، ويمكن أن يكون للتوقّف ، أو التعظيم ، أو للتقيّة ، أو التصويب ، أو غيرها.

ولذا قيل : لا ينسب إلى ساكت قول (٥). وربّما أفاد (٦) ظنّا لا يصلح مثله لتأسيس الحكم الشرعي. وقد يعلم بالقرائن موافقة الساكتين للمصرّحين ، وحينئذ كان (٧) حجّة وإجماعا ؛ لأنّ العبرة بالرأي دون القول ، وهو نادر.

وعلى الطريق الثاني (٨) في الإجماع : ربّما علم بقول البعض ـ وإن سكت الباقون ـ دخول

__________________

(١) للمزيد راجع : العدّة في أصول الفقه ٢ : ٦٣٩ ، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي ١ : ٣٣٤.

(٢) في « ب » : « تأوّل ».

(٣) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ١٦٧ ، وتهذيب الوصول : ٢٠٨ ، وتمهيد القواعد : ٢٥٢ ، القاعدة ٩٣.

(٤) هو مذهب أبي على الجبائي ، كما حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ١٦٧.

(٥) قاله الغزالي في المستصفى : ١٥١. وحكاه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٥٢ ، القاعدة ٩٣.

(٦ و ٧) أي السكوت.

(٨) الذي مرّ في ص ٣٦٠.

٣٧٨

قول المعصوم في أقوالهم إذا كانوا جماعة علم من حالهم أنّهم لا يقتحمون على الإفتاء بغير علم ، وهو أيضا نادر.

هذا ، وذهب بعضهم إلى أنّه حجّة وإجماع ، محتجّا بأنّ سكوتهم دليل ظاهر في موافقتهم. وقد عرفت جوابه (١).

وقيل : إنّه حجّة لا إجماع (٢) ؛ لأنّ سكوتهم ظاهر في موافقتهم ؛ لما علم من عادة الصحابة والتابعين ومن تأخّر عنهم من المجتهدين أنّهم مع المخالفة يظهرون الإنكار ، كما لا يخفى على من تتبّع آثارهم ، فيحصل منه ظنّ بالوفاق وهو كاف للحجّيّة.

وفيه : أنّه مع قيام الاحتمالات المذكورة لا يحصل ظنّ ينتهض حجّة لتأسيس الأحكام ، ونفيه رأسا تعسّف ؛ لما نقل عن عادتهم ، كما نقل عن ابن عبّاس أنّه سكت في مسألة العول أوّلا ، ثمّ أظهر الإنكار ، فقيل له في ذلك ، فقال : « إنّ عمر كان رجلا مهيبا » (٣).

نعم ، إن علم موافقتهم بالقرائن ، فلا كلام في حجّيّته ، كما ذكرناه.

وقال بعضهم : إنّه إجماع بشرط انقراض العصر (٤) ؛ لأنّ استمرارهم على السكوت إلى الموت يضعف قيام الاحتمالات المذكورة ، فيكون ظاهرا في الموافقة.

وظهر ممّا ذكر جوابه.

وقيل : إن كان القول فتوى فإجماع ، وإلاّ فلا (٥) ؛ لأنّ الحاكم يهاب دون المفتي ؛ ولأنّ الفتيا ممّا يخالف ويبحث عنه دون الحكم.

وفساده ظاهر.

وقيل : إنّه إجماع إن كان في عصر الصحابة ، وكان فيما يفوت استدراكه ، كإراقة

__________________

(١) آنفا وهو عدم صلاحيّة مثله لتأسيس الحكم الشرعي.

(٢) هو قول أبي هاشم ، كما حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣١٢ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٣ : ٢٩٥.

(٣) حكاه الغزالي في المستصفى : ١٥١ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣١٢ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٣ : ٢٩٨.

(٤) حكاه الغزالي في المستصفى : ١٥١. ونسبه الفخر الرازي إلى الجبائي في المحصول ٤ : ١٥٣.

(٥) قاله أبو عليّ بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي ، كما حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣١٢ ، والفخر الرازي في المحصول ٤ : ١٥٣.

٣٧٩

الدم واستباحة الفرج. وإن كان فيما لا يفوت ـ كأخذ الأعيان ـ كان حجّة. وفي كونه إجماعا وجهان (١).

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الفروع له كثيرة ، وهي نوعان :

أحدهما : الأحكام التي صرّح بها بعض المجتهدين وسكت عنها الباقون ، كوجوب الخروج من الماء للمرتمس.

وثانيهما : ما يحدث من الأقوال والأفعال ، كالعقود ، والدعاوي ، وغيرهما من بعض الناس ، ويكون القطع فيها على طرف مشروطا بتصريح بعض آخر وسكت ، كما إذا عقد رجل فضولا وحضر المالك وسكت ، فإنّه لا يكون إجازة على ما اخترناه. وإذا قال : « هذا ولدي » فسكت ، فإنّه يلحقه ، خلافا للشيخ (٢). وإذا أتلف شيئا ومالكه ساكت ، يلزمه الضمان. وإذا ادّعى رقّ شخص في يده وباعه وكان الشخص ساكتا ، لم يلزم منه الاعتراف بالرقّيّة. وقس عليها أمثالها وهي كثيرة.

ومخالفة بعض الموارد للقاعدة ـ كالاكتفاء بسكوت البكر عن إذنها إذا استؤذنت ـ للأدلّة الخارجيّة.

فصل [١٢]

الحقّ أنّ الشهرة ليست حجّة بأن تصلح بمجرّدها دليلا للحكم ، ولكنّها تكون مؤيّدة ومرجّحة.

أمّا الأوّل ؛ فلعدم الدلالة على حجّيّتها ، ولاستلزامها عدمها (٣) ؛ لأنّ المشهور أنّ الشهرة ليست بحجّة.

وقرّب بعض أصحابنا حجّيّتها ، محتجّا بأنّه يمتنع عادة إفتاء كثير من العدول بغير علم (٤).

__________________

(١) حكاه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٥٣ ، القاعدة ٩٣. واعلم أنّه حكى الشوكاني جميع الأقوال المذكورة وأقوالا أخر في إرشاد الفحول ١ : ٢٢٣ ـ ٢٢٧. وإن كان الكتاب متأخّرا عن هذا الأثر أو مقارنا له ولكنّه مفيد للطالب المحقّق.

(٢) النهاية : ٦٨٤ ، باب الإقرار.

(٣) الفرق بين الوجهين أنّ الأوّل من قبيل عدم الدليل على حجّيّة الشهرة. والثاني من قبيل الدليل على عدمها.

(٤) حكاه الشيخ حسن عن بعض الأصحاب في معالم الدين : ١٧٥ ـ ١٧٦.

٣٨٠