أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

والجواب : أنّ علّة التسمية ليست التخمير فقط ، بل هو مع المحلّ الخاصّ ، أعني ماء العنب ، وفي النبيذ مثلا وجد أحدهما فقط.

وإذا عرفت هذا ، تعلم أنّه يتفرّع عليه عدم إجراء جميع أحكام أشياء معيّنة مسمّاة بأسماء خاصّة على أشياء أخر سمّيت بأسماء الأشياء الاول بسبب الدوران ، كإجراء أحكام الخمر على جميع المسكرات ، اللهمّ إلاّ في بعض ثبت بدليل من خارج.

فائدة

ذهب بعض النحاة إلى أنّ الألفاظ بأسرها موضوعة للحقائق الخارجيّة (١).

وهذا القول لا خفاء في بطلانه ؛ لأنّ بعض الألفاظ موضوع للمعدومات الممكنة والممتنعة.

وذهب جمع إلى أنّها بأسرها موضوعة للمعاني الذهنيّة (٢).

واستدلّوا : بدوران الألفاظ معها وجودا وعدما ؛ فإنّ من رأى شبحا من بعيد وظنّه إنسانا يسمّي به ، ثمّ إذا تغيّر ظنّه الأوّل وظنّه حجرا يسمّي به (٣) ، وهكذا.

والحقّ ، أنّ هذا الدليل غير تامّ ؛ لأنّه يجوز أن يكون لفظا : الإنسان والحجر موضوعين للإنسان والحجر الخارجيّين ، إلاّ أنّ الرائي لمّا ظنّ الشبح المرئيّ إنسانا خارجيّا ، أو حجرا خارجيّا سمّاه بأنّه ما وضع له.

ذهب بعض المتأخّرين إلى أنّ الألفاظ موضوعة للماهيّة من حيث هي مع قطع النظر عن كونها موجودة في الخارج أو الذهن (٤).

وهذا المذهب عندي أقرب إلى التحقيق ؛ فإنّ من يضع لفظا بإزاء شيء قد يلاحظ الشيء الخارجيّ ويضع لفظا بإزائه ، وقد يلاحظ ما في ذهنه ولا يلتفت إلى الخارج ويضع

__________________

(١) راجع : المحصول وهامشه ١ : ٢٠٠ ، ونهاية السؤل ٢ : ١٦.

(٢) منهم : الفخر الرازي في المحصول ١ : ٢٠٠ ، والبيضاوي في منهاج الاصول المطبوع مع نهاية السؤل ٢ : ١١ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٦٣.

(٣) راجع المحصول ١ : ٢٠٠.

(٤) منهم : الأسنوي في نهاية السؤل ٢ : ١٦ ، وملاّ ميرزا جان كما في هامش شرح تجريد الاصول ١ : ١٠١ ( مخطوط ) ، وهو مذهب سلطان العلماء.

٤١

لفظا بإزائه فيعلم منه أنّ منظوره الماهيّة من حيث هي ، ولا دخل للخارج والذهن لذلك.

وعلى أيّ تقدير ، لا كلام في أنّ الألفاظ لم توضع للأشباح المثاليّة ، كالصور المرتسمة على الجدار والماء والمرآة ، بل إطلاقها عليها على المجاز.

ويتفرّع على هذا جواز النظر إلى صور النساء الأجنبيّة المرتسمة في الماء والمرآة والجدار ، وعدم الحنث بالنظر إلى شبح زيد ـ مثلا ـ في الماء أو المرآة إذا أقسم أن لا ينظر إليه. وكذا الحكم في النذور والعهود والتعليقات.

فصل [٥]

الكلام يطلق على ما يتلفّظ به حقيقة ، وعلى النفسي مجازا. وهذا ظاهر من اللغة (١) والعرف.

وكذا الحكم في « الكلمة » و « القول » و « الذكر ».

وإذا كان الأمر هكذا ، فكلّ حكم علّق على أحد المذكورات نفيا أو إثباتا ، فتحقّقه موقوف على تحقّقه كذلك. والأمثلة ظاهرة.

قاعدة

لا يشترط في الكلام أن يكون صادرا من متكلّم واحد ، وهذا لا خلاف فيه ، ودليله ظاهر ، فلو توافق شخصان على أن يقول أحدهما : « زيد » والآخر : « قائم » يكون كلاما.

ويتفرّع عليها أنّه إذا وكّل رجل شخصين في إعتاق عبده ، أو بيع متاعه ، فقال أحدهما : « أعتقت » أو « بعت » ، وقال الآخر : « هذا » كان هذا العتق والبيع صحيحين.

ويلزم من هذه القاعدة أنّه لو قال رجل لآخر : « لي عليك ألف » ، فقال المدّعى عليه : « إلاّ عشرة » ، يثبت الإقرار بباقي الألف.

ورجّح في التمهيد (٢) عدم الثبوت ؛ لأنّ المدّعى عليه نفى بعض الألف ، ونفي بعض الشيء لا يستلزم ثبوت الباقي وفيه تأمّل.

__________________

(١) المعجم الوسيط : ٧٩٦ ، « ك ل م » : « الكلام في أصل اللغة : الأصوات المفيدة ».

(٢) تمهيد القواعد : ٣٣٠ ، ذيل القاعدة ١٠١.

٤٢

وكذا لا يشترط في الكلام أن يكون المتكلّم قاصدا للكلام ، فاهما له ، وهذا أيضا ظاهر.

ويتفرّع عليه وجوب سجود التلاوة عند قراءة الساهي أو النائم آية السجدة.

ضابطة

يجب حمل الألفاظ على المعاني المتعارفة المتبادرة المعتادة ؛ لأنّ الفهم العرفي حجّة.

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى الإجماع ـ قوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ )(١).

ويتفرّع عليها فروع كثيرة ، كعدم نقض الوضوء بالخارج من غير السبيلين إذا لم يصر معتادا ؛ لأنّ الأخبار دلّت على نقض الوضوء بالخارج من السبيلين والطرفين (٢) ، والمتعارف منهما الموضعان المعتادان ، فلا ينقض بالخارج من غيرهما ، إلاّ إذا اعتيد وانسدّ الطبيعيّان ؛ فإنّ النقض حينئذ إجماعي.

وكذا يتفرّع عليها جواز استعمال الأشياء المعمولة من الذهب والفضّة إذا لم تكن من الأواني المتعارفة.

فصل [٦]

لا شبهة في وقوع المترادف في اللغات ، وإنّما الخلاف في جواز وقوع كلّ من المترادفين مقام الآخر.

فذهب بعضهم إلى الجواز مطلقا (٣). وبعضهم إلى المنع مطلقا (٤). وبعضهم إلى الجواز في لغة واحدة ، والمنع من لغات مختلفة (٥).

والحقّ : أنّ النزاع إن كان في جواز وقوع أحد المترادفين مقام الآخر في جميع الموادّ ، فلا يمكن الحكم بالجواز مطلقا إلاّ فيما ثبت بدليل من خارج ؛ لأنّه يجوز أن يحصل التعبّد

__________________

(١) إبراهيم (١٤) : ٤.

(٢) راجع الكافي ٣ : ٣٥ ، باب ما ينقض الوضوء وما لا ينقضه.

(٣) منهم ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٤.

(٤) منهم الفخر الرازي في المحصول ١ : ٢٥٧.

(٥) منهم البيضاوي في منهاج الاصول المطبوع مع نهاية السؤل ١ : ١٥٧.

٤٣

بأحدهما في بعض العبادات ، أو الإيقاعات ، أو العقود دون الآخر.

وإن كان النزاع فيه في إفادة أصل المعنى فقط ، أو في مادّة منوطة به فقط ، فلا شبهة في الجواز مطلقا ، ولا مانع منه عقلا وشرعا ولغة ؛ لأنّ المقصود إذا كان إفادة المعنى ـ وهو يحصل بكلّ واحد من اللفظين ـ فأيّ مانع من وقوع أحدهما مقام الآخر؟

والقول بأنّهما إذا كانا من لغتين فلا يجوز ؛ للزوم اختلاط اللغات ، ولأنّ أحدهما بالقياس إلى لغة الآخر مهمل ، فلا يفيد ما أفاده (١).

يرد عليه أنّ الاختلاط ليس فيه مفسدة ؛ لأنّ المدلول واحد ، وأهل لغة إذا كانوا عارفين بلغة اخرى ، فلا تكون تلك اللغة مهملة عندهم.

ويتفرّع عليه جواز رواية الحديث بالمعنى المتعارف ؛ لأنّ المقصود من ألفاظ الحديث إفادة أصل المعنى فقط ، مع أنّ الجواز عندنا منصوص (٢).

ويتفرّع عليه أيضا عدم انعقاد العقود بالصيغ غير العربيّة ؛ لإمكان حصول التعبّد بالعربيّة فقط ، وإن أمكن أن يقال : انعقاد العقود منوط بما يفيد أصل معنى العقد فقط ، وحينئذ يتّجه الانعقاد. فتأمّل.

فصل [٧]

المشترك : لفظ وضع لمعان متعدّدة ، ولا شبهة في وقوعه ، كالقرء للطهر والحيض ، والعين لمعانيها المعروفة ، ووقع في القرآن أيضا كـ ( ثَلاثَةَ قُرُوءٍ )(٣) و ( عَسْعَسَ ) كـ « أقبل » و « أدبر » (٤).

وخلاف جماعة في الموضعين (٥) شاذّ ؛ ودليلهم غير ملتفت إليه.

ثمّ إنّ القوم اختلفوا في جواز استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد وعدمه.

__________________

(١) هذا القول والتعليل للبيضاوي في المصدر.

(٢) الكافي ١ : ٥١ ، باب رواية الكتب والحديث ، ح ٢ و ٣.

(٣) البقرة (٢) : ٢٢٨.

(٤) المصباح المنير : ٤٠٩ ، « ع س س ». والآية في سورة التكوير (٨١) : ١٧.

(٥) نسبه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٤٢ ، وابن الحاجب إلى المحقّقين في منتهى الوصول : ١٨.

٤٤

فجوّزه بعض مطلقا (١). ومنعه بعض آخر كذلك (٢). وذهب بعض إلى المنع في المفرد والجواز في التثنية والجمع (٣). وبعض آخر إلى الجواز في النفي دون الإثبات (٤).

ثمّ المانعون اتّفقوا على أنّه عند عدم القرينة لا يحمل على شيء من معانيه ، بل يجب التوقّف حينئذ ؛ لكونه مجملا.

والمجوّزون بين قائل بأنّه إذا عدم القرينة يجب التوقّف ، وعند وجودها يحمل على ما يدلّ عليه القرينة ، لكن إن دلّت القرينة على واحد يكون الاستعمال فيه حقيقة ، وإن دلّت على متعدّد يكون الاستعمال فيه مجازا.

وقائل بأن المشترك عند عدم القرينة ظاهر في جميع معانيه ، فيجب الحمل عليه.

وقائل بأنّه عند عدم القرينة مجمل يجب فيه التوقّف ، وعند القرينة يحمل على ما يقتضيه القرينة ، ويكون الاستعمال حقيقة وإن كان ما يدلّ عليه القرينة متعدّدا (٥).

وهذا هو الحقّ ، وتنقيحه موقوف على بيان امور :

[ الأمر ] الأوّل : إنّما الخلاف في استعمال المشترك في المعاني التي كان الجمع بينها ممكنا ، كالقرء في قولنا : « القرء من صفات النساء ». وأمّا إذا لم يمكن الجمع بينها ، كاستعمال الأمر في الوجوب والتهديد (٦) ، فلا خلاف في عدم الجواز.

[ الأمر ] الثاني : لا شبهة في أنّ اللفظ المشترك موضوع لكلّ واحد من معانيه على سبيل لا بشرط شيء ، أي لا بشرط الانفراد ولا الاجتماع. فما وضع له اللفظ واستعمل فيه ، هو كلّ واحد من المعاني بدون الشرطين على ما هو شأن الماهيّة المطلقة التي تتحقّق حالة

__________________

(١) قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ١٧ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٨ ، ونسبه الأسنوي إلى الشافعي في التمهيد : ١٧٦.

(٢) منهم الفخر الرازي في المحصول ١ : ٢٧١.

(٣) منهم البصري في المعتمد في أصول الفقه ١ : ٣٠٤.

(٤) نسبه الأنصاري إلى ابن همام في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى ١ : ٢٠١.

(٥) راجع التمهيد للإسنوي : ١٧٧.

(٦) في هامش « أ » : « عند من قال باشتراكه بينهما ، وإنّما قيّدنا به ؛ لأنّ المصنّف لا يقول به ».

٤٥

الانفراد والاجتماع معا. والانفراد والاجتماع ليسا من أجزاء (١) الموضوع له ، بل هما من عوارض الاستعمال ، والاستعمال في كلا الحالين على سبيل الحقيقة. هذا إذا دلّت القرينة على أنّ المراد أحد المعاني ، أو مجموعها وأمكن الجمع بينها (٢).

وأمّا مع فقد القرينة فيكون مجملا ، ويجب التوقّف ؛ لأنّ اللفظ لمّا كان موضوعا لما هو بمنزلة الماهيّة المطلقة المتحقّقة في ضمن واحد لا بعينه والمجموع ، ونسبته إليهما على السواء ، فالحمل على أحدهما بدون قرينة ترجيح بلا مرجّح ، كما أنّ الحمل على أحد الأفراد المعيّنة أيضا بدون القرينة كذلك.

نعم ، يمكن أن يقال : إذا وقع المشترك في كلام الشارع ، ولم يقم قرينة على أنّ المراد ما هو ، فيمكن الحمل على المجموع ، أو أحد الأفراد على سبيل التخيير ، وإلاّ يلزم الإغراء بالجهل ، والتكليف بما لا يعلم ، وهو غير لائق بمقنّن القوانين ، فتأمّل.

هذا في صورة كون اللفظ المشترك مفردا.

وأمّا إذا كان جمعا أو تثنية واستعمل في أكثر من معنى ، فيكون حقيقة أيضا ؛ لأنّ الجمع والتثنية في قوّة تكرير المفرد بالعطف ، والاتّفاق في اللفظ دون المعنى ؛ فإنّ قولنا : « زيدون » في قوّة المفردات المتعاطفة المتّفقة في اللفظ ، المختلفة في المعنى ؛ لكون حقائق الآحاد مختلفة ، وحينئذ إذا قلنا : « أعين » يكون في قوّة المفردات المتعاطفة ، فكما يمكن حمل كلّ عين على معناه ، فكذلك ما في قوّته.

فإن قيل : لا نسلّم أنّهما في قوّة تكرير المفرد بالعطف ، بل هما يفيدان تعدّد المعنى المستفاد من المفرد ، ولا يدلاّن على المعاني المختلفة كما تدلّ عليها المفردات المتعاطفة ؛ فإنّ زيدا ـ مثلا ـ موضوع للمسمّى به ، وزيدين للمسمّيين به لا للمعاني المختلفة ، وحينئذ إذا لم يمكن استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى ، بل كان استعماله مقصورا على معنى واحد ، فيكون المراد من جمعه معاني متعدّدة من نوع المعنى الذي دلّ عليه المفرد. مثلا يكون المراد من « العيون » طائفة متعدّدة من النابعة أو الدامعة ، لا جملة مختلفة مشتملة

__________________

(١) في « أ » : « أفراد ».

(٢) في « ب » : « بينهما ».

٤٦

على الدامعة والنابعة وعين الذهب والشمس.

وإن أمكن استعماله في أكثر من معنى واستعمل فيه ، فيكون المراد من جمعه جملة مركّبة من الجمل التي كلّ جملة منها مشتملة على معان متعدّدة من نوع المعنى الذي دلّ عليه المفرد. مثل أن يكون المراد من العيون طائفة متعدّدة من النابعة ، وطائفة متعدّدة من الدامعة ، وهكذا.

قلنا : لا بدّ لنا من تمهيد مقدّمة ، ثمّ الإشارة إلى الجواب.

وهي أنّه لا شبهة في أنّ أفراد كلّ جمع مختلفة ، إمّا بالاختلاف الشخصي ، كآحاد جموع أسماء الأعلام ، أو بالصنفي فقط ، أو بهما معا ، كآحاد بعض جموع أسماء الصفات والأجناس ، أو بالنوعي فقط ، أو به مع أحد الأوّلين ، أو كليهما ، كآحاد بعض آخر من جموع أسماء الصفات ، بل الاختلاف الجنسي أيضا في بعضها موجود ، ولا شكّ أنّ استعمال كلّ جمع في جميع أفرادها المختلفة بالاختلافات المذكورة على سبيل الحقيقة.

وبعد تمهيد هذه المقدّمة نقول : إذا استعمل « العيون » في النابعة والدامعة وعين الذهب ، يكون آحادها مختلفة بالنوع ، ولا ضير فيه من هذه الجهة ؛ لتأتّي ذلك في الجموع ، كاستعمال « الموجودات » و « المخلوقات » وغيرهما في الأجناس ، والأنواع المختلفة على سبيل الحقيقة.

نعم ، بين اسم الصفة والمشترك فرق ، بأنّ اسم الصفة كـ « الموجود » موضوع لما ثبت له الوجود ، فكلّ ما ثبت له الوجود من أيّ نوع كان ، معنى حقيقي للموجود ، وهذا معنى واحد موجود في جميع الأجناس والأنواع ، والاختلاف بينها (١) إنّما هو من خارج ، فجمعه إنّما يفيد تكرّر هذا المعنى. وكذا الحال في اسم الجنس.

وأمّا المشترك ، فإنّه موضوع لكلّ واحد من هذه الحقائق المختلفة التي تدلّ عليها صيغة الجمع ، فلا يتحقّق في جمعه تكرّر معنى واحد موجود في المفرد ، ولكنّ اسم العلم كالمشترك ؛ فإنّه أيضا موضوع لكلّ واحد من الأشخاص المختلفة ، فلا يلزم في جمعه

__________________

(١) في « ب » : « بينهما ».

٤٧

تكرّر معنى واحد موجود (١) في المفرد ، فلا بدّ من ارتكاب أحد من ثلاثة امور :

أحدها : القول بأنّ المراد من تكرّر ما يستفاد من المفرد تعدّد الموضوع له ، سواء كان معنى واحدا أو مختلفا. وهذا هو الحقّ ، ولا شكّ في تحقّق ذلك في جمع المشترك إذا اريد منه المعاني المختلفة.

وثانيها : تأويل اسم العلم بالمسمّى به ، وهذا مع بعده آت في المشترك أيضا ؛ فإنّه كما يمكن تأويل « زيد » بالمسمّى به ، يمكن تأويل « العين » بالمسمّى به ، فجمعه يفيد تكرّر هذا المعنى.

وثالثها : القول بأنّ جمع اسم العلم وإن دلّ على الآحاد المختلفة ، إلاّ أنّ اختلافها لمّا كان شخصيّا لا مانع فيه ، بخلاف جمع المشترك ، فإنّه يدلّ على الآحاد المختلفة بالنوع ، ولذلك لا يجوز. وهذا مع سخافته لم يقل به أحد.

فظهر أنّه يجوز أن يستعمل المشترك ـ مفردا كان أو جمعا أو تثنية ـ في أكثر من معنى على سبيل الحقيقة.

[ الأمر ] الثالث : استدلّ المانع مطلقا بأنّه لا شكّ في وضع اللفظ المشترك لكلّ واحد من معانيه ، فإذا استعمل في مجموعها يجب أن يكون بطريق الحقيقة ؛ إذ لا معنى للمجازيّة بعد وضع اللفظ لكلّ واحد منها ، وحينئذ يلزم التناقض ، أو عدم إرادة الأفراد.

بيان الملازمة : أنّ المشترك إذا استعمل في جميع معانيه واريد المجموع من حيث هو مجموع ، فإمّا أن يراد الأفراد أيضا ، أو لا.

فعلى الأوّل يلزم التناقض ؛ لأنّ إرادة المجموع تستلزم عدم الاكتفاء ببعض الأفراد ، وإرادة الأفراد تقتضي الاكتفاء به ، وهو التناقض.

وعلى الثاني يلزم عدم إرادة الأفراد ، وهو يقتضي عدم استعمال اللفظ فيما وضع له ؛ لأنّ المفروض أنّه موضوع لكلّ واحد من الأفراد (٢).

__________________

(١) في « أ » : « لموجود ».

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٤٤.

٤٨

والجواب : أنّ إرادة الأفراد تقتضي الاكتفاء ببعضها إذا لم يكن باقيها مرادا ، وليس الأمر كذلك ؛ فإنّ معنى إرادة المجموع أنّه يقصد المجموع من حيث هو أوّلا ، ويقصد كلّ واحد من الأفراد ثانيا ، وإرادة الأفراد إن كان المراد (١) كلّ واحد منها بحيث لم يشذّ منها شيء ، فمعناه أنّه يقصد كلّ واحد منها أوّلا ، ويقصد المجموع من حيث هو ثانيا ، وإن كان المراد بعضها ، فمعناه أنّه يقصد هذا البعض دون بعض آخر.

واستدلّ من قال بالجواز مع كون الاستعمال مجازيّا بأنّ اللفظ المشترك موضوع لكلّ واحد من المعاني مع قيد الوحدة ، فالموضوع له مركّب من شيئين : المعنى ، وقيد الوحدة ، فإذا استعمل في المجموع يلزم إلغاء قيد الوحدة التي هي أحد الجزءين ، وإرادة الجزء الثاني فقط ، وهذا إطلاق للكلّ وإرادة الجزء ، فيكون مجازا (٢).

والجواب : منع كون الوحدة جزءا للموضوع له ، بل هي من عوارض الاستعمال ، فإنّ الواضع لم يضع لفظ « زيد » لهذا الشخص مع قيد الوحدة بأن يعتبره في الموضوع له ، بل عرض هذا بعد الوضع.

هذا ، مع أنّ العلاقة التي اعتبرها هذا القائل للمجازيّة ليست من العلاقات المعتبرة ؛ لأنّ علاقة الجزء والكلّ أن يطلق الكلّ على الجزء فقط ، أو بالعكس ، كأن يطلق الإنسان ـ مثلا ـ على رقبته فقط ، لا عليها وعلى شيء آخر كابنه مثلا ، وهنا اطلق الكلّ على الجزء وشيء آخر ؛ لأنّ الموضوع له المعنى وقيد الوحدة ، وبعد إلغاء قيد الوحدة يستعمل اللفظ في الكثرة ، فيتحقّق المعنى ـ الذي هو جزء الموضوع له ـ مع الكثرة التي هي شيء خارجي ، فكأنّه اطلق اللفظ على جزئه وعلى شيء آخر.

واستدلّ المانع في المفرد دون التثنية والجمع : بأنّهما في حكم تكرير المفرد ، فيتعدّد مدلولهما ، بخلاف المفرد.

وقد عرفت جوابه (٣).

__________________

(١) في « ب » : « والمراد من إرادة الأفراد إن كان » ، بدل : « وإرادة الأفراد إن كان المراد ».

(٢) تقدّم في ص ٤٥.

(٣) أي عدم كون الوحدة جزءا للموضوع له. وقد تقدّم آنفا.

٤٩

واحتجّ المانع في الإثبات دون النفي : بأنّ النفي يفيد العموم ، فيتعدّد ، بخلاف الإثبات (١).

وجوابه : أنّ المثبت أيضا يمكن أن يتعدّد مدلوله كما بيّنّاه (٢) ، ولو لا ذلك لم يمكن التعدّد في النفي أيضا.

واحتجّ القائل بأنّه ظاهر في الجميع عند التجرّد عن القرينة : بظواهر بعض الآيات ، كقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ )(٣) إلى آخره ، وقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ )(٤) إلى آخره.

والجواب : أنّ الصلاة في الجميع بمعنى واحد وهو التعظيم ، وكذا السجود ، وهو غاية الخضوع.

وحقيقة الجواب : أنّ القرينة في الآيتين موجودة ، فليستا ممّا نحن فيه.

إذا عرفت الحقّ في هذه القاعدة تعلم أنّ كلّ لفظ مشترك ـ مفردا كان أو غيره ـ إذا وقع في كلام الشارع أو غيره ، فإن دلّت القرينة على المراد ، يحمل عليه وإن كان جميع معانيه ، ومع فقد القرينة يلزم التوقّف.

اللهمّ (٥) إلاّ إذا وقع في كلام الشارع ، فيمكن الحمل على جميع معانيه ، بناء على ما أشرنا إليه (٦) ، ولذا حمل « الخير » في قوله تعالى : ( فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً )(٧) على معنييه معا ، أعني المال والعمل الصالح ، أي الأمانة والديانة.

وإذا أوصى رجل شيئا لمواليه وكان له موال من أعلى وموال من أسفل ، فمع وجود القرينة يعمل بها ، ومع فقدها يجب التوقّف.

__________________

(١) تقدّم في ص ٤٥.

(٢) تقدّم في ص ٤٨.

(٣) الأحزاب (٣٣) : ٥٦.

(٤) الحجّ (٢٢) : ١٨.

(٥) استثناء من صورة عدم القرينة والتوقّف. ومعنى الاستثناء هو كون وقوع المشترك في كلام الشارع قرينة عامّة على الحمل على جميع المعاني.

(٦) أي عدم كون الوحدة جزءا للموضوع له. وقد تقدّم في ص ٤٩.

(٧) النور (٢٤) : ٣٣.

٥٠

ولا يخفى أنّ تعبير اللفظ بنحو يفيد العموم من القرائن الدالّة على أنّ المراد المجموع.

والفروع لهذه القاعدة كثيرة. وبعد ما ذكرنا يعرف حقيقة الحال في جميع ما يرد عليك.

فصل [٨]

الحقيقة : اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب ، وهي لغوية ، كالأسد للحيوان المفترس ، وشرعيّة ، كالصلاة للأركان المخصوصة ، وعرفيّة ، وهي إمّا أن تختصّ بقوم مخصوص من أهل علم خاصّ ، أو صناعة معيّنة ، فتسمّى بالعرفيّة الخاصّة ، وقد تسمّى بالاصطلاحيّة أيضا ؛ ومثالها ظاهر. أو لا تختصّ بقوم مخصوص من أهل علم خاصّ ، فتسمّى بالعرفيّة العامّة ، وتنصرف العرفيّة عند الإطلاق إليها ، وهي كالدابّة لذوات الأربع بعد أن كانت في اللغة لكلّ ما يدبّ على الأرض.

ثمّ إنّ الحقيقة الشرعيّة تسمّى بالمنقول الشرعي أيضا ، والعرفيّة بالمنقول العرفي أيضا ، والخاصّة منها بالمنقول اللغوي إن اختصّت بطائفة مخصوصة من أهل اللغة كالفاعل.

والمجاز : اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لأجل مناسبة بينهما ، وتسمّى بالعلاقة.

ومن المجاز ما يسمّى بالمجاز الراجح ، وهو أن يغلب استعماله على الاستعمال الحقيقي ، ويسمّى حقيقته بالحقيقة المرجوحة.

والمشهور في الفرق بين المجاز الراجح والحقيقة مطلقا ـ أي سواء كانت أصليّة ، أو منقولة ـ عدم اعتبار الوضع فيه ، واعتباره فيها.

والحقّ : أنّ اعتبار الوضع في المنقولات ليس لازما ، بل يمكن أن يستعمل الشرع أو العرف أو اللغة لفظا في معنى غير الموضوع له بحيث يتبادر منه عند الإطلاق ، ويصير الاستعمال فيه غالبا على استعماله فيما وضع له ، وحينئذ يصير حقيقة فيه ؛ لأنّ التبادر علامة الحقيقة وإن لم يتحقّق وضع وتصريح بالنقل. صرّح به بعض المحقّقين (١).

وحينئذ فالفرق بين المجاز الراجح والمنقولات أنّ المعنى المنقول إليه فيها يجب أن

__________________

(١) قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ١٢.

٥١

يصير غالبا بحيث يهجر المعنى الأوّل بالكلّيّة حتّى لا يكون محتمل الإرادة عند الإطلاق ، والمعنى المجازيّ في المجاز الراجح لا يصير غالبا كذلك ، بل استعماله غالب على الاستعمال الحقيقي ، إلاّ أنّ المعنى الحقيقيّ يكون محتمل الإرادة عند الإطلاق بالاحتمال المرجوح.

وبالجملة ، إرادة المعنى المنقول إليه يقينيّة ، وإرادة المجاز الراجح ظنّيّة.

فائدة (١)

يعرف كلّ واحد من الحقيقة والمجاز بامور :

منها : تصريح الواضع باسمه ، أو حدّه ، أو خاصّته ، كأن يقول : إرادة هذا المعنى من هذا اللفظ غير مشروطة بالقرينة ، أو مشروطة بها (٢).

ومنها : التقدّم في الذكر والتأخّر فيه ؛ فإنّه إذا ذكر أهل اللغة معاني متعدّدة للّفظ ولم يعلم الاشتراك ـ سواء علم أنّ بعضها حقيقة وبعضها مجاز من دون التعيين ، أو وقع الشكّ في الاشتراك والحقيقة والمجاز ، وكونها جميعا مجازات ـ فإنّه يحكم حينئذ بالحقيقة والمجاز ؛ لأنّه خير من الاشتراك ، كما سيجيء (٣) ، ومن كون جميعها مجازات ؛ لبعده. ويحكم بأنّ المقدّم في الذكر حقيقة ، والمؤخّر فيه مجاز ؛ لبعد ذكر المجاز مقدّما على الحقيقة.

ومنها : التبادر وعدمه ، فالأوّل علامة الحقيقة ، والثاني علامة المجاز. والتبادر الذي من علامة الحقيقة أعمّ من أن يكون مطلقا ، أو من حيث الإرادة. فعلى الأوّل يكون جميع معاني المشترك متبادرة على الاجتماع ، وعلى الثاني يكون جميعها متبادرة على البدليّة.

وبعض الاصوليّين جعل علامة الحقيقة عدم تبادر الغير ، وعلامة المجاز تبادره (٤).

__________________

(١) في « ب » : « قاعدة ».

(٢) مثال للأخير أي « خاصّته ».

(٣) في تعارض أحوال اللفظ ، الفصل ١٦ ، ص ٧٢ ـ ٧٧.

(٤) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٢٠ ، والوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : ٣٢٤ ، الفائدة ٣٤.

٥٢

واورد عليه المشترك (١) نقضا. أمّا على علامة الحقيقة ، فإذا استعمل في أحد معانيه ؛ فإنّه يتبادر حينئذ غيره ، أعني المعاني الأخر.

وأمّا على علامة المجاز ، فإذا استعمل في معناه المجازي ؛ إذ لا يتبادر غيره ؛ للتردّد بين معانيه.

وغير خفيّ أنّ النقضين نقيضان فلا يجتمعان ؛ لأنّ معاني المشترك جميعا إن كانت متبادرة على الاجتماع أو البدليّة ، فيكون النقض الأوّل واردا والثاني مندفعا ، وإن لم يكن كذلك ، فبالعكس.

والحقّ : أنّ جميع معاني المشترك متبادرة على الاجتماع إن أخذ التبادر في الدلالة ، وعلى البدليّة إن أخذ التبادر في المراد ؛ فإنّا نعلم أنّ المراد منها أحدها بعينه ، إلاّ أنّا لا نعلمه (٢). وحينئذ يظهر أنّ النقض الأوّل وارد ، والثاني مندفع.

فالحقّ أن لا يجعل عدم تبادر الغير علامة للحقيقة ؛ لأنّ المشترك حقيقة بالنسبة إلى كلّ واحد بعينه من معانيه ، مع أنّه يتبادر المعاني الأخر أيضا إمّا مطلقا ، أو من حيث الإرادة ، بل اللازم أن يجعل علامتها التبادر فقط. والمجاز يمكن أن يجعل كلّ واحد من عدم التبادر وتبادر الغير من علائمه.

ثمّ اعلم أنّ تبادر كلّ قوم يدلّ (٣) على حقيقتهم فقط ، فإذا تبادر معنى من لفظ في عرفنا (٤) ، دلّ على أنّ هذا المعنى حقيقة عرفيّة بالنسبة إلى هذا اللفظ ، ولا يدلّ على أنّه حقيقة لغويّة أيضا.

نعم ، إذا لم نجد له في اللغة معنى حقيقيّا سواه ، فيمكن الحكم بكونه حقيقة لغويّة أيضا ؛ لأصالة عدم التعدّد. وكذا الحكم إذا حصل تبادر معنى من لفظ عند أهل اللغة ؛ فإنّه لا يثبت سوى الحقيقة اللغويّة.

__________________

(١) والمراد هو المشترك اللفظي. وفي الفوائد الحائريّة : ٣٢٤ ، الفائدة ٣٤ أورد المشترك المعنوي على علامة الحقيقة.

(٢) في « ب » : « لا نعلم ».

(٣) كذا في النسختين. وحقّ العبارة أن تكون هكذا : « أنّ التبادر عند كلّ قوم يدلّ ».

(٤) في « ب » : « من لفظ عرفا ».

٥٣

ومنها : صحّة سلب المعنى الحقيقي للّفظ عن المعنى المستعمل فيه ، وعدمها.

فالأوّل علامة المجاز ، والثاني علامة الحقيقة. مثلا إذا قلنا للبليد : إنّه ليس بحمار ، سلب فيه المعنى الحقيقي للحمار عمّا استعمل فيه الحمار أعني البليد ، وهو جائز ، فيعلم منه أنّ استعمال الحمار في البليد مجازيّ.

وإذا قلنا للبليد : إنّه ليس بإنسان ، يكون فيه المعنى الحقيقيّ للإنسان مسلوبا عمّا استعمل فيه لفظ الإنسان أعني البليد ، هذا غير جائز. فيعلم منه أنّ استعمال الإنسان في البليد على سبيل الحقيقة.

واورد عليه : بأنّ صحّة السلب لا يجوز أن يراد بها صحّة سلب بعض المعاني الحقيقيّة ؛ لأنّه غير مفيد ؛ لجواز كون المعنى المستعمل فيه من البعض الذي لا يجوز سلبه ، فيجب أن يراد بها صحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة ، والعلم به موقوف على العلم بأنّ المعنى المستعمل فيه ليس من المعاني الحقيقيّة ، وهو موقوف على العلم بأنّه من المعاني المجازيّة للّفظ ، وهو موقوف على صحّة السلب ، وهو دور مضمر (١).

وفي علامة الحقيقة يلزم دور مصرّح ؛ لأنّ العلم بعدم صحّة سلب المعاني الحقيقيّة عن المعنى المستعمل فيه موقوف على العلم بأنّه بعض المعاني الحقيقيّة للّفظ ، وهو موقوف على عدم صحّة السلب.

والجواب : أنّا نجزم بأنّه يصحّ العلم بأنّ الإنسان ليس شيئا من المعاني الحقيقيّة للأسد وإن لم يحصل العلم بالمجازيّة ، فيمكن العلم بصحّة سلب المعاني الحقيقيّة للإنسان عن الحيوان المفترس مع عدم العلم بالمجازيّة. وكذا نجزم بأنّه يصحّ العلم بعدم صحّة سلب المعاني الحقيقيّة للإنسان عن البليد وإن لم يعلم أنّه حقيقة فيه. نعم ، يستلزمه ، فغاية الأمر الاستلزام لا التوقّف. وهذا العلم إنّما يحصل لنا عرفا ؛ فإنّ الفهم العرفي حاصل بصحّة السلب وعدمها وإن لم يعلم الحقيقة والمجاز ؛ وهو ظاهر.

ثمّ لا يخفى أنّ الشرط المذكور في التبادر آت هنا أيضا ؛ فإنّ صحّة السلب وعدمها عند كلّ قوم أمارتان للمجاز والحقيقة في اصطلاحهم.

__________________

(١) راجع الفوائد الحائريّة : ٣٢٥ ، الفائدة ٣٤.

٥٤

ومنها : الاطّراد وعدمه. فالأوّل علامة الحقيقة ، والثاني علامة المجاز.

والمراد من الاطّراد أن يستعمل اللفظ في محلّ لوجود معنى ، ثمّ جوّز استعماله في كلّ محلّ وجد فيه ذلك المعنى ؛ فإنّ هذا علامة لكون اللفظ المذكور حقيقة في هذه المحالّ ، وهذا كاستعمال المشتقّات فيمن قامت (١) به. والظاهر أنّ الاطّراد لا يدلّ على الحقيقة كلّيا ؛ لأنّ المجاز قد يطّرد ، كالأسد للشجاع.

والمراد بعدم الاطّراد أن يستعمل اللفظ المجازي في محلّ لوجود علاقة ، ثمّ لم يجوّز استعماله في كلّ محلّ مع وجود تلك العلاقة ، كالنخلة تطلق على الإنسان لطوله ، ولا تطلق على طويل آخر.

واورد عليه : بأنّ « السخيّ » و « الفاضل » يطلقان على غير الله ؛ للجود والعلم ، ولا يطلقان على الله مع وجودهما فيه تعالى ، وكذا القارورة تطلق على الزجاجة ؛ لاستقرار الشيء فيها ، ولا تطلق على الدّنّ والكوز مع كونهما ممّا يستقرّ فيه الشيء ، فيلزم كونها مجازات (٢).

والجواب : أنّ عدم إطلاق « السخيّ » و « الفاضل » على الله تعالى لكون أسمائه تعالى توقيفيّة ، أو أنّهما موضوعان لمن كان من شأنه البخل والجهل. والقارورة موضوعة لما يستقرّ فيه الشيء بشرط كونه من الزجاج.

إذا عرفت هذا ، تعلم أنّه يمكن إثبات كون اللفظ حقيقة أو مجازا من العلامات المذكورة.

ومنه يستنبط الأحكام الشرعيّة ، كما نذكر في الفصل الآتي.

فصل [٩]

لا خلاف في وجود الحقيقة العرفيّة واللغويّة. وأمّا الشرعيّة فقد اختلفوا في إثباتها ونفيها بعد اتّفاقهم على ثبوت الحقيقة المتشرّعة (٣) ؛ فإنّه لا خلاف في أنّ الألفاظ المخصوصة

__________________

(١) في « ب » : « قام ».

(٢) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٢٠.

(٣) كذا في النسختين ولعلّ الأولى : الحقيقة المتشرّعيّة ، أو حقيقة المتشرّعة ، أو الحقيقة عند المتشرّعة.

٥٥

ـ كالصلاة والزكاة والحجّ ـ إذا وقعت مطلقة في كلام المتشرّعة ، تحمل على المعاني الحادثة ، فتكون حقائق عرفيّة خاصّة. إنّما الخلاف في أنّها إذا وقعت مجرّدة عن القرينة في كلام الشارع ، فهل تحمل على المعاني الشرعيّة (١) حتّى تكون حقائق شرعيّة ، أو على المعاني اللغويّة؟ وأدلّة الطرفين مدخولة.

ولكنّ الحقّ وجودها ؛ لما نذكره ، وهو أنّه لا ريب في أنّ ألفاظ الصلاة والزكاة والحجّ ـ مثلا ـ كانت في اللغة موضوعة لمعان غير المعاني المتداولة عند أهل الشرع. ولا ريب أيضا في أنّ نقل الشارع هذه الألفاظ من معانيها اللغويّة إلى معانيها الشرعيّة غير معلوم لأحد ؛ لعدم ما يدلّ عليه عقلا أو نقلا ، مع أنّ الأصل عدم النقل.

فالمتيقّن عندنا أنّ الشارع استعمل هذه الألفاظ في المعاني الشرعيّة ، وهي صارت متبادرة عند المتشرّعة بحيث لا يفهمون عند الإطلاق غيرها ، ولكنّهم لم يتصدّوا للنقل ، بل التبادر عندهم ؛ لأجل أنّ الشارع استعملها فيها استعمالا لا ندري أنّه على سبيل النقل أو المجاز ، ولكنّه كان استعمالا شائعا بحيث صار غالبا حتّى صارت المعاني الشرعيّة متبادرة ، وهجر المعاني اللغويّة عند الإطلاق. فثبوت الحقيقة عند المتشرّعة ليس إلاّ لأجل استعمال الشارع وغلبته بحيث حصل التبادر وعدم صحّة السلب عندهم ، فكلّ زمان حصل فيه التبادر وعدم صحّة السلب ، حصل الحقيقة أيضا بالنسبة إلى أهله ، سواء كان شارعا أو غيره ، بل حصوله بالنسبة إلى الشارع أولى ؛ لأنّ أصل الاستعمال منه ، فينبغي التفحّص عن الزمان الذي حصل فيه التبادر وعدم صحّة السلب.

فنقول : غير خفيّ أنّ العلامتين لم تحصلا في ابتداء الزمان الذي أطلق الشارع هذه الألفاظ على المعاني الشرعيّة ؛ لأنّهما موقوفتان على غلبة الاستعمال ولم تحصل فيه ، ففيه لم يحصل حقيقة مطلقا لا الشرعيّة ولا العرفيّة ، فهذه الألفاظ إذا صدرت من الشارع أو من غيره في الزمان المذكور لا يمكن لنا حملها على المعاني الشرعيّة ؛ لعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيه وإن كانت متبادرة عندنا الآن ؛ لأنّه لأجل الغلبة بعد الزمان المذكور.

فظهر أنّ الألفاظ المذكورة إذا صدرت في ابتداء عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمكن لنا حملها على

__________________

(١) في « ب » : « الفرعيّة ».

٥٦

المعاني الشرعيّة ؛ لعدم حصول التبادر فيه ، وأمّا حصوله في عصر الصادقين عليهما‌السلام فلا شبهة فيه ، بل الحكم كذلك قبل عصرهما ، بل أواخر عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا بالنسبة إلى الألفاظ التي استعملت في المعاني الشرعيّة في أوائل ظهوره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا سيّما إذا كانت كثيرة الدوران في المحاورات ، كالصلاة والزكاة والحجّ ؛ لأنّ العقل حاكم بأنّه إذا استعمل لفظ في معنى في سنين ، وكان الاستعمال أكثريا غالبا ، يصير بعد ذلك هذا المعنى متبادرا منه بحيث يضمحلّ المعنى الأوّل عند المستعملين وإن كان الاستعمال بمعونة القرائن ، فثبت الحقيقة (١) الشرعيّة وحقيقة المتشرّعة بالنسبة إلى الألفاظ المذكورة من أواخر عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ما بعده أيّ وقت كان.

ثمّ هذا في الألفاظ التي علم يقينا أنّ الشارع استعملها في معانيها الشرعيّة ، وصار الاستعمال غالبا بحيث حصل التبادر وعدم صحّة السلب. وأمّا الألفاظ التي لم يعلم فيها أصل الاستعمال ، أو علم ولكن لم تصر كثيرة الدوران بحيث يحصل منها التبادر ، فليس حكمها كذلك.

ثمّ إن كان أصل الاستعمال من واحد من أئمّتنا ـ صلوات الله عليهم ـ فينبغي أن يراعى فيه ما روعي في صورة كون الاستعمال من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ثبوت الحقيقة الشرعيّة وحقيقة المتشرّعة عند حصول التبادر ـ لا عند أوائل الاستعمال ـ والعلم بأصل الاستعمال وغلبته يقينا. ولا يثبت التبادر والحقيقة حينئذ بالنسبة إلى زمان قبل زمانه عليه‌السلام.

فإن قلت : لمّا لم يكن فهم المعاني الشرعيّة من الألفاظ المذكورة بنقل الشارع ، بل بسبب الاستعمال وغلبته والترديد بالقرائن حتّى صارت متبادرة عند الإطلاق ، فلا يلزم منه الحقيقة الشرعيّة ، بل يمكن أن يكون هذا من باب المجاز الراجح.

قلت : قد تقدّم (٢) أنّ الحقّ أنّ الاستعمال في المعنى الثاني إذا صار غالبا بحيث ترك المعنى الأوّل ، لا يكون من المجاز مطلقا لا الراجح ولا غيره ، بل يكون من باب الحقيقة ، وذكر أنّ المجاز الراجح ما ذا ، مع أنّه إن قيل : إنّ المراد من المجاز الراجح هذا المعنى يثبت

__________________

(١) في « ب » : « الحقائق ».

(٢) تقدّم في ص ٥١.

٥٧

منه المطلوب (١) ؛ لأنّه يجب (٢) حينئذ حمل الألفاظ المذكورة عند الإطلاق على معانيها المجازيّة الراجحة ، ولا يبقى نزاع في التفريع.

ثمّ لا يخفى أنّ فروع هذه القاعدة كثيرة ظاهرة ، وكيفيّة التفريع ظاهرة عليك بعد ما عرفت الحقّ فيها.

مسألة : النقل خلاف الأصل ؛ عملا باستصحاب الحال ، وهو حجّة ، كما سيجيء (٣) ، فلا بدّ في ثبوته من الدليل (٤). وقد وقع الخلاف في أنّ صيغ العقود والفسوخ والالتزامات ، كقول القاضي : « حكمت » هل نقلها الشارع من مدلولاتها اللغويّة ـ أعني الإخبار إلى إحداث حكم ، أعني الإنشاء ـ أم لا؟ فقيل (٥) بالأوّل ، وإلاّ لزم الكذب أو التسلسل. وقيل بالثاني ؛ للأصل (٦) واستعمالها في بعض الأحيان في كلام الشارع في الإخبار.

فعلى الأوّل يجب حمل جميع هذه الصيغ عند الإطلاق والشكّ على الإنشاء ، ولا يعتبر القصد أيضا.

وعلى الثاني على الإخبار ، ولا بدّ في حملها على الإنشاء من القرائن الحاليّة أو المقاليّة ، ويعتبر القصد حينئذ ، وإلاّ لم يحصل التميّز.

والحقّ : أنّ ما استدلّ به على القول الأوّل لا يفيد المطلوب ؛ لأنّه يمكن أن يكون استعمال الشارع بمعونة القرائن والقصد ، وكذا الحكم عندنا ، فلا يلزم كذب ولا تسلسل.

نعم ، يمكن أن يقال : قد حصل تبادر الإنشاء منها عند المتشرّعة ، فيجب أن يحمل في كلامهم عليه ، وحينئذ نحن لا نحتاج إلى القصد. ويمكن أن يطّرد حكمها بالنسبة إلى الشارع أيضا حتّى يكون حكمها كحكم الصلاة وأمثالها ، فتأمّل.

__________________

(١) في « ب » : « يكون من باب الحقيقة » ، بدل : « ما ذا مع ... المطلوب ».

(٢) في « ب » : « لا يجب ».

(٣) راجع في باب الأدلّة العقليّة ، ص ٤٠١ ، الفصل ٦.

(٤) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٢٠.

(٥) قاله الفخر الرازي في المحصول ١ : ٣١٧ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٧٧.

(٦) حكاه الأسنوي عن الحنفيّة في التمهيد : ٢٠٤.

٥٨

فصل [١٠]

لا خلاف في اشتراط العلاقة في المجاز ، وهي التي اعتبر أهل اللغة نوعها ، وسيجيء (١) ذكر بعضها. وإنّما الخلاف في أنّه يشترط مع ذلك في آحاد المجازات أن ينقلها أهل اللغة بأعيانها ، أم يكفي وجود العلاقة؟

ذهب فخر الدين الرازي إلى الأوّل (٢) ، والأكثرون إلى الثاني. وهو الحقّ ؛ لأنّ آحاد المجازات لو كانت نقليّة لما اكتفى أهل العربيّة في التجوّز بمجرّد العلاقات المعتبرة ، بل كان اللازم عليهم أن يتوقّفوا حتّى يظفروا بالنقل ، والتصفّح يعطي خلاف ذلك ؛ فإنّ من تتبّع كلماتهم المنظومة والمنثورة يعرف أنّهم لا يتوقّفون على النقل ، بل كانوا يعدّون اختراع آحاد المجازات من البلاغة ، ولذلك لم يدوّنوا المجازات كما دوّنوا الحقائق.

وأيضا الحقائق الشرعيّة والعرفيّة مجازات لغويّة ، مع أنّ أهل اللغة لم يعرفوا المعاني الشرعيّة والعرفيّة فضلا عن أن ينقلوها ويستعملوها.

واستدلّ المخالف : بأنّه لو كانت العلاقة كافية لجاز إطلاق (٣) الأب على الابن وبالعكس ؛ للسببيّة والمسبّبية ، والنخلة على الحبل الطويل ؛ للمشابهة ، والشبكة للصيد وبالعكس ؛ للمجاورة ، وليس كذلك.

والجواب : أنّ عدم الجواز فيها منصوص (٤) من أهل اللغة ، فالمقتضي فيها موجود ، والعدم باعتبار وجود المانع ، والكلام فيما لم يوجد فيه مانع.

وبما ذكرنا ظهر أنّ نقل الآحاد ليس شرطا ، ولكن يشترط وجود أحد أنواع العلاقات المعتبرة التي صرّح بها أهل اللغة ، ولا يكتفى بمطلق العلاقة. ويظهر منه أنّ المجاز موضوع بالوضع النوعي دون الشخصي.

__________________

(١) في ص ٦٤ ، الفصل ١٢.

(٢) المحصول ١ : ٣٢٩.

(٣) في « ب » : « إطلاقه من ».

(٤) في المحصول ١ : ٣٣٠ : « فلم لا يجوز أن يمنع الواضع منه في بعض المواضع دون البعض » فالنصّ أو المانع محتمل لا مقطوع ، كما هو ظاهر كلام المصنّف رحمه‌الله. والصحيح أن يقال : عدم الجواز فيها لعلّه منصوص ... والعدم باعتبار احتمال وجود المانع. وبعبارة اخرى أنّ وجود الاحتمال يكفي في الجواب كما فعله الرازي.

٥٩

ويتفرّع على هذا الأصل : جواز وجود المجازات المعتبرة في كلام الشارع وإن لم ينقل آحادها من أهل اللغة ، وجواز تكلّمنا بها في الأقارير والنذور والعهود والتعليقات ، وعدم جواز التكلّم بالمجاز الذي لم يوجد فيه أحد أنواع العلاقات المعتبرة ، بل وجد فيه علاقة غيرها ، لا (١) من الشارع ولا منّا.

فصل [١١]

لمّا عرفت (٢) أنّ الحقيقة اللفظ المستعمل فيما وضع له ، والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له ، تعلم أنّ اللفظ قبل الاستعمال فيهما لا يكون حقيقة ولا مجازا.

ثمّ لا شبهة في أنّ الحقيقة لا تستلزم المجاز ، يعني إذا كان اللفظ حقيقة في معنى ، لا يلزم كونه مجازا في معنى آخر ، وهذا ظاهر متّفق عليه ؛ لأنّ استعمال اللفظ في موضوعه لا يستلزم استعماله في غيره بوجه من الوجوه ، والحقائق التي ليست لها مجازات كثيرة.

وأمّا العكس ، أعني استلزام المجاز للحقيقة ـ بمعنى (٣) استعمال اللفظ في غير ما وضع له وعدم استعماله فيما وضع له ـ ففيه خلاف. والحقّ عدم الاستلزام هنا أيضا ؛ لأنّ المجاز لمّا كان لفظا مستعملا في غير ما وضع له ، فيستلزم تقدّم الوضع. وأمّا تقدّم الاستعمال فيما وضع له ، فلا يستلزمه بوجه ، ولذا استعمل لفظ « الرحمن » في معناه المجازي أعني ذا الرحمة القديمة ، ولا يجوز استعماله فيما وضع له وهو ذو الرحمة مطلقا ، فثبت له المجاز دون الحقيقة.

واستدلّ المخالف : بأنّه لو لم يستلزم المجاز الحقيقة ، لعرى الوضع عن الفائدة ؛ لأنّ المطلوب من الوضع استفادة الموضوع له من اللفظ ، فإذا لم يستعمل فيه يكون عبثا (٤).

__________________

(١) قيد لـ « عدم جواز التكلّم ».

(٢) تقدّم في ص ٥١ ، الفصل ٨.

(٣) ظاهر العبارة هو تفسير المجاز فقط دون استلزامه للحقيقة. والحقّ أن تفسّر الجملة بأن يقال : بمعنى استلزام استعمال اللفظ في غير ما وضع له استعماله فيما وضع له. وبحذف « وعدم » تستقيم العبارة.

(٤) راجع الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ١٠.

٦٠