أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

ومنها : لو وجب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به لافتقر إلى نيّة على حدة (١).

والجواب : أنّ نيّة الواجب تكفي عن نيّة لازمه.

ومنها : أنّه لو وجب لزم ترتّب الإثم على تركه وليس كذلك (٢).

والجواب : أنّه لا خلاف في وجوب كلّ واحد من أجزاء الواجب المركّب كالصلاة ؛ فإنّ كلّ واحد من أجزائها واجب وفاقا ، فإذا تركت الصلاة يلزم أن يترتّب على كلّ واحد منها إثم على حدة ، فما تقولون هنا نحن نقول هناك ، فإن التزمتم ترتّب الإثم على ترك كلّ واحد منها ، فإنّا أيضا نلتزم ترتّب الإثم على تركه.

ومنها : أنّه لو وجب لاستحال التصريح بعدم وجوبه ؛ للزوم التناقض (٣).

والجواب : أنّ هذا في حكم الاستثناء.

ومنها : أنّ الطلب صريحا لم يتعلّق به ، بل تعلّق بالواجب نفسه (٤).

والجواب : أنّ الطلب لا ينحصر في الصريح ، بل يكفي الضمني أيضا. والقول بأنّه لم يوجد هنا واحدة من الدلالات الثلاث واه ؛ فإنّ الالتزاميّة موجودة ، كما لا يخفى على من يعرفها.

فإن قيل : لا بدّ في الالتزاميّة من اللزوم العقلي أو العرفي.

قلت : اللزوم العقلي موجود وإن لم يكن مقصودا للمتكلّم ؛ فإنّ الدلالة التي ليست بصريحة إمّا دلالة اقتضاء ، أو إيماء ، أو إشارة. ودلالة الإشارة هي الالتزاميّة مع عدم كون المعنى الالتزامي في قصد المتكلّم ، كدلالة قوله تعالى : ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً )(٥) مع قوله : ( وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ )(٦) على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

واستدلّ من خصّ الوجوب بالسبب :

أمّا على نفي وجوب ما عداه ، فبما مرّ (٧) ، وبأصالة عدم الوجوب ، وأصالة اتّحاد متعلّق الخطاب.

__________________

(١ و ٢) راجع نهاية السؤل ١ : ١٩٧ و ١٩٨.

(٣ و ٤) راجع : المصدر ١ : ١٩٧ ـ ٢١١ ، وقوانين الأصول ١ : ٩٩ ـ ١٠٦.

(٥) الأحقاف (٤٦) : ١٥.

(٦) لقمان (٣١) : ١٤.

(٧) مرّ آنفا من أدلّة المنع.

١٤١

وأمّا على وجوبه ، فبأنّ القدرة تتعلّق حقيقة بالسبب دون المسبّب ؛ لأنّ إيجاد السبب مستلزم لإيجاده ، وبدون إيجاده لا يمكن إيجاده ، فالأمر بالمسبّب أمر حقيقة بالسبب وإن تعلّق ظاهرا به (١).

والجواب عن الجزء الأوّل :

أمّا عمّا مرّ من أدلّة المنع ، فلما عرفت جوابها (٢).

وأمّا عن الأصل ، فبأنّ حجّيّته عند عدم الدليل.

وعن الجزء الثاني : فنحن نقول به. ويدلّ عليه ـ مضافا إلى ما ذكره وذكرنا قبل ذلك ـ نقل الإجماع ؛ فإنّه نقل جماعة الإجماع على وجوب السبب (٣).

واحتجّ ابن الحاجب على عدم وجوب غير الشرط الشرعي بما مرّ (٤).

وقد عرفت الحال. وعلى وجوبه : بأنّه لو لم يجب لكان الآتي بالمشروط فقط آتيا بجميع ما امر به ، فيلزم خروجه عن كونه شرطا شرعيّا (٥).

واجيب (٦) بمنع الشرطيّة (٧) ، أي ليس الآتي بالمشروط فقط آتيا بجميع ما امر به ، لأنّ الإتيان بالمشروط بدون الشرط غير صحيح. وليس هذا لكونه واجبا شرعيّا ، بل لكونه ممّا لا بدّ منه شرعا ، كما أنّ الشرط العقلي ممّا لا بدّ منه عقلا. فالفرق بينهما أنّ اللابدّيّة في العقلي عقليّة ، وفي الشرعي شرعيّة ، واللابدّيّة الشرعيّة غير الوجوب ، بناء على مغايرة الحكم الوضعي للشرعي.

وقد عرفت (٨) أنّ الحقّ عدم المغايرة بينهما ؛ فاللابدّيّة الشرعيّة مستلزمة للوجوب

__________________

(١) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٨٣ ، وتهذيب الاصول : ١١٠.

(٢) في ص ١٤٠ وما بعدها.

(٣) كابن الحاجب في منتهى الوصول : ٣٦ و ٣٧ ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ٩٠ و ٩١ ، والتفتازاني في شرح الشرح كما في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ١ : ٢٠٠.

(٤) راجع ص ١٣٥.

(٥) راجع : منتهى الوصول لابن الحاجب : ٣٦ ، وشرح مختصر المنتهى ١ : ٩٠ و ٩١ ، ونهاية السؤل ١ : ٢٠٦.

(٦) أجاب به الأسنوي في نهاية السؤل ١ : ٢٠٠ و ٢٠١.

(٧) والمراد بها الملازمة.

(٨) راجع ص ٩٥.

١٤٢

الشرعي (١) إذا كانت في شرط الواجب لا في شرط المندوب أيضا ؛ فإنّ مجرّد الشرطيّة لا يستلزم الوجوب الشرعي ، كما أنّ الوضوء شرط للنافلة وليس بواجب شرعي ، بل الشرطيّة ـ مع كون الشرط من مقدّمات الواجب ـ تستلزم الوجوب الشرعي. وقد عرفت (٢) أيضا أنّ الوجوب العقلي مستلزم للوجوب الشرعي ، فالفرق تحكّم.

هذا ، واعلم أنّ الشرط الشرعي إمّا أن يتعلّق به صريح أمر آخر سوى ما يفهم من الأمر بالمشروط ، وهو الغالب كالوضوء ، أو لا. ولا خلاف في وجوب الأوّل ؛ لأنّه قسم من الواجب الأصلي ـ وهو ما تعلّق به الأمر أصالة وصريحا ـ إلاّ أنّه واجب لغيره ، وقسمه الآخر ما هو واجب لنفسه ، كالصلاة وأمثالها. ولا خلاف في أصل الوجوب الشرعي للواجب الأصلي بقسميه ، وإنّما الخلاف في وجوب مقابله وهو الواجب التبعي ، أي ما فهم إيجابه من إيجاب شيء آخر ، سواء كان له وجوب أصلي أيضا ، أو لا.

فالخلاف في مقدّمة الواجب إن كان في أصل وجوبها ، لم يجز وقوعه في الشرط الشرعي الذي دلّ عليه صريح الأمر ؛ لكونه واجبا وفاقا ، وإن كان في وجوبها التبعي ـ أي كون إيجاب ذي المقدّمة مستلزما لإيجاب المقدّمة ـ جاز وقوعه فيه أيضا ، إلاّ أنّ هذا الخلاف فيه عديم الفائدة ؛ لأنّه إذا كان له وجوب أصلي بلا خلاف (٣) ، فما الفائدة للخلاف في أنّه هل له وجوب تبعي ، أم لا؟ ولذا قيل : الظاهر من كلام القوم أنّ الخلاف فيما لم يتعلّق به أمر آخر غير ما تعلّق بمشروطه ـ سواء كان شرطا شرعيّا أو غيره ـ بأنّه هل يجب تبعا ، أم لا؟ (٤)

فإن قلت : الشرط الشرعي لا بدّ من أن يتعلّق به أمر الشارع ؛ لأنّه لا معنى لشرطيّته إلاّ حكم الشارع بأنّه يجب الإتيان به عند الإتيان بمشروطه ، فالشرط الذي لم يتعلّق به هذا الحكم لا يكون شرطا شرعيّا ، فلا يتحقّق الشرط الشرعي الذي لم يتعلّق به صريح الأمر.

__________________

(١) الاستلزام دليل المغايرة ، فلا يخفى ما في الجمع بين نفي المغايرة وإثبات الاستلزام.

(٢) راجع ص ١٠٣.

(٣) هذا خبر « أنّه » والضمير في « أنّه » راجع إلى الإيجاب وفي « له » راجع إلى الشرط الشرعي.

(٤) قاله القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ٩١ ، والقمّي في قوانين الاصول ١ : ١٠٨.

١٤٣

قلت : الشرطيّة من خطاب الوضع ، وهو غير الأمر والإيجاب ، فيمكن أن يجعل الشارع أمرا شرطا لغيره من غير أن يأمر به.

فالشرط إمّا أن يأمر به الشارع ويصرّح بالشرطيّة ، وهو الشرط الشرعي الذي تعلّق به صريح الأمر.

أو يصرّح بالشرطيّة من دون الأمر ، وهو الشرط الشرعي الذي لم يتعلّق به صريح الأمر.

وهذا القسم إن وجب ليس وجوبه من الأمر ، بل من الشرطيّة الشرعيّة ، مع كون الشرط من مقدّمات الواجب.

أو لا يأمر به ولا يصرّح بالشرطيّة أيضا ، ولكن يعلم عقلا أنّ الفعل موقوف عليه وهو الشرط العقلي ، ووجوبه من الشرطيّة العقليّة مع كونه من مقدّمات الواجب.

إذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع ظاهرة عليك. والفروع لهذا الأصل كثيرة ، وقد سبق جملة منها.

ومنها : أنّه إذا مات رجل وعليه حجّة واجبة ، فعلى القول بوجوب المقدّمة يجب أن يحجّ عنه عن بلده ، وعلى القول الآخر يجوز أن يحجّ عنه من أيّ موضع اتّفق. وهو المشهور عند أصحابنا (١) ؛ لأدلّة خارجيّة (٢).

ثمّ إنّ مقدّمة الواجب إمّا أن لا يكون لها معارض من العقل والنقل ، أو يكون لها ذلك.

فالأوّل لا تأمّل في وجوبه على ما اخترناه ، كدخول جزء من الليل في الصوم ، والإتيان بالصلوات الخمس أو ثلاث ـ على اختلاف القولين ـ لمن ترك واحدة ولم يدر بعينها (٣).

والثاني يجب فيه الفحص والتفتيش حتّى يظهر الترجيح ، وذلك كالشبهة في موضوع (٤) الحكم ، مثل أن يسقط تمرة نجسة بين تمر كثير ولم تتميّز ، أو اشتبه لحم الميّت بالمذبوح ، وأمثال ذلك ، فإنّه يجب حينئذ ترك الجميع من باب المقدّمة ، إلاّ أنّ له معارضا ، وهو أصالة

__________________

(١) راجع تذكرة الفقهاء ٧ : ٩٦ و ٩٧ ، المسألة ٦٧.

(٢) تهذيب الأحكام ٥ : ٤٠٥ ، ح ١٤١١ و: ٤١٥ ، ح ١٤٤٥.

(٣) ليس ما ذكر مقدّمة للواجب ، بل مقدّمة للعلم بامتثاله ، ويعرف هذا بالمقدّمة العلميّة لا العينيّة ، والكلام في المقدّمة في الثانية.

(٤) في « ب » : « موضع ».

١٤٤

الحلّيّة والطهارة حتّى يعرف الحرام والنجس بعينه ، كما دلّ عليه بعض الأخبار (١).

والمشهور بين الفقهاء وجوب الاجتناب عن الجميع لو وقع الشبهة (٢) في المحصور عادة ، وعدمه لو وقع في غيره (٣). وتأمّل بعضهم (٤) في الفرق. ولعلّك تعرف حقيقة الحال بعد ذلك.

وقد يكون وجوب مقدّمة الواجب معتضدا بدليل آخر ، وحينئذ لا شبهة في وجوبها.

وقد يستدلّ بعدم وجوب مقدّمة شيء على عدم وجوبه ، كما يقال : الصلاة في الدار المغصوبة ليست بواجبة ؛ لأنّ الكون فيها من مقدّمات الصلاة فيها وهو ليس بواجب ؛ للنهي عنه ؛ فالصلاة فيها ليست بواجبة ، وإذا لم تكن واجبة تكون باطلة ، وقد يعتضد ذلك بأنّها منهيّ عنها ؛ لكونها مضادّة للخروج المأمور به ، والأمر بالشيء نهي عن ضدّه.

وبالجملة ، في أمثال هذه المواضع يجب الفحص حتّى يظهر الترجيح.

وإذا عرفت حقيقة الحال في مقدّمة الواجب مع كيفيّة التفريع ، تعرف ذلك في مقدّمة الحرام والمستحبّ والمكروه ، ولا يحتاج إلى بيان.

فصل [١٤]

هل يجوز اتّصاف شيء واحد بحكمين من الأحكام الخمسة ، مثل أن يكون واجبا حراما ، أو واجبا مكروها ، وهكذا؟

والحقّ عدم الجواز مطلقا ، إلاّ أنّ له صورا وقع في بعضها الخلاف ، فلا بدّ من ذكرها وبيان ما هو الحقّ :

[ الصورة ] الأولى : لا خلاف في جواز ذلك في الواحد بالجنس ، بأن يكون شيء جائز

__________________

(١) منها : ما دلّ على أصالة الحلّيّة كما في الكافي ٥ : ٣١٣ ، باب النوادر ، ح ٣٩ و ٤٠ ، و: ٣٣٩ ، باب الجبن ، ح ١ و ٢. ومنها : ما دلّ على أصالة الطهارة كما في تهذيب الأحكام ١ : ٢٨٥ ، ح ٨٣٢.

(٢) كذا في النسختين. والأولى : « المشتبه ».

(٣) منهم : العاملي في مدارك الأحكام ١ : ١٠٧ ، والوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : ٢٤٨ ، وراجع الحدائق الناضرة ١ : ١٤٨ و ١٤٩.

(٤) ذهب القمّي إلى عدم الفرق فيما لا نصّ فيه وقال في المحصور : « والذي يترجّح في النظر هو عدم الوجوب ». راجع : قوانين الاصول ١ : ١٠٨ ، والحدائق الناضرة ١ : ١٤٨.

١٤٥

الاتّصاف بوصفين مفارقين ، فيجب بأحد الاعتبارين ، ويحرم بالاعتبار الآخر مع بقاء وحدته الجنسيّة في الحالين ، كضرب اليتيم تأديبا وظلما ، والسجود لله وللشمس ، ويكون حينئذ بين المأمور به والمنهيّ عنه تباين.

والدليل على جواز ذلك أنّ الفردين من الواحد بالجنس في حكم المتباينين ، وجواز تعلّق الأمر بأحدهما ، والنهي بالآخر في غاية البداهة.

[ الصورة ] الثانية : أن يتعلّق الوجوب والحرمة بالواحد الشخصي في زمان واحد من جهة واحدة ، سواء كان هذه الجهة ذات هذا الشيء أو غيرها ، ويكون حينئذ بين المأمور به والمنهيّ عنه مساواة. ولا يجوز ذلك ؛ لامتناع التكليف بالمحال.

[ الصورة ] الثالثة : أن يتعلّقا به من جهتين متلازمتين ، ويكون حينئذ بين المأمور به والمنهيّ عنه مساواة أيضا ؛ لعدم تصوّر انفكاك إحدى الجهتين عن الاخرى. وهذا أيضا غير جائز ؛ للزوم التكليف بالمحال. وفي هاتين الصورتين إن تعارضت الأدلّة بالأمر والنهي يجب الجمع أو الطرح.

[ الصورة ] الرابعة : أن يتعلّقا به من جهتين بينهما عموم وخصوص مطلقا ، فيتصوّر الانفكاك من إحدى الجهتين دون الاخرى ، ويكون حينئذ بين المأمور به والمنهيّ عنه أيضا عموم وخصوص مطلقا. ولا يجوز ذلك أيضا لما ذكر ؛ لأنّ فعل العامّ مثلا يستلزم فعل الخاصّ مع أنّه لازم الترك ، فالأدلّة إذا تعارضت بالعموم والخصوص ، يجب حمل العامّ على الخاصّ.

وقد ادّعي الوفاق على عدم الجواز في هذه الصورة (١) ، إلاّ أنّ الأدلّة التي ذكروا على الجواز في الصورة الخامسة تجري فيها أيضا ، ولكنّها مدفوعة عنهما معا ، كما ستعرف (٢).

__________________

(١) ادّعاه الشيخ حسن في معالم الدين : ٩٣.

(٢) يأتي في ص ١٥١.

١٤٦

[ الصورة ] الخامسة : أن يتعلّقا به من جهتين بينهما عموم وخصوص من وجه ، ويكون النسبة بين المأمور به والمنهيّ عنه ذلك ، فيتحقّق الانفكاك من كلّ واحد من الجهتين من وجه ، ويجتمعان أيضا في بعض الموادّ. وحينئذ يتحقّق الوجوب والحرمة في مادّة واحدة باعتبار هاتين الجهتين ، كالصلاة في المكان الغصبي ؛ فإنّ الصلاة مأمور بها ، والغصب منهيّ عنه ، والصلاة في المكان الغصبي فرد لكلّ منهما.

وقد وقع الخلاف في صحّة ذلك ، فالأشاعرة على الصحّة ، وقالوا : إذا أتى المكلّف بما فيه التصادق ، يكون مطيعا عاصيا من جهة الأمر والنهي (١).

والقاضي على أنّه لا يصحّ ذلك ، وإن فعل ذلك كان حراما صرفا (٢) ، إلاّ أنّه مسقط للفرض ؛ فإنّه يمكن أن يصير معصية مسقطة للفرض ، كما أنّ من شرب مجنّنا حتّى جنّ يسقط عنه الفرض (٣).

وأصحابنا وأكثر المتكلّمين على عدم الصحّة ، وعدم سقوط الفرض به. ولم نجد من أصحابنا مخالفا في ذلك سوى الفضل بن شاذان على ما نقل عنه الكليني في كتاب الطلاق من الكافي بأنّه حكم بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة (٤).

ويظهر من كلام المرتضى في الذريعة أيضا صحّة الصلاة فيها (٥). وربما دلّ كلامه فيها على جواز اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد (٦). ونقل عنه الشهيد بأنّه حكم بصحّة الصلاة التي وقعت رياء (٧) ، بمعنى سقوط الفرض بها وإن لم يترتّب عليها الثواب. وهذا يدلّ

__________________

(١) راجع الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٥٨.

(٢) معناه تقديم جانب النهي على الأمر.

(٣) راجع المحصول ٢ : ٢٩١.

(٤) الكافي ٦ : ٩٤ ، باب الفرق بين من طلّق على غير السنّة وبين المطلّقة.

(٥) صرّح السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ١٩١ بعدم الإجزاء. نعم نسب القول بالصحّة إليه الشهيد في الدروس الشرعيّة ١ : ١٥٢ ، وفي البيان : ٦٣.

(٦) لم نعثر على ذلك في الذريعة بعد الفحص في مظانّه. وقال الشيخ حسن في معالم الدين : ٩٣ : « الحقّ امتناع توجّه الأمر والنهي إلى شيء واحد. ولا نعلم في ذلك مخالفا من أصحابنا » وهذا يشعر بعدم صحّة ما نسب إليه المصنّف.

(٧) قاله السيّد المرتضى في الانتصار : ١٠٠ ، ونقله عنه الشهيد في القواعد والفوائد ١ : ٧٩ ، الفائدة ٣.

١٤٧

على جواز اجتماع الوجوب والحرمة في شيء باعتبار جهتين.

ثمّ القائلون بعدم الصحّة قالوا : ما تصادق فيه العمومان يتحقّق فيه بينهما التعارض من وجه ، فيجب أن يخصّص الأضعف بالأقوى.

واحتجّوا على ذلك : بأنّه لا يمكن أن يكون شيء مطلوبا ومبغوضا لأحد ، سيّما للعالم بجميع الجزئيّات ، فكيف يأمر بشيء هو فرد لما نهى عنه؟! (١)

والقول بأنّ جهة المطلوبيّة غير جهة المبغوضيّة ، لا ينفع ؛ لأنّ متعلّق الجهتين واحد ، فيكون شيء واحد مطلوبا ومبغوضا.

وبأنّ العرف كما يفهم التخصيص من الأمر بالخاصّ المطلق بعد النهي عن العامّ المطلق أو بالعكس ، كذلك يفهمه من الأمر بالعامّ من وجه بعد النهي عن عامّ من وجه آخر أو بالعكس ، فالشارع إذا أمر بالصلاة مطلقا ، ونهى عن التصرّف في المكان المغصوب كذلك ، يفهم العرف أنّ المأمور به الصلاة التي وقعت في غير المكان الغصبي ، أو (٢) المنهيّ عنه التصرّف الذي [ هو ](٣) غير الصلاة ، وتعيّن (٤) أحدهما من جهة قوّته بالمؤيّدات الخارجيّة من الأدلّة وعمل الفقهاء.

وهنا (٥) رجّح طرف النهي ؛ لكونه أقوى ؛ لاعتضاده بعمل الأصحاب (٦) إلاّ ما شذّ (٧) ؛ ولأنّ العبادة إذا كانت محتملة للوجوب والحرمة ، يرجّح جانب التحريم ؛ لما ورد من التثبّت والكفّ عند تعارض الأمر والنهي (٨) ، وللاستقراء ؛ فإنّه يدلّ على أنّ دأب الشارع في أمثال المقام ترجيح الكفّ ، كصلاة الحائض في أيّام الاستظهار وأمثالها.

__________________

(١) راجع : المحصول ٢ : ٢٩١ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٥٩ ، ومعالم الدين : ٩٤ ، والوافية : ٩١.

(٢) في « ب » : « و ».

(٣) أضفناه بمقتضى لزوم كون الصلة جملة أو شبهها.

(٤) في « ب » : « تعيين ».

(٥) أي في مسألة الصلاة والغصب ونحوها ممّا كان أحد العنوانين عبادة.

(٦) يعلم ذلك بالمراجعة إلى كتب الفقه.

(٧) كذا في النسختين. والأولى « إلاّ من شذّ » كما في قوانين الاصول ١ : ١٥٣.

(٨) مثل ما دلّ على ترك الحائض الصلاة أيّام الاستظهار. راجع : الكافي ٣ : ٧٧ ، باب المرأة ترى الدم قبل أيّامها أو بعد طهرها ، ح ٢ و ٣ ، وتهذيب الأحكام ١ : ١٧١ ، ح ٤٨٨ ، و ٢٤٨ ، ح ٧١٢ ، و ٤٠١ ، ح ١٢٥٣ ، و ٥ : ٤٠٠ ، ح ١٣٩٠. وما دلّ على الكفّ عن الوضوء من الماءين : أحدهما نجس. منها : ما في الكافي ٣ : ١٠ ، باب الوضوء من سؤر الدوابّ والسباع والطير ، ح ٦ ، ووسائل الشيعة ١ : ١٥١ و ١٥٥ ، أبواب الماء المطلق ، الباب ٨ ، ح ٢ و ١٤.

١٤٨

وقيل أيضا : لأنّ دفع المفسدة أهمّ من جلب المنفعة (١).

وهذا إنّما يتمّ فيما يحتمل الندب والحرمة لا الوجوب والحرمة ؛ لأنّ ترك الوجوب أيضا يشتمل على المفسدة.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يبقى كلّ واحد من الأمر والنهي على إطلاقه من غير تخصيص أحدهما بالآخر حتّى إذا أتى المكلّف بما اجتمعا فيه ، استحقّ العقوبة بالنهي وإن كان ممتثلا للأمر ؛ فإنّه لا مانع ـ لغة وعقلا ـ أن يقول أحد لغيره : « اكتب ، ولا تكتب في الموضع الفلاني ، ولو كتبت فيه لعاقبتك ولكن حصّلت مطلوبي »؟ ولذا قيل : النهي لا يدلّ على الفساد (٢).

قلت : هذا جائز عند التصريح (٣) ، وأمّا عند التعارض ـ كما نحن فيه ـ فلا يفهم منه إلاّ التخصيص كما ذكر.

احتجّ الخصم بوجهين :

أحدهما : أنّ السيّد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ثمّ خاطه فيه ، فإنّا نجزم بأنّه مطيع عاص معا من جهتي الأمر والنهي (٤).

قيل في الجواب : بالفرق في الموضعين بأنّ الكون في المكان المغصوب جزء من الصلاة ؛ لأنّه عبارة عن شغل الحيّز ، وهو جنس للحركة والسكون ، ولا شكّ في أنّهما جزءان للصلاة ؛ لأنّ من أجزائها القيام والركوع وملاصقة الأرض للسجود وغير ذلك ، فالكون هنا جزء من ماهيّة الصلاة في المكان الغصبي ، وهو منهيّ عنه ، فلو كان الصلاة في المكان الغصبي مأمورا بها ، لكان هو أيضا كذلك ؛ لأنّ الأمر بشيء أمر بأجزائه وفاقا كما علمت.

وأمّا الكون في المكان المخصوص فليس جزءا من الخياطة ؛ لأنّها أمر حاصل من الحركة والسكون ، فهما (٥) معدّان لها وليسا جزءين من ماهيّتها ، فالكون المذكور ليس جزءا

__________________

(١) ذهب إلى الاعتناء بدفع المفاسد الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٢١٧ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٦٧.

(٢) نقله الفخر الرازي عن أكثر الفقهاء في المحصول ٢ : ٢٩١.

(٣) في « ب » : « الصريح ».

(٤) حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : ٩٤.

(٥) في « ب » : « وهما ».

١٤٩

من الخياطة ، فالأمر بها لا ينافي النهي عنه (١).

والحقّ أنّ هذا الفرق غير مفيد ؛ لأنّ الكون في المكان المخصوص من لوازم الخياطة وإن لم يكن من أجزائها ، ولا معنى للأمر بشيء والنهي عن لوازمه ؛ لأنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ الشيء إلاّ به ، كما عرفت (٢).

والجواب (٣) : بأنّ ما هو من لوازم الخياطة مطلق الكون ، لا الكون في المكان المخصوص ؛ لأنّ أشخاص الخياطة لا تتبدّل بتبدّل الأمكنة ، بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة ؛ فإنّ هذا الكون المخصوص من أجزائها ؛ لأنّ أشخاصها تتبدّل بتبدّل الأمكنة. غير صحيح ؛ لعدم تعقّل الفرق بينهما ، مع أنّه يمكن إيراد (٤) مثال كان مساويا لما نحن فيه ضرورة ، وهو أن يأمر السيّد عبده بمقدار معيّن من المشي في كلّ يوم ، ونهاه عن الدخول في موضع خاصّ ، فمشى فيه.

فالحقّ في الجواب أن نمنع (٥) حصول الإطاعة مع النهي المذكور ؛ فإنّه يدلّ على أنّ الكون المطلوب في الصلاة غير الكون في المكان المغصوب.

وثانيهما : أنّه لو اتّحد متعلّق الأمر والنهي ، لكان القول بالمنع موجّها ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، فلا يتصوّر منع ، وهنا كذلك ؛ فإنّ متعلّق الأمر مطلق الصلاة ، ومتعلّق النهي مطلق الغصب ، وهما مفهومان متغايران يتعقّل انفكاك كلّ منهما من الآخر ، إلاّ أنّ المكلّف جمعهما في مادّة واحدة مع إمكان عدمه ، وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما ، فهما باقيان على اختلافهما الذاتي ، فيكون متعلّق الأمر طبيعة كلّيّة ، ومتعلّق النهي طبيعة اخرى ، إلاّ أنّهما اجتمعتا في ضمن شخص واحد هو الصلاة في الدار المغصوبة (٦).

__________________

(١) أجاب به الشيخ حسن في معالم الدين : ٩٤.

(٢) أي في مقدّمة الواجب ، راجع ص ١٣٤ ، الفصل ١٣. واعلم أنّ ما قاله المصنّف في تعليل مدّعاه يتوقّف على كون لازم الشيء ـ وهو معلوله ـ مقدّمة له ـ وهي علّته ـ وفيه ما لا يخفى.

(٣) أي الجواب عن احتجاج الخصم.

(٤) في « ب » : « أن يراد ».

(٥) في « ب » : « يمنع ».

(٦) حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : ٩٥.

١٥٠

والجواب : أنّ التكليف وإن تعلّق ظاهرا بالطبائع ، إلاّ أنّ تعلّقه حقيقة بالجزئيّات ، فمتعلّق التكليف في الصلاة أفراد الصلاة التي يختارها المكلّف ، وكذا في الغصب. ولا شكّ أنّ كلّ واحد من الأفراد التي يختارها المكلّف شخص (١) بسيط ليس فيه تركيب خارجي ، فالصلاة في الدار المغصوبة شخص بسيط متعلّق الأمر والنهي معا ؛ فإنّ الكون الذي هو جزء الصلاة ومأمور به هو بعينه الغصب الذي تعلّق به النهي ، وليست هذه الصلاة مركّبة من طبيعتين تركّبا خارجيّا يكون أحدهما متعلّق الأمر (٢) ، والاخرى متعلّق النهي ، بل التركيب بمجرّد تحليل العقل ، وهو غير مفيد في المقام (٣).

ثمّ لا يخفى أنّ ما قال الأشعري هنا (٤) يمكن أن يقال بعينه في الصورة الرابعة ، بأن يقال : إذا قال : « أكرم العلماء ولا تكرم زيدا » وكان عالما ، فأكرم زيدا ، يكون مطيعا وعاصيا بالدليلين المذكورين (٥).

والجواب الجواب ، إلاّ أنّه قيل : عدم الجواز فيها متّفق عليه كما أشرنا إليه (٦). ولعلّ بناء الفرق على أنّ هذه الصورة (٧) على قسمين :

أحدهما : ما ينفكّ المنهيّ عنه عن المأمور به دون العكس ، كما إذا نهى عن إكرام العلماء ، وأمر بإكرام زيد وكان عالما.

وثانيهما : ما ينفكّ المأمور به عن المنهيّ عنه دون العكس ، كالمثال الذي ذكر أوّلا من الأمر بإكرام العلماء والنهي عن إكرام زيد ، وكمطلق الصوم وصوم يوم النحر. وفي كلّ منهما متعلّق الأمر والنهي فيه واحد ، أي ماهيّة واحدة ، ولا فرق بين المتعلّقين إلاّ بالإطلاق والتقييد. فيعلم أنّ الغرض حمل المطلق على المقيّد ؛ إذ النهي عن فرد خاصّ ـ مثلا ـ دليل

__________________

(١) في « ب » : « مشخّص ».

(٢) كذا في النسختين ، والصحيح : « إحداهما متعلّقة الأمر ».

(٣) أي تحليل العقل لا يمنع عن سراية كلّ من الأمر والنهي إلى متعلّق الآخر.

(٤) راجع المحصول ٢ : ٢٨٥ ـ ٢٩٠.

(٥) من دون حمل للعامّ على الخاصّ.

(٦) تقدّم في ص ١٤٦.

(٧) أي الصورة الرابعة.

١٥١

على أنّ المأمور به ليس هو الماهيّة الكلّيّة ، بل بعض الأفراد ، بخلاف الصورة الخامسة ؛ فإنّ المأمور به فيها ماهيّة ، والمنهيّ عنه ماهيّة اخرى.

والحقّ : عدم الفرق في نفس الأمر بين الصورة الرابعة والخامسة ؛ لأنّه كما يمكن أن يقال في الخامسة : لا امتناع في تعلّق الأمر بالطبيعة الكلّيّة وهي مطلوبة ، والغرض من النهي عدم حصول المنهيّ مقارنا لها ، وإن حصل مقارنا لها كان ممتثلا للأمر ، فلا حاجة إلى تقييد الأمر بغير المنهيّ عنه ، يمكن أن يقال ذلك في الرابعة أيضا بعينه.

وكما يمكن أن يقال في الرابعة بأنّ النهي عن الفرد الخاصّ يدلّ على أنّ المراد بالمأمور به بعض أفراد الطبيعة ، يمكن أن يقال ذلك في الخامسة أيضا بعينه ، إلاّ أنّه يبدّل النهي عن الفرد الخاصّ بالنهي عمّا يتحقّق المأمور به في ضمنه بعض الأوقات. وهذا هو الحقّ. فلا فرق بين ما ينفكّ فيه الجهتان ، وبين ما ينفكّ فيه إحدى الجهتين في عدم جواز الاجتماع.

هذا ؛ واعلم ، أنّ قول القاضي فيما وافقنا ـ من عدم الصحّة (١) ـ فلا كلام فيه. وأمّا ما تفرّد به من كونه مسقطا للفرض (٢) ، ففساده في غاية الظهور ، غير محتاج إلى البيان.

[ الصورة ] السادسة : أن يتعلّق الوجوب والكراهة بالواحد الشخصي ، كالصلاة في الحمّام وغيره من المواضع المعروفة ، وقد ثبت في الشرع كراهة الصلاة فيها (٣) ، وكذا كراهة الصوم في بعض الأزمنة (٤) ، ولذا استدلّ الأشعري بثبوتهما على ما ذهب إليه من جواز اجتماع الوجوب والحرمة ؛ لأنّ الأحكام متضادّة ، فإذا جاز اجتماع الوجوب والكراهة ، يجوز اجتماع الوجوب والحرمة أيضا.

وقد اضطرب القوم في تصحيح ذلك ، فقال بعضهم (٥) : الكراهة لا تتعلّق بنفس الفعل ، بل بوصفه ، فمتعلّق الكراهة في الصلاة في الحمّام التعرّض للنجاسة ، أو لكشف العورة ، وفي

__________________

(١) تقدّم في ص ١٤٧.

(٢) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٥٨ ، والفخر الرازي في المحصول ٢ : ٢٩٠.

(٣) راجع الكافي ٣ : ٣٨٧ ، باب الصلاة ... في البيع والكنائس والمواضع التي تكره الصلاة فيها.

(٤) كيوم عرفة إذا أضرّ بالدعاء ، ويوم عاشوراء ، ويوم الأضحى وغيرها. راجع الكافي ٤ : ١٤٥ ـ ١٤٨ ، باب الحائض والمستحاضة ، ح ١ ـ ١١.

(٥) راجع : الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٦٢ ، وقوانين الاصول ١ : ١٤٣.

١٥٢

جوف الوادي التعرّض للسيل ، وفي جادّة الطريق منع المارّة. وقس عليها أمثالها.

والحقّ : أنّ هذا التوجيه غير صحيح ؛ لأنّه على هذا يرجع الكراهة إلى وصف خارج عن الصلاة ، مع أنّ الظواهر تدلّ على كراهية (١) نفس الصلاة ، كقوله عليه‌السلام : « يكره الصلاة في الحمّام » (٢).

وقيل : المراد من الكراهة كون الفعل أقلّ ثوابا (٣).

اورد عليه : بأنّه يلزم على ذلك كون جميع الصلوات (٤) مكروهة سوى الصلاة في المسجد الحرام ؛ لأنّ الصلاة في أيّ موضع ومسجد اتّفقت تكون أقلّ ثوابا من الصلاة في المسجد الحرام (٥).

واجيب : بأنّ كلّ صلاة لا يشتمل على مرجوحيّة ولا راجحيّة سوى الراجحيّة التي يشتمل عليها أصل الصلاة يتّصف بالإباحة ، كما يقال : الصلاة في البيت مباحة ، بمعنى أنّ الصلاة فيه لا تشتمل على مرجوحيّة ، ولا على مزيّة خارجة عن أصل الصلاة ، وكلّ صلاة يشتمل على مزيّة خارجة ـ كالصلاة في المساجد ـ يتّصف بالاستحباب ، بل قد يصل حدّ الوجوب إذا نذر أن يصلّي في مسجد ، وحينئذ يجتمع وجوبان. وكلّ صلاة يشتمل على مرجوحيّة ـ كالصلاة في الحمّام وأمثاله ـ يتّصف بالكراهة. والمراد أنّ الصلاة فيه مرجوحة بالنسبة إلى الصلوات (٦) المباحة أي أقلّ ثوابا منها ، فالاتّصاف بالاستحباب والكراهة بالنسبة إلى الفرد المباح ، فلا يلزم ما ذكر (٧).

أقول : هذا توجيه ليس به كثير بأس ، إلاّ أنّ الأصوب أن يقال : إنّ المراد من كراهة الصلاة في الحمّام وأمثاله أنّ الفعل في نفسه راجح ، إلاّ أنّه مرجوح بالنسبة إلى الأفراد الأخر ، وهي أولى منه ، ولا مانع في كون أحد أفراد الواجب المخيّر مرجوحا بالنسبة إلى

__________________

(١) في « ب » : « كراهة ».

(٢) راجع الكافي ٣ : ٣٩٠ ، باب الصلاة في ... المواضع التي تكره الصلاة فيها ، ح ١٢.

(٣) راجع قوانين الاصول ١ : ١٤٣.

(٤) في « ب » : « الصلاة ».

(٥) حكاه القمّي في قوانين الاصول ١ : ١٤٣ و ١٤٤.

(٦) في « ب » : « الصلاة ».

(٧) حكاه القمّي في قوانين الاصول ١ : ١٤٣ و ١٤٤.

١٥٣

الأفراد الأخر ، كالقصر في المواطن الأربعة (١) ، وصلاة الظهر في يوم الجمعة على المشهور. ويمكن أن يصل المرجوحيّة إلى حدّ يستحقّ اسم الكراهة إلاّ أنّ ذلك بالنسبة إلى غيره ، ولا منع في اتّصاف الفرد المرجوح بأصل الرجحان ؛ لأنّ مرجوحيّته بالنسبة إلى الفرد الذي هو أولى منه ، فراجحيّته حقيقيّة ، ومرجوحيّته إضافيّة ، ولذا سمّاه بعض الاصوليّين خلاف الأولى دون المكروه (٢) ؛ لأنّ المكروه أن يكون الفعل في نفسه مرجوحا ، وهذا ليس كذلك ، بل مرجوحيّته (٣) بالقياس إلى الغير. فظهر أنّ الوجوب والكراهة لم يتعلّقا بشخص واحد ، فلا يقوم حجّة للأشعري.

وإذا عرفت كيفيّة الحال في الصورة المذكورة ، تعلم كيفيّتها في بواقيها من اجتماع الوجوب مع الاستحباب والإباحة ، واجتماعهما مع الحرمة والكراهة. وبالجملة ، اجتماع كلّ واحد من الخمسة مع كلّ واحد منها. و (٤) يتكثّر الأقسام ، سيّما مع إمكان كون الوجوب عينيّا وتخييريّا ، وكذا الحرمة.

والضابط : أنّه لا يجوز اجتماع اثنين منها في الواحد الشخصي مطلقا ، وإلاّ لزم توارد الأضداد على محلّ واحد. مثلا : في صورة توارد الوجوب والكراهة على عبادة نقول (٥) : فعل العبادة المكروهة راجح ، بل مانع من النقيض مع اتّصافه بالكراهة المقتضية لرجحان الترك ، ورجحان الفعل لا يجتمع مع رجحان الترك. فكلّ واجب أو مستحبّ تعلّق به نهي تحريمي ، أو تنزيهي في وقت خاصّ أو موضع خاصّ (٦) وثبت هذا النهي ، يجب الحكم ببطلانه. وإن ثبت صحّته من جانب الشرع ـ كالصلاة في الحمّام وأمثاله ، والصيام المكروهة (٧) ـ يجب أن يصحّح بمثل ما ذكرنا.

وكلّ واجب تعلّق به الاستحباب ظاهرا يجب أن يحكم بتغاير محلّهما ، مثلا : قد يكون

__________________

(١) وهي : المسجد الحرام ، ومسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومسجد الكوفة ، والحائر الحسيني عليه‌السلام.

(٢) كما في قوانين الاصول ١ : ١٤٦ : « سمّاه بعضهم بخلاف الأولى ».

(٣) في « ب » : « مرجوحيّة ».

(٤) لم يرد في « ب » : « و ».

(٥) في « ب » : « يقول ».

(٦) لم يرد في « ب » : « أو موضع خاصّ ».

(٧) كذا في النسختين. والمراد الصيام في الأزمنة المكروهة.

١٥٤

بعض أفراد الواجب المخيّر مستحبّا ، كالإتمام في المواطن الأربعة (١). ولا شكّ أنّ الاستحباب مقصور على هذا الفرد ، والوجوب شامل له وللقصر تخييرا ، فالوجوب تخييري والاستحباب عيني ، فاختلف محلّهما ؛ لأنّ محلّ الوجوب أمر كلّي ، ومحلّ الاستحباب فرد شخصي.

إذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع أنّ الآيات والأخبار إذا تعارضت بالأمر والنهي في شيء واحد حتّى يتحقّق التساوي بين المأمور به والمنهيّ عنه ، يجب الجمع أو الطرح.

وإذا تعارضت بالعموم والخصوص مطلقا يجب حمل العامّ على الخاصّ مع تقاوم الخاصّ للعامّ ، وإن لم يقاومه يعمل بالعامّ وينطرح (٢) الخاصّ.

وإذا تعارضت بالعموم والخصوص من وجه يخصّص الأضعف بالأقوى. مثلا : قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ )(٣) الآية يدلّ على عدم قبول خبر الفاسق في الواجبات والمستحبّات والمكروهات ، وقبول خبر غير الفاسق فيها جميعا. وقوله عليه‌السلام : « من بلغه شيء من الثواب » (٤) إلى آخره وأمثاله يدلّ على قبول خبر الفاسق والعادل في المستحبّات والمكروهات دون الواجبات. فيتحقّق بينهما التعارض بالعموم والخصوص من وجه. فنقول : إنّ الخبر معاضد بأخبار أخر (٥) ، وبالشهرة (٦) ، وبامور أخر (٧) ، فيخصّص الآية (٨) به.

وممّا يمكن أن يتفرّع عليه الذبح بآلة مغصوبة في الأضحية والهدي ، والطهارة في المكان المغصوب أو من الإناء المغصوب.

وتأمّل بعضهم (٩) في ذلك ؛ نظرا إلى أنّ متعلّق النهي فيها ليس عين متعلّق الأمر ولا جزءا

__________________

(١) هي : المسجد الحرام ، ومسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومسجد الكوفة ، والحائر الحسيني عليه‌السلام.

(٢) كذا في النسختين ، والأولى : « يطرح ».

(٣) الحجرات (٤٩) : ٦.

(٤) المحاسن ١ : ٩٣ ، ح ٥٢ و ٥٣ ، والكافي ٢ : ٨٧ ، باب من بلغه ثواب من الله على عمل ، ح ١ و ٢.

(٥) راجع المصدر.

(٦) لأنّ المشهور هو التسامح في أدلّة السنن.

(٧) منها : أنّ إخراج مادّة الاجتماع من تحت أخبار من بلغ يوجب لغويّتها ، هذا بخلاف العكس.

(٨) فيصير خبر الفاسق في المستحبّات والمكروهات حجّة.

(٩) ذهب العلاّمة في قواعد الأحكام ١ : ١٩٨ ، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد ١ : ١٩٢ و ١٩٣ إلى بطلان الطهارة في المكان المغصوب ، وصحّتها إذا كانت من الإناء المغصوب.

١٥٥

منه ، بخلاف الكون في الصلاة والماء المغصوب للطهارة ؛ لأنّهما من أركان الفعل ، وليس هذا ببعيد.

نعم ، تتفرّع عليه الفروع المذكورة بالواسطة ؛ لأنّها تتفرّع على أصل أنّ النهي هل يدلّ على الفساد ، أو لا؟ وهو يتفرّع على هذا. وهذا بناء (١) على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، فيكون الطهارة التي هي ضدّ للمأمور به ـ أعني ردّ الإناء إلى مالكه مثلا ـ منهيّا عنها ، فتتفرّع على الأصل المذكور المتفرّع على ما نحن فيه.

وإذا عثرت على (٢) اجتماع حكمين من الأحكام الخمسة في شيء واحد ، فيجب أن تصحّح بما ذكر ، ولا تحكم بأنّه موصوف بهما معا حتّى يرد الإشكال ، مثلا : إذا نهى الشارع عن الصوم في يوم كذا ، فإن (٣) لم يكن صحّته ثابتة يحكم بفساده ، وإن كانت ثابتة نقول : الفعل راجح في نفسه ، ويترتّب عليه الثواب ، إلاّ أنّه مرجوح بالنسبة إلى أفراد أخر.

فصل [١٥]

الواجب إمّا أن يكون قدره معيّنا ، كالصلاة وأمثالها. وإمّا أن لا يكون كذلك ، بل يكون معلّقا على اسم يتفاوت بالزيادة والنقصان ، كمسح مقدّم الرأس في الوضوء ، وقراءة التسبيح في الركوع والسجود ، والتسبيحات الأربع في الركعتين الأخيرتين ، والحلق والتقصير والهدي ؛ فإنّ جميع ذلك معلّق على اسم يتفاوت بالقلّة والكثرة ، فالقدر المتيقّن وجوبه ما يحصل به المسمّى.

وإن زيد عليه ، فهل يقع هذه الزيادة واجبة أو مستحبّة؟ فيه ثلاثة أقوال (٤). ثالثها : التفصيل بأنّ الفعل لو وقع دفعة يكون المجموع واجبا ، وإلاّ ما يقع أوّلا ممّا يحصل به المسمّى يكون واجبا ، والزائد يكون نفلا.

__________________

(١) خبر.

(٢) لم يرد في « ب » : « على ».

(٣) في « ب » : « فإذا ».

(٤) راجع المحصول ٢ : ١٩٦.

١٥٦

وهو الحقّ ؛ لأنّ الواجب ـ في أمثال ذلك ـ المفهوم الكلّي الذي يمكن حصوله في ضمن جزئيّات كثيرة ، فأيّ جزئي حصّله يكون هذا المفهوم في ضمنه ، فيكون واجبا ، سواء كان زائدا أو ناقصا ، فإذا أوقع الفرد الزائد عن المسمّى دفعة يكون واجبا ، وإذا أوقع ما يحصل به المسمّى أوّلا ثمّ أوقع الزائد على التعاقب ، يقع الزائد مستحبّا ؛ لأنّ ما يحصل به المسمّى كان من جملة الأفراد التي كان المفهوم الكلّي في ضمنها ، وبمجرّد حصوله حصل الواجب ، فالزائد لا يتّصف بالوجوب ؛ للأصل.

وما احتجّ به النافي مطلقا (١) ـ بأنّ الزيادة يجوز تركه لا إلى بدل ، فلا يكون واجبا وإن وقع دفعة ـ فمردود ؛ لأنّه يجوز أن يكون الواجب التخييري ماهيّة كلّيّة في ضمن أفراد متعدّدة بعضها جزء بعضها ، كالتخيير بين القصر والإتمام. وحينئذ يكون المجموع ـ الذي هو من جملة الأفراد الزائدة ـ بدلا عن الأفراد الناقصة ، ويتّصف بالوجوب. وهو ظاهر.

وإذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع أنّه إذا وقع الزيادة عن المسمّى في الامور المذكورة دفعة ، يكون المجموع واجبا. وإن وقع ذلك على التعاقب ، يقع المسمّى واجبا والباقي نفلا ، ويكون الثواب في الأوّل أكثر منه في الثاني ؛ نظرا إلى أنّ ثواب الواجب أكثر من [ ثواب ] المستحبّ.

ثمّ لا يخفى أنّ المستحبّ أيضا إذا كان معلّقا على اسم تفاوت بالقلّة والكثرة ، يكون حكمه كما ذكر ، فإذا وقع ما يحصل به المسمّى ثمّ وقع الزيادة على التعاقب ، لا يتّصف هذه الزيادة بالاستحباب ؛ لأنّه حصل بالجزء ، والأصل عدم استحباب الزائد.

نعم ، قد ثبت (٢) استحباب الزائد بالدليل ، كاستحباب الزائد عن زوجة واحدة مع تعليق الاستحباب على التزوّج (٣). وكذا كلّ حكم علّق على اسم تفاوت بالقلّة والكثرة ، فإن حصل الزيادة مع ما يحصل به المسمّى دفعة ، يحصل الحكم بالمجموع. وإن حصلت بعده ، يحصل

__________________

(١) أي سواء كان الزائد في ضمن المجموع أم لا فهو غير واجب وهو رأي الفخر الرازي في المحصول ٢ : ١٩٦.

(٢) في « ب » : « يثبت ».

(٣) لم نعثر على دليل استحباب الزائد عن زوجة واحدة.

١٥٧

به ، ولا يكون للزيادة مدخليّة في الحكم ، وذلك كتعليق إحراز نصف الدين (١) وأفضليّة الركعتين على سبعين ركعة (٢) على التزوّج.

فائدة

كلّ واحد من الواجب والمستحبّ لا يجزئ عن الآخر ؛ لتغايرهما ، والأصل عدم قيام المغاير للشيء مقامه.

نعم ، قد ثبت (٣) بالدليل إجزاء كلّ منهما عن صاحبه في مواضع :

أمّا إجزاء الوجوب عن الندب ، فكإجزاء صلاة الاحتياط عن النافلة لو ظهر عدم الاحتياج إليه ، وإجزاء صوم وقع بنيّة القضاء من رمضان عن الصوم المستحبّ لو ظهر بعده عدم وجوب القضاء عليه.

وأمّا إجزاء الندب عن الوجوب ، فكإجزاء صوم يوم الشكّ عن رمضان ، وإجزاء الوضوء المجدّد لو ظهر أنّه كان محدثا على الأقوى. وقد ذكر مواضع كثيرة وقع في بعضها الخلاف. ويجب أن يكون الأصل عندك عدم الإجزاء حتّى يثبت بالدليل القطعي (٤).

ضابطة

ثواب الواجب أعظم من ثواب المستحبّ ؛ لما ورد من « أنّ القدر الذي يمتاز به الواجب هو سبعون درجة » (٥). وللخبر القدسي « وما تقرّب إليّ المتقرّبون بمثل أداء ما افترضت عليهم » (٦) ؛ ولاشتماله على مصلحة زائدة ، وهذا جار في كلّ واجب ومستحبّ ، إلاّ في مواضع :

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣٢٨ ، باب كراهة العزبة ، ح ٢.

(٢) المصدر ، ح ١.

(٣) في « ب » : « يثبت ».

(٤) راجع القواعد والفوائد ١ : ٨٣ ، الفائدة ٦.

(٥) راجع تمهيد القواعد : ٦١ ، القاعدة ١٢ ، وذهب إليه ابن خزيمة كما في حاشية ردّ المحتار ١ : ١٢٦.

(٦) الكافي ٢ : ٣٥٢ ، باب من آذى المسلمين ، ح ٧ ، ووسائل الشيعة ١ : ١٠٤ ، أبواب مقدّمة العبادات ، الباب ٢٣ ، ح ١٧.

١٥٨

منها : إبراء الدين ، المستحبّ بالنسبة إلى إنظار المعسر ، الواجب (١).

ومنها ـ على ما ذكر ـ : ابتداء السلام بالنسبة إلى ردّه (٢).

ومنها : الصلاة التي يعيدها المنفرد جماعة ، فإنّها مستحبّة ، ولكنّها أفضل من الصلاة الواجبة التي سبقت (٣).

وقد ذكر بعض الأصحاب مواضع أخر (٤). ويمكن أن يستخرج مواضع كثيرة على ما يستنبط من الأخبار ؛ فإنّ ردّ السلام من الواجبات ، وزيارة النبيّ والأئمّة من المستحبّات ، ولا شبهة في كون الثاني أعظم ثوابا من الأوّل (٥). فتأمّل.

فصل [١٦]

قد عرفت فيما سبق (٦) معنى الصحّة في العبادات وهو (٧) موافقة الأمر وامتثاله على المشهور ، ويرادفها الإجزاء.

وأكثر الأصحاب على أنّ الإجزاء والقبول متلازمان ، بمعنى أنّ كلّ عبادة تكون مجزئة تكون مقبولة ، أي يترتّب عليها الثواب. وخالف المرتضى رحمه‌الله وقال بعدم تلازمهما (٨). فيمكن أن يوجد الإجزاء من دون القبول ، دون العكس ؛ فإنّه يمكن أن يقع العبادة على الوجه المأمور به بحيث تبرأ ذمّة فاعله (٩) ، ويكون مطيعا ، ولكن لم يترتّب عليها الثواب.

__________________

(١) كما في سورة البقرة (٢) : ٢٨٠. وهي قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ).

(٢) راجع الكافي ٢ : ٦٤٤ ، باب التسليم ، ح ٣ و ٨.

(٣) تهذيب الأحكام ٣ : ١٥٠ ، ١٧٥.

(٤) راجع القواعد والفوائد ٢ : ١٠٧ ، القاعدة ١٨٥.

(٥) راجع الكافي ٤ : ٥٧٩ ، باب فضل الزيارات وثوابها ، والأبواب التي بعده. واعلم أنّه ليس في الأخبار المذكورة أنّ زيارتهم عليهم‌السلام أعظم ثوابا من ردّ السلام ولكن يعلم الإنسان أنّ ما ذكر من الثواب والفضيلة لزيارتهم عليهم‌السلام لا يكون في ردّ السلام ، ولذا قال المصنّف رحمه‌الله : « يستخرج ويستنبط ».

(٦) مرّ في ص ١٠٨.

(٧) كذا في النسختين ، والأولى « هي ». بدليل « يرادفها ».

(٨) راجع : الانتصار : ١٠٠ ، واستظهره الشهيد من كلامه في القواعد والفوائد ٢ : ٩٧ ، القاعدة ١٨٠.

(٩) كذا في النسختين ، والأولى « فاعلها ».

١٥٩

وأيّد (١) ذلك بكثير من الظواهر : كقوله تعالى : ( إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ )(٢) ، مع أنّ عبادة غيرهم أيضا مجزئة إجماعا. وقوله تعالى : ( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى )(٣) ، مع أنّ الصدقات الواجبة المتبوعة بهما ليست بباطلة.

وما ورد من أنّ صلاة شارب الخمر إذا سكر لا تقبل أربعين صباحا (٤) ، مع أنّ صلاته ليست بفاسدة في هذه المدّة.

وما ورد من أنّ الصلاة لا يقبل منها إلاّ ما أقبل عليه ، فربّما قبل نصفها ، وربّما قبل ثلثها (٥) ، مع أنّها بدون الإقبال مجزئة.

وسؤال إبراهيم وإسماعيل التقبّل (٦) ، مع أنّ فعلهما كان مجزئا صحيحا.

والجواب عن الجميع : أنّ المراد بالقبول القبول الكامل المشتمل على زيادة الثواب الموعود به ، مع أنّه فسّر « المتّقين » في الآية بالمؤمنين (٧) ، وفي بعض الأخبار أنّ المراد منهم الشيعة (٨).

وسؤال إبراهيم وإسماعيل يمكن أن يكون للواقع ، يدلّ عليه بعده ( رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ )(٩) مع أنّهما كانا مسلمين.

ثمّ الظاهر أنّ السيّد لمّا ذهب إلى أنّ الإجزاء في العبادة ما (١٠) يوجب سقوط القضاء دون موافقة أمر الشارع ، قال بالفرق بينه وبين القبول ؛ لأنّ سقوط القضاء غير مستلزم للقبول ؛ لما سبق ، فيكون مراده من الإجزاء ـ المنفكّ عن القبول في الآيات والأخبار المذكورة ـ ما يلزمه سقوط القضاء.

__________________

(١) أيّد عدم التلازم الشهيد في القواعد والفوائد ٢ : ٩٧ ـ ٩٩ ، القاعدة ١٨٠.

(٢) المائدة (٥) : ٢٧.

(٣) البقرة (٢) : ٢٦٤.

(٤) الكافي ٦ : ٤٠٠ ، باب آخر منه ، ح ١ ـ ٦ و ٨ ـ ١٢.

(٥) المصدر ٣ : ٣٦٢ ، باب ما يقبل من صلاة الساهي ، ح ١ ، والفروق ٢ : ٥٣.

(٦) إشارة إلى الآية ١٢٧ من البقرة (٢) وهي قوله تعالى : ( رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا ).

(٧) نسبه الطبري في جامع البيان ٦ : ١٢٣ إلى جماعة من أهل التأويل منهم الضحّاك.

(٨) انظر الصافي ١ : ٩٢ ، والبرهان ١ : ١٢٣ ، ح ٣١٠ / ١ ، و ٢ : ٢٧٣ ، ح ٣٠٢٨ / ٣. قيّد المعصوم عليه‌السلام فيه المتّقين بالعارفين ، وفسّر المعصوم عليه‌السلام المتّقين في أوّل البقرة بالشيعة.

(٩) البقرة (٢) : ١٢٨.

(١٠) لم يرد في « ب » : « ما ».

١٦٠