أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

الحقّ عدم التوقّف ؛ لأنّهما إذا أثّرا في عدم الحكم مع وجود المقتضي للحكم ، فتأثيرهما فيه بدونه أولى ؛ لعدم المعارض.

احتجّ الخصم بأنّه إذا لم يوجد مقتض ، فعدم الحكم لذلك ، لا لوجود المانع ، أو انتفاء الشرط ، وبأنّ التعليل المذكور يتوقّف على وجود المقتضي عرفا ؛ فإنّ من قال : الطير لا يطير ؛ لأنّه في القفص ، كان تعليله موقوفا على العلم بحياة الطير وقدرته ؛ إذ بدونه لا يصحّ التعليل بالقفص (١).

والجواب عن الأوّل : أنّ إسناده إلى عدم المقتضي لا يمنع من إسناده إلى وجود المانع ، أو انتفاء الشرط ؛ فإنّه يجوز أن يكون لحكم أدلّة متعدّدة.

و [ الجواب ] عن الثاني : منع التوقّف عرفا ؛ فإنّ العرف يمنع الحضور إلى سبع مرئيّ في الطريق وإن لم يخطر ببالهم سلامة أعضائه.

ومنها (٢) : أن لا تتأخّر عن حكم الأصل ، كتعليل إثبات الولاية للأب على الصغير الذي عرض له الجنون بالجنون ؛ فإنّ الولاية ثابتة قبل عروض الجنون ، وكتعليل نجاسة عرق الكلب باستقذاره ؛ فإنّ الاستقذار إنّما يحصل بعد الحكم بنجاسته.

واحتجّوا عليه بأنّ العلّة إمّا بمعنى الباعث ، ويلزم من تأخّرها ثبوت الحكم بغير باعث ، أو بباعث غير العلّة المتأخّرة. أو بمعنى الأمارة ـ أي المعرّف ـ فيلزم تعريف المعرّف ؛ لأنّ المفروض معرفة الحكم قبل ثبوت العلّة (٣).

وفيه نظر ؛ لجواز أن تكون بمعنى الباعث ومتأخّرة في الوجود ، كما هو شأن الغاية ، وبمعنى الباعث ومعرّفة في الفرع ، وما عرّف بالنصّ هو الحكم في الأصل. فالحقّ جواز كون العلّة متأخّرة.

__________________

(١) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٢٦.

(٢) أي شروط العلّة.

(٣) قاله الغزالي في المستصفى : ٣٢٧ ، والفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٦١ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٦٤ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٣١٦ ـ ٣١٨.

٥٠١

ومنها : أن لا تعود على الأصل بالإبطال ، أي لا يلزم منها إبطال الحكم المعلّل بها. وإنّما يتصوّر ذلك في حكم ثبت من الشرع من غير نصّ على علّته ، واستنبطت له علّة يلزم منها إبطال هذا الحكم ، فهذا الشرط يختصّ بالعلّة المستنبطة (١) ، فهو يتأتّى عند العامّة لا عندنا. مثاله قال عليه‌السلام : « في أربعين شاة شاة » (٢). وعلّلوه بدفع حاجة الفقراء ، فجوّزوا قيمتها ، فيرجع هذا التعليل إلى عدم وجوب الشاة وهو إبطال للحكم ، فهو باطل (٣).

قيل : فيه نظر ؛ لأنّه يرجع إلى الوجوب التخييري ، فلا يلزم إبطال الوجوب مطلقا (٤).

وهو كما ترى.

واحتجّوا عليه بأنّ الحكم أصل التعليل ؛ لأنّه فرع ثبوته ، وبطلان الأصل يوجب بطلان الفرع ، فلا يجتمع صحّته (٥) مع بطلانه ، فكلّ علّة استنبطت من حكم ولزم منه بطلان ذلك الحكم فهو باطل (٦).

وممّا يتفرّع عليه عدم جواز الحطّ عن المكاتب عندهم بدلا عن الإيتاء (٧) بالمأمور به في قوله تعالى : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ )(٨) ، مع أنّهم جعلوا علّة الإيتاء بالاستنباط الرفق ، وهو في الحطّ أكثر من الإعطاء ، ثمّ الردّ (٩) ؛ لأنّ هذا التعليل أفضى إلى عدم وجوب إعطاء مال الله مع كونه مأمورا [ به ](١٠) ، وهو عندنا واجب مع حاجة المكاتب ، ووجوب حقّ كالزكاة على المولى ، وإلاّ فمستحبّ.

__________________

(١) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٦٧ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٣٠٢.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ١٠٠ ، ح ١٥٧٢ ، والكافي ٣ : ٥٣٤ ، باب صدقة الغنم ، ح ١.

(٣) قاله الأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٣٠٢ و ٣٠٣.

(٤) حكاه المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٣٠٢ و ٣٠٣ ، وقاله ابن قدامة في المغني ٤ : ٥١ و ٥٢ ، الرقم ٤١٢.

(٥) أي صحّة التعليل.

(٦) قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٣٠٢ ـ ٣٠٤ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٦٧ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٣٠٢ ـ ٣٠٨.

(٧) في « ب » : « الإتيان ».

(٨) النور (٢٤) : ٣٣.

(٩) راجع التفسير الكبير ١٢ : ٢١٩ ، ذيل الآية ٣٣ من النور (٢٤).

(١٠) أضفناه للضرورة.

٥٠٢

ومنها (١) : أن لا تخالف نصّا أو إجماعا أو دليلا آخر راجحا عليه (٢). وهذا ظاهر.

ومنها : أن لا يعارض المستنبطة في الأصل مستنبطة اخرى تقتضي نقيض حكمها ، وكانت راجحة عليها ، أو مساوية ممتنعة التخصيص. فمع رجحان الاخرى يصحّ التعليل بها دون الاولى ، ومع التساوي لا يصحّ التعليل بشيء منهما (٣).

وقيل : يشترط في صحّة القياس أن لا يعارضها علّة اخرى في الفرع أيضا ؛ فإنّه لو استنبطت في الفرع علّة اخرى راجحة أو مساوية تقتضي خلاف حكمها بالقياس إلى أصل آخر ، لأبطلت حكم الاولى.

واجيب بأنّه غير مستقيم ؛ لأنّه لا يبطل شهادتها.

وقيل : المعارضة الراجحة تبطل حكمها دون المساوية ؛ لأنّها لا تبطل حكمها ، وإنّما يحوج إلى الترجيح وهو دليل الصحّة ، فالشرط أن لا يعارضها في الفرع اخرى راجحة عليها.

والتأمّل يعطي عدم الفرق في ذلك بين الأصل والفرع ، ثمّ تخصيص (٤) هذا الشرط بالمستنبطة ، لأنّ العلّيّة في المنصوصة لا تنتقل إلى الاخرى ، ولا إلى المجموع وفاقا ، بل المناط ما نصّ عليه.

ومنها : أن لا يكون دليلها متناولا لحكم الفرع بعمومه أو بخصوصه (٥).

مثال الأوّل : ما يقال : الذّرة ربويّة ؛ قياسا على البرّ بجامع الطعم ، فيبطل القياس بأنّ قوله عليه‌السلام : « لا تبيعوا الطعام بالطعام » (٦) دلّ على ربويّة كلّ ما له طعم ؛ لأنّ ترتيب الحكم على

__________________

(١) أي من شروط العلّة.

(٢) ذكره الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٦٧.

(٣) راجع الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٣ : ٢٦٧ و ٢٦٨.

(٤) عطف على « عدم » المنصوب.

(٥) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٦١ ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٣١٤ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٦٩ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٣١٢ ـ ٣١٤.

(٦) كنز العمّال ٤ : ١٨٥ ، ح ١٠٠٧٩.

٥٠٣

الوصف يفيد علّيّته له ، فهو يتناول بعمومه الذّرة.

ومنه ما يقال : النبّاش يقطع ؛ لأنّه سارق كالسارق من الحيّ ، فيبطل بأنّ الله تعالى رتّب القطع على السرقة بفاء التعقيب في قوله : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ )(١) ، فدلّ على أنّه المقتضي للقطع ، وهو يقتضي ثبوت الحكم في الفرع بالنصّ ؛ لأنّ ثبوت العلّة بعد ثبوت الحكم (٢).

ومثال الثاني ما يقال : القيء ينقض الوضوء ؛ قياسا على الخارج من السبيلين بجامع الخروج والنجاسة ، فيبطل بأنّ قوله عليه‌السلام : « من قاء أو رعف أو أمذى فليتوضّأ » (٣) دلّ على أنّ خروج القيء بخصوصه علّة لنقض الوضوء (٤).

واستدلّوا عليه بأنّه إذا أمكن إثبات الحكم في الفرع بالنصّ ، كما يمكن إثباته به في الأصل ، فالعدول إلى القياس المحوج إلى أعمال متعدّدة تطويل بلا فائدة.

والحقّ أنّ ذلك مغالطة ؛ لأنّ إثبات الحكم في الفرع بالقياس طريق ، كما أنّ إثباته فيه بالنصّ طريق آخر ، ووجود الطرق المتعدّدة غير عزيز ، مع أنّه يمكن أن يكون دلالة النصّ على العلّيّة أظهر في نظر المستدلّ من دلالته على العموم ، وأن يكون العامّ في نظره مخصّصا. وغير ذلك من الوجوه المرجّحة للاستدلال بالقياس. فما يتناوله الدليل الدالّ على العلّيّة بعمومه أو خصوصه ، يصحّ الاستدلال عليه بمطلق القياس أيضا عند القائسين ، وبالذي نراه حجّة عندنا.

اعلم أنّ هذا الشرط يتصوّر في المنصوصة ، والإيمائيّة ، والمستنبطة. أمّا في الاوليين ، فظاهر. وأمّا في الأخيرة ؛ فلأنّه إذا قدّر أنّ قوله عليه‌السلام : « لا تبيعوا الطعام بالطعام » (٥) لا يدلّ على العلّيّة واستنبطت علّيّة الطعم ، يكون حكمه في تناوله للذّرة كما إذا دلّ على العلّيّة. وكون العلّة استنباطيّة لا يدفع مماثلته بالعامّ المتناولة للفرع. وعلى هذا يلزم أن يكون من شروطها عندهم أن لا يتناول حكم الفرع دليل بعمومه أو بخصوصه وإن لم يدلّ على العلّيّة. والتحقيق فيه أيضا ما ذكر.

__________________

(١) المائدة (٥) : ٣٨.

(٢) قاله القرطبي ونسبه أيضا إلى مالك والشافعي وأحمد وجماعة في بداية المجتهد ٢ : ٤٤٩.

(٣) كنز العمّال ٧ : ٤٩٢ ، ح ١٩٩٣٢.

(٤) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٦٩ ، والقرطبي في بداية المجتهد ١ : ٣٤.

(٥) تقدّم آنفا.

٥٠٤

ومنها (١) : القطع بوجودها في الفرع.

والحقّ ، أنّه غير لازم عند العامّة لا في المنصوصة في الأصل ، ولا في المستنبطة ؛ لأنّهم يكتفون بالظنّ (٢). وأمّا عندنا ، فلازم في المنصوصة التي نراها حجّة (٣). وأمّا المستنبطة فهي باطلة عندنا من أصلها (٤) ، فلا معنى لتقييد صحّتها بشرط.

ومنها : أن يكون دليلها شرعيّا (٥) ، وإلاّ لم يكن القياس شرعيّا حيث لم يثبت بالشرع. وهذا ظاهر.

ومنها : أن لا يتضمّن المستنبطة زيادة على ما أثبته النصّ (٦) أي حكما في الأصل غير ما أثبته النصّ ؛ لأنّها إنّما تعلم من الحكم الذي اثبت في الأصل ، فلو اثبت بها حكم في الأصل لزم الدور ، بخلاف المنصوصة ؛ فإنّها تعلم بالنصّ. مثلا إذا علّل حرمة بيع الطعام بالطعام متفاضلا بأنّه ربا فيما يوزن ، يلزم اشتراط التقابض ، وهو زيادة على النصّ ؛ لعدم تعرّضه له.

وبعضهم اشترط عدم الزيادة المنافية لحكم الأصل دون غيرها (٧).

والتحقيق على قواعدهم اشتراط عدمها مطلقا.

ومنها : أن لا تكون وصفا مقدّرا ، كما ذهب إليه جماعة (٨). والفقهاء على أنّ التعليل بالأوصاف المقدّرة جائز (٩) ، بل واقع ، كتعليل حدوث الملك بالصيغة ، وهي مركّبة من حروف متتالية لا يوجد أحدها مع الآخر ، فليس لها وجود حقيقي ، مع أنّ وجود العلّة بأيّ

__________________

(١) أي شروط العلّة.

(٢) راجع : الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٦٨ ، ونهاية السؤل ٤ : ٣١٥.

(٣ و ٤) راجع تهذيب الوصول : ٢٥١.

(٣ و ٤) راجع تهذيب الوصول : ٢٥١.

(٥) قاله الأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٣٠٣ و ٣٠٤.

(٦ و ٧) حكاهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٦٨.

(٨) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣١٨ و ٣١٩ ، والشوكاني في إرشاد الفحول ٢ : ١١٣ ، الشروط المعتبرة في العلّة.

(٩) راجع : المحصول ٥ : ٣١٨ و ٣١٩.

٥٠٥

معنى كان واجب عند حدوث المعلول ، ولها وجود تقديري ، بمعنى أنّ الشرع قدّر بقاءها إلى وقت حدوث الملك ، وهو عند حدوث الحرف الأخير من الصيغة.

وغير خفيّ أنّ تصفّح جزئيّات المسائل يقوّي مذهب الفقهاء ، وقد تقدّم في بعض المباحث السابقة ما يصلح مثالا له ، ولا ضير فيه ؛ لأنّ أصل الوجود غير لازم للعلل الشرعيّة ـ كما عرفت (١) ـ فضلا عن الوجود الحقيقي.

ومنها : عدم عروض بعض مبطلات العلّيّة لها ، وهي سبعة :

[ المبطل ] الأوّل : النقض وهو وجود الوصف بدون الحكم ، ولا ريب في إبطاله لاطّرادها ـ أي كونها بحيث كلّما وجدت وجد الحكم ـ فإن كان قادحا في العلّيّة ، فالاطّراد من شروطها ، وإلاّ فلا.

وقد اختلف في قدحه وعدم قدحه لها على أقوال (٢) ، ثالثها : أنّه يقدح في المستنبطة دون المنصوصة (٣). رابعها : عكسه (٤). وخامسها : أنّه لا يقدح حيث التخلّف لمانع أو انتفاء شرط ، ويقدح حيث التخلّف بدونهما (٥).

والحقّ أنّه لا يقدح في المنصوصة مطلقا ، ويقدح في المستنبطة إلاّ إذا كان التخلّف لمانع أو انتفاء شرط.

أمّا الأوّل ، فلأنّ المنصوصة ليست بقاطعة لا في محلّ النقض ولا في غيره ، وإلاّ لم يثبت التخلّف ولا التعارض ؛ لتغاير المحلّين ، أو عدم التعارض بين القطعيّين ، والقطعيّ والظنّيّ ، فهي ظاهرة عامّة فيهما (٦) ، فيثبت العلّيّة فيهما بظاهر عامّ ، فجاز تخصيصها بغير صورة

__________________

(١) تقدّم في ص ٤٨٤.

(٢) راجع : تهذيب الوصول : ٢٥٩ ، والمحصول ٥ : ٢٣٧ ، والإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٩٢.

(٣) قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٩.

(٤) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٣٧ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٩ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٤٥ و ١٤٦.

(٥) نسبه الفخر الرازي إلى الأكثر في المحصول ٥ : ٢٣٧ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٩٢ و ٩٣ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٩ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٥٢ و ١٥٣ ونسبه أيضا إلى البيضاوي.

(٦) أي في المقيس والمقيس عليه.

٥٠٦

النقض ؛ لأنّ كلّ دليل عامّ يجوز تخصيصه ، سواء كان المخصّص هو العلّة ، أو حكما آخر. وهذا لا يبطل حجّيّته فيما سواه ، وأمثلته كثيرة ، كمسألة العرايا (١) ، وعدم نقض الحجامة للوضوء ؛ مع أنّ كلّ خارج نجس علّة للنقض ، وضرب الدية على العاقلة ؛ مع أنّ مباشرة الجناية علّة للغرامة على المباشر ، وعدم مباشرتها علّة لعدمها ، وإيجاب صاع من التمر في لبن المصرّاة (٢) ؛ مع أنّ تماثل الأجزاء علّة لإيجاب المثل ، وعدم إخراب بعض من شاقّ الله بيته ؛ مع أنّه تعالى جعل المشاقّة علّة لإخراب البيت في قوله : ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ... )(٣) ، وقس عليها أمثالها.

ويتفرّع على ما ذكر (٤) عدم بطلان علّيّة الجميع فيما سوى مادّة النقض ، ولولاه لبطل العامّ المخصوص مطلقا ؛ لعدم تعقّل المفرق (٥) بين الحكم المخصّص والعلّة المخصّصة ، وبطلت العلل القاطعة ، كعلّة القصاص وهو القتل العدوان ، وعلّة الجلد وهو الزنى ، وعلّة القطع وهو السرقة ، وعلّة حرمة الأكل وهو الميتة ؛ للتخلّف في الوالد ، والمحصن ، ومال الابن والغريم ، والمضطرّ. ولزم إبطال أحد الدليلين : دليل الاعتبار ، ودليل الإهدار. والجمع بينهما أصوب.

ثمّ إنّا نعلم إجمالا أنّ التخلّف في العامّ مطلقا لمانع ، أو انتفاء شرطه في الواقع إلاّ أنّا لا نعلمه بعينه.

وأمّا الثاني ، فلأنّ التخلّف في المستنبطة ـ على فرض صحّتها ـ إذا لم يكن لمانع أو انتفاء شرط ، فهو لعدم المقتضي ؛ لعدم تعقّل التخصيص فيها ، فهي ليست مقتضية ، فلا تكون علّة. بخلاف ما لو كان بهما (٦) ؛ فإنّه لا يبطل علّيّتها ؛ لأنّها مقتضية حينئذ إلاّ أنّ عدم تأثيرها

__________________

(١) العريّة ـ والجمع العرايا ـ : النخلة التي يعريها صاحبها غيره ليأكل ثمرها. انظر لسان العرب ١٥ : ٤٩ ـ ٥٠ ، « ع. ر. ا ».

(٢) المصرّاة من الشاء أو النوق : المحفّلة ، أي التي ترك حلبها أيّاما ليجتمع اللبن في ضرعها. انظر لسان العرب ١٤ : ٤٥٨ ، « ص ر ى ».

(٣) الحشر (٥٩) : ٢ و ٤.

(٤) وهو عدم كون العلّة المنصوصة قاطعة.

(٥) أي وجه واضح. وفي « ب » : « الفرق ».

(٦) أي لو كان التخلّف بسبب مانع أو انتفاء شرط.

٥٠٧

في صورة النقض لعدم شرطه ـ أي رفع المانع ووجود الشرط ـ وهما ليسا جزءي العلّة ، فلا يبطل العلّيّة بارتفاعهما.

ثمّ التخلّف في المستنبطة إنّما يعلم بنصّ أو إجماع ، كما إذا قال الشافعي : الوضوء طهارة حكميّة فيشترط فيه النيّة ، فينتقض بإزالة النجاسة ؛ لأنّها طهارة حكميّة ولا تعتبر فيه النيّة إجماعا (١). هذا.

ولكلّ واحد من أصحاب المذاهب الخمسة حجج (٢) ضعيفة تعلم اندفاعها بعد الاضطلاع بما تلوناه عليك من الحقّ الصريح ، من غير حاجة إلى التصريح.

وعلى ما اخترناه فالجواب عن النقض على نوعين :

أحدهما : ما يمنع تحقّقه. وثانيهما : ما يبيّن عدم إفساده للعلّيّة بعد تسليم تحقّقه.

أمّا الأوّل ، فعلى قسمين :

أوّلهما : منع وجود الوصف في صورة النقض ، وهو وارد وفاقا ، كما لو قال : لا زكاة في الحليّ ؛ لأنّه مال غير نام ، كثياب البذلة. فيقول المعترض : ينتقض بالحليّ المحظور ؛ لوجوب الزكاة فيه مع أنّه غير نام أيضا. فيقول المستدلّ : لا نسلّم أنّه غير نام.

ومنه ما لو قال الشافعي في جواب الناقض في مسألة الطهارة : لا نسلّم أنّ إزالة النجاسة طهارة حكمية. وهل للمعترض ـ حينئذ أو ابتداء ـ إقامة الدليل على وجوده؟

قيل : نعم ، إذ به يتحقّق انتقاض العلّة ، وهو قد انتصب لذلك ، فيجوز له أن يبيّن ما يتمّ به إبطال دليل الخصم (٣).

وقيل : لا ، لأنّه انتقال من الاعتراض إلى الاستدلال ، ومن مسألة إلى اخرى قبل أن يتمّ الاستدلال عليها ؛ فإنّ المستدلّ كان بصدد إثبات الحكم في الفرع ، وحينئذ يكون بصدد إثبات عدم وجود الوصف في صورة النقض (٤).

وقيل : إن لم يكن وجود الوصف في صورة النقض حكما شرعيّا ، فنعم ؛ لأنّه يكون

__________________

(١) راجع : المحصول ٥ : ٢٣٧ ـ ٢٥٩ ، وتهذيب الوصول : ٢٥٩ ، والإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٩٢ ـ ٩٦.

(٢) راجع بداية المجتهد ١ : ٨.

(٣) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٩٣ و ٩٤.

(٤) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٥٢.

٥٠٨

تتميما لدليله لا انتقالا إلى مطلوب آخر ، وإلاّ فلا ؛ لكونه انتقالا (١).

وقيل : إن كان له طريق أولى في القدح ، فلا ، وإلاّ فنعم ؛ لأنّ الانتقال وغصب المنصب إنّما ينفيان الاستحسان ، فإذا وجد الأحسن لا يرتكبهما ، وإلاّ فلا منع (٢).

والحقّ الأوّل ؛ لما ذكر. وما ذكر حجّة لباقي الأقوال لا يصلح لإثبات شيء.

وبهذا يظهر أنّ المستدلّ لو كان قد دلّ على وجود العلّة في محلّ التعليل بدليل موجود في محلّ النقض ، ونقض المعترض العلّة ، فمنع المستدلّ وجودها في محلّ النقض ، فقال المعترض : ما دللت به على وجودها ثمّة دلّ عليه هنا ، فينتقض دليلك ؛ لوجوده في محلّ النقض بدون مدلوله وهو وجود العلّة ، يسمع (٣) هذا من المعترض ؛ لأنّ النقض في دليل العلّة نقض في العلّة ، وهو مقصوده. وما اشتهر بين الجدليّين من أنّه لا يسمع منه لأنّه انتقال من قدح العلّة إلى قدح دليلها (٤) ، غير صحيح ؛ لأنّ الانتقال إذا توقّف المطلوب عليه لا منع فيه.

مثاله : إذا قال : من لم يبيّت صحّ صومه ؛ لأنّه أتى ما يسمّى صوما ، ودلّ على وجود الصوم بأنّه الإمساك مع النيّة وهو موجود. فانتقض المعترض بما لو نوى بعد الزوال. فقال المستدلّ : إنّه ليس بصوم. فقال المعترض : ما دللت به على وجود الصوم في محلّ التعليل ـ وهو ثبوت الإمساك مع النيّة في جزء من النهار ـ موجود في مادّة النقض. والخلاف إنّما إذا ادّعى انتقاض دليل العلّة بعينه. أمّا لو قال : يلزم إمّا انتقاض العلّة أو دليلها ، وعلى التقديرين لا يثبت العلّيّة ، لسمع وفاقا ؛ لعدم الانتقال حينئذ.

تذنيب

قد يمكن للمستدلّ أن يذكر في استدلاله قيدا يخرج به محلّ النقض ، وهو قد يكون ظاهرا ، كما إذا قال : الوضوء طهارة عن حدث ، فيفتقر إلى النيّة كالتيمّم ، فلا يرد النقض بإزالة النجاسة.

__________________

(١) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٩٣.

(٢) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٣٧ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٩٣ و ٩٤.

(٣) جواب لـ « لو كان قد دلّ ... ».

(٤) راجع المستصفى : ٣٣٤.

٥٠٩

وقد يكون خفيّا ، كما إذا قال : السلم عقد معاوضة ، فلا يشترط فيه التأجيل كالبيع ، فلا ينتقض بالكتابة ؛ لأنّها ليست معاوضة ، بل عقد إرفاق.

وقد يكون مقولا على معان بالتواطؤ ، أو الاشتراك ، لا يرد النقض ببعضها ويرد ببعضها الآخر. فيمكن للمستدلّ أن يقول : أردت ما لا يرد به النقض.

مثال الأوّل : كما إذا قال : الوضوء عبادة متكرّرة فيفتقر إلى النيّة كالصلاة. فلو قال المعترض : ينتقض بالحجّ ؛ فإنّه متكرّر على زيد وعمر (١). فللمستدلّ أن يقول : أردت بالمتكرّر المتكرّر في الأزمان ، لا في الأشخاص.

ومثال الثاني (٢) : كما إذا قال : طلّقها ثلاثا في قرء واحد ، فلا يكون مبتدعا ، كما لو طلّقها ثلاثا برجعتين في قرء واحد. فلو قال المعترض : ينتقض بما لو طلّقها في الحيض. فللمستدلّ أن يقول : أردت بالقرء الطهر.

ثمّ القيد الذي يندفع به النقض إنّما هو الذي كان وصفا مناسبا. وحينئذ يكون علّة مستقلّة للحكم. ولو كان وصفا طرديّا فالحقّ أنّه لا يندفع به النقض ؛ لأنّ غاية ما في الباب أن يكون جزء العلّة ، فإذا انتقض أحد أجزائها وبيّن عدم تأثيره ، فلا يكون المجموع مؤثّرا. هذا.

والحقّ أنّ ذكر القيد المذكور لا يلزم على المستدلّ في متن استدلاله ، خلافا لجماعة (٣).

لنا : أنّه وفى بما سئل عنه وهو دليل العلّيّة ، والنقض معارضة في الحقيقة ، ونفي المعارض ليس جزءا للدليل.

وأيضا يمكن إيراده ـ وإن ذكره ـ بأن يقول المعترض : هذا وصف طردي والباقي منتقض.

وثانيهما (٤) : منع عدم الحكم في صورة النقض ، كما إذا قال في الثيّب الصغيرة : ثيّب فلا يجوز إجبارها ، كالثيّب البالغة ، فقال المعترض : ينتقض بالثيّب المجنونة ؛ فإنّه يجوز

__________________

(١) وجه النقض أنّ الحجّ عبادة ولا يحتاج إلى النيّة.

(٢) أي الاشتراك اللفظي.

(٣) منهم : الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٥٢ و ٢٥٣ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٩٥ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٧٢ و ١٧٣.

(٤) أي ثاني القسمين وقد تقدّم في ص ٥٠٨.

٥١٠

إجبارها ، فيمنع المستدلّ جواز إجبارها ، وهو وارد وفاقا. وهل يجوز للمعترض أن يدلّ على عدم الحكم؟ البحث فيه كما تقدّم في القسم الأوّل (١) خلافا ودليلا واختيارا.

وأمّا النوع الثاني ، فعلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : إظهار المانع (٢) ـ أي بيان وجود معارض يقتضي خلاف الحكم ـ كما إذا قيل : الربا يثبت في الحديد لكونه موزونا ، فينتقض بالرصاص ، فقيل : المانع البياض.

الثاني : بيان انتفاء الشرط ، كما قيل في المثال : الشرط السواد ، وهو منتف في محلّ النقض ، وهما في المستنبطة.

الثالث : بيان الاستثناء ـ أي تخصيصه بغير محلّ النقض ـ وهو في المنصوصة ، كما في مسألة العرايا وباقي الأمثلة المتقدّمة (٣).

وقد أشرنا إلى أنّ التخصيص أيضا معلّل في الواقع بوجود مانع من مصلحة ، كما في العرايا وضرب الدية على العاقلة. أو دفع مفسدة ، كما في حلّ الميتة للمضطرّ. أو بانتفاء شرط ، كما إذا قيل : يحصل الملك في زمان الخيار لحصول سببه وهو البيع ، فينتقض ببيع الموقوف (٤) ، فيقال : هو مستثنى ؛ لانتفاء الشرط. ولمّا لم يكن المانع أو الشرط معلوما لنا بعينه ، فيلزم أن يقدّر بأن يقال : المصلحة في العرايا ـ مثلا ـ عموم الحاجة إلى الرطب والتمر وقد لا يكون عندهم ثمن آخر ، وفي ضرب الدية على العاقلة كون أوليائه يغنمون بكونه مقتولا ؛ لأنّ شرع الدية لمصلحتهم ، فليغرموا بكونه قاتلا ، ودفع المفسدة في أكل الميتة للمضطرّ هو رفع هلاك النفس ، والشرط المنفيّ في عدم جواز بيع الموقوف كون البائع مالكا للمبيع.

فائدة : كلّ إثبات ونفي عامّين ينتقضان بدعوى النفي عن صورة معيّنة أو مبهمة ، والإثبات فيهما ، وبالعكس.

__________________

(١) في ص ٥٠٦.

(٢) أي إظهار المانع وانتفاء الشرط يجريان في الحكمة المستنبطة.

(٣) في ص ٥٠٧.

(٤) أي الوقف.

٥١١

والجواب : بيان ثبوت التخصيص (١).

[ المبطل ] الثاني (٢) : عدم العكس وهو أن لا يكون العلّة منعكسة ـ أي (٣) كلّما عدمت عدم الحكم ـ بل يثبت الحكم في صورة أو أكثر بدون هذه العلّة ، مثاله : الصبح لا يقصر ؛ فلا يقدّم أذانه كالمغرب ؛ فإنّ الحكم ـ وهو منع التقديم ـ ثابت فيما يقصر.

وقد اختلف في قدحه (٤) للعلّيّة وعدمه على أقوال ، ثالثها : أنّه يقدح في العلل العقليّة دون الشرعيّة (٥).

والحقّ أنّه إن جاز تعليل الحكم بعلّتين مختلفتين أو أكثر لم يقدح فيها ؛ لأنّ انتفاء العلّة وعدم انتفاء الحكم حينئذ لقيام علّة اخرى مقامها ، وإن لم يجز قدح فيها ؛ لأنّ ثبوت الحكم دون هذه العلّة مع عدم جواز تعليله بعلّتين يدلّ على أنّها ليست علّة له ، بل له علّة واحدة اخرى ؛ إذ لو كانت الاولى علّة له ، انتفى أصله بانتفاء علّته عند المصوّبة ؛ إذ كلّ حكم لم يدلّ عليه الدليل ولم يتعلّق به رأي المجتهد ، فليس له ثبوت في الواقع عندهم ، وانتفى العلم أو الظنّ به عند المخطّئة ؛ إذ لا يلزم عندهم من انتفاء دليل الحكم انتفاء أصله ، كما لا يلزم من انتفاء الدلالة العقليّة على الشيء انتفاؤه ، فيمكن عندهم أن لا يوجد الدلالة على حكم وكان ثابتا في الواقع ، إلاّ أنّه لا يقع به التكليف ؛ لاشتراطه بالعلم أو الظنّ والفرض انتفاؤهما حينئذ.

والتحقيق أنّ العلّة لمّا كانت الدليل الباعث على الحكم ، فتكون ملزومة له وهو لازما لها ، فلو لم يجز تعليله بعلّتين وكانت العلّة واحدة ، يكون الحكم لازما مساويا لها ، فينتفي نفسه بانتفائها وإن لم يلزم انتفاء المدلول بانتفاء العلّة على الإطلاق ، فوجوده بدونها يكشف عن القدح في علّيّتها.

فإن قيل : لا قدح ؛ لجواز التخصيص حينئذ ، فإنّ كلّ واحد من العلّة في العلّيّة والحكم

__________________

(١) لمزيد الاطّلاع راجع : المحصول ٥ : ٢٣٧ ـ ٢٥٩ ، والإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٩٢ ـ ٩٦ ، ونهاية السؤل ٤ : ١٤٥ ـ ١٨٣.

(٢) أي للعلّيّة ومرّ المبطل الأوّل للعلّيّة وهو النقض في ص ٥٠٦.

(٣) تفسير للمنفيّ أي الانعكاس دون النفي أي عدم الانعكاس.

(٤) أي عدم العكس.

(٥) راجع : المحصول ٥ : ٢٦١ ، والإحكام في أصول الأحكام ٥ : ٨٩.

٥١٢

في المعلوليّة يكون حينئذ بظاهر عامّ ، فيتأتّى التخصيص من طرف كلّ منهما ، فكما يجوز تخصيص العلّة بغير محلّ النقض ، فكذا يجوز تخصيص الحكم بغير محلّ عدم العكس.

قلت : هذا حقّ ، ولكنّ معنى تخصيص الحكم العامّ أن يجعل العلّة علّة لبعض أفراده دون بعضها الآخر ، وهذا البعض لا بدّ له من علّة اخرى ، فهو يتوقّف على جواز تعليله بعلّتين ، وبدونه لا يجوز ؛ للزوم ثبوت الحكم بدون علّة.

وبما ذكر ظهر أنّ الجواب عن عدم العكس إمّا بيان جواز تعليل الحكم بعلّتين وإسناد ما في محلّ عدم العكس إلى علّة اخرى ، أو بيان التخصيص في الحكم وإن لم ينفكّ هذا عن الأوّل ، كما أنّ تخصيص العلّة لا ينفكّ عن وجود مانع ، أو انتفاء شرط وهو (١) إنّما يتأتّى في المنصوصة ، ووجهه ظاهر ممّا تقدّم (٢) في النقض.

وقد بان ممّا ذكر أنّ استناد الحكم هنا إلى علّة اخرى قائم مقام وجود المانع ؛ أو انتفاء الشرط في النقض.

بقي الكلام في جواز تعليل الحكم بعلّتين أو علل عقلا

وقد اختلف فيه على أقوال (٣) : ثالثها الجواز في المنصوصة دون المستنبطة (٤) ، ورابعها عكسه (٥).

ثمّ بعد الجواز قد اختلف في الوقوع ، فالأكثر (٦) عليه أيضا. وقيل بعدمه (٧).

ومحلّ الخلاف تعليل الحكم الواحد بالشخص ـ أي متّحد المحلّ (٨) ـ بعلّتين أو علل ، كلّ

__________________

(١) أي المبطل الثاني وهو عدم العكس.

(٢) تقدّم في ص ٥٠٦.

(٣) راجع : المحصول ٥ : ٢٧١ ، ونهاية السؤل ٤ : ١٩٥ ، وتمهيد القواعد : ٢٦٦ ، القاعدة ٩٥.

(٤) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٧١ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٩٥ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٦٦ ، القاعدة ٩٥.

(٥) حكاه الغزالي عن القاضي الباقلاني في المستصفى : ٣٣٦ ، ونسبه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٦٦ إلى الفخر الرازي ، ولكنّ كلامه في المحصول ٥ : ٢٧١ ، خلاف لما نسب إليه الشهيد.

(٦) راجع : المحصول ٥ : ٢٧١ ـ ٢٧٨ ، والإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٥٨ ، وتمهيد القواعد : ٢٦٦ ، القاعدة ٩٥.

(٧) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٥٨.

(٨) هذا التفسير لإخراج مسألة استحالة صدور الواحد عن الكثير عمّا نحن فيه ؛ فإنّ الوحدة في تلك المسألة حقيقيّة وفيما نحن فيه غير حقيقيّة ، كما في مثال إباحة وطء امرأة بعينها بالعقد والملك ؛ فإنّ امرأة بعينها لا يمكن أن يباح وطؤها بكليهما إلاّ أن تكون زمانا أمة ، فإباحة وطئها بالملك ، وإذا عتقت وصارت حرّة فإباحة وطئها بالعقد ، فصارت ذات إباحتين ، وهذا ليس صدور الواحد عن الاثنين.

٥١٣

واحدة منهما أو منها مستقلّة باقتضاء الحكم ، كإباحة وطء امرأة بعينها بالعقد والملك مع استقلال كلّ منهما بالعلّيّة ، ووجوب قتل شخص بعينه بالردّة والقصاص كذلك.

دون تعليل الواحد بالنوع ـ أي متغاير المحلّ ـ بهما كإباحة وطء امرأة بالعقد ، واخرى بالملك ؛ فإنّه جائز وفاقا ، ولا تعليل واحد منهما (١) بعلّتين ، أو علل يتركّب عنهما أو عنها مجموع هو العلّة ، وكلّ واحدة منهما أو منها جزؤها ، فإنّه بحث آخر يأتي ذكره (٢).

والمختار عند أكثر أصحابنا الجواز والوقوع في المنصوصة دون المستنبطة (٣).

والحقّ عندي أنّه يجوز فيهما ، إلاّ أنّه في المستنبطة على التسليم (٤) ، ولم يقع إلاّ في المنصوصة.

فهنا ثلاث مقامات :

[ المقام ] الأوّل : في الجواز فيهما

ويدلّ عليه أنّ العلّة إمّا معرّفة أو باعثة ، وعلى التقديرين لا مانع منه.

أمّا على الأوّل ، فلأنّه يجوز أن ينصب الشرع أمارتين أو أمارات لحكم واحد لا يناسبه شيء منهما أو منها ولا يؤثّره فيه ، ولكن كلّ منهما أو منها يصلح لتعريفه.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ الباعث ليس إلاّ المؤثّر في الحكم باشتماله على جهة الحكم المناسبة له ، ويجوز أن يشترك علل مختلفة في جهة واحدة مناسبة لحكم واحد ، فكلّ منها يناسبه ويؤثّر فيه بهذه الجهة.

وبهذا يندفع ما احتجّ به المانعون من أنّه يوجب مناسبة الأشياء المختلفة لشيء واحد ، وهو محال (٥).

__________________

(١) أي الحكم الواحد من الواحد بالشخص والواحد بالنوع.

(٢) يأتي في ص ٥١٥ ـ ٥١٦.

(٣) أي لا الوقوع ولا الجواز. راجع تهذيب الوصول : ٢٦٣.

(٤) والمراد به أنّ الجواز في المستنبطة مبنيّ على تسليم تحقّق العلّة المستنبطة.

(٥) حكاه الباجي في إحكام الفصول : ٥٥٧ ، والفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٧٣ و ٢٧٤ ، والآمدي عن القاضي أبي بكر وإمام الحرمين ( الجويني ) في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٥٨.

٥١٤

فإن قلت : على ما ذكرت يلزم جواز توارد العلل المستقلّة العقليّة على معلول واحد شخصي ، وقد بيّن في الحكمة بطلانه (١).

قلت : العلل العقليّة علل بالذات ، بمعنى أنّ ذات كلّ واحدة منها من حيث هي ـ من غير مدخليّة وجوه المصالح والاعتبارات ـ يستلزم معلولها استلزاما ذاتيّا ، فلا يكون علّيّتها لجهة مصلحة حتّى أمكن أن يشترك فيها عدّة منها ، أو تختصّ بمحالّ دون اخرى لأمر لا يدرك ، وتتغيّر بتغيّر المحالّ ، فيصحّ تعليل شيء واحد بها ، أو يجوز تخلّف المعلول في بعض المحالّ عنها.

والعلل الشرعيّة علل بالوضع ، فيصحّ (٢) أن يكون علّيّتها لوجه حكمة ، فيمكن أن يشترك فيه عدّة منها ، ويختصّ بمحالّ دون اخرى ، فيجوز تعليل حكم واحد بها وتخلّف المعلول عنها في بعضها.

نعم ، يمكن أن يشترك عدّة من العلل العقليّة المركّبة في أمر ذاتي أو عرضي ، وهو علّة مستقلّة لشيء ، فيصحّ تعليله بها وكون كلّ واحدة منها علّة له بهذه الجهة ، ولم يبيّن في الحكمة بطلان هذا القسم.

فإن قلت : فالعلّة حينئذ واحدة في الحقيقة ؛ لاستناد الحكم فيها بالحقيقة إلى ما به الاشتراك ، وهو واحد.

قلت : الأمر وإن كان كذلك إلاّ أنّ الشرع والعرف لمّا أطلقا العلّيّة عليها دون ما به الاشتراك ، فجرينا على إطلاقهما ، فلا معنى لتعدّد (٣) العلل هنا إلاّ ذلك ، وغيره لا يجوّزه (٤) ؛ ومنع التسمية يجعل النزاع لفظيّا.

[ المقام ] الثاني : في وقوعه في المنصوصة

ويدلّ عليه جعل الشارع كلّ واحدة من الردّة والقصاص علّة مستقلّة لقتل شخص

__________________

(١) حكاه ابن الباجي في إحكام الفصول : ٥٥٨ ، وكشف المراد : ١١٦.

(٢) في « ب » : « فيصلح ».

(٣) في « أ » و « ب » : « بتعدّد ». ولكنّ الصحيح ما أثبتناه.

(٤) أي العقل ، أو كون الكلمة « لا يجوز ».

٥١٥

واحد ، وكلّ واحد من أسباب الوضوء علّة مستقلّة له ، وكلّ واحد من الإيلاء والظهار علّة مستقلّة لتحريم امرأة واحدة ، وكلّ واحد من الصغر والجنون علّة كذلك لثبوت الولاية لشخص واحد. وغير ذلك ، كتحريم امرأة واحدة بالاعتداد ، والحيض ، وبالإرضاع ، وكونها والدة. ونظائرها كثيرة منتشرة في مصنّفات الفقه (١). ولا ريب أنّ الحكم فيها واحد بالشخص ؛ لاتّحاد محلّه ، وكلّ واحدة من العلل علّة مستقلّة له ؛ لثبوت الحكم به (٢) ، وهو معنى الاستقلال.

والإيراد بأنّا لا نسلّم كون الحكم فيها واحدا بالشخص مع أنّه هو المبحث ؛ لأنّ القتل بالردّة ـ مثلا ـ غير القتل بالقصاص ؛ فإنّ أحدهما قد يبقى وينتفي الآخر ، وبالعكس (٣) ، كما يبقى القتل بالردّة ، وينتفي القتل بالقصاص بالعفو ، وبالعكس بالتوبة ، وتغاير علّة العدم يستلزم تغاير علّة الوجود (٤) ، واه (٥) ؛ لأنّ أمثال هذه الاعتبارات لا توجب تعدّد الحكم المتّحد المحلّ. كيف؟! ولو تعدّد بها ، لتعدّد بإضافته إلى الأدلّة المختلفة ؛ لأنّ ما به الاختلاف فيما ذكر ليس إلاّ ذلك ، مع أنّ إضافته إلى أحد الدليلين تارة وإلى الآخر اخرى لا توجب التعدّد ، وإلاّ لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط ، وجاز أن ينتفي أحدهما ويبقى الآخر.

وبالجملة ، فتح هذا الباب يؤدّي إلى اختلاف الأحكام بصرير الباب ونعيق الغراب.

[ المقام ] الثالث : في عدم وقوعه في المستنبطة

وهو ظاهر ؛ لأنّ المراد من الوقوع وقوعه من الشرع لا من أهل الاجتهاد ، وإذا وقع منه ، يكون من التعليل في المنصوصة. هذا.

واحتجّ المانعون بأنّ المبحث توارد العلل المستقلّة على محلّ واحد (٦) ، وهو لا يتصوّر

__________________

(١) راجع : بداية المجتهد ١ : ٥٠ ، والتمهيد للإسنوي : ٤٨١ ، وتمهيد القواعد : ٢٦٧ و ٢٦٨ ، القاعدة ٩٥.

(٢) التذكير باعتبار الكلّ.

(٣) ليس لقوله : « وبالعكس » مجال هنا.

(٤) أورده الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٥٩ و ٢٦٠.

(٥) « واه » خبر لقوله : « والإيراد ».

(٦) فيه ردّ للمصنّف في تحرير محلّ النزاع ؛ فإنّ الملاك عند المصنّف وحدة محلّ الحكم وإن كان الحكم اثنين أو أكثر ، وعند هذا المانع هو وحدة المعلول ومورد العلّة ، فيرجع النزاع إلى كونه لفظيّا ومبنائيّا. وخلاصة المنع أنّ العلل لا بدّ وأن يكون كلّها مؤثّرا وكان تأثيرها بالاستقلال مع وحدة المعلول ، وفي كلّ فرض ينتفي أحد هذه الامور الثلاثة.

٥١٦

هنا ؛ لأنّها إمّا تقع بالترتيب مع حدوث الثانية بعد حصول الحكم بالاولى وزواله عن المحلّ ، كأن يحدث النوم بعد حدوث الحدث بالبول وزواله عن المحلّ ، فيتعدّد الحكم ؛ لأنّ الحادث غير الزائل ، أو قبل زواله عنه ، فيحصل الحكم بالاولى.

أو تقع دفعة ، فيحصل الحكم بالمجموع ، بأن يكون كلّ منها جزءا ، أو بواحد مبهم أو معيّن على (١) سبيل التحكّم أو الترجيح ، بأن يكون بعض منها أولى بالعلّيّة ، كما يقال : التعليل بالقصاص أولى من التعليل بالردّة عند اجتماعهما ؛ لتقدّم حقّ الآدميّ على حقّ الله.

ولا يمكن أن يحصل الحكم بكلّ واحدة منها على الاستقلال على التقديرين الأخيرين (٢) و (٣).

أمّا أوّلا : فللزوم التناقض من وجهين :

أحدهما : لزوم الاستقلال وعدمه ؛ لأنّ معنى استقلال العلّة ثبوت الحكم بها دون غيرها (٤) ، والفرض أنّه يثبت بغيرها دونها ؛ لاستقلاله أيضا.

وثانيهما : لزوم ثبوت الحكم بكلّ منها وعدمه ؛ إذ استقلال كلّ منها يوجب ثبوت الحكم به بدون الآخر ، فيثبت الحكم بكلّ ولا يثبت به.

وأمّا ثانيا : فللزوم اجتماع الأمثال في محلّ واحد ، أو نقض العلّة ، أو اتّحاد الاثنين ؛ لأنّ كلّ واحدة منها إن أوجب مثل ما يوجبه الآخر لزم الأوّل ، وإن أوجب خلافه أو لم يوجب شيئا لزم الثاني ؛ لوجود العلّة دون الحكم ، وإن أوجب ما يوجبه الآخر بعينه لزم الثالث ؛ لبداهة اثنينيّة ما يصدر عن الاثنين مع استقلال كلّ منهما فيما يصدره. وفي صورة الترتيب يلزم تحصيل الحاصل أيضا.

واجيب عنه : بأنّ كلّ واحدة منها علّة مستقلّة للحكم على جميع التقادير ، ولا يلزم ما ذكر ؛ لأنّه إنّما يلزم إذا كانت العلّة المستقلّة عقليّة وهي ما يفيد وجود شيء ، وأمّا إذا كانت شرعيّة ـ وهي ما يفيد العلم به ـ فلا ؛ لأنّها بمعنى الدليل ، ويجوز اجتماع الأدلّة على مدلول

__________________

(١) هذا قيد للمعيّن.

(٢) هما : وقوعها دفعة ، ووقوعها بالتدريج والترتيب مع عدم زوال الحكم الحادث بالاولى.

(٣) قاله الغزالي في المستصفى : ٣٣٦ و ٣٣٧ ، والفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٧١ و ٢٧٢.

(٤) ما ذكره هو معنى حصر العلّة دون استقلالها.

٥١٧

واحد بأن يكون كلّ منها علّة مستقلّة للعلم به (١).

وفيه نظر ؛ لمنع كون العلل الشرعيّة أدلّة محضة ؛ فإنّ الحقّ ـ كما عرفت (٢) ـ أنّها بواعث للحكم ، مؤثّرة فيه ، فيلزم ما ذكر (٣) ؛ على أنّه يلزم في اجتماع الأدلّة على مدلول واحد أيضا ؛ فإنّه لو أفاد كلّ واحد منها بالاستقلال علما بمعلوم واحد في محلّ واحد دفعة ، أو بالترتيب ، لجرى فيه ما ذكر من دون تفاوت.

فالجواب الحقّ : أنّ معنى استقلالها ليس ثبوت الحكم بها في الواقع على جميع التقادير ، بل إنّها إذا وجدت منفردة يثبت الحكم بها ، ففي حالة الانفراد وما في معناه ـ أي عند الترتيب مع حصول الثانية بعد زوال معلول الاولى ـ يثبت الحكم بها بالاستقلال ، وفي الترتيب مع حصول الثانية قبل زواله يثبت الحكم بالاولى ولا تأثير للثانية ، وعند الاجتماع الدفعي يحصل الحكم بالمجموع ، ويكون كلّ منها جزءا ؛ لأنّ حصوله بكلّ منها بالاستقلال يوجب ما ذكر (٤) ، وحصوله بواحد مبهم أو معيّن يوجب التحكّم ؛ وترجيح معيّن بأمثال ما ذكر (٥) والتعليل به فاسد ؛ لأنّها لم تعتبر حجّة شرعا في أمثال المقام.

فإن قيل : إطلاق القول بأنّ كلّ واحدة منها علّة مستقلّة ينافي ثبوت الحكم به وبغيره (٦) إذا وجدت غير منفردة ، وتخصيص ثبوته به بالاستقلال عند الانفراد.

قلت : لمّا كان ثبوت الاستقلال على (٧) تقدير الانفراد أمرا ثابتا عند الاجتماع ، بل عند العدم أيضا ، فسمّي (٨) بالاستقلال عندهما أيضا مجازا ، ولو منع هذه التسمية ، لصار النزاع لفظيّا.

وممّا ذكر ظهر أنّ خير الأقوال (٩) في الخلاف الذي وقع بين القائلين بتعدّد وقوع العلل

__________________

(١) الجواب للفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٧٤ ـ ٢٧٦.

(٢) في ٥١٤ ـ ٥١٥.

(٣ و ٤) والمراد بما ذكر هو اجتماع النقيضين ، المذكور آنفا.

(٣ و ٤) والمراد بما ذكر هو اجتماع النقيضين ، المذكور آنفا.

(٥) والمراد هو تقدّم حقّ الآدميّ على حقّ الله.

(٦) وجود المعلول بكلّ واحد منهما لا ينافي الاستقلال بل ينافي الانحصار كما مرّ.

(٧) متعلّق بالاستقلال دون الثبوت ، بل الظاهر زيادة كلمة « ثبوت » والمراد هو وجود الاستقلال الفرضي عند الاجتماع.

(٨) أي سمّي التأثير بالاستقلال عند الاجتماع والعدم مجازا.

(٩) التي تقدّمت في ص ٥١٦.

٥١٨

المستقلّة ـ بأنّها إذا اجتمعت دفعة ، فهل كلّ واحدة منها علّة مستقلّة ، أو كلّ واحدة جزء والعلّة المجموع ، أو العلّة واحدة لا بعينها؟ ـ أوسطها.

واحتجّ المفصّل الأوّل (١) على الجواز في المنصوصة بما مرّ (٢) ، وهو لا ينافي ما ذهبنا إليه.

وعلى عدمه في المستنبطة بأنّه إذا اجتمعت أوصاف صالحة للعلّيّة ، فظنّ ثبوت الحكم لأحدهما (٣) أو للمجموع يصرفه عن كلّ واحدة منها ، ولا نصّ يعيّن أحدها ، وإلاّ رجعت منصوصة ؛ فالحكم بعلّيّة كلّ واحدة منها دون واحدة منها ، أو الجزئيّة تحكّم.

وجوابه : إمكان استنباط استقلال علّيّة كلّ واحدة منها بالعقل عند الانفراد (٤) ، بأن يحكم بترتّب الحكم عليه وحده ، فلا تحكّم عنده ، وأمّا عند الاجتماع الدفعيّ ، فيحكم بالجزئيّة دون العلّيّة ، كما ذكر (٥).

واحتجّ المفصّل الثاني على الجواز في المستنبطة بأنّها وهميّة ، فربّما وجدت أوصاف صالحة للعلّيّة ولم يترجّح بعضها على بعض ؛ فيحصل الظنّ بعلّيّة كلّ منها ، وهو لا ينافي ما ذكرناه.

وعلى عدمه في المنصوصة بأنّها قطعيّة ـ أي عيّن الشرع ما هو الباعث ـ فلا يقع فيه التعارض والاحتمال (٦).

وجوابه : أنّه يجوز أن يتعدّد البواعث ، فيعيّن الشرع كلاّ منها ، واجتماعها بتعيّنه لا يوجب تعارضا ولا احتمالا.

واحتجّ القائل بالجواز دون الوقوع بأنّه لو وقع لنقل ولم ينقل ، وادّعى تعدّد الأحكام في الصور المذكورة (٧).

ولا أدري ما دليله على دعواه؟ والتجويز لا يكفيه ؛ لأنّه مستدلّ ، فهي حجّة عليه.

__________________

(١ و ٢) تقدّم في ص ٥١٣. والمفصّل هو الغزالي في المستصفى : ٣٣٦ و ٣٣٧.

(٣) كذا في النسختين. والظاهر : لأحدها أي الأوصاف.

(٤) والمراد به عدم الاجتماع الدفعي وهو الوقوع بالترتيب.

(٥) تقدّم آنفا.

(٦) تقدّم في ص ٥١٣ ، ونسبه المطيعي إلى إمام الحرمين ( الجويني ) في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ١٩٥.

(٧) قالهما ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٧٦.

٥١٩

واعلم أنّ ما صرّح به هذا القائل هو أنّه يجوز التعدّد عقلا ، ولا يجوز شرعا.

واستدلّ على عدم الجواز الشرعيّ بأنّه لو جاز شرعا لوقع ، ولو وقع لنقل ... إلخ (١).

وهذا كما ترى ليس عين ما نسبناه إليه اقتفاء للقوم ، بل ما يلزمه.

وإذا عرفت ذلك ، فيتفرّع عليه أنّ عدم العكس لا يقدح في العلّيّة.

وممّا يتفرّع عليه أنّه إذا صادف نذران زمانا واحدا ، كما لو نذر صوم سنة معيّنة ، ثمّ صادف بعض أيّامها نذر آخر ، أن يجزئ صومه عنهما على ما اخترناه. وعلى القول بعدم اجتماع العلل ، لصومه عن النذر الأوّل ويقضي الثاني.

ومثله ما لو قال : « لو قدم زيد فعليّ صوم يوم قدومه » ثمّ قال : « لو قدم عمرو فكذا » فقدما معا في يوم واحد.

ويتفرّع عليه أيضا حصول الحنث بحدث البول ـ مثلا ـ لو حلف أن لا يقع عنه في زمان كذا حدث.

ومن فروعه : ما لو حدث منه أحداث دفعة أو بالترتيب ، ثمّ نوى عند الوضوء رفع بعضها ، وفيه أقوال : ثالثها : يكفي إن نوى الأوّل ، ورابعها : عكسه ، وخامسها : إن نفى غير المنويّ لم يكف ، وإلاّ كفى (٢).

وعلى ما اخترناه لا يخفى حقيقة الحال ، إلاّ أنّ الأصحّ هنا أنّه يكفي مطلقا ؛ لأنّ المرتفع حكم الحدث وهو واحد وإن تعدّدت أسبابه.

وممّا فرّع عليه صدق المخبر الواطئ لامرأتين ، المغتسل عن الجنابة بأنّه لم يغتسل عن الوطء الثاني بناء على القول بأنّ المؤثّر هو الأوّل. وقس عليها أمثالها.

تتميم

هل يجوز عكس ما تقدّم (٣) ، وهو تعليل حكمين أو أحكام بعلّة واحدة؟

فيه تفصيل ، وهو أنّ الأحكام إمّا متماثلة ، أو متضادّة ، أو مختلفة غير متضادّة.

__________________

(١) قالهما ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٧٦.

(٢) حكاها الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٦٧ و ٢٦٨ ، القاعدة ٩٥.

(٣) تقدّم في ص ٥١٣.

٥٢٠