أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

واهية. ولا فائدة في ذكرها بعد العلم ببطلانها.

الثاني : أن يخبروا عن محسوس ، فلا تواتر في المعقول ، كحدوث العالم وأمثاله ؛ لتأتّي الاشتباه في العقليّات ، ومعارضة الوهم للعقل فيها ، فلا يفيد قولهم العلم.

الثالث : أن يكون إخبارهم عن علم لا عن ظنّ.

وقيل : إنّ هذا الشرط لا يعمّ جميع المخبرين ، بل يكفي ثبوته لبعضهم (١).

الرابع : استواء الطرفين والواسطة في إفادة العلم بأن يبلغ كلّ واحدة من الطبقة الاولى المشاهدين لمدلول الخبر ، والطبقة الواسطة الناقلين عن الاولى ـ متّحدة كانت أو متعدّدة ـ والأخيرة الناقلين عن الواسطة ، عدد التواتر ، ويكون خبر كلّ منها عن علم.

فلو ذكر واحد خبرا لجماعة وكلّ منهم لجماعة اخرى ، وهكذا إلى أن يبلغ في طبقة إلى عدد كثير يفيد قولهم العلم لو لا المانع ، لم يكن متواترا. ومن هذا الطريق يحصل الأراجيف بين الناس وتشتهر إذا لم يسند كلّ مخبر خبره إلى القائل الأوّل ، ولذا إذا اشتهر الأراجيف يذكرها كلّ أحد ولا يعرف القائل الأوّل.

وغير خفيّ أنّ هذا الشرط في كلّ تواتر تحقّق فيه الطبقات الثلاث ، وإذا تحقّق فيه طبقتان من دون تحقّق واسطة ، فيشترط استواؤهما في إفادة العلم ولا حاجة إلى ذكر الواسطة ، وإن كان المخبرون هم المشاهدين ، فينتفي هذا الشرط رأسا.

الثاني اثنان :

الأوّل : أن لا يسبق الخبر المتواتر تقليد ، أو شبهة للسامع. وهذا الشرط قد تفرّد بذكره المرتضى رحمه‌الله (٢) ، وتبعه أعيان المتأخّرين عنه (٣). وهو حقّ.

ويدلّ على اعتباره نقلا : قوله تعالى : ( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ )(٤). وعقلا : كون كلّ واحد من الشبهة والتقليد في القلب بمنزلة معارض قويّ لما

__________________

(١) ذهب إليه ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٦٩ وفي مختصر المنتهى : ١٥٣ ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٥٣.

(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٤٩١.

(٣) كالعلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول ٣ : ٣١٩ ـ ٣٢٠ ، والشيخ حسن في معالم الدين : ١٨٦.

(٤) الزخرف (٤٣) : ٢٣.

٢٢١

يفيده العلم ، فيمنعه من أن يؤثّر أثره فيه.

وبه يندفع ما يحتجّ به مخالفونا من أنّه لو تواتر معجزات النبيّ أو (١) النصوص على خلافة عليّ عليه‌السلام لحصل لنا العلم (٢).

الثاني : أن لا يكون السامع عالما بمدلول الخبر ضرورة ، بأن يكون مشاهدا له ؛ لاستلزامه تحصيل الحاصل.

وفيه نظر ، أمّا على التعريف الأخير (٣) المذكور للمتواتر ، فظاهر ؛ لعدم اعتبار إفادة العلم فيه. وأمّا على التعريف الأوّل (٤) له ؛ فلأنّ العلم الحاصل من الخبر مخالف بالنوع للعلم الحاصل من المشاهدة ، فلا يلزم تحصيل الحاصل.

وهنا شروط فاسدة اعتبرها بعض الناس (٥) أعرضنا عن ذكرها لعدم الفائدة فيه.

تتمّة

قيل : كلّ عدد أفاد خبرهم علما بقضيّة لشخص فمثله يفيد العلم بها (٦) لشخص آخر ، وبغيرها لكلّ منهما (٧).

وغير خفيّ أنّ هذا يتوقّف على تساوي المخبرين والقضيّة والسامع من كلّ وجه ؛ لما عرفت (٨) من أنّ الخبر يختلف في إفادة العلم باختلافها ؛ وتساويها من كلّ وجه نادر. نعم ، مع فرض تحقّقه (٩) يفيد العلم.

ويتفرّع عليه : جواز عمل الحاكم ـ بناء على القول بجواز العمل بعلمه كما هو الحقّ ـ

__________________

(١) في « ب » : « و ».

(٢) راجع المحصول ٤ : ٢٥٩.

(٣) وهو أخبار جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب. راجع ص ٢١٦.

(٤) وهو تعريف المتواتر بإفادته العلم. راجع ص ٢١٦.

(٥) راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : ٧٠ ، وشرح مختصر المنتهى ١ : ١٥٥.

(٦) لم يرد في « ب » : « بها ».

(٧) نسبه الآمدي إلى القاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٤٢ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ٧١ ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٥٥.

(٨) راجع ص ٢٢١.

(٩) أي تحقّق التساوي.

٢٢٢

بإخبار (١) جماعة في واقعة ، وعدم العمل بإخبارهم (٢) في واقعة اخرى ، وبإخبار (٣) مثلهم في الاولى والاخرى. وكذا يجوز حصول العلم من إخبار (٤) جماعة لحاكم دون آخر.

فصل [٥]

المتواتر إمّا لفظي ، وقد عرفته (٥). وإمّا معنوي ، وهو المعنى الكلّي الذي كان قدرا مشتركا بين أخبار جماعة كثيرة يمتنع تواطؤهم على الكذب في وقائع مختلفة. فكلّ واحد من هذه الأخبار وإن لم يبلغ حدّ التواتر إلاّ أنّ هذا المعنى الكلّي المشترك بين جميعها متواتر ؛ لأنّ كلّ واحد منها يدلّ عليه بجهة التضمّن ، أو الالتزام. وذلك كشجاعة عليّ عليه‌السلام ؛ فإنّه قد نقل منه عليه‌السلام وقائع مختلفة من الغزوات يدلّ كلّ واحدة منها على شجاعته ، كغزوة خيبر ، واحد ، وبدر ، وغيرها ، فكلّ واحدة منها إن لم يكن متواترا ، فلا شكّ في تواتر القدر المشترك بينها وهو الشجاعة. وكذا الحكم في سخاوته عليه‌السلام ، وسخاوة حاتم. ويمكن فتح هذا الباب في معجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مماشاة للخصم ؛ لأنّه كاف للمطلوب.

فصل [٦]

خبر الواحد : ما لم يبلغ حدّ التواتر ، قلّت رواته (٦) أو كثرت.

وقيل : ما أفاد الظنّ (٧).

والصواب الأوّل ؛ لجواز وجود خبر واحد لا يفيد الظنّ. وهو بنفسه لا يفيد القطع ، كما سيجيء (٨). نعم ، قد يفيده بانضمام القرائن إليه.

والحقّ : أنّ هذا جائز بل واقع ، والمنكر مكابر ؛ فإنّا إذا علمنا أنّ زيدا مريض ، واتّفق حذّاق (٩) الأطبّاء على عدم برئه ، ثمّ أخبرنا عدل ورع بموته ، وسمعنا من داره صراخا

__________________

(١ ـ ٤) يجوز فتح الهمزة أيضا.

(٥) تقدّم في ص ٢١٦.

(٦) في « ب » : « رواية ».

(٧) ذهب إليه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٥١٧.

(٨) في ص ٢٢٥.

(٩) في « ب » : « صدق ».

٢٢٣

وواعية ، وخرجت المخدّرات كاشفات الرءوس ولاطمات الخدود ومازقات الجيوب ، وانضمّ إليه بعض آخر من القرائن ، فإنّا نقطع بموته ويحصل لنا العلم به.

لا يقال : حصول العلم هنا من القرائن ، ولا دخل للخبر فيه ، كما يحصل العلم بخجل الخجل ووجل الوجل من القرائن من دون خبر.

لأنّا نقول : للخبر دخل في إفادة العلم ؛ إذ لولاه لجوّزنا موت شخص آخر.

احتجّ الخصم بوجوه ضعيفة (١) :

منها : أنّه لو أفاد القطع لوجب الحكم بتخطئة المخالف له بالاجتهاد ، وهو خلاف الإجماع.

وجوابه : التزام التخطئة على فرض المخالفة مع اعتقاده (٢) بأنّه مفيد للعلم ، إلاّ أنّ هذا غير واقع ؛ لأنّ أحدا لا يخالف مقتضى علمه ، بل من خالف فمخالفته لأجل عدم تحقّق شرائط العلم عنده ، وحينئذ يجوز له المخالفة بشرط كون المقام قابلا للاشتباه ، وإن لم يكن كذلك ، فيكون مخالفته بمجرّد المكابرة ، أو (٣) العناد ، وحينئذ يجوز تخطئته.

ومنها : أنّ حصول القطع منه يؤدّي إلى حصول القطعين المتناقضين إذا اخبرنا بخبرين متناقضين محفوفين بالقرائن ، وهو مستلزم لاجتماع النقيضين ؛ لأنّ المقطوع به واقع في الخارج ، وهو محال.

وجوابه : أنّ الفرض المذكور محال عادة.

ومنها : أنّ الخبر المحفوف بالقرائن كثيرا ما يظهر كذبه للاشتباه وأمثاله ، كما إذا أخبر عدل بموت زيد ، وقارن خبره بالصراخ (٤) وإحضار الجنازة ، ثمّ ظهر أنّه لحقت به سكتة.

وقد ظهر جوابه ممّا ذكرنا في جواب بعض شبه من قال : التواتر لا يفيد العلم (٥).

ومنها : أنّه لو حصل العلم منه ، لاطّرد في كلّ خبر واحد ، واللازم باطل.

__________________

(١) راجع الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٤٨ ـ ٥١.

(٢) الضمير راجع إلى المخالف لا إلى من قام عنده الخبر المفيد للعلم.

(٣) في « ب » : « و ».

(٤) في « ب » : « الصراخ ».

(٥) راجع ص ٢١٦ وما بعدها.

٢٢٤

وجوابه : أنّه إن اريد الاطّراد في كلّ خبر انضمّ إليه القرائن المعتبرة في حصول العلم ، فنمنع بطلان اللازم. وإن اريد الأعمّ ، فالملازمة ممنوعة. والفرق ظاهر.

وقد احتجّوا بوجوه ضعيفة أخر (١) لا فائدة في نقلها ؛ لظهور فسادها.

ثمّ الحقّ : أنّ التصفّح يعطي وجود الأخبار المحفوفة بالقرائن في ضمن الأخبار المرويّة عن أئمّتنا عليهم‌السلام ، وهي الأخبار التي انضمّت بالقرائن المفيدة للعلم ، وهي عندنا آية محكمة ـ خصوصها ، أو عمومها ، أو فحواها ـ أو سنّة قطعيّة كذلك ، أو دلالة العقل ، أو الإجماع. فإن عثرت على خبر واحد وافق إحدى الأربع ، فاحكم بكونه محتفّا بالقرينة ، مفيدا للعلم لا يعارضه شيء من الأدلّة الظنّيّة ، ولا يجوز تعارضه لما يفيد العلم ، كما عرفت (٢).

وقد وقع الخلاف في أنّ إفادة العلم من القرائن فقط ، أو منها ومن الخبر؟ (٣)

ويظهر الفائدة فيما دلّ عليه القرائن من دون خبر ، كالشهادة بالإعسار عند صبره على الجوع وأمثاله في الخلوة ، والتصرّف في الهديّة من غير لفظ ، وقبول بعض الامور من الصبيّ المميّز ، وأكل طعام الأصدقاء ، وبعض التصرّفات في امورهم ، وأمثالها.

والتحقيق أنّ كثيرا من المواضع لا يحصل العلم [ فيها ] من القرائن فقط ، بل يحصل بانضمام الخبر إليها.

نعم ، يمكن أن يتظاهر القرائن في بعض الموارد بحيث تفيد العلم ، وحينئذ يجب العمل بها.

تذنيب

ذهب بعض الناس إلى أنّ كلّ خبر يفيد العلم ، سواء اقترن بالقرينة أم لا (٤).

والحقّ : أنّه ظاهر البطلان ؛ لأنّ كلّ أحد يجد من نفسه تزايد اعتقاده الحاصل من خبر الواحد عند ازدياد الأخبار حتّى يصير يقينا ، ولو حصل العلم من الخبر الأوّل

__________________

(١) راجع : منتهى الوصول : ٧١ ، وشرح مختصر المنتهى ١ : ١٥٦.

(٢) آنفا ؛ لأنّ تعارض العلمين محال عادة.

(٣) راجع الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٤٨.

(٤) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٥١٧ ، ومعارج الاصول : ١٤٠.

٢٢٥

امتنعت الزيادة. والتفاوت في العلم وإن كان ممكنا إلاّ أنّ الجميع مشترك في كونه مانعا من النقيض ، وهنا ليس الأمر كذلك ؛ لأنّ كلّ واحد من الأخبار لا يمنع النقيض حتّى ينتهي إلى حدّ التواتر.

وأيضا لو كان الخبر الواحد مفيدا للعلم ، وجب تخطئة المخالف له في الاجتهاد ، وهو باطل.

واحتجّ من قال بإفادته العلم : بأنّ العمل به واجب إجماعا ، ولو لم يفد العلم لم يجز العمل به ؛ لظواهر الآيات الدالّة على ذمّ اتّباع الظنّ ، كقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(١) ، وقوله تعالى : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَ )(٢) في معرض الذمّ (٣).

وقد عرفت جوابه فيما تقدّم (٤) ، وأشرنا هناك أنّ هذا مذهب الأخباريين من أصحابنا في الأخبار المرويّة عن أئمّتنا عليهم‌السلام ، وأجبنا عن شبههم ، وبيّنّا فساد رأيهم بطرق (٥) قطعيّة.

فصل [٧]

الحقّ أنّه إذا أخبر واحد بحضرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم ينكر عليه لم يدلّ على صدقه ، إلاّ أن يستشهده به وادّعى عليه علمه.

أمّا الثاني ، فظاهر.

وأمّا الأوّل (٦) ، فلإمكان عدم سماعه ، أو فهمه ، أو تأخيره إلى وقت بيان الحاجة ، أو عدم علمه (٧) به ؛ لكونه دنيويّا.

ويظهر منه عدم حجّيّة مثل هذا الخبر ؛ وهو أظهر لو أخبر بحضرة واحد من الأئمّة عليهم‌السلام ؛ لإمكان التقيّة وغيرها من المصالح.

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ٣٦.

(٢) النجم (٥٣) : ٢٣.

(٣) نسبه الآمدي إلى أحمد بن حنبل وبعض أصحاب الحديث في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٤٨.

(٤) ص ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٥) في « ب » : « بطريق ».

(٦) مراده من الثاني صورة ما بعد الاستثناء ، ومن الأوّل ما قبله.

(٧) فيه إنكار عموم علمه عليه‌السلام.

٢٢٦

فصل [٨]

قيل : التواتر السكوتي ـ وهو إخبار واحد بحضرة جماعة بلغوا عدد التواتر مع سكوتهم ـ يفيد صدق الخبر (١).

وقيل : يلزم تقييده بما إذا استشهدوا به ، وعلم كونهم عالمين به ؛ لكون الخبر ممّا امتنع عادة (٢) عدم علمهم به ، أو لأمر آخر ، ولم يعلم داع لهم على السكوت من رغبة ، أو رهبة (٣).

وغير خفيّ أنّ الخبر مع الشروط الثلاثة يفيد العلم بصدقه عادة ؛ لأنّ سكوتهم وعدم تكذيبهم مع علمهم بكذبه يستحيل عادة.

والوجه في اعتبار الشرط الثاني (٤) ظاهر ؛ لأنّ الخبر إذا كان غريبا لا يمكن أن يطّلع عليه إلاّ الأفراد ، فيمكن عدم اطّلاع واحد منهم ، فسكوتهم (٥) لهذا.

وأمّا اعتبار الشرط الأوّل (٦) ، فالظاهر عدم لزومه ؛ لأنّه يبعد سكوت هذا الجمع الكثير عن التكذيب مع علمهم بكذبه وإن لم يستشهدوا. نعم ، هو يفيد التقوية والتأكيد.

وكذا الشرط الثالث (٧) أيضا ؛ لأنّ اجتماع الجمّ الغفير على كتمان ما علموه بحيث لم يشذّ منهم واحد ، يستحيل عادة وإن فرض وجود داع لهم ، ولذا لم يسمع اتّفاق أهل بلد على كتمان الرخص ، أو الغلاء مع وجود داع لهم.

فصل [٩]

العامّة على أنّ ما توفّر الدواعي على نقله ـ كاصول الأديان ، وفروعها الضروريّة ، والمعجزات العظيمة ، والحوادث الغريبة ، كقتل السلطان وأمثاله ـ إذا تفرّد بالخبر عنه

__________________

(١) راجع المحصول في علم أصول الفقه ٤ : ٢٨٦.

(٢) لم يرد في « ب » : « عادة ».

(٣) ذهب إليه ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٧٢ ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٥٨.

(٤) وهو قوله : « علم كونهم عالمين به ».

(٥) في « ب » : « وسكوتهم ».

(٦) هو قوله : « إذا استشهدوا به ».

(٧) وهو قوله : « ولم يعلم داع لهم على السكوت ».

٢٢٧

واحد ـ مع مشاركة غيره له فيما صار سبب علمه (١) به كالمشاهدة ، أو السماع ، أو غيرهما ـ يكون كاذبا (٢). ونسبوا خلافه على الإطلاق إلى الشيعة (٣) ، وهو فرية ؛ لأنّهم قالوا : إنّ الكذب مشروط بعدم حامل لهم على الكتمان ، فمع وجوده ـ كالتقيّة والرغبة وأمثالهما ـ لا يحكم به. فإذا أخبر واحد بأنّ فيما بين الحرمين بلدة أوسع منهما ، يحكم بكذبه ؛ لعدم تصوّر حامل على الكتمان لمن شاركه في سبب العلم. وإذا أخبر واحد بأنّ زيدا قتل عمرا ، وكان المشاركون له في سبب العلم أقرباءه (٤) ، فلا يحكم بكذبه باعتبار كتمانهم (٥) ؛ لوجود الداعي.

ومن هذا القبيل عدم تواتر النصوص الجليّة والخفيّة على خلافة عليّ عليه‌السلام عند المخالفين لو كانوا صادقين ؛ لفتور الدواعي عن نقلها رهبة ، أو رغبة.

ومن هذا القبيل عدم اشتهار بعض الأحكام عن أئمّتنا عليهم‌السلام مع كونها ممّا يعمّ به البلوى.

واعلم أنّه ربما يتوهّم (٦) أنّ كثيرا من معجزات الأنبياء لم يتواتر ، مع كونه ممّا يتوفّر الدواعي على نقله ، كانشقاق القمر ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصى ، وتكلّم عيسى في المهد ؛ فإنّ النصارى لم ينقلوا كلامه فضلا عن أن يتواتر بينهم ، وكذا لم يتواتر كثير من الأحكام الضروريّة مع مسّ الحاجة إليه ؛ والمثال ظاهر.

وتحقيق المقام على وجه يندفع عنه أمثال هذه التوهّمات : أنّ توفّر الدواعي على النقل ممّا يقع فيه الاختلاف والتشكيك بالنسبة إلى الامور ، فهو في بعضها فوق التمام ، وفي بعضها أقلّ ، وهكذا نتنزّل بالتدريج إلى العدم.

وكذا عدد المطّلعين على مدلول الخبر ممّا يقع فيه التفاوت ؛ ففي مدلول بعض الأخبار يبلغ عددهم حدّ التواتر ، وفي بعض آخر يكون أقلّ ، وهكذا يتنزّل إلى أن يصل إلى الواحد.

__________________

(١) في « ب » : « لعلمه ».

(٢) ذهب إليه ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٧٣ ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٥٨ و ١٥٩.

(٣) نسبه ابن الحاجب ، والقاضي عضد الدين إلى الشيعة في المصدرين المذكورين.

(٤) أي أقرباء زيد.

(٥) في « ب » : « كتمانه ».

(٦) المتوهّم هو الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٥٨ و ٥٩.

٢٢٨

وكذا أهواء كلّ واحد منهم في النقل وعدمه ممّا يقع فيه التفاوت ؛ فبعضهم يعتني بالإظهار ، وبعض آخر بالكتمان ، وآخر لا يبالي بشيء منهما ؛ فتفاوت النقل في كلّ قضيّة اشتهارا وخفاء بقدر تفاوت الامور الثلاثة زيادة ونقصانا ، فاشتهار كلّ معجزة بقدر ما يقتضيه توفّر الدواعي على نقله ، وعدد المطّلعين عليه ، وسعيهم في إظهاره. فإن فرض شيء توفّر الدواعي على نقله ، ولو وجد لكان المطّلعون عليه كثيرا ، ومع ذلك لم يشتهر ، فإن تفرّد بنقله واحد يحكم بكذبه ؛ لأنّ مقتضى توفّر الدواعي وكثرة المطّلعين أكثر من ادّعاء واحد ، فلو ادّعى واحد بأنّ القرآن عورض بمثله ولكن لم ينقل ، يكون كاذبا.

فصل [١٠]

التعبّد بخبر الواحد عقلا جائز وفاقا ، وخلاف ابن قبة من أصحابنا (١) وجماعة من أهل الخلاف (٢) لا اعتداد به ؛ لأنّه لا يلزم منه محال في العقل ، ولا نعني منه (٣) سواه. وحجّتهم (٤) واهية ، فالأولى عدم الالتفات إليها.

والحقّ وقوعه بالشروط الآتية (٥) ـ أي حجّيّته ووجوب العمل (٦) به ـ وفاقا لأعلام المتأخّرين (٧) ، وخلافا لأعيان القدماء (٨).

لنا وجوه من الأدلّة :

منها : أنّ باب العلم القطعي في أمثال زماننا مسدود إلاّ فيما علم ضرورة وهو قليل ، لما

__________________

(١) حكاه عنه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٥١٧ ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : ١٤٠ ، والشيخ حسن في معالم الدين : ١٨٩.

(٢) منهم أبو علي الجبائي ، وابن الحاجب كما في منتهى الوصول : ٧٣ ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٥٩.

(٣) أي من الجواز العقلي سوى عدم لزوم المحال.

(٤) ذكرها ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٧٣ و ٧٤ ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٥٩.

(٥) في ص ٢٤١ ، الفصل ١١.

(٦) تفسير للضمير المجرور في « وقوعه ».

(٧) كالمحقّق الحلّي في معارج الاصول : ١٤٠ ، والشيخ حسن في معالم الدين : ١٨٩ ، وكلّ من قال بانفتاح باب العلم بالأحكام.

(٨) كالسيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٥٢٨ و ٥٥٤ ، وحكاه الشيخ حسن عن ابن زهرة وابن البرّاج وابن إدريس في معالم الدين : ١٨٩ ، وكلّ من قال بانسداد باب العلم بالأحكام.

٢٢٩

ذكرنا فيما تقدّم (١) ، فيجب العمل بالظنّ ، وإلاّ يلزم تعطيل الأحكام ، وسدّ أبواب الحلال والحرام. ولا شكّ أنّ الظنّ الحاصل من أكثر أخبار الآحاد أقوى من الظنّ الحاصل من سائر الأدلّة ، مع أنّ أكثر الأحكام ممّا لا يمكن استنباطه إلاّ من الأخبار دون غيرها من الأدلّة ، فالعمل بها متعيّن.

ومنها : اشتهار العمل به بين أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتابعين من غير نكير ، وقد عملوا به في الوقائع الكثيرة ، كما ذكر في كتب السير والاصول ، ولم ينكر عليهم أحد ، وإلاّ لنقل (٢).

ومنها : ما تواتر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان (٣) يرسل الآحاد إلى القبائل لتبليغ الأحكام ، وكان العمل بقولهم لازما عليهم ، ولا يتمّ هذا بدون حجّيّة أخبار الآحاد (٤).

ومنها : اشتهار العمل به بين أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ؛ فإنّه شاع وذاع منهم وممّن يليهم غاية الاهتمام بروايته والعمل به ، والاعتناء في تدوينه وضبطه ، والسعي في ترويجه ونشره ، والبحث عن حال رواته ، والفحص عن الثقة وغيره ، وقد كانت هذه طريقة مستمرّة بين أصحاب جميع الأئمّة عليهم‌السلام ومقاربيهم ، والتتبّع الصادق يشهد بأنّ إنكار الحجّيّة إنّما نشأ (٥) من المرتضى رضى الله عنه وأتباعه ، ولذا قال العلاّمة :

أمّا الإماميّة ، فالأخباريّون منهم ... لم يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام. والاصوليّون منهم ـ كأبي جعفر الطوسي وغيره ـ وافقوا على قبول خبر الواحد ، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه ؛ لشبهة (٦) حصلت لهم (٧). انتهى.

ويدلّ عليه وجود الاختلاف بين الأصحاب بحسب اختلاف الأخبار ، ولو لم تكن حجّة

__________________

(١) في ص ٣١.

(٢) راجع : معارج الاصول : ١٤٤ ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : ٧٤.

(٣) لم يرد في « ب ».

(٤) راجع : معارج الاصول : ١٤٤ ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : ٧٤.

(٥) في « ب » : « ينشأ ».

(٦) والشبهة هي أنّ الإماميّة حين بحثهم مع العامّة لمّا لم يتمكّنوا من التصريح بكذبهم وردّ أخبارهم ، احتالوا في ذلك بالقول بأنّ خبر الواحد ليس بحجّة ، فزعم السيّد وأتباعه أنّ ذلك مذهب لهم.

(٧) نهاية الوصول إلى علم الأصول ٣ : ٤٠٣.

٢٣٠

عندهم لكان اللازم عدم الاختلاف لو كان مستندهم قاطعا ، أو الاختلاف بنحو آخر لو كان مستندهم غير قاطع دون الأخبار.

وقد بالغ الشيخ في حجّيّة أخبار الآحاد ، وادّعى إجماع الأصحاب على العمل بالأخبار المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام حتّى قال :

لو رواها غير الإمامي وكان الخبر سليما عن المعارض ، واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب ، عمل به.

ـ وذكر ـ أنّ قديم الأصحاب وحديثهم إذا طولبوا بصحّة ما أفتى به المفتي منهم ، عوّل (١) على المنقول في أصولهم المعتمدة ، وكتبهم المدوّنة ، فيسلّم له خصمه (٢) منهم الدعوى في ذلك ، وهذه سجيّتهم من زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زمن الأئمّة عليهم‌السلام (٣).

وغير خفيّ أنّ اللازم من الطرق الثلاث (٤) تواتر العمل بأخبار الآحاد من عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عصر المرتضى رضى الله عنه ، وكونه طريقة مستمرّة من غير نكير ، فيظهر منه أنّه كان إجماعيّا ، لا سكوتيّا مفيدا للظنّ ، بل قطعيّا ، كما لا يخفى. وهذا يفيد القطع بحجّيّتها ووجوب العمل بها ؛ لأنّ عملهم حجّة لنا ، ولو وقع الخلاف بينهم لنقل ؛ لأنّه ممّا يتوفّر الدواعي عليه.

لا يقال : ثبوت كلّ واحد من الطرق المذكورة لنا (٥) بأخبار الآحاد ، فيلزم الدور.

لأنّا نقول : كلّ واحد منها وإن ثبت بأخبار كلّ واحد منها من الآحاد إلاّ أنّ القدر المشترك بينها متواتر ، فيثبت عندنا كلّ واحد من الطرق الثلاث بالتواتر المعنوي ، ولها قدر مشترك هو المطلوب ، وهو أجلى من كلّ متواتر ؛ لكونه قدرا مشتركا بين المتواترات الثلاثة.

وقد اعترض عليها بوجوه (٦) كلّها بالإعراض عنه حقيق.

ثمّ هنا أخبار خاصّة تدلّ على الحجّيّة كالأخبار التي وردت في حكم اختلاف الأحاديث (٧) ؛ فإنّها تدلّ على الحجّيّة بأحد الشروط المثبتة فيها. والأخبار الواردة بالأمر

__________________

(١ و ٢) المناسب لقوله : « طولبوا » أن يقال : « عوّلوا » و « لهم خصمهم ».

(٣) العدّة في أصول الفقه ١ : ١٢٦.

(٤) هي : اشتهار العمل بالآحاد بين أصحاب النبيّ ، واشتهاره بين أصحاب الأئمّة ، وإرسال النبيّ الآحاد للتبليغ.

(٥) متعلّق بقوله : « ثبوت » لا « المذكورة ».

(٦) راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : ٧٤ و ٧٥ ، وشرح مختصر المنتهى ١ : ١٦١.

(٧) منها ما في الكافي ١ : ٦٧ و ٦٨ ، باب اختلاف الحديث ، ح ١٠.

٢٣١

بإبلاغ الأحاديث إلى الناس (١). والأخبار الواردة بضبط كتب الأحاديث (٢). فهذه الأخبار وإن لم تكن مستقلّة في إفادة الحجّيّة ؛ نظرا إلى أنّها لم تبلغ حدّ التواتر ، فلا شكّ في كونها مقوّية لها.

ومنها : قوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )(٣).

وجه الاستدلال به : أنّه يدلّ على وجوب الحذر عند إنذار الطائفة من كلّ فرقة ، وهو (٤) بعمومه يشمل الكثير والقليل ، فيصدق على الثلاثة قطعا إن لم يصدق على الاثنين ، فإذا لم يعتبر فيه عدد التواتر ، فبعضه (٥) أولى بذلك ، وهذا يدلّ على وجوب العمل بخبر الواحد.

ثمّ الضمير في الأفعال الثلاثة وإن رجع إلى مجموع الطوائف ، والمراد من القوم وإن كان جميع من يصل إليه الإنذار منهم ، إلاّ أنّ المراد التوزّع ـ بأن يختصّ بإنذار كلّ بعض من القوم بعض من الطوائف ، قلّ أو كثر ـ لا الاجتماع ، وإلاّ بطل الفائدة. وهذا كما يقال : أمر السلطان بإرسال واحد من كلّ مائة ليقاتلوا أعداءه ؛ فإنّ الضمير في الفعل المذكور فيه وإن رجع إلى جميع الذاهبين ، إلاّ أنّ المقاتلة تحصل بكلّ واحد منهم. ولو كان عدد التواتر شرطا ، لوجب أن يقال : ولينذر كلّ واحد من الطوائف ، أو ما يحصل به التواتر كلّ واحد من القوم.

وغير خفيّ أنّ فهم وجوب الحذر من الآية لدلالتها على ذمّ عدم النفر والإنذار ، وهو موجب لوجوب الحذر ؛ ولامتناع (٦) الترجّي على الله ، فحمل على الطلب ؛ لكونه لازما للترجّي ؛ فإنّ المترجّى طالب ، وعدم وجود مجاز أرجح منه.

والإيراد عليه (٧) : بأنّه إذا امتنع يجب الحمل على أقرب المجازات وهو مطلق الطلب

__________________

(١) منها ما في الكافي ١ : ٤٠٣ ، باب ما أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنصيحة ... ، ح ١ و ٢.

(٢) منها ما في المصدر : ٥٢ ، باب رواية الكتب ، ح ٩ و ١٠.

(٣) التوبة (٩) : ١٢٢.

(٤) أي كلّ فرقة ، أو لفظ فرقة.

(٥) أي إذا لم يعتبر في صدق لفظ « فرقة » عدد التواتر ، ففي صدق لفظ « الطائفة » التي هي بعض من الفرقة غير معتبر بطريق أولى.

(٦) هذا دليل آخر لفهم وجوب الحذر من الآية.

(٧) أي على الدليل الثاني. وضمير « امتنع » راجع إلى الترجّي.

٢٣٢

دون الوجوب ، فاسد ؛ لأنّه لا معنى لجواز الحذر وندبه ، بل إن حصل موجبه وجب ، وإلاّ انتفى رأسا.

فإن قيل : الإنذار إن كان المراد منه الإخبار فلا يثبت منه وجوب الحذر مطلقا ؛ لأنّ الإخبار عن المباح والندب والمكروه لا يوجب وجوب الحذر ، وإن كان المراد منه التخويف ـ كما هو الظاهر منه ـ فلا يثبت منه إلاّ حجّيّة الخبر عن الواجب والحرام دون غيرهما من الأحكام ، فالمدّعى ـ وهو حجّيّة مطلق الخبر ـ أعمّ ممّا ثبت.

قلنا : نختار الثاني ، ونثبت حجّيّة الخبر عن غيرهما بالأولويّة ، وعدم القول بالفصل.

نعم ، قيل بالعكس في بعض الأخبار (١) كما يجيء (٢).

والقول (٣) بأنّه يمكن أن يكون المراد من الإنذار التخويف على ترك أو فعل ثبتا (٤) بطريق القطع ، فإنّه يحصل للنفس منه خوف وإن كان من خبر واحد ، لا يلائم التفقّه ، كما لا يخفى.

فإن قيل : المراد من التفقّه معرفة الاصول ، أو الاجتهاد في الفروع ، فيكون المراد من الإنذار الفتوى ، ومن الحذر التقليد.

قلت : الأوّل خلاف المتبادر ؛ لأنّ العرف ما يفهم من التفقّه إلاّ معرفة الفروع ، وإن حمل على معناه اللغوي ـ أعني مطلق التفهّم ـ يثبت منه المطلوب.

والثاني غير صحيح ؛ لأنّ الاجتهاد والتقليد بالمعنى المصطلح إنّما حدثا بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة ؛ لسدّ أبواب الفقه وعدم الظفر بمطلوبهم كما ينبغي. وأمّا في زمانهم وأمثاله ، فكان التمكّن حاصلا ، فلم يكن الاحتياج إليهما ، فيجب أن يكون المراد من التفقّه إمّا المعنى اللغويّ ، أو ما كان متعارف أصحاب النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام ومن يليهم ، فيكون المراد من الإنذار إلقاء كلامهم ، ومن الحذر وجوب الاستماع له.

__________________

(١) والمراد بها أخبار من بلغ التي تأتي في ص ٢٦١ ؛ فإنّ مضمون تلك الأخبار هو حجّيّة الخبر القائم على الاستحباب والمكروه ، وإثبات حجّيّة القائم على الوجوب والحرام بالأولويّة. والقائل به كلّ من قال بدلالة أخبار من بلغ على حجّيّة الخبر الضعيف في مورد الاستحباب والمكروه.

(٢) في ص ٢٦١.

(٣) قاله العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول ٣ : ٣٨٤ ، والفاضل التوني في الوافية : ١٦٣.

(٤) والمناسب لكلمة « أو » هو إفراد الفعل.

٢٣٣

وما قيل ـ بعد تسليم ما ذكر ـ : تكون الآية ظاهرة في حجّيّة خبر الواحد ، وهو لا يكفي ؛ لأنّ الظاهر لا يجري في الاصول (١) ، مدفوع بأنّ الظاهر يجب العمل به ، وإرادة خلافه قبيحة ، كما عرفت سابقا (٢).

ثمّ ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الضمير في الفعلين يعود إلى المتخلّفين من المؤمنين بعد نفور الطوائف منهم إلى الجهاد ، والضمير في « رجعوا » يعود إلى الطوائف (٣). فالمراد أنّه يجب نفر طائفة من كلّ فرقة إلى الجهاد ، وتخلّف الباقي لأجل التفقّه في الدين بسماعهم ما يتجدّد من النصوص ، واستنباط الأحكام منها حتّى إذا رجع النافرون إليهم من السفر ، أو في الأحكام والحوادث ، أنذروهم.

واحتجّ : بأنّ صدر الآية دالّ على هذا ، وهو قوله تعالى : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً )(٤) أي إلى الجهاد (٥).

وهذا خلاف الظاهر ، فيجب الحمل على ما ذهب إليه الأكثر. ولا ينافيه صدر الآية ، كما لا يخفى.

ومنها : قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ )(٦) أمر بالتبيّن عند مجيء الفاسق ، فيدلّ على أنّ العدل بخلافه ؛ عملا بمفهوم الشرط وهو منحصر في القبول ـ وهو المطلوب ـ والردّ ، فيلزم كونه أسوأ حالا من الفاسق وهو باطل. والمفهوم وإن كان أعمّ من مجيء العدل ؛ لكونه عدم مجيء الفاسق ، لكنّه فرد منه وهو كاف للمطلوب.

والإيراد عليه بمنع حجّيّة مفهوم الشرط (٧) ، ضعيف كما ستعلم (٨).

واورد عليه : بأنّه نزل في وليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى

__________________

(١) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٧٥ ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٦٢.

(٢) في ص ١٩٥ ـ ١٩٦ ، الفصل ٤.

(٣) نسبه الشيخ إلى قتادة والضحّاك وابن عبّاس في التبيان ٥ : ٣٢١ ، ذيل الآية ١٢٢ من التوبة (٩).

(٤) التوبة (٩) : ١٢٢.

(٥) راجع التبيان ٥ : ٣٢١.

(٦) الحجرات (٤٩) : ٦.

(٧) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٣٩٩ ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : ٧٥ ، ومعارج الاصول : ١٤٥.

(٨) راجع ج ٢ ، ص ٨٥٧ في مفهوم الشرط.

٢٣٤

بني المصطلق ، فلمّا دنا ديارهم ، ركبوا مستقبلين له ، فظنّ أنّ ركوبهم لمقاتلته ، فرجع وأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّهم ارتدّوا ، فالأمر بالتبيّن إنّما هو في هذا الخبر لا في مطلقه. وأيّده بأنّ التعليل الواقع فيه يجري فيه وفي أمثاله (١).

وجوابه : أنّ تخصّص السبب لا يدلّ على تخصّص الحكم ؛ فإنّ مدار الاستدلال على اللفظ ، واللفظ هنا للعموم ؛ لأنّ التنكير في « فاسق » و « نبأ » للعموم ، وحمله على التعظيم ـ مع بعده ـ يرد عليه ما سنذكره (٢). وليس المراد من التعليل الوقوع في الفساد المذكور ، بل عرضته. فالمطلوب أنّ قبول خبر الفاسق في عرضة هذا الفساد وشرفه ، كما يقال : لا تسافر وحدك ؛ فيضلّ عنك الطريق.

وأيضا إن حمل الآية على المورد بأن يكون المراد منه إن جاءكم مثل الوليد بمثل هذا النبأ الذي يستلزم قبوله قتل النفوس وأمثاله ، فتبيّنوا خوف أن تصيبوا ... ، فيدلّ بالمفهوم على عدم التثبّت في نبأ لا يكون الجائي به مثل الوليد ، أولا (٣) يشتمل على مثل هذا الفساد ، فإمّا يجب ردّه وهو ظاهر البطلان ؛ للزوم ردّ خبر عادل يستلزم ردّه قتل النفوس وأمثاله ، فيلزم كون العدل أسوأ حالا من مثل الوليد ، أو قبوله. فمع عدم القول به يندرج فيه المطلوب (٤).

واعترض عليه أيضا : بأنّ العمل بالمفهوم لا يصحّ في المورد ؛ لعدم قبول خبر العدل في الردّة (٥) ، فغيره أولى بذلك ، فيلزم أن يكون المراد بـ « فاسق » أحدا أو رجلا حتّى ينتظم معنى الآية. والتعبير عنه بالفاسق للإشعار بكون المخبر فاسقا (٦).

والجواب : أنّه مخصّص من عموم المفهوم بدليل من خارج ، والقول به أولى من صرف

__________________

(١) أورده الشيخ في العدّة في أصول الفقه ١ : ١١٢. والقصّة مذكورة في أسباب النزول للواحدي : ٢٦٨ ـ ٢٦٩.

(٢) في هامش « أ » : « لقوله : وأيضا إن حمل الآية على المورد إلى آخره ».

(٣) في « ب » : « ولا ».

(٤) توضيحه : أنّ المأخوذ في المنطوق أمران : فسق المخبر ، وكون النبأ مهمّا. فللمفهوم عند وجود النبأ ثلاث صور : كون المخبر عادلا والنبأ مهمّا أو غير مهمّ ، وكون المخبر فاسقا والخبر غير مهمّ ، فيدلّ المفهوم على حجّيّة الخبر في الصور الثلاث ، والمطلوب هو القسمان الأوّلان ، والثالث خارج ؛ ولذا قال المصنّف رحمه‌الله : « فمع عدم القول به ـ أي بعموم المفهوم ـ يندرج فيه المطلوب ».

(٥) في « ب » : « الردّ ».

(٦) قاله العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول ٣ : ٣٩١ ـ ٣٩٢ ، باب في السنّة.

٢٣٥

الكلام عن حقيقته (١) ، فاللازم إبقاء اللفظ على الوصفيّة وإرادة العموم منه ، ومن نبأ ، ومن المفهوم ، إلاّ فيما ثبت المخصّص. والتأمّل في جواز التخصيص في المورد دون غيره مجرّد استبعاد ؛ فإنّه كما يجوز تخصيص العامّ ببعض أفراد المورد أو كلّها ، وإخراج ما عداه عنه (٢) ، فكذا يجوز تخصيصه ببعض أفراد غيره أو كلّها ، وإخراج ما عداه عنه ، ولا بدّ لنفيه من دليل.

ثمّ الاستدلال على المطلوب بهذه الآية من مفهوم الشرط لا الصفة ـ كما توهّم (٣) ـ لأنّه علّق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق بالخبر. فهذا المجيء الخاصّ هو الشرط والعلّة ، فبانتفاء كلّ جزء منه ينتفي الجزاء. وليس الشرط هو مطلق المجيء ، أو مطلق المجيء بالخبر حتّى يقال : فهم انتفاء الجزاء عند انتفائهما من باب مفهوم الشرط ، وفهم انتفائه عند انتفاء مجيء الفاسق بالخبر ، ومجيء العدل به من باب مفهوم الصفة ، ولذا لو قيل : « إن جاءك العلماء (٤) فأكرمهم » يعلم انتفاء إكرام غيرهم من مفهوم الشرط ، ولو قيل : « أكرم العلماء » يعلم انتفاء إكرام غيرهم من مفهوم الصفة.

هذا ، مع أنّا نعلم أنّ الصالح للعلّيّة فيما نحن فيه ليس إلاّ إخبار الفاسق ؛ لمناسبته للتثبّت ، واقترانه معه.

ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى )(٥) الآية. أوعد على كتمان ما أنزل من البيّنات والهدى ؛ فيجب الإظهار ، والمسموع من النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام من الهدى ؛ فيجب إظهاره (٦) ؛ فيجب العمل به ، وإلاّ لم يكن للإظهار فائدة (٧).

والإيراد (٨) عليه : بأنّ المتبادر من « ما أنزل » القرآن ، ومع التسليم أين وجوب العمل؟ لا يخلو عن تأمّل.

__________________

(١) وهو إرادة أحد أو رجل من الفاسق.

(٢) في « ب » : « منه ».

(٣) توهّمه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٧١.

(٤) في « ب » : « فاسق العلماء ».

(٥) البقرة (٢) : ١٥٩.

(٦) لم يرد في « ب » : « فيجب إظهاره ».

(٧) ذكره العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول ٣ : ٣٩٣.

(٨) أورده السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٥٣٥.

٢٣٦

وهنا وجوه أخر من الأدلّة (١) تركناها ؛ لعدم تماميّتها.

واحتجّ الخصم : بوجوه ضعيفة عمدتها وجهان :

أوّلهما : قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(٢) و ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً )(٣) ، ونحو ذلك من الآيات (٤) الدالّة على ذمّ اتّباع الظنّ. ولا ريب أنّ خبر الواحد لا يفيد إلاّ الظنّ ، فلا يجوز اتّباعه (٥).

وجوابه : أنّ ظنّ المجتهد من أخبار الآحاد وسائر الأدلّة مخصّص بالإجماع ، كما عرفت (٦) مرارا. على أنّ الظاهر من الظنّ في آيات الذمّ اختصاصه بالظنّ في الاصول ؛ لأنّها وردت ذمّا للكفّار ، وهذا يتأتّى في آية النهي (٧) أيضا.

وأجاب بعضهم (٨) : بالانتقاض بوجوب العمل بالظنّ في تفاصيل المجملات (٩) التي علم وجوبها عقلا من الامور الدنيويّة ، كخبر العدل في كون أسد على الطريق ، أو مضرّة شيء معيّن ، أو انكسار جدار مشرف على الانهدام ؛ فإنّه لمّا وجب عقلا اجتناب المضارّ إجمالا ، وجب عقلا اجتناب تفاصيله كالامور المذكورة ، ويجب العمل بالظنّ فيها ، ولذا لو لم يحترز عنها بخبر واحد يذمّه العقلاء.

أقول : بعض من قال بوجوب العمل بخبر الواحد عقلا احتجّ به عليه ، وقال : قد بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجلب المنافع ودفع المضارّ ، ومضامين أخبار الآحاد تفاصيل لهما ، وهي تفيد الظنّ ؛ فيجب العمل بها ، كما يجب به في الامور المذكورة (١٠).

__________________

(١) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٥٣١ ـ ٥٣٤ ، والإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٧١.

(٢) الإسراء (١٧) : ٣٦.

(٣) النجم (٥٣) : ٢٨.

(٤) منها : قوله تعالى : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) ، البقرة (٢) : ١٦٩.

(٥) حكاه العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول ٣ : ٤١١ ـ ٤١٣.

(٦) في ص ٣٢.

(٧) وهي قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) ، الإسراء (١٧) : ٣٦.

(٨) لعلّ المراد بهذا البعض هم : البصري في المعتمد ٢ : ١٠٦ و ١٠٧ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ٧٦ ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٦٣.

(٩) أي مصاديق القواعد العقليّة.

(١٠) قاله البصري في المعتمد ٢ : ١٠٧.

٢٣٧

والمدّعى وإن كان حقّا عندنا ـ فإنّه يجب العمل بخبر الواحد عقلا ، كما ثبت من الدليل الأوّل (١) ، ونقلا كما ثبت من باقي الأدلّة ـ إلاّ أنّ هذا الدليل (٢) لا يخلو عن تأمّل ؛ لإمكان منع وجوب العمل بالظنّ في تفاصيل ما يجب قطعا ، بل العمل به فيها (٣) أولى ؛ للاحتياط. على أنّه ربما يكون الاحتياط ترك العمل به ، كما إذا احتمل العمل به مضرّة. فهذا النقض غير وارد ، كما أنّ النقض بالشهادة والفتوى (٤) أيضا كذلك ؛ لإمكان أن يقال : إنّهما مخصّصان بدليل من خارج.

وثانيهما : إصرار المرتضى رحمه‌الله في نفي حجّيّته ، وادّعاؤه الإجماع عليه. وذكر أنّ شيوخ الطائفة ورؤساءهم قد ملئوا الطوامير ، وسطّروا الأساطير في الاحتجاج عليه والنقض على من خالفهم ، وصرّح بأنّهم يعلمونه بديهة ، كما يعلمون بطلان القياس (٥). وقد كرّر أمثال هذه العبارات في كتبه ، ولو لم يتّضح له لما أصرّ بهذه المثابة.

وجوابه : أنّ كلامه معارض بما ذكره الشيخ من المبالغة ، ودعوى الإجماع على خلافه (٦). وكيف يسمع دعوى الضرورة في أنّ الإماميّة ينكرون العمل بخبر الواحد ، مع أنّا نعلم قطعا أنّ معظمهم يعملون به؟!

وأيضا لا شبهة في بقاء التكليف ، فإن اكتفي فيه بالظنّ ، فهو حاصل من خبر الواحد ، وإلاّ يلزم التكليف بالمحال ؛ لعدم إمكان تحصيل القطع في شيء من مضامين أخبار الآحاد.

والقول بأنّ معظم الفقه يعلم بالضرورة ، والتواتر ، و (٧) الإجماع ـ كما قال المرتضى رضى الله عنه (٨) ـ ضعيف ؛ لضرورة العلم بخلافه.

__________________

(١) تقدّم في ص ٢٢٩ ومرّ الباقي فيما بعدها.

(٢) والمراد به هو النقض.

(٣) في « ب » : « فيهما ».

(٤) راجع معارج الاصول : ١٤٢.

(٥) راجع جوابات المسائل التبّانيّات ( ضمن رسائل الشريف المرتضى / ج ١ ) : ٢٤.

(٦) راجع العدّة في أصول الفقه ١ : ١٢٦.

(٧) في « ب » : « أو ».

(٨) حكاه عنه الشيخ حسن في معالم الدين : ١٩٦ ، ولم أجده في كتبه.

٢٣٨

هذا ، مع أنّ دعوى الإجماع من السيّد خبر واحد ، والعمل به مناف لغرضه (١).

وإذا عرفت ذلك تعلم أنّ الحقّ وجوب العمل بخبر الواحد بالشروط الآتية ، وإن لم ينضمّ إليه القرائن المفيدة للعلم.

وكيفيّة التفريع ظاهرة.

فائدة

الحقّ أنّ الشيخ ما اعتبر في حجّيّة خبر الواحد انضمام القرينة ، بل يعمل بالخبر العاري عنها أيضا ، كما قال في العدّة :

فأمّا ما اخترته من المذهب ـ يعني العمل بخبر الواحد ـ : فهو أنّ خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا ، وكان مرويّا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو (٢) عن الأئمّة عليهم‌السلام ، وكان ممّن لا يطعن في روايته ، ويكون سديدا في نقله ، ولم يكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر ـ لأنّه إذا كان هناك قرينة تدلّ على صحّة ذلك ، كان ذلك باعتبار القرينة ، وكان موجبا للعلم كما يذكر فيما بعد ـ جاز العمل به.

والذي يدلّ على ذلك إجماع الفرقة المحقّة ؛ فإنّي وجدتها مجتمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ، ودوّنوها في اصولهم ، لا يتناكرون ذلك ، ولا يتدافعونه (٣). انتهى.

ولكلامه هذا ذيل ، في مواضع (٤) منه أيضا دلالة على المطلوب ، وكذا في كلماته الأخر أيضا في العدّة (٥) ، وفي ديباجة الاستبصار ؛ حيث قال ـ بعد ذكر القرائن الأربع

__________________

(١) الضمير راجع إلى الخصم أي منكر حجّيّة خبر الواحد ، لا السيّد ؛ فإنّ السيّد محصّل للإجماع ، وعدم حجّيّة خبر الواحد عنده مقطوع به ، وأمّا بالنسبة إلى غيره فهو غير مفيد ؛ لأنّه الإجماع المنقول بخبر الواحد ، بل يلزم من قبوله نقض غرضه.

(٢) في « ب » : « و ».

(٣) العدّة في أصول الفقه ١ : ١٢٦.

(٤) من تلك المواضع قوله في العدّة في أصول الفقه ١ : ١٣٦ : « فعلم أنّ ادّعاء القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة » ، وقوله : « ومن ادّعى القرائن ... ». وقوله : « ومن قال عند ذلك ... ».

(٥) منها قوله في العدّة في أصول الفقه ١ : ١١٦ : « والثاني : أنّا سلّمنا أنّهم عملوا ... » يعلم من هنا أنّ محلّ النزاع بين القائل بحجّيّة الخبر ، والقائل بعدمها هو الخبر المجرّد عن القرينة ، وهو المطلوب هنا.

ومنها قوله في العدّة في أصول الفقه ١ : ١٤٥ : « فمتى تجرّد الخبر ... ».

٢٣٩

المفيدة للعلم على ما ذكرنا ـ :

كلّ خبر لا يكون متواترا ويتعرّى من واحد من هذه القرائن ، فإنّ ذلك خبر واحد ، ويجوز العمل به على شروط ، فإذا كان خبر لا يعارضه خبر آخر ، فإنّ ذلك يجب العمل به ؛ لأنّه من الباب الذي عليه الإجماع في النقل ، إلاّ أن يعرف فتاويهم بخلافه ، فيترك لأجلها العمل به (١). انتهى.

ولا ينافيه ما في ديباجة التهذيب حيث اشترط فيها انضمام القرائن إليه في صحّة العمل (٢) ؛ لأنّ مراده بها فيها صحّة الأسانيد ، أو وجود الخبر في اصول الأصحاب ، لا القرائن المفيدة للعلم ، وإلاّ لزم التناقض في كلامه.

ومنه يعلم أنّه لا ينافي ما ذكرنا ما يقول الشيخ كثيرا في التهذيب والاستبصار في مقام ردّ الأخبار : أنّها أخبار آحاد لا توجب علما وعملا (٣) ؛ لأنّ المراد أنّها لم يوجد معها الشروط التي يجب مراعاتها ، كصحّة الأسانيد ، أو وجودها في الاصول ، أو عدم مخالفتها لعمل الطائفة وأمثالها.

وإذا عرفت أنّ الشيخ لم يعتبر في حجّيّة خبر الواحد اقترانه بالقرائن المفيدة للعلم ، تعلم أنّ المخالفة بينه وبين المرتضى رحمه‌الله معنويّة ؛ لأنّه اعتبره فيها.

وبهذا يظهر ضعف ما ذكره بعض المتأخّرين من أنّ الإنصاف أنّه لم يتّضح عن حال الشيخ وأمثاله المخالفة للمرتضى ؛ إذ كانت أخبار الأصحاب يومئذ قريبة العهد بزمان لقاء المعصومين ، واستفادة الأحكام منهم ، وكانت القرائن العاضدة لها ميسّرة ، كما أشار إليه السيّد (٤) ، ولم يعلم أنّهم اعتمدوا على الخبر المجرّد لتظهر مخالفتهم له (٥).

ثمّ أيّد كلامه بما ذكره المحقّق (٦) من أنّ الشيخ وإن قال بوجوب العمل بخبر العدل ، إلاّ أنّه يتبيّن عند التحقيق أنّه لا يعمل بالخبر مطلقا ، بل بهذه الأخبار التي رويت عن الأئمّة عليهم‌السلام

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٤.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٣.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٢٤٢ ، ذيل الحديث ٦٩٧ و ٦٩٨ ، والاستبصار ١ : ٩٢ ، ذيل الحديث ٢٩٥.

(٤) تقدّم في ص ٢٣٨.

(٥) قاله الشيخ حسن في معالم الدين : ١٩٧ و ١٩٨. وفيه : « لتظهر مخالفتهم لرأيه فيه ».

(٦) معارج الاصول : ١٤٧.

٢٤٠