أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

والقول بجريان عادة الله (١) بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب ، واه بعد ما ذهبوا إليه.

ومنها : أنّه يلزم حينئذ إفحام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رؤية معجزته بتجويز تمكين الكاذب ، أو قبل رؤيتها إذا طلب من المكلّفين الرؤية ولم يريدوها ؛ ووجه اللزوم ظاهر.

[ الأمر ] الثاني : استدلّ الأشاعرة على مذهبهم بأنّ أفعال العباد اضطراريّة ، وحينئذ ينتفي الحسن والقبح العقليّان (٢).

والجواب : منع كونها اضطراريّة ، كما ثبت في محلّه.

وبقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )(٣) ؛ حيث دلّ على أنّ التعذيب لا يكون قبل البعثة مع لزومه قبلها على القول بالحسن والقبح العقليّين.

والجواب : أنّ نفي فعليّة العذاب لا ينافي الاستحقاق ؛ لجواز العفو بدون البعثة. أو المراد نفي التعذيب بالأوامر الشرعيّة بدون البعث دون ما يقتضيه العقل. أو المراد التعذيب الدنيوي. أو المراد من الرسول العقل كما قيل (٤). وبعض هذه الوجوه وإن كان مخالفا للظاهر إلاّ أنّه يمكن إجراؤه في النقل الذي كان في الظاهر مخالفا للقطعيّات العقليّة.

ويمكن أن يقال : التعذيب على الوجوب والحرمة الشرعيّين دون العقليّين ، فالحسن والقبح العقليّان يوجبان المدح والذمّ ، لا الثواب والعقاب ، وهما من مقتضيات الحسن والقبح الشرعيّين ، إلاّ أنّ في هذا كلاما ستعرف (٥) إن شاء الله.

هذا ، مع أنّ الشيعة يقولون : لا يخلو زمان عن حجّة ، فكلّ عصر يكون مسبوقا بالحجّة ، فالتعذيب بسبب إدراك العقول يكون بعد البعثة البتّة ، ويتأتّى هذا القول على مذهب غير الشيعة أيضا ؛ لأنّ آدم عليه‌السلام رسول وهو سابق الأعصار كلّها (٦).

__________________

(١) كما هو شعار المجبّرة.

(٢) راجع المحصول ١ : ١٢٤ و ١٢٥.

(٣) الإسراء (١٧) : ١٥.

(٤) نسبه السيّد ضياء الدين الأعرج إلى العلاّمة في منية اللبيب : ١٩.

(٥) في ص ١٠٢ ، الأمر الرابع.

(٦) قاله الفاضل التوني في الوافية : ١٧١ و ١٧٢.

١٠١

واستدلّوا أيضا بأنّ الحسن والقبح العقليّين ينفيان اختيار الله تعالى (١).

وجوابه بديهي.

[ الأمر ] الثالث : اختلف القائلون بالحسن والقبح العقليّين بأنّ الحسن والقبح هل هما ذاتيّان للفعل ـ أي من مقتضيات ذات الفعل من حيث هي هي ـ أو يقتضيهما الأوصاف اللازمة للفعل ، أو الوجوه والاعتبارات الإضافيّة العارضة له ، أو المقتضي لهما القدر المشترك بينها وأعمّ من كلّ منها أي يختلف الأفعال في مقتضي حسنها وقبحها ، ففي بعضها الذات ، وفي بعضها الأوصاف اللازمة ، وفي بعضها الاعتبارات الإضافيّة (٢)؟

ويدلّ على بطلان القولين الأوّلين : جواز النسخ. وصيرورة القبيح حسنا بالاعتبارات ، كالكذب إذا كان فيه مصلحة ، وقد يجب إذا كان فيه إنقاذ نبيّ من القتل ، وكذا العكس. ولزوم اجتماع النقيضين على القول بهما إذا قال : « لأكذبنّ غدا » ؛ لأنّه لو صدق أحد كلاميه ـ اليوميّ ، أو الغديّ ـ كان حسنا ؛ لصدقه ، وقبيحا ؛ لكذبه.

والمذهب الثالث أيضا باطل ؛ لأنّا نعلم جزما أنّ بعض الأفعال حسن لذاته ، كمعرفة الله ، ولا يصير قبيحا بوجه من الوجوه. وبعضها قبيح لذاته ، كالشرك والجهل وقتل الأنبياء ، ولا يصير حسنا مطلقا.

فالحقّ : المذهب الأخير.

[ الأمر ] الرابع : قد أشرنا (٣) إلى أنّ الحسن والقبح العقليّين غير الحسن والقبح الشرعيّين ، فإنّ الواجب العقلي ما يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ، والحرام العقلي ما يستحقّ فاعله الذمّ. وقس عليهما المستحبّ والمكروه العقليّين.

والواجب الشرعي ما يستحقّ تاركه العقاب وفاعله الثواب ، والحرام الشرعي ما يستحقّ فاعله العذاب.

__________________

(١) راجع : العدّة في أصول الفقه ١ : ٢٥ و ٢٦ ، والبحر المحيط ١ : ١١١ ـ ١١٤.

(٢) المصدر.

(٣) في ص ١٠١ ، « ويمكن أن يقال ... ».

١٠٢

والمطلوب هنا بيان أنّ الوجوب والحرمة (١) العقليّين هل يستلزمان الشرعيّين ، أم لا؟

وجه الاستلزام : أنّ الحرام العقلي لا بدّ أن يكون مذموما عند كلّ عاقل وحكيم ، والواجب العقلي لا بدّ أن يكون ممدوحا كذلك ، فالحرام العقلي لا بدّ أن يكون مكروها ممقوتا عند الله ، وهذا معنى استحقاق عذابه (٢). وقس عليه الواجب العقلي.

وأيضا القطع بعدم العقاب على المحرّمات العقليّة مستلزم لإغراء المكلّفين على القبائح ، وهو قبيح من الله تعالى.

ووجه عدم الاستلزام : قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ )(٣) إلى آخره ، والأخبار الدالّة على أنّ التكليف لا يكون إلاّ بعد البعث (٤) ، وما ورد من قولهم عليهم‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (٥).

وقد عرفت الجواب عن الآية (٦). ومنه يظهر الجواب عن الأخبار. فالحقّ الاستلزام.

ولو لا ذلك لم يكن للعقل مدخليّة في إدراك أحكام الله تعالى مطلقا ، مع أنّه يمتنع الإدراك بدونه ، كما لا يخفى.

نعم ، قد يغلط بعض العقول ، والمناط العقل الصحيح ، فجميع الأحكام الشرعيّة موافقة لمقتضيات العقول الصحيحة ، إلاّ أنّ عقول أمثالنا قاصرة عن إدراك جميعها ، وأحدهما مستلزم للآخر وإن خفي في البعض على بعض العقول.

تقسيم

كلّ واحد من الواجب والمستحبّ قد يوصف بكونه أداء ، أو إعادة ، أو قضاء ، أو تقديما.

فالأداء ما فعل في وقته المقدّر له شرعا أوّلا ، ولم يسبق بآخر مشتمل على نوع من الخلل.

__________________

(١) في « ب » : « الواجب والحرام ».

(٢) في « ب » : « عقابه ».

(٣) الإسراء (١٧) : ١٥.

(٤) منها : ما في الكافي ١ : ١٦٢ ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة ، ح ١ ، و ١٦٤ ، باب حجج الله على خلقه ، ح ٢ ، والتوحيد : ٤١٤ ، باب التعريف والبيان والحجّة ، ح ١١.

(٥) الفقيه ١ : ٣١٧ ، ح ٩٣٧.

(٦) تقدّم في ص ١٠١.

١٠٣

والإعادة ما فعل ثانيا لخلل في الأوّل. وقيل (١) : لعذر.

وفائدة هذا الخلاف أنّ من صلّى منفردا ثمّ صلّى ثانية جماعة ، يصدق على صلاته الثانية أنّها إعادة على الثاني ؛ لأنّ طلب الفضيلة عذر ، ولا يصدق عليها الإعادة على الأوّل ؛ إذ لم يكن في صلاته الاولى خلل.

والقضاء ما فعل بعد الوقت المذكور بأمر جديد ؛ استدراكا لما وجب سابقا على المستدرك أو مطلقا ، فعبادة النائم والحائض بعد التيقّظ والطهارة قضاء على الثاني ؛ لسبق الوجوب في الجملة ، وليست بقضاء على الأوّل ؛ لعدم وجوب شيء عليهما في حال النوم والحيض.

والحقّ الشقّ الثاني ؛ لأنّ بعض أفراد القضاء سبق له وجوب على المستدرك ، وبعضها لم يسبق له وجوب عليه ، والمناط ورود الأمر الجديد.

والتقديم ما فعل قبله بإذن.

وفائدة قولنا : « شرعا » في تعريف الأداء ظاهرة. وفائدة قولنا : « أوّلا » إخراج ما فعل في وقته الثاني ، كقضاء رمضان ؛ فإنّ الوقت مقدّر له ـ أعني ما قبل رمضان الذي بعده ـ إلاّ أنّه وقت ثان ، فلا يكون أداء بل قضاء ، وقيد الأخير لإخراج الإعادة ، وهذا بناء (٢) على أن يكون قولنا : « أوّلا » متعلّقا بالمقدّر ، وإن كان متعلّقا بقولنا : « فعل » لا يحتاج التعريف إلى القيد الأخير ؛ لخروج الإعادة حينئذ من (٣) قولنا : « أوّلا ».

ثمّ بناء هذه التعريفات على أنّ الأداء يجب أن يفعل في الوقت ابتداء ، والإعادة يجب أن يفعل في الوقت ثانيا باعتبار وقوع الخلل في الأوّل ، فيتحقّق المباينة الكلّيّة بين المفهومات الأربعة ؛ لعدم التصادق بينها.

وبعضهم اكتفى في الأداء بوقوعه في الوقت مطلقا (٤) ، أي سواء فعل ابتداء أو ثانيا لخلل في الأوّل. وعلى هذا يكون الإعادة قسما من الأداء ، ويتحقّق بينهما عموم وخصوص مطلقا.

__________________

(١) راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : ٣٤.

(٢) مرفوع لأنّه خبر.

(٣) أي من جهة قولنا.

(٤) قاله الفخر الرازي في المحصول ١ : ١١٦.

١٠٤

وبعضهم (١) لم يعتبر في الإعادة وقوعها في الوقت ، بل قال : هي ما يفعل ثانيا لخلل في الأوّل ، سواء وقع في الوقت أو خارجه. وعلى هذا يكون بينها وبين كلّ من الأداء والقضاء عموم وخصوص من وجه.

والحقّ أنّ بين المفهومات الأربعة مباينة كلّيّة ، وكلّ واحد منها قسيم للبواقي ، كما ذهب إليه الأكثرون (٢).

وما قال بعضهم : إنّ الإعادة قسم من الأداء في مصطلح القوم (٣) ، خطأ.

ويتفرّع على هذا التقسيم فروع :

منها : أنّه إذا أحرم رجل بالحجّ في عام ، ثمّ أفسده وحجّ في عام آخر ، يكون حجّه قضاء ويجب عليه أن ينوي القضاء ؛ لأنّه بمجرّد إحرامه في العام الأوّل وجب عليه الحجّ مضيّقا في هذا العام ، فيكون وقته المقدّر له ، فبعده ليس وقته.

واحتمل بعضهم كون حجّه في العام الآخر أداء (٤) ؛ لأنّ المضايقة المذكورة ليست توقيتا حقيقيّا.

والحقّ الأوّل ، كما ذهب إليه أصحابنا (٥).

ومنها : إذا أحرم بالصلاة في الوقت ثمّ أفسدها وأحرم بها ثانيا في الوقت وأتمّها ؛ فإنّها ـ على ما ذكر ـ تكون قضاء ؛ لأنّه إذا أحرم بها ابتداء يتضيّق وقتها ، ولذا لا يجوز قطعها.

والحقّ أنّ الإتيان بها ثانيا ليس قضاء ، كما ذكره بعض المحقّقين (٦). وقس عليهما نظائرهما.

فصل [٣]

الحكم الوضعي ينقسم إلى خمسة أقسام : السبب ، والشرط ، والمانع ، والصحّة ، والبطلان.

__________________

(١) قاله العلاّمة في مبادئ الوصول إلى علم الأصول : ٨٦.

(٢) في « ب » : « أكثرون ».

(٣) نسبه المطيعي إلى العضدي واختاره أيضا في سلّم الوصول ، المطبوع مع نهاية السؤل ١ : ١٠٩.

(٤) قاله الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٤٣ ، القاعدة ٦.

(٥) راجع المصدر.

(٦) نقله الأسنوي عن أبي إسحاق الشيرازي في التمهيد : ٦٤ ، وذهب إليه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٤٤ ، القاعدة ٦.

١٠٥

والعلّة والعلامة مردودتان إلى الأوّل ، والإجزاء وعدمه إلى الأخيرين.

والسبب لغة : ما يتوصّل به إلى أمر ما (١). وعرفا قد عرّف بتعريفات أشهرها : ما يلزم من وجوده الوجود ، ومن عدمه العدم ، لذاته (٢). فبالتلازم في الوجود يخرج الشرط ، وبالتلازم في العدم يخرج المانع ، واحترز بالقيد الأخير عن مقارنة السبب لعدم الشرط ، أو وجود المانع ؛ فإنّه لا يلزم حينئذ من وجوده الوجود ، لكن من حيث الذات مستلزم لذلك ، وعن قيام سبب آخر مقامه ؛ فإنّه لا يلزم حينئذ من عدمه العدم ، إلاّ أنّه من حيث الذات أيضا مستلزم لذلك.

وتعريف السبب بأنّه كلّ وصف ظاهر منضبط يكون معرّفا لإثبات حكم شرعي ، أو مناطا لوجوده (٣) ، يخصّ السبب الشرعي دون العقلي والعادي.

هذا ، والسببيّة إمّا وقتيّة ، كزوال الشمس لوجوب الصلاة ؛ فإنّ لله عند الزوال حكمين : وجوب الصلاة ، وسببيّة الوقت له.

أو معنوية ، كالزنى لوجوب الجلد ، والإسكار للتحريم ، وجميع أسباب العقوبات والضمان والملك.

ثمّ الحقّ : ـ على ما هو المشهور ـ أنّ عدم (٤) الشرط إذا قارن السبب لا يمنع السببيّة ، بل يمنع تنجيز حكمه ؛ فإنّ المظاهر إذا علّق الظهار على دخول بلد مثلا ، فلا شكّ في أنّه يصدق على الظهار عند عدم الدخول أنّه سبب للحرمة إلاّ أنّه لم يؤثّر بعد ؛ لعدم تحقّق الشرط.

والشيخ على أنّ المقارنة المذكورة تمنع السبب عن السببيّة (٥).

وهو تكلّف ؛ فإنّ تحقّق التأثير ليس معتبرا في مفهوم السبب ، بل هو معتبر في مفهوم الموجب. وبهذا يفرّق بينهما.

__________________

(١) المصباح المنير : ٢٦٢ ، « س ب ب ».

(٢) قاله الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٣٨ ، القاعدة ٣.

(٣) راجع القواعد والفوائد ١ : ٣٩ ، القاعدة ٩.

(٤) كذا في النسختين. ولكنّ الصحيح أن يقال : « الشرط إذا دخل على السبب » كما في قواعد الأحكام ١ : ١٨٤.

(٥) المبسوط ٥ : ١٥٤. واستظهره عنه الشهيد في القواعد والفوائد ١ : ١٨٤ ، القاعدة ٥١.

١٠٦

وفائدة هذا الخلاف أنّ البيع بشرط الخيار يصير سببا لنقل الملك في الحال ، والخيار إنّما أثّر في تأثير (١) حكم السبب ، أعني اللزوم.

وعلى قول الشيخ يلزم أن لا يكون البيع بشرط الخيار سببا للنقل ؛ لأنّ البيع سبب له ، ولكن قارنه عدم الشرط ، فيخرج عن السببيّة.

وقس عليه ما يناسبه.

والشرط ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ، لذاته ، ولا يشتمل على شيء من المناسبة. فخرج بالأوّل المانع ، وبالثاني السبب ، وبالثالث يدخل الشرط إذا قارن وجوده وجود السبب ، أو المانع ؛ فإنّه يلزم حينئذ الوجود أو العدم لكن لا لذات الشرط ، بل لأجل السبب والمانع ، وبالرابع يخرج جزء العلّة.

والمانع ما يلزم من وجوده العدم ، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته. والقيد الأخير احتراز عن مقارنة عدمه لوجود السبب ، أو عدم الشرط.

وتعريفه بـ « أنّه كلّ وصف منضبط رافع لحكم شرعي » (٢) ، يخصّ المانع الشرعي.

ثمّ المانع إمّا مانع للسبب ، كالابوّة بالنسبة إلى اشتراء الأب ، الذي هو سبب للتملّك ودوامه ، أو مانع للحكم ، كالابوّة أيضا بالنسبة إلى قصاص الأب إذا كان قاتلا لابنه.

وأمّا الصحّة والبطلان ، فإمّا أن يستعملا في المعاملات ، أو في العبادات.

ووقع الوفاق على أنّ الصحّة في المعاملات ترتّب الأثر الشرعي ، ( والبطلان ما قابله. وهذا القسم من الصحّة والبطلان ) (٣) هو الذي عدّ من أحكام الوضع ؛ فإنّ ترتّب الملكيّة ، وجواز التصرّف على البيع ، واستيفاء المنافع على الإجارة إنّما هو بوضع الشارع وحكمه ، ففي البيع الصحيح مثلا حكمان من أحكام الوضع : أحدهما : سببيّة البيع للملك. وثانيهما : ترتّب الملك على ( البيع. وهما متغايران ؛ فإنّه يصدق على ) (٤) البيع أنّه سبب للنقل والملك وإن لم يترتّبا عليه ، فيظهر منه أنّ الصحّة والبطلان خارجان عن حقيقة البيع.

__________________

(١) كذا في النسختين ، ولعلّ الأصوب : « تأخير ».

(٢) القواعد والفوائد ١ : ٦٦ و ٦٧ ، القاعدة ٣٦ و ٣٧.

(٣) ما بين القوسين لم يرد في « ب » وفيه زيادة « و » قبل كلمة « هو ».

(٤) ما بين القوسين لم يرد في « ب ».

١٠٧

وأمّا الصحّة في العبادات ، فالمتكلّمون (١) على أنّها موافقة أمر الشارع ، والبطلان ما قابله. والفقهاء (٢) على أنّها ما أسقط القضاء ، والبطلان ما قابله.

وفائدة الخلاف في الصلاة بظنّ الطهارة إذا ظهر خلافه ؛ فإنّها توصف بالصحّة على الأوّل دون الثاني.

والظاهر أنّ التعريف الأوّل أقرب إلى الصواب ؛ لأنّ المراد ممّا أسقط القضاء في التعريف الثاني إن كان أنّ له قضاء إلاّ أنّه أسقطه ، فينقض بصلاة العيد إذا كانت صحيحة ؛ فإنّه ليس لها قضاء أصلا ، وبالنذر المطلق والقضاء نفسه ؛ وإن كان المراد منه أنّه لا يوجب القضاء ـ سواء كان له قضاء وأسقطه ، أو لم يكن له في الواقع قضاء ـ فينتقض بصلاة العيد إذا كانت فاسدة ؛ فإنّه ليس لها قضاء (٣) ، مع أنّه على التعريف يلزم أن يكون لها قضاء.

واورد على التعريف الأوّل بأنّ الختان ـ مثلا ـ يوصف بكونه موافقا للشريعة مع عدم اتّصافه بالصحّة (٤).

وفيه منع عدم الاتّصاف.

والحقّ : أنّ الصحّة والبطلان في العبادات بالمعنيين ليسا من أحكام الوضع ؛ لأنّ كون الفعل موافقا لأمر الشارع ، أو غير موافق له ، أو تمام ما أمر به الشارع حتّى يكون مسقطا للقضاء ، أو غيره ممّا يدركه العقل ، ولا يحتاج إلى وضع الشارع ، فلا يكون من أحكام الوضع ، بل هو عقليّ محض.

نعم ، إن فسّر الصحّة في العبادات أيضا بترتّب الأثر الشرعي ، والبطلان بما قابله ـ كما احتمله بعض المحقّقين (٥) ـ أمكن القول بكونهما من أحكام الوضع.

ثمّ الحقّ ـ كما ذهب إليه أصحابنا (٦) وأكثر العامّة (٧) ـ أنّ الفاسد يرادف الباطل ، وخالف

__________________

(١ و ٢) راجع : المحصول ١ : ١١٢ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٧٥.

(٣) في هامش « أ » : « فيصدق عليه التعريف. خ ل » ولم يرد في « ب » أيضا.

(٤) نسبه السيّد ضياء الدين إلى العلاّمة في منية اللبيب : ١٥.

(٥) احتمله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٧٦.

(٦) قاله الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٣٩ ، القاعدة ٤.

(٧) حكاه عنهم الشهيد الثاني في المصدر.

١٠٨

الحنفيّة وقالوا : الباطل هو غير المشروع من أصله ، كبيع الملاقيح. والفاسد هو غير المشروع في وصفه دون أصله ، كالربا ، ولذلك قالوا : لو أسقط الزيادة صحّ البيع ، ولا يحتاج إلى تجديد عقد (١).

فائدة

السبب قد يتقدّم المسبّب تقدّما ذاتيّا ، ويقارنه زمانا ، كالزنى والشرب وأمثالهما.

وقد يتأخّر عن المسبّب زمانا ، كيوم الجمعة بالنسبة إلى غسله في يوم الخميس ، والفجر بالنسبة إلى أذانه ليلا ، ويوم الفطر بالنسبة إلى فطرته في شهر رمضان على قول (٢) ، والإحرام بالنسبة إلى غسله قبل الميقات إذا ظنّ فقد الماء.

قيل : وبعض الأسباب ما فيه شكّ في المقارنة ووقوع المسبّب عقيبه ، كصيغ العقود والإيقاعات (٣) ؛ فإنّه يمكن أن يقال بمقارنة الحكم للجزء الأخير من الصيغة ، أو بوقوعه عقيبه بغير فصل (٤).

ويظهر الفائدة في مواضع :

منها : لو زوّج الكافر ابنه الصغير امرأة بالغة ، ثمّ أسلم الأب والمرأة معا ، فعلى مقارنة الحكم للجزء الأخير فالنكاح يكون باقيا ؛ لتقارن إسلام الزوجين ، ومقارنة المسبّب ـ أعني إسلام الصغير ـ للجزء الأخير من السبب ، أعني إسلام أبيه. وعلى الوقوع عقيبه ينفسخ ؛ لتقارن إسلام الأب والزوجة ، ووقوع إسلام الصغير عقيب إسلام الأب ، فيتحقّق إسلام الزوجة قبل إسلام الصغير (٥).

أقول : المراد بوقوع المسبّب عقيب السبب إن كان التأخّر الذاتيّ ، فيرجع إلى الأوّل ،

__________________

(١) راجع : فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى ١ : ٥٨ و ١٢٢ ، والمحصول ١ : ١١٢ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٤٠ و ١٧٦.

(٢) قاله الشهيد في القواعد والفوائد ١ : ٤١ ، القاعدة ١٣ وفيه : « قول مشهور ».

(٣) المصدر.

(٤) الأوّل مذهب أبي الحسن الأشعري والثاني مذهب جماعة. انظر الفروق للقرافي ٣ : ٢١٨ و ٢٢٤.

(٥) راجع القواعد والفوائد ١ : ٤٣ ، القاعدة ١٣.

١٠٩

أعني المقارنة. وإن كان المراد منه التأخّر الزماني ، فغير مسلّم ؛ لترتّب الحكم على العقود ، والإيقاعات ، والالتزامات بدون فصل زماني ، فالحقّ أنّ هذا البعض (١) الذي ظنّ (٢) من المشكوك فيه ، يرجع إلى القسم الأوّل الذي ذكرناه.

فصل [٤]

لا كلام في أنّ الأحكام الخمسة لا تتعلّق بأفعال غير المكلّفين. وأمّا غيرها من الأحكام الوضعيّة ، فقد يتعلّق بأفعال غير المكلّفين ، كضمان الصبيّ ما يتلفه وما يجنيه على الحيوانات. فعلى مغايرة الأحكام الوضعيّة للشرعيّة فلا إشكال ، وعلى ما اخترناه (٣) من دخول الحكم الوضعي تحت الشرعي ، يجب ارتكاب أحد من الأمرين :

إمّا القول بتعلّق الحكم الشرعي بأفعال غير المكلّفين أيضا ، وإبدال « المكلّفين » في تعريفه بـ « العباد » وأمثاله.

وإمّا القول بأنّ الأحكام الوضعيّة المذكورة التي تعلّقت بأفعال غير المكلّفين خارجة عن القاعدة باعتبار الدليل الخارجي ، ولا يتعدّى إلى غيرها.

وهذا هو الحقّ ؛ لأنّه لا شكّ في أنّ جميع الأحكام ـ وإن كانت وضعيّة ـ من باب التكليف ، وشرطه الفهم وفاقا ، فلا يتعلّق بالصبيان والمجانين ، وأمثالهما من الغافل والساهي إلاّ ما أخرجه الدليل ، فالصبيّ والمجنون إذا أتلفا مال غيرهما ، يتعلّق بهما الضمان إلاّ أنّه لا يجب عليهما الأداء ؛ لأنّ الوجوب لا يتعلّق بهما اتّفاقا ، بل الوجوب يتعلّق بوليّهما وبهما بعد الكمال.

ويعرف ممّا ذكر أنّ وطء الشبهة لا يوصف بالحلّ والحرمة ؛ لأنّ فاعله الساهي ، وهو ليس بمكلّف ، وهما يتعلّقان بأفعال المكلّفين.

__________________

(١) أي بعض الأسباب ما فيه شكّ في المقارنة.

(٢) يستظهر من القواعد والفوائد ١ : ٤٣ ، القاعدة ١٣ أنّ الظانّ هو الشهيد الأوّل.

(٣) راجع ص ٩٥.

١١٠

تذنيب

قد يتداخل بعض الأسباب ، كأسباب الوضوء أو الغسل. فإن نوى رفع واحد منها يرتفع الجميع ، ولا يحتاج إلى نيّة رفع غيره. نعم ، إن نوى عدم رفع غيره يبطل.

والحقّ أنّ هذا الحكم يعمّ أسباب الأغسال الواجبة والمسنونة.

ومنه موجبات الإفطار في يوم واحد بالنسبة إلى التكفير ، والسرقات المتكرّرة مع عدم الظفر بالسارق ، ومرّات الزنى بالنسبة إلى وجوب الحدّ ، وأسباب سجود السهو على رأي بعض الأصحاب (١) ، ومرّات وطء الشبهة بالنسبة إلى وجوب مهر واحد (٢).

ثمّ الأصل عدم تداخل الأسباب ؛ لأنّ العقل حاكم بأنّ كلّ سبب يجب أن يترتّب عليه منفردا مسبّبه ، وكلّ علّة يجب أن يوجد معلوله (٣) وحدها (٤) إذا كانت مستقلّة في العلّيّة ، وإلاّ يلزم توارد العلل على المعلول الواحد.

والقول بأنّ علل الشرع معرّفات يجوز تواردها على معلول واحد (٥) ، كلام خال عن التحقيق ؛ فإنّ الشارع إذا جعل أشياء أسبابا لأمر ، كلّ واحد منها مستقلّ في سببيّته له ، فبعد حصول كلّ واحد منها يجب صدور مسبّبه على حدة وإن حصلت جميعا دفعة ؛ لأنّ ذلك حكم السببيّة والمسبّبيّة ، ولا جهة للاكتفاء بواحد للجميع (٦).

نعم ، يجوز التخلّف في العلل الشرعيّة بدليل خارجيّ ، بخلاف العلل العقليّة ، فالأسباب المذكورة التي وقع فيها التداخل لأجل الدليل الخارجي ، مثلا علّة تداخل أسباب الوضوء أو الغسل أنّه لا معنى لارتفاع نفس الأحداث التي هي أسباب ، بل المرتفع القدر المشترك

__________________

(١) ذهب إليه الشيخ في المبسوط ١ : ١٢٣.

(٢) راجع : الفروق للقرافي ٢ : ٣٠ ، والقواعد والفوائد ١ : ٤٤ و ٤٥ ، القاعدة ١٤.

(٣) كذا في النسختين ، والصحيح « معلولها ».

(٤) كذا في النسختين ، والصحيح « وحده ».

(٥) قال الشهيد في القواعد والفوائد ١ : ٣٩ : « السبب ... اصطلاحا ، كلّ وصف ظاهر منضبط دلّ الدليل على كونه معرّفا لإثبات حكم شرعي ».

(٦) والاكتفاء وعدم الاكتفاء بواحد للجميع عبارة عن تداخل المسبّبات وعدمه ، دون تداخل الأسباب وعدمه ، والكلام في الثاني دون الأوّل ، وكذا قوله : « ارتفاع القدر المشترك يحصل بواحد ».

١١١

بين جميعها ، وهو المنع من العبادة المشروطة بهما ، وارتفاع القدر المشترك يحصل بواحد مع نيّة التقرّب من دون نيّة الرفع ، أو مع نيّة رفع واحد منها ، وقس عليهما غيرهما من الأسباب المذكورة.

ثمّ وجد بالتصفّح أنّ الأسباب بالنسبة إلى المسبّبات من حيث الوحدة والتعدّد على أربعة أقسام :

الأوّل : أن يتّحد كلّ واحد منهما ، كالقذف والحدّ.

الثاني : أن يتعدّد كلّ واحد منهما ، كعمّ هو (١) خال ؛ فإنّه يرث نصيب العمّ والخال معا. ومنه ما إذا قتل واحد جماعة (٢).

الثالث : أن يتّحد السبب ويتعدّد المسبّب ، إمّا مع اندراج بعض في بعض كالزنى ؛ فإنّه باعتبار اشتماله على الملامسة ، كان اللازم أن يوجب التعزير والحدّ معا ، إلاّ أنّ الأضعف يندرج تحت الأقوى ؛ وإمّا مع عدم الاندراج ، كالحيض والنفاس والاستحاضة الكثيرة ؛ فإنّها توجب الغسل والوضوء ، وكتعمّد الإفطار في رمضان ؛ فإنّه يوجب القضاء والكفّارة.

الرابع : أن يتعدّد السبب ويتّحد المسبّب باعتبار التداخل ، كالأسباب التي أشرنا إليها أوّلا. ولا يمكن أن يتعدّد السبب ويتّحد المسبّب من دون التداخل ؛ لأنّ السبب ما كان مستقلاّ في التأثير ، وفي الفرض المذكور لا يمكن أن يتحقّق ذلك.

إذا عرفت هذا التفصيل ، يلزم عليك أن تتفحّص في كلّ سبب ومسبّب يردان عليك حتّى تعلم أنّهما من أيّ قسم من الأقسام الأربعة ، ولا إشكال إلاّ في معرفة تداخل الأسباب عند تعدّدها.

وقد عرفت أنّه ينبغي أن يكون الأصل عندك عدم التداخل حتّى يظهر عليك خلافه بدليل خارجي ، مثلا قيل : إذا نوى داخل المسجد صلاة فريضة أو نافلة راتبة ، تجزي عن

__________________

(١) هو فيما إذا تزوّج زيد بأخت أخيه عمرو من أبيه ـ وهي من أمّ عمرو ـ فإذا مات ابن زيد مثلا فعمرو هو عمّ الميّت وخاله معا.

(٢) والفرق بين المثالين أنّ الأسباب في الأوّل مختلفة من حيث العنوان ، وفي الثاني متّحدة.

١١٢

صلاة التحيّة (١). وقيل بإجزاء تكبيرة الإحرام عنها وعن تكبيرة الركوع إذا نواهما (٢) ، فنحن إذا تتبّعنا ولم نجد دليلا على الإجزاء ، نقول بعدمه في الصورتين ، لكنّ الإجزاء في الثاني مرويّ (٣) ، ولذا حكم به الشيخ (٤).

فائدة

قد حكم بعض الأصحاب بأنّه إذا اجتمع أسباب الوجوب في مادّة واحدة يجزي نيّة الوجوب ، ولا يجب التعرّض للخصوصيّات (٥) ، كما إذا نذر الصلاة اليوميّة ، أو الصوم الواجب عليه ، أو الحجّ كذلك وإن اشتمل نذره على هيئة زائدة ، كما إذا نذر إيقاع الصلاة في أوّل وقتها ، أو في مكان خاصّ له رجحان ، أو قراءة سورة معيّنة في صلاته ؛ لأنّ (٦) الوجوب الأصلي صار بسبب النذر متشخّصا بهذا التشخّص الزماني ، أو المكاني ، أو الكيفي.

وهذا القائل قد حكم بأنّه يجب أن نتعرّض في النيّة لمشخّصات الفعل عن غيره كجنسه ، وفصله ، وخواصّه المميّزة. ففي صلاة الظهر ـ مثلا ـ يجب التعرّض للصلاة ، والظهر ، والوجوب (٧).

وعلى هذا يشكل الاكتفاء في الفرض المذكور بنيّة الوجوب فقط من غير التعرّض للخصوصيّات.

والحقّ : أنّ التعرّض للوجه في النيّة ليس بلازم ، إنّما اللازم أن يتعرّض في النيّة لما يشخّص الفعل ، ويمتاز به عن غيره.

وغير خفيّ أنّ الجنس ـ أعني كونها صلاة مثلا ـ والفصل ـ أعني كونها صلاة نذر أو ظهر

__________________

(١) ذهب إليه المالكيّة. راجع : الفروق للقرافي ٢ : ٢٩ ؛ واحتمله الشهيد في القواعد والفوائد ١ : ٤٦ ، القاعدة ١٥.

(٢) راجع : الخلاف ١ : ٩٧ ، المسألة ٦٣ ، والمبسوط ١ : ١٥٨.

(٣) الفقيه ١ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ، ح ١٢١٦ ، وتهذيب الأحكام ٣ : ٤٥ ، ح ١٥٧.

(٤) راجع : الخلاف ١ : ٩٧ ، المسألة ٦٣ ، والمبسوط ١ : ١٥٨.

(٥) قاله الشهيد في القواعد والفوائد ١ : ٨٢ ، الفائدة ٥.

(٦) تعليل لاشتمال النذر على هيئة زائدة.

(٧) راجع القواعد والفوائد ١ : ٨٠ ، الفائدة ٤.

١١٣

مثلا ـ من المشخّصات ، فينبغي التعرّض لهما في النيّة. اللهمّ إلاّ إذا وقعت في وقت لم يشرك (١) فيه غيرها على ما حكم به بعض المتأخّرين (٢).

وإذا كان التعرّض للفصل لازما ، فكيف يحكم بالاكتفاء بنيّة الوجوب فقط في الفرض المذكور من دون التعرّض للظهر والنذر؟!

نعم (٣) ، الحقّ أنّ التعرّض للظهر كاف فيه ، ولا يحتاج إلى التعرّض لكونه نذرا ؛ لأنّ السبب الثاني ـ أعني النذر ـ لم يوجب شيئا لم يجب بالسبب الأوّل ، بل الواجب بالنذر ما كان واجبا أوّلا ، ولم يكن غرض الناذر في نذره إلاّ إيقاعه البتّة.

ويمكن أن يقال : غرض القائل المذكور من نيّة الوجوب نيّة الظهر مع الوجوب ، فتأمّل.

ضابطة

السبب إمّا قولي ، أو فعلي. والثاني إمّا منصوص من الشارع بالسببيّة ، كالزنى وأمثاله. وإمّا غير منصوص منه بالسببيّة ولكن يكون قائما مقام أحد الأوّلين (٤) إذا دلّ عليها القرائن الحاليّة ، أو المقاليّة ، كتقديم الطعام إلى الضيف ، فلا يحتاج إلى الإذن الصريح ، وتسليم الصدقة إلى الفقير ، والهديّة إلى المهدى إليه. ومنه جوائز الملوك واولي الخطر ، والتقبيل ، والوطء ، واللمس بالشهوة في عدّة الطلاق الرجعي ، وقس عليها أمثالها.

ومن الأسباب الفعليّة غير المنصوصة الإرادة ، والمشيّة ، والمحبّة ، والكراهة ، والحسد ، وأمثالها من الامور القلبيّة. فلو علّق ظهار زوجته على إضمارها بغضه وأمثاله فادّعته ، صدّقت ؛ لأنّ قولها مقبول في أمثال ذلك. نعم ، إن ادّعى عليها التهمة يحلفها.

وقس عليه أمثاله من التعليقات والأيمان.

__________________

(١) في « ب » : « لم يشترك ».

(٢) قاله العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٣١٠ و ٣١١.

(٣) في « ب » : « ثمّ ».

(٤) أي يقوم مقام القول.

١١٤

فصل [٥]

لو علّق حكم على سبب أو شرط متوقّعين (١) ، وكان الحكم بحيث يختلف وقت التعليق ووقت وقوعهما ، فالحقّ اعتبار الحكم في وقت الوقوع ؛ لأنّ غرض المعلّق أن يقع الحكم في وقت الوقوع لا قبله ، فيجب كون الحكم ممّا يقتضيه ذلك الوقت لا الوقت الذي قبله.

والفروع لهذه القاعدة كثيرة :

منها : أنّه إذا أوصى بثلث ماله ، فالاعتبار بثلث ماله يوم الوفاة دون وقت الوصيّة.

ومنها : إذا نذر بثلث ماله مثلا ، فإن كان نذره مطلقا ، فالمعتبر وقت النذر ، وإن كان معلّقا على شرط ، فالمعتبر على ما اخترناه وقت وقوع الشرط.

ومنها : لو نذر عتق عبده عند شرط ، فوقع الشرط في وقت المرض ، فيلزم اعتباره من الثلث.

وأمثال هذه الفروع كثيرة. وكيفيّة التفريع في الجميع ظاهرة.

تتميم

قد يترتّب بعض الأحكام على أسباب يمكن اعتبارها في الحال وفي المآل. والحكم المترتّب على أحد الاعتبارين يخالف الحكم المترتّب على الآخر ؛ لأنّ مقتضى السبب الموجود في الحال يخالف مقتضى السبب الموجود في المآل. ولم نعثر على مرجّح لهذا الأصل في كتب الاصول.

وله فروع منتشرة في الكتب الفقهيّة (٢) ، وفي بعضها رجّح الاعتبار الحالي ، وفي بعضها المآلي.

ولا يخفى أنّ ما يقتضيه ( النظر اعتبار الحال ؛ لأنّ كلّ ما يفعل في وقت يجب أن يكون ممّا يقتضيه السبب الموجود فيه ، والإعراض عنه والأخذ بما يقتضيه ) (٣) السبب الكائن بعد

__________________

(١) المناسب لكلمة « أو » إفراده أي « متوقّع ».

(٢) راجع القواعد والفوائد ١ : ٣٦١ ـ ٣٦٥ ، القاعدة ١٤٢.

(٣) ما بين القوسين لم يرد في « ب ».

١١٥

ذلك غير معقول ، إلاّ أنّ بعض الأحكام نظر فيها إلى المآل ، إمّا لنصّ ، أو لأدلّة أخر ، أو لكون المآل معتبرا في نظر المرجّح.

وكيفيّة التفريع : أنّ الدهن النجس إذا قلنا بقبوله الطهارة ، لا يجوز بيعه ؛ لكونه من مقتضيات السبب الموجود في الحال ، ومن اعتبر السبب الموجود في المآل يجب أن يقول بجواز بيعه. وكذا الحكم في الماء النجس ، وقد اعتبر فيه المآل بعض الأصحاب (١). وحكم الأصحاب (٢) بجواز بيع السباع ؛ نظرا إلى جواز الانتفاع بجلودها ، وهو من اعتبار المآل ، إلاّ أنّ له أدلّة خارجيّة (٣). ولا يجوز بيع الآبق والضالّ بدون الضميمة ؛ نظرا إلى الحال.

ولو ظهر فقدان المسلم فيه قبل حلول الأجل ، ففي تنجيز الخيار وتأخيره خلاف ؛ نظرا إلى الاعتبارين.

ولو عيّن المسلم موضعا لقبض المسلم فيه فيه ، فخرب أو خرب موضع العقد عند الإطلاق ، فهل يتعيّن الحمل إليهما ؛ نظرا إلى الحال ، أو لا ؛ نظرا إلى المآل؟ ولو كان دين الغارم مؤجّلا ، فهل يجوز له أخذ الزكاة قبل حلوله؟ ففيه الوجهان. وأنت تعرف الحقّ فيها وفي أمثالها ممّا يرد عليك بعد ما علمت حقيقة الحال.

فصل [٦]

زاد بعض (٤) الاصوليّين في الحكم الوضعي الرخصة ، ومقابلها العزيمة.

والرخصة لغة (٥) : التسهيل. وعرفا : الحكم الثابت مع قيام ما يقتضي المنع ، لعذر المشقّة والحرج.

__________________

(١) راجع القواعد والفوائد ١ : ٣٦٤ ، القاعدة ١٤٢.

(٢) منهم : فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد ١ : ٤٠٣ ، والشهيد في القواعد والفوائد ١ : ٣٦٤ ، القاعدة ١٤٢ ، والشهيد الثاني في مسالك الأفهام ٣ : ١٢٥.

(٣) منها عموم أو إطلاق قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) ، البقرة (٢) : ٢٧٥. ومنها صحيحة عيص المرويّة في الكافي ٥ : ٢٢٦ ، باب جامع فيما يحلّ الشراء والبيع منه وما لا يحلّ ، ح ٤ ، وتهذيب الأحكام ٦ : ٣٧٣ ، ح ١٠٨٥.

(٤) انظر الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٨٦ و ١٨٧.

(٥) الصحاح ٣ : ١٠٤١ ، « ر خ ص » ، والمصباح المنير : ٢٢٣.

١١٦

والعزيمة لغة (١) : القصد المؤكّد. وعرفا : الحكم الثابت لا لعذر المشقّة والحرج.

فمباح الأصل ليس رخصة ؛ لأنّ جواز فعله ليس لأجل المشقّة والحرج.

وما قيل في تعريف العزيمة : بأنّها الحكم الثابت لا مع قيام المقتضي للمنع (٢) ، يرد عليه : أنّ مطلق التكليف عزيمة مع قيام المقتضي للمنع ، وهو (٣) الأصل ؛ فإنّ الأصل عدم التكاليف. ويمكن التوجيه بعناية ، فتأمّل.

وقيد الأخير في تعريف الرخصة لإخراج التكاليف كلّها ؛ فإنّها أحكام ثابتة ، وفي بعضها ـ بل في كلّها ـ قام ما يقتضي المنع ؛ لأنّ جميع التكاليف على خلاف الأصل ، لكنّ ثبوتها ليس لأجل المشقّة والحرج.

ثمّ إنّ الرخصة إمّا واجبة ، كوجوب أكل الميتة للمضطرّ. أو مندوبة ، كتقديم غسل الجمعة لخائف فقد الماء ، أو مكروهة ، كالتقيّة في المندوبات مع خوف الالتباس على العوامّ ، وعدم ظنّ الضرر. أو مباحة ، كاستعمال الأحجار في الاستنجاء مع وجود الماء بالشروط المعلومة ، وما ورد فيه الرخصة من المعاملات المخالفة للأصل ، كبيع العرايا (٤) وأمثاله.

وقد يقع الاشتباه في بعض المواضع. وبعد ما عرفت الفرق لا يلتبس حقيقة الحال عليك.

وممّا وقع فيه الإشكال القصر في السفر ؛ فإنّه عزيمة عند أصحابنا (٥) مع أنّ تعريف الرخصة يصدق عليه ، والآية الشريفة (٦) أيضا تدلّ على ذلك. وبيّن الأصحاب عذرهم في ذلك في كتبهم الاصوليّة والفروعيّة (٧).

وزاد بعض آخر في خطاب الوضع التقدير (٨) ، وهو أن يقدّر المعدوم كالموجود أو

__________________

(١) لسان العرب ١٢ : ٣٩٩ ، « ع ز م ».

(٢) راجع المحصول ١ : ١٢٠.

(٣) أي المقتضي للمنع عبارة عن استصحاب عدم التكليف.

(٤) العرايا جمع العريّة ، وهي النخلة تكون في دار الإنسان. راجع لسان العرب ٩ : ١٨٠ ، « ع. ر. ي ».

(٥) راجع : الانتصار : ١٦٠ ، والنهاية : ١٢٢ ، والخلاف ١ : ٥٦٩ ، وشرائع الإسلام ١ : ١٠٣.

(٦) وهي قوله تعالى : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) ، النساء (٤) : ١٠١.

(٧) راجع تمهيد القواعد : ٤٧ ، القاعدة ٧.

(٨) انظر الفروق للقرافي ١ : ١٦١.

١١٧

بالعكس لتصحيح الحكم الشرعي ؛ فإنّه لو لم يرتكب ذلك في بعض الموارد يلزم الإشكال. مثلا : ورثة المقتول يورّثون الدية عنه ، وشرط التوريث دخول ما يورّث في ملك المورّث ، مع أنّ الدية لم تدخل في ملكه في حياته ؛ لعدم جواز تقدّم المسبّب على السبب ، ولا معنى لدخولها في ملكه بعد موته ، فيقدّر دخولها في ملكه قبل موته في آن لتمكّن التوريث ، فقدّر المعدوم موجودا.

ومن هذا القبيل جميع ما يسمّى بالملك الضمني ، كما إذا اشترى رجل أباه ، فإنّه يقدّر دخوله في ملكه في آن ، ثمّ يعتق عليه.

ومنه ما إذا قال لغيره : « أعتق عبدك عنّي » أو « أدّ من مالك ديني ». وليس هذه الامور من باب الكشف بمعنى أنّه يتبيّن بعد تقدّم الملكيّة ؛ إذ ذلك مستلزم لتقدّم سبب الملكيّة ، وهنا لم يتحقّق سبب أصلا.

فصل [٧]

لا شبهة في أنّ المندوب ليس بتكليف ؛ لأنّه من الكلفة ، أي المشقّة ، وما ليس فعله لازما ليس فيه مشقّة. واشتماله على المشقّة إذا فعل لتحصيل الثواب ، لا يستلزم كونه شاقّا مطلقا. ويظهر الفائدة إذا قال بعنوان النذر أو اليمين وأمثالهما : « عليّ أن أؤدّي تكليفا ».

قد اختلف في كونه مأمورا به ، والحقّ أنّه ليس بمأمور به حقيقة ؛ لأنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، فما ليس واجبا ليس بمأمور به ، ولأنّ خلاف الأمر معصية ، كما يدلّ عليه الآية (١) والأخبار (٢) ، ومخالفة الندب ليست كذلك ؛ ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو لا أن أشقّ على أمّتي ، لأمرتهم بالسواك » (٣). وحمل القول بأنّ المعصية في مخالفة الأمر الإيجابي (٤) ؛ وحمل الأمر في قوله عليه‌السلام عليه أيضا (٥) ، تخصيص من غير دليل.

__________________

(١) وهي قوله تعالى : ( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) ، طه (٢٠) : ٩٣.

(٢) راجع : جامع الاصول ٧ : ٦١٨ ، ح ٥٧٨١ ، وتهذيب الوصول : ٩٧ ، فاستدلّ العلاّمة فيه برواية بريرة.

(٣) كنز العمّال ٧ : ٣٩٨ ، ح ١٩٤٨٣.

(٤ و ٥) قالهما الغزالي في المستصفى : ٦١ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٦٤ و ١٦٥ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ٣٦.

١١٨

واستدلّ المخالف : بأنّه طاعة ، وهي فعل الأمور به. وبأنّ أهل اللغة مصرّحون بأنّ الأمر ينقسم إلى الإيجاب والندب ، والمقسم مشترك بين الأقسام (١).

والجواب : منع كون كلّ طاعة مأمورا بها حقيقة ، وكذا كون كلّ مقسم حقيقة في أقسامه ، بدليل كون الإباحة والتهديد من أقسامه مع كون الأمر فيهما مجازا بالاتّفاق.

ويظهر فائدة الخلاف فيما إذا نذر أو حلف أن يأتي بصلاة مأمور بها ، فهل يبرأ ذمّته بالنوافل ، أم لا؟ وقد عرفت الحقّ (٢).

ثمّ الكلام في كون المكروه تكليفا ومنهيّا عنه كالكلام في كون المندوب تكليفا ومأمورا به ، والأدلّة التي تجري في عدم كون المندوب تكليفا ومأمورا به تجري في عدم كون المكروه تكليفا ومنهيّا عنه.

ثمّ إنّك قد عرفت فيما سبق (٣) أنّ المكروه يطلق على ثلاثة معان : من جملتها الحرام ، فهذان الحكمان للمعنيين الأخيرين له ؛ لكون الحرام تكليفا ومنهيّا عنه جزما.

وكيفيّة التفريع كما عرفت في المندوب.

فصل [٨]

اعلم أنّ المباح يطلق على معان :

منها المأذون فيه شرعا ، مباحا كان ، أو واجبا ، أو مندوبا ، أو مكروها.

ومنها ما لا يمتنع عقلا ، لازما كان ، أو راجحا ، أو متساوي الطرفين.

ومنها ما استوى فيه الطرفان شرعا ـ وهو الذي عدّ من الأحكام الخمسة ، وقسيما للواجب ـ أو عقلا ، كأفعال غير العقلاء.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه نقل عن بعض الاصوليّين القول بكون المباح جنسا للواجب (٤) ؛

__________________

(١) راجع المصادر.

(٢) وهو عدم كون المندوب مأمورا به حقيقة.

(٣) مرّ في ص ٩٨.

(٤) راجع الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٧٠.

١١٩

مستدلاّ بأنّ حقيقة المباح المأذون فيه في الفعل (١) ، وهو حاصل في الواجب.

وأورد عليه ابن الحاجب : بأنّ حقيقته ليس ما ذكر فقط ، بل هو جنسه ، وفصله « مساوي الطرفين » وهو لم يوجد في الواجب (٢).

وغير خفيّ أنّ العاقل لا يقول : إنّ المباح الذي هو من أقسام الحكم وقسيم للواجب جنس له ، فالظاهر بل الجزم أنّ غرض القائل من المباح الذي جعله جنسا للواجب ، هو المباح بالمعنى الأوّل الذي ذكرناه ، والمورد حمل المباح في كلامه على المعنى الثالث. وليت شعري ما الداعي له مع أنّه عدّ المعنى الأوّل من جملة معاني المباح؟

إذا عرفت ذلك تعلم أنّه إذا اطلق المباح في كلام الشارع وغيره يكون مشتركا بين المعاني المذكورة ، إلاّ أنّ المتبادر والفرد الأظهر منها المعنى الثالث منها ، فيجب الحمل عليه. وكذا الأمر في الأيمان ، والتعليقات ، وأمثالهما.

ثمّ الحقّ أنّ الإباحة حكم شرعي ، كما ذهب إليه القوم أجمعون (٣).

وخالف بعض المعتزلة وقال : الإباحة ما لا منع في فعله وتركه ، وهذا ثابت في الأفعال قبل بعثة الشرع ، فلا معنى لكونه حكما شرعيّا (٤).

والجواب : أنّ الإباحة قسمان : أحدهما شرعيّة (٥) ، وهو ما تعلّق خطاب الشرع بكونه مباحا. وثانيهما غير شرعيّة (٦) ، وهو الذي كان ثابتا للأفعال قبل بعثة الرسل ، والإباحة التي من الأحكام الشرعيّة هو القسم الأوّل دون الثاني ؛ فإنّه ليس إباحة شرعيّة.

تذنيب

أجمع القوم على أنّ المباح أي ما استوى فيه الطرفان موجود وليس بمأمور به ؛ لأنّ الأمر طلب وهو يستلزم الترجيح ، وما استوى فعله وتركه ليس فيه ترجيح.

__________________

(١) في « ب » : « العمل ».

(٢) حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٧٠.

(٣) راجع الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٦٨.

(٤) حكاه عنهم الآمدي في المصدر.

(٥ و ٦) كذا في النسختين ، والصحيح « شرعي ».

(٥ و ٦) كذا في النسختين ، والصحيح « شرعي ».

١٢٠