أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

٢١

٢٢

٢٣

٢٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل علم الاصول وسيلة للصعود إلى مدارج حقائق المباحث الشرعيّة ، وصيّره ذريعة للعروج إلى معارج دقائق المسائل الفقهيّة.

أحمده على ما ألهمنا من قواعد المعارف والعلوم الأصليّة ، ووفّقنا للإرشاد إلى مسالك مدارك دروس الشرائع والأحكام الفرعيّة.

والصلاة والسلام على نبيّنا الذي مهّد القوانين والضوابط الكلّيّة ، ولم يدع شيئا من المطالب والمقاصد الجزئيّة. فصلوات الله عليه وعلى آله الذين قرّروا المعالم الدينيّة ، وبيّنوا النواميس النبويّة.

أمّا بعد ؛ فيقول الحقير في أنظار أرباب العقول ، مهديّ بن أبي ذرّ النراقي ـ حشرهما الله مع آل الرسول ـ : إنّ علم الأصول ممّا لا يخفى علوّ رتبته ، وسموّ مرتبته ، وجلالة شأنه ، وشرافة مكانه ، وفخامة فائدته ، وجسامة عائدته ، ومتانة دلائله ، ورشاقة مسائله ، ووثاقة مبانيه ، وحلاوة معانيه ، وتوقّف المباحث الشرعيّة عليه ، وافتقار المسائل الفرعيّة إليه ، وهو عمدة ما يحصل به الاجتهاد ، والوصول إليه دونه خرط القتاد (١).

وإنّي بعد ما سرحت النظر في مراتع مسائله ، وأجلت الفكر في ميادين دلائله ، ظفرت على فوائد جمّة خلت عنها كتب أكثر العلماء ، وعثرت على قواعد مهمّة لم يأت بها اولو الأيدي الأذكياء ، فجمعتها في هذا الكتاب ؛ تبصرة للأحباب ، وتذكرة لاولي الألباب ، لعلّ

__________________

(١) مثل يضرب لبيان كون الأمر مشكلا جدّا ، كما في المعجم الوسيط : ٧١٤ ، « ق ت د » : « يضرب للشيء لا ينال إلاّ بمشقّة عظيمة ».

٢٥

الله ينفعني به يوم الحساب ، إنّه هو الكريم الوهّاب.

ودأبي في هذا الكتاب تحقيق ما هو الحقّ من المسائل ، وذكر ما هو الأتمّ من الدلائل ، ولا أتعرّض لذكر ما هو تطويل بلا طائل ، كما هو مذكور في بعض كتب (١) اولي الفضائل ؛ لأنّي لم أر في مثل ذلك مدحا ، ولذلك طويت عنه كشحا.

وكذا لا أتعرّض لنقض جميع أدلّة الخصوم ، بل لما يستصعب على الفهوم ، واشير في كلّ أصل إلى مسألة فرعيّة تتفرّع عليه ؛ ليحصل بذلك الوقوف على كيفيّة التفريع ، وسمّيته أنيس المجتهدين. ورتّبته على مباحث ذوات أبواب ذوات فصول.

__________________

(١) في « ب » : « كتب بعض ».

٢٦

المبحث الأوّل

في المقدّمات

وفيه أبواب :

٢٧
٢٨

الباب الأوّل

في نبذ من أحواله

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في تعريفه

اعلم أنّ لفظ « اصول الفقه » لمّا كان مركّبا إضافيّا من « الاصول » و « الفقه » ، ولكلّ واحد من جزءيه معنى لغوي واصطلاحي ، ثمّ صارا علما لعلم خاصّ ؛ فحصل له تعريفان باعتبارين :

أحدهما : باعتبار التركيب. وتعريفه بهذا الاعتبار إنّما يحصل بتعريف كلّ واحد من جزءيه ؛ لأنّ تعريف المركّب إنّما يحصل بتعريف أجزائه.

وثانيهما : باعتبار العلميّة. وبهذا الاعتبار لا يلتفت إلى الأجزاء من حيث دلالتها على معانيها اللغويّة أو العرفيّة ، بل يلتفت إليها من حيث إنّها صارت علما لعلم مخصوص ، ولذا ترى الاصوليّين (١) يعرّفون أوّلا كلّ واحد من لفظي : « الاصول » و « الفقه » ؛ ليحصل التعريف بالاعتبار الأوّل. ثمّ يعرّفون علم الاصول باعتبار العلميّة.

وغير خفيّ أنّ ما هو من المبادئ إنّما تعريفه بالاعتبار الثاني لا الأوّل. نعم ، فيه زيادة بصيرة ، فنحن أيضا نقتدي بهم لذلك ، فنقول في تعريفه بالاعتبار الأوّل :

الاصول لغة : ما يبنى عليه غيره (٢). وعرفا : عبارة عن الأدلّة ؛ لابتناء المدلولات عليها.

__________________

(١) راجع : المحصول ١ : ٧٨ ، ونهاية السؤل ١ : ٥ و ٦ ، ومعارج الاصول : ٤٧.

(٢) المصباح المنير : ١٦ ، « أ ص ل ».

٢٩

والفقه لغة : الفهم (١) وهو جودة الذهن من حيث استعداده لتحصيل المطالب ، لا العلم على الأصحّ.

واصطلاحا : قد عرّف بتعريفات كثيرة أكثرها لا يخلو من اختلال إمّا في العكس ، أو الطرد.

والصحيح منها هو : أنّه العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة.

وفائدة كلّ واحد من القيود الثلاثة ظاهرة.

وفائدة القيد الرابع إخراج علم الله والملائكة والأنبياء. والقيد الخامس لإخراج علم المقلّد ؛ فإنّه ليس مكتسبا من الأدلّة التفصيليّة ، بل من دليل إجمالي مطّرد في جميع ما يعلمه ، وهو أنّ هذا ما أفتى به المفتي ، وكلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّي ؛ فهذا حكم الله في حقّي.

وأمّا خروج ما علم كونه من الدين ضرورة ـ كوجوب الصلاة والزكاة والصوم ، وحرمة الخمر والميتة ـ فيمكن بكلّ واحد من القيدين الأخيرين. فتأمّل.

وهذا التعريف للفقه إنّما هو بحسب اصطلاح المتشرّعة ، والفقيه على هذا هو من حصّل الأحكام بالنحو المذكور ، وهو المعبّر عنه بالمجتهد.

وأمّا العرف العامّ ، فقد يطلق الفقه على العلم بجملة من الأحكام ولو كان عن تقليد ، والفقيه ـ على هذا ـ من حصّل جملة من الأحكام ولو تقليدا.

فحينئذ لو أوصى أحد بمال للفقهاء فهل يحمل « الفقهاء » على المعنى الأوّل أو الثاني (٢)؟ الظاهر الثاني ؛ لأنّ العرف العامّ مقدّم على الاصطلاح ، كذا رجّح الشهيد الثاني (٣) وهو كذلك ؛ لأنّ المعنى الاصطلاحي ليس من اصطلاح ( الشرع ، بل من اصطلاح ) (٤) المتشرّعة ، وكذا الحكم في الأوقاف ، والأيمان ، والنذور ، والتعليقات.

__________________

(١) الصحاح ٤ : ٢٢٤٣ ، والنهاية في غريب الحديث والأثر ٣ : ٤٦٥ ، « ف ق ه ».

(٢) في « ب » : « الأوّل فقط ، أو عليه وعلى الثاني ».

(٣) تمهيد القواعد : ٣٤ ، ذيل القاعدة ١.

(٤) ما بين القوسين لم يرد في « ب ».

٣٠

ثمّ إنّه أورد على التعريف المذكور إيرادان (١) :

أحدهما : أنّ « الأحكام » جمع معرّف باللام وهو يفيد العموم ، فيلزم منه أن لا يصدق « المجتهد » إلاّ على من كان عالما بجميع الأحكام ، وهذا لا يتمّ في حقّ أكثر المجتهدين ، بل جميعهم.

وأصحّ الأجوبة عنه أنّ المراد بالعلم بالأحكام هو التهيّؤ القريب له ، وإطلاق العلم عليه شائع ، سيّما في مباحث الفقه.

ولدفع هذا الإيراد زاد بعضهم في التعريف « فعلا أو قوّة قريبة » (٢).

والحقّ عدم الاحتياج إليه ؛ لما ذكر (٣).

وثانيهما : أنّ الفقه غالبا من باب الظنّ ؛ لابتنائه على أخبار الآحاد ، والإجماعات المنقولة ، والأدلّة الاصوليّة المفيدة للظنّ ، فكيف اطلق عليه العلم؟!

وأصحّ الأجوبة عنه أنّ المراد بالعلم معناه الأعمّ ، وهو ترجيح أحد الطرفين وإن لم يمنع من النقيض ، وهذا الإطلاق في المباحث الفقهيّة شائع.

فائدة

اعلم أنّ الاصوليّين أجمعوا على جواز العمل بظنّ المجتهد في نفس الأحكام وموضوعاتها ، وبعض الأخباريّين على عدم جواز العمل به في الأوّل دون الثاني (٤) ، وبعضهم عليه مطلقا (٥).

واستدلّ الأخباريّون بالعمومات والإطلاقات الدالّة على المنع من الظنّ (٦).

ثمّ إنّهم لمّا قالوا بعدم جواز العمل بالظنّ اضطرّوا إلى القول بوجوب تحصيل اليقين في

__________________

(١ و ٢) راجع تمهيد القواعد : ٣٣ ، القاعدة ١.

(٣) أي التهيّؤ القريب له.

(٤) منهم الاسترآبادي في الفوائد المدنيّة : ١٨١.

(٥) لم نقف عليه من الأخباريّين. ونسبه البهبهاني إلى غير الأخباريّين في الفوائد الحائريّة : ١١٧ ، الفائدة ٦.

(٦) هي الآيات العامّة أو المطلقة الناهية عن العمل بالظنّ : منها قوله تعالى : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) ، النجم (٥٣) : ٢٨ ؛ ومنها الآية ٣٦ من الإسراء (١٧). راجع الفوائد المدنيّة : ١٨٥ و ١٨٦.

٣١

الأحكام الشرعيّة (١) ؛ فأعرضوا عن الأدلّة الاصوليّة لظنّيّتها ، ولم يمكن لهم إنكار حجّيّة أخبار الآحاد ؛ لانسداد باب الفقه حينئذ ؛ فقالوا : إنّها تفيد العلم (٢).

وبما ذكرنا ظهر أنّ مناط الفرق بين المجتهد والأخباريّ أنّ الأوّل يجوّز العمل بالظنّ في الأحكام ، بخلاف الثاني ؛ فإنّه يشترط اليقين.

ولا يخفى أنّ حقّيّة مذهب المجتهدين في غاية الظهور ؛ فإنّ الإجماع منعقد على جواز العمل بظنّ المجتهد ، كما ادّعاه جمع كثير (٣). وليس هذا الإجماع من الشيعة فقط ، بل من جميع المسلمين ، فخلاف طائفة قليلة من الأخباريّين لا اعتداد به ، سيّما مع كونهم من المتأخّرين ؛ لأنّ هذا الخلاف نشأ منهم.

والجواب عمّا استدلّوا به : أنّ الحكم المستنبط من اجتهاد المجتهد ليس من باب الظنون ، بل الظنّ في طريقه. وأمّا نفس الحكم فهو معلوم ؛ لكونه حكم الله يقينا في حقّه ، فإذا غلب على ظنّ المجتهد حكم شرعيّ بطريق شرعي ، يحصل عنده قياس يقينيّ منتج لمطلوبه ، وهو أنّ هذا الحكم مظنون الثبوت عندي بالطريق الشرعيّ ، وكلّ مظنون الثبوت عندي بالطريق الشرعيّ حكم الله يقينا في حقّي ، ينتج ، هذا حكم الله يقينا في حقّي.

والصغرى يقينيّة وجدانيّة ، والكبرى ثابتة بالإجماع ، فالحكم المستنبط من الاجتهاد وإن لم يكن معلوما يقينا أنّه حكم الله الواقعيّ ، إلاّ أنّه يعلم أنّه حكم الله في حقّ المجتهد يقينا ، فهو خارج عن باب الظنون الممنوع عنها ؛ لأنّ المراد منها الظنون التي لم يكن العمل بها واجبا في حقّ الظانّ. والمخرج هو الإجماع.

ثمّ إنّك إن تأمّلت في حديث الإجماع ، فاستمع حتّى يثبت لك المطلوب بطريق برهاني قطعيّ لا ينكر عليه.

فنقول : أدلّة الفقه منحصرة بالكتاب ، والأخبار ، والأدلّة العقليّة الاصوليّة.

والأدلّة العقليّة ، كالاستصحاب ، وأصل العدم ، والقياس وغيرها لا تفيد إلاّ الظنّ ، وكذا

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٠٤.

(٢) المصدر : ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٣) منهم ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٢٢٠ ، وعضد الدين في مختصر المنتهى : ٤٨١ ، والشيخ حسن في معالم الدين : ٢٣٩.

٣٢

أكثر الإجماعات. والقطعيّة منها قليلة ، مع أنّ الأخباريّين قالوا بعدم حجّيّة هذه الأدلّة جميعا.

والكتاب وإن كان قطعيّ المتن إلاّ أنّه ظنّي الدلالة.

والأخبار متواترها قليلة جدّا ، حتّى اعترف بعض بعدم وجودها في أخبارنا رأسا (١).

وآحادها لا تفيد إلاّ الظنّ ؛ لأنّها ظنّيّة السند ، بل أكثرها ظنّي الدلالة أيضا ، وقد وقع فيها تحريفات وتصحيفات وتقطيعات ، وخرج كثير منها مخرج التقيّة ، مع أنّه قد كثر عليهم عليهم‌السلام الكذّابة.

وورد في الاحتجاج أنّ من أسباب اختلاف الأحاديث افتراء أهل الكذب عليهم (٢).

وورد النصّ الصحيح بأنّ المغيرة بن سعيد يدسّ (٣) في كتب أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام أحاديث لم يرووها (٤) ، وكذا أبو الخطّاب (٥).

ومع ذلك أخبارنا متعارضة ، ولا بدّ لنا من الجمع أو الترجيح وهما موقوفان على الظنون الاجتهاديّة. والترجيح بالمرجّحات المنصوصة ـ كما هو دأب الأخباريّين ـ أيضا ظنّي ؛ لأنّها أخبار آحاد ، مع أنّها أيضا متعارضة ؛ فإنّ بعضها يدلّ على وجوب أخذ الأوفق بالقرآن أوّلا (٦) ، وبعضها يدلّ على وجوب أخذ المخالف لمذهب العامّة أوّلا (٧) ، وبعضها على وجوب أخذ الأصحّ سندا أوّلا (٨) ، وبعضها على وجوب أخذ المجمع عليه أوّلا (٩).

وكذا وقع التعارض فيها في وجوب الأخذ ثانيا وثالثا ورابعا ، فهذه المرجّحات المنصوصة أيضا محتاجة في الترجيح إلى الظنون الاجتهاديّة.

فظهر أنّ جميع أدلّة الفقه ـ إلاّ قليلها ـ لا يفيد إلاّ الظنّ ، فلو لم يعمل بالظنّ يلزم انسداد باب الفقه مع كون التكليف باقيا ، وهذا محال.

__________________

(١) قاله كاشف الغطاء في كشف الغطاء ١ : ٢١٨.

(٢) الاحتجاج ١ : ٦٢٦ ، ح ١٤٦ ، والفوائد الحائريّة : ١٢٣ ، الفائدة ٦.

(٣) في هامش « أ » : « يقال : دسّه دسّا : إذا أدخله في شيء بقهر وغلبة وعنف ومكر ، والدسيس : إخفاء المكر ». راجع لسان العرب ٦ : ٨٢ ، « د س س ».

(٤ و ٥) راجع اختيار معرفة الرجال : ٢٢٣ ، ح ٤٠١.

(٤ و ٥) راجع اختيار معرفة الرجال : ٢٢٣ ، ح ٤٠١.

(٦ و ٧) راجع وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٨ ، أبواب صفات القاضي ، الباب ٩ ، ح ٢٩ و ٣١.

(٦ و ٧) راجع وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٨ ، أبواب صفات القاضي ، الباب ٩ ، ح ٢٩ و ٣١.

(٨) راجع الكافي ١ : ٦٧ و ٦٨ ، باب اختلاف الحديث ، ح ١٠.

(٩) راجع عوالي اللآلئ ٤ : ١٣٣ ، ح ٢٢٩.

٣٣

هذا ؛ وأمّا تعريف أصول الفقه بالاعتبار الثاني أي العلميّة : فالعلم بالقواعد التي يتوصّل بها إلى استنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.

الفصل الثاني : في موضوعه

اعلم أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، أو عن العوارض الذاتيّة لنوعه ، أو لعوارضه الذاتيّة.

وبالترديدين يندفع ما أورد على القوم ـ حيث سامحوا ، وخصّصوا البحث عن عوارضه الذاتيّة فقط ـ بأنّه يجب على هذا أن يكون جميع موضوعات المسائل موضوع العلم ، وليس كذلك ؛ فإنّ أكثر موضوعاتها إمّا أنواعه ، أو أعراضه الذاتيّة.

ووجه الاندفاع أنّ هذا مسامحة منهم ، ومقصودهم ما ذكرناه ، ولذا صرّح به بعض القدماء كالشيخ الرئيس (١) وغيره.

والعرض الذاتي : ما يلحق الشيء لذاته ، كالتعجّب للناطق.

أو لجزئه المساوي ، كالتعجّب للإنسان.

أو لجزئه الأعمّ ـ على رأي المتأخّرين (٢) ـ كالتحرّك بالإرادة للإنسان. وهذا القسم لم يعدّه القدماء من الأعراض الذاتيّة ، بل الغريبة. وتصفّح مسائل العلوم يؤيّد قول المتأخّرين ، مثلا أهل الهيئة يبحثون عن الحركة مع أنّ عروضها للفلك بواسطة الجسم الذي هو جزؤه الأعمّ.

أو لعرض يساوي ذاته ، كالضحك للإنسان.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ موضوع علم الاصول هو الأدلّة الشرعيّة ؛ لأنّه يبحث فيه :

إمّا عن العوارض الذاتيّة لأنفسها ، كما يقال : الكتاب حجّة ، أو السنّة حجّة ، أو الإجماع حجّة.

__________________

(١) راجع الشفاء ( المنطق ، كتاب البرهان ، المقالة الثانية من الفنّ الخامس ، الفصل الثاني في المحمولات الذاتيّة ) ، ٣ : ١٢٥ وما بعدها.

(٢) راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول ١ : ٦٧.

٣٤

أو عن العوارض الذاتيّة لأنواعها ، كما يقال : المحكم من الكتاب كذا ، والناسخ منه كذا ، وأخبار الآحاد حجّة ، والعامّ كذا ، والخاصّ كذا ، والمطلق أو المقيّد أو المجمل أو المبيّن كذا ، والإجماع المنقول كذا.

أو عن العوارض الذاتيّة لعوارضها الذاتيّة ، كما يقال : العموم كذا ، والخصوص كذا ؛ فإنّهما من العوارض الذاتيّة للأدلّة الشرعيّة ، فالبحث عن حالهما بحث عن العوارض الذاتيّة للعوارض الذاتيّة للأدلّة الشرعيّة.

وأمّا البحث عن التراجيح والاجتهاد ، فهو بحث عن العوارض الذاتيّة لذات الموضوع أو أنواعه ؛ لأنّهما لمّا كانا معتبرين بالقياس إلى الأدلّة ، فهما من عوارضها ، أو عوارض أنواعها ، بل بعض مسائلهما يكون البحث فيها عن عوارض العوارض أيضا ، كما لا يخفى.

ثمّ مسائل كلّ علم لمّا كانت هي المطالب المثبتة فيه ـ أعني المجموع المركّب من الموضوع والمحمول ـ فقولنا : الإجماع حجّة ، والأمر يقتضي الوجوب ، وأمثالهما من مسائل علم الاصول.

الفصل الثالث : في مرتبته وفائدته ومعرفته

أمّا مرتبته ، فبعد الكلام ، والعربيّة ، والمنطق ، ووجهه معلوم.

وأمّا فائدته ، فاستنباط الأحكام الشرعيّة ، وهي سبب الفوز بالسعادات.

وأمّا معرفته ، فكفائيّة على الأصحّ ، والسرّ معلوم.

٣٥

الباب الثاني

في المبادئ اللغويّة

وفيه فصول :

فصل [١]

اعلم أنّ المبادئ على قسمين : تصوّريّة ، وتصديقيّة.

والاولى : تصوّر أشياء يتوقّف الشروع مع البصيرة عليه ، فالمبادئ التصوّريّة لعلم الاصول حدّه ، وحدّ موضوعه وأجزائه وجزئيّاته وأعراضه الذاتيّة ، وتصوّر غايته ومرتبته. وقد أشرنا إلى بعضها (١) ، وسنشير إلى بواقيها في مواضع تليق بها.

ومن جملة المبادئ التصوّريّة لهذا العلم تصوّر الأحكام الخمسة مع ما يتعلّق بها ؛ لأنّ الناظر فيه ينظر في أدلّتها ، ومقصوده إثباتها ونفيها ، فلا بدّ أن يكون متصوّرا لها. وهذا ما يعبّر عنه بـ « المبادئ الأحكاميّة ». ونذكرها في الباب الآتي (٢) إن شاء الله.

والثانية : مقدّمات يتوقّف الاستدلال في هذا العلم عليها. وهي قد تكون بديهيّة ، وقد تكون نظريّة مثبتة في علم آخر. فالمبادئ التصديقيّة لهذا العلم طائفة من مسائل : الكلام ، والعربيّة ، والمنطق. ووجه توقّفه عليها ظاهر.

وقد جرت عادة القوم بذكر بعض مسائل اللغة هنا ؛ لشدّة الاحتياج في هذا العلم إليها ،

__________________

(١) مرّ تعريفه في الفصل الأوّل ص ٢٩ ، وتعريف موضوعه وما يرتبط به في الفصل الثاني ص ٣٤ ، وبيان مرتبته وفائدته ومعرفته في الفصل الثالث ص ٣٥.

(٢) يأتي في الباب الثالث : ٩٥.

٣٦

وتفريع بعض الفروع عليها ، وهو الذي يعبّر عنه بـ « المبادئ اللغويّة ». ونذكرها في هذا الباب إن شاء الله.

فصل [٢]

اللغة : كلّ لفظ وضع لمعنى. والحقّ أنّه ليس بين اللفظ والمعنى مناسبة ذاتيّة ـ كما ذهب إليه عبّاد بن سليمان الصيمري (١) ، وأهل التكسير (٢) ، وبعض المعتزلة (٣) ـ وإلاّ كان كلّ أحد عالما بكلّ لغة ، ولم يوضع لفظ واحد للنقيضين والضدّين ، كالقرء للطهر والحيض ، والجون للأسود والأبيض.

واستدلّ المخالف : بأنّه لو لم يكن بين اللفظ والمعنى مناسبة طبيعيّة لكان تخصيص هذا اللفظ بهذا المعنى ترجيحا بلا مرجّح (٤).

والجواب : أنّ المرجّح هو سبق المعنى إلى ذهن الواضع.

وهذا الجواب على ما نختاره ـ من أنّ اللغات اصطلاحيّة وواضعها البشر ـ صحيح.

وعلى مذهب التوقيف فالجواب أنّ المرجّح هو إرادة الواضع المختار. وهذا الجواب يتأتّى على ما اخترناه أيضا.

فصل [٣]

اختلف العلماء في أنّ اللغات توقيفيّة أو اصطلاحيّة؟

فذهب بعضهم إلى أنّها توقيفيّة (٥) ، أي وضعها الله تعالى ، ووقّفنا عليه بالوحي إلى الأنبياء ، أو بخلق أصوات تدلّ عليه ، وأسمعها واحدا أو جماعة ، أو بخلق علم ضروريّ بها.

وذهب بعضهم إلى أنّها اصطلاحيّة (٦) ، يعني أنّ واضعها البشر واحدا أو جماعة ثمّ حصل

__________________

(١) حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٠٩.

(٢) أي أرباب علم التكسير.

(٣ و ٤) راجع الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٠٩.

(٥) منهم : ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٢ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١١١.

(٦) نسبه الفخر الرازي إلى أبي هاشم في المحصول ١ : ١٨٢.

٣٧

التعريف باعتبار الإشارة ، والتكرار ، والترديد بالقرائن ، كما في الأطفال يتعلّمون اللغات.

وذهب بعض إلى أنّ القدر المحتاج إليه في معرفة الاصطلاح توقيفيّ والباقي اصطلاحيّ (١).

وذهب جمع إلى التوقّف (٢).

والحقّ المذهب الثاني ؛ لأنّا نعلم بالبداهة أنّ كثيرا من اللغات حدثت من الناس في وقت لم يكن بينهم نبيّ ، ولم يدّع أحد استماع صوت ، ولا علما ضروريّا بأنّ هذا موضوع لذاك.

نعم ، يمكن القول بإلهام بعض الناس بأن يضع (٣) هذا اللفظ لهذا المعنى ، لا بأنّ هذا اللفظ وضعه الله لهذا المعنى ؛ لأنّه لم يدّع أحد ذلك ، ولو كان الأمر كذلك لسمع أو نقل ادّعاؤه من أحد.

وبالجملة ، هذا خلاف المعتاد ، ونحن نرى أنّ لغة واحدة تتغيّر بحيث تخرج عن الوضع الأوّل ، كما هو ظاهر من لغة العرب والفرس ، وهذا التغيير والتبديل لا شكّ في استناده إلى البشر. وبالجملة ، استناد وضع اللغات إلى البشر أمر يدلّ عليه الوجدان ، ويقتضيه المشاهدة والعيان.

واستدلّ على هذا المذهب أيضا بقوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ )(٤).

ووجه الاستدلال به : أنّه دلّ على أنّ لكلّ قوم لغة سابقة على إرسال الرسول إليهم. والتوقيف يقتضي كون اللغات مسبوقة بإرسال الرسل (٥).

وأجيب عنه : بمنع استلزم التوقيف مسبوقيّة اللغات بالإرسال ؛ فإنّ الله علّم آدم اللغات ـ كما تدلّ عليه آية التعليم (٦) ـ وعرّفها آدم لذرّيّته ، ولمّا جاء كلّ رسول إلى قومه ، كان لهم

__________________

(١) نسبه الآمدي إلى الإسفرايني في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١١١.

(٢) نسبه الفخر الرازي إلى جمهور المحقّقين في المحصول ١ : ١٨٢ وهو مختاره أيضا في ص ١٩٢.

(٣) في « أ » : « يوضع ».

(٤) إبراهيم (١٤) : ٤.

(٥) نسبه الفخر الرازي إلى أبي هاشم وأتباعه في المحصول ١ : ١٨٧ ـ ١٨٨.

(٦) البقرة (٢) : ٣١.

٣٨

لغة ، وأمّا آدم فلم يكن له قوم حتّى يدخل في عموم الآية (١).

وأنت ستعلم اندفاع هذا الجواب بعد ما نردّ استدلال أهل التوقيف بآية التعليم.

هذا ؛ واستدلّ أهل التوقيف على مذهبهم بآيتين : آية تعليم الأسماء (٢) ، وقوله تعالى : ( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ )(٣).

ووجه الاستدلال بالآية الاولى ظاهر.

والجواب عنها : أنّ المراد بالأسماء حقائق الأشياء بدليل الضمير (٤) ، أو المراد منها أسماء الله الحسنى.

ويمكن أن يقال : المراد بالتعليم إلهام آدم وإقداره على وضع الألفاظ بإزاء المعاني.

ووجه الاستدلال بالآية الثانية أنّه لا يمكن أن يراد من « الألسنة » معناها الحقيقي ـ أعني العضويّ المخصوص ـ إذ ليس فيه كثير اختلاف ، فلا بدّ أن يراد منها معناها المجازي ، وهو اللغات ، فيكون المعنى : ومن آياته خلق اللغات المختلفة وتوقيف الناس عليها.

والجواب عنه : أنّه إذا تعيّن الحمل على المجاز ، يمكن أن يراد مجاز آخر ، وهو أن يراد بخلق الألسنة إقدار الناس على وضع اللغات ، وليس إرادة أحد المجازين أولى من إرادة الآخر.

وبما ذكرنا ظهر بطلان المذهبين الآخرين.

إذا علمت الحقّ في هذه القاعدة ، فاعلم أنّه يتفرّع عليها فروع.

منها : المسألة المعروفة بـ « مسألة مهر السرّ والعلانية » وهي ما إذا تزوّج رجل امرأة بألف درهم ، واصطلحا على تسمية الألفين بالألف (٥).

وكيفيّة التفريع أنّه بناء على التوقيف يلزم الألف ، ولا مدخليّة للاصطلاح.

__________________

(١) راجع المحصول ١ : ١٩٢.

(٢) وهي قوله تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ... ) ، البقرة (٢) : ٣١.

(٣) حكاه عنهم الفخر الرازي في المحصول ١ : ١٨٤ و ١٨٥. والآية ٢٢ من سورة الروم (٣٠).

(٤) والمراد به ضمير الجمع المذكّر في ( عَرَضَهُمْ ). والأولى الاستدلال بقوله تعالى : ( بِأَسْماءِ هؤُلاءِ).

(٥) كذا في النسختين. ولكن في التمهيد للإسنوي : ١٣٨ ، وتمهيد القواعد : ٨٢ ، القاعدة ١٨ : « تسمية الألف بألفين » وهو الصحيح.

٣٩

وعلى المذهب الحقّ تصير المسألة خلافيّة ، بناء على أنّ المناط هل الاصطلاح اللغوي السابق ، أو الاصطلاح الحادث؟

والحقّ : أنّه إن اعتبر اللفظ والقصد معا في العقود يكون العقد باطلا ، وإن لم يعتبر القصد فالمناط الاصطلاح السابق ، ولا يقاومه الاصطلاح الطارئ ، فيلزم الألف.

وكذا الحال في كلّ عقد اصطلاح المتبايعان أو أحدهما على تسمية العوضين أو أحدهما بغير اسمه المعروف ، بل يمكن التأتّي في غير العقود أيضا. وكيفيّة التفريع في الجميع على ما ذكرنا.

فصل [٤]

اعلم أنّ طريق معرفة اللغات إمّا النقل المحض وهو إمّا متواتر ، أو آحاد ومثالهما ظاهر.

وإمّا المركّب من النقل والعقل ، كما إذا حصل لنا مقدّمتان نقليّتان ، أو إحداهما نقليّة والاخرى عقليّة ، فرتّبهما العقل وحصّل منهما نتيجة دالّة على وضع لفظ لمعنى. مثلا ثبت بالنقل أنّ الجمع المعرّف باللام يصحّ منه الاستثناء ، وثبت أيضا أنّ الاستثناء إخراج أمر لو لا الاستثناء لدخل هذا الأمر في المستثنى منه ، فيعلم منه أنّ الجمع المعرّف شامل له ولغيره ، وهو معنى الاستغراق ؛ فيثبت من هذا أنّ الجمع المعرّف باللام موضوع للاستغراق. وطريق الإثبات من النقل والعقل.

وذهب بعض العامّة إلى جواز إثبات اللغات بالقياس (١) بأن يسمّى شيء باسم إلحاقا له بشيء مسمّى بذلك الاسم لمعنى يدور معه وجودا وعدما بسبب وجود هذا المعنى في الشيء الأوّل ، كما قالوا : تسمية ماء العنب بالخمر دائرة مع التخمير ، فقبله لا يسمّى خمرا ومعه يسمّى خمرا ، فيعلم منه أنّ علّة التسمية بالخمر وجود التخمير ، فكلّ شيء وجد فيه التخمير يسمّى خمرا ، كالنبيذ وغيره من المسكرات. وكذا تسمية النبّاش بالسارق ؛ للأخذ بالخفية ، واللائط بالزاني ؛ للإيلاج المحرّم.

__________________

(١) قاله الفخر الرازي ونسبه أيضا إلى ابن سريج وغيره في المحصول ٥ : ٣٣٩.

٤٠