أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

ولا يخفى أنّه لا يجري في كلّ شهرة ؛ لأنّ مراتبها مختلفة ، فربّ شهرة ضعيفة لا يحصل منها ظنّ أصلا ، ولا تصلح للتأييد فضلا عن أن يحصل منها العلم ، أو ظنّ يكون حجّة.

نعم ، قد تكون الشهرة قويّة ، بحيث يحصل معها قوّة الظنّ وتصلح للترجيح ، بل ربّما بلغت حدّا يكون حجّة.

نعم ، إذا كان المخالف قليلا ، فإنّه يمكن أن يحصل الظنّ القويّ بدخول قول المعصوم في مثل هذه الشهرة ، إلاّ أنّها تكون عندنا إجماعا ؛ لعدم مخالفة النادر فيه ، كما عرفت (١).

وأمّا الثاني ؛ فلتبادر الظنّ إلى أنّ الخطأ من القليل أظهر منه من الكثير ؛ ولما ورد من قولهم عليهم‌السلام : « خذ المجمع عليه بين أصحابك » ؛ فإنّ الظاهر منه المشهور بقرينة قوله عليه‌السلام : « واترك الشاذّ النادر » (٢).

ثمّ الحقّ ، أنّ الشهرة مطلقا تصلح للتأييد والترجيح ، سواء كانت من المتقدّمين أو المتأخّرين ، وشهرة المتقدّمين وإن كانت أقوى نظرا إلى قرب عهدهم بالحجج عليهم‌السلام وتمكّنهم من تحصيل القرائن ، ولكنّ الشهرة بين المتأخّرين أقوى ؛ نظرا إلى أنّ دقّتهم أكثر.

وما قيل : إنّ كلّ شهرة حصلت بعد زمن الشيخ لا عبرة بها ولا يحصل منها ظنّ ؛ لأنّ المتأخّرين عنه قلّدوه في الأحكام التي عمل بها (٣) ، في غاية الضعف ؛ لأنّ مخالفتهم له أكثر من مخالفة القدماء بعضهم لبعض ، كما لا يخفى على المتتبّع.

وإذا عرفت الحقّ ، فكيفيّة التفريع ظاهرة.

فصل [١٣]

لا يشترط في حجّيّة الإجماع أن يبلغ عدد المجمعين عدد التواتر.

أمّا عندنا ؛ فلأنّ المعتبر كلّ عدد حصل منه العلم بدخول قول الإمام عليه‌السلام كائنا ما كان.

__________________

(١) في ٣٦٧.

(٢) الفقيه ٣ : ١٠ ، ح ٣٢٣٦ ، وتهذيب الأحكام ٦ : ٣٠١ ، ح ٨٤٥ ، ووسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، الباب ٩ ، ح ١.

(٣) حكاه الشيخ حسن عن والده في معالم الدين : ١٧٦.

٣٨١

وأمّا عندهم ؛ فلأنّ المعتبر عدد (١) كلّ الامّة ، وإن كان أقلّ من عدد التواتر (٢) ، كما دلّ عليه الأدلّة السمعيّة (٣).

فصل [١٤]

الإجماع إمّا ظنّي ـ وإنكار حكمه ليس بكفر وفاقا ـ أو قطعيّ ، وهو على ثلاثة أقسام :

[ الأوّل : ] ما كان لحكمه مدخل في الدين ، وقد علم بالضرورة ، كاعتقاد التوحيد والرسالة والعبادات الخمس (٤).

و [ الثاني : ] ما كان لحكمه مدخل فيه وقد علم بالنظر.

و [ الثالث : ] ما ليس لحكمه مدخل فيه.

ولا خلاف في أنّ إنكار حكم الأوّل كفر. وأمّا الأخيران ، فقد اختلف فيهما (٥).

والحقّ : أنّ حكم الثاني كحكم الأوّل ؛ لأنّ إنكاره إنكار لما علم حقيقة من الدين.

والإيراد عليه : بأنّ أصل أدلّة الإجماع لا يفيد العلم ، فما يتفرّع عليه أولى بذلك (٦) ، قد ظهر جوابه ممّا سبق (٧).

وأمّا الثالث : فالقطع بأحد الطرفين لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّ إنكاره إنكار لما علم حقيقة من الشرع ؛ ولعدم تحقّق الكفر ما لم يتحقّق إنكار ما كان له مدخل في الدين.

فصل [١٥]

لا يجوز عندنا أن ينقسم الامّة إلى قسمين أو أكثر ، ويخطئ كلّ قسم في مسألة ؛ لأنّ المعصوم عليه‌السلام من جملتهم ، وهو لا يخطئ.

__________________

(١) لم يرد في « ب » : « عدد ».

(٢) راجع : المستصفى : ١٤٨ ، والمحصول ٤ : ١٩٩ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣١٠ ، ونهاية السؤل ٣ : ٣١٨.

(٣) راجع الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣١٠ و ٣١١.

(٤) الصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحجّ ، والجهاد.

(٥) راجع : تهذيب الوصول : ٢١٥ ، والمحصول ٤ : ٢٠٩ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٤٤.

(٦) أشار المحقّق الحلّي إلى هذا في معارج الاصول : ١٣٠.

(٧) سبق في ص ٣٥٥.

٣٨٢

وأمّا العامّة ، فأكثرهم على ذلك أيضا. وجوّزه بعضهم (١).

واحتجّ الأكثر بأنّ خطأهم في مسائل لا يخرجهم عن الاجتماع على الخطأ ، وهو منفيّ عنهم. وهذا بناء (٢) على أخذهم اللام في « الخطأ » للجنسيّة. وهذا اعتراف منهم بعدم خلوّ عصر من مصيب في كلّ الأحكام من حيث لا يشعرون ؛ لضرورة جواز أن يكون كلّ واحد منهم مخطئا في مسألة ، والآخر في اخرى (٣) لولاه.

وحجّة المجوّزين : أنّ المتبادر من الخبر المشهور نفي اجتماعهم على خطأ واحد ، وهو مبنيّ على أخذهم اللام في « الخطأ » للعهد.

فصل [١٦]

لا يجوز الاحتجاج بالإجماع فيما يتوقّف صحّته عليه ؛ لأنّه دور ، ويجوز في غيره إذا كان دينيّا وفاقا ، سواء كان من الأحكام الشرعيّة ، أو العقليّة كالوحدة وحدوث الأجسام. وإن كان دنيويّا ، كتدبير الجيوش وترتيب امور الرعيّة وأمثالهما ، فالظاهر جواز التمسّك به فيه ، وحرمة المخالفة ، وفاقا للمرتضى (٤) وبعض العامّة (٥). أمّا عندنا ، فظاهر. وأمّا عندهم ، فلعموم الأدلّة.

وذهب الإماميّة إلى حجّيّة إجماع الأديان السابقة وجواز التمسّك به لأهلها (٦) ، ووافقهم من العامّة (٧) من أثبت حجّيّته بالعقل ، وخالفهم من أثبتها بالسمع ؛ للتخصيص المفهوم من قوله : « امّتي » ومن ظواهر أخر. وهو على ما اخترناه يحتاج إلى نكتة ، فتأمّل.

__________________

(١) قاله الفخر الرازي في المحصول ١ : ٢٠٦ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٣ : ٣٢٩ و ٣٣٥.

(٢) خبر « هذا » أي هذا مبنيّ.

(٣) في « ب » : « الاخرى ».

(٤) الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ١٤٣.

(٥) منهم : الفخر الرازي في المحصول ٤ : ٢٠٦ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٤٦ ، ونسبه إلى قاضي عبد الجبّار في أحد قوليه أيضا.

(٦) راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول ٣ : ٢٧٣.

(٧) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٤٦ وفصّله وقال : « لا فائدة في بيانه ». فتركه بلا رأي فيه.

٣٨٣

وقد يطلق الإجماع على الاتّفاق الذي ليس اتّفاق الكلّ ، ولا كاشفا عن قول المعصوم (١) ، كاتّفاق أهل اللغة ، أو الصرف ، أو العروض على أمر. ومنه اتّفاق العصابة على تصحيح ما يصحّ عن فلان ، أو العمل برواية فلان. ومثله وإن لم يكن قاطعا ولا حجّة ، ولكنّه يكون مؤيّدا ومرجّحا ؛ لإفادته الظنّ بصحّة ما اتّفقوا عليه. وربما أفاد ظنّا قويّا جاز التمسّك به.

فصل [١٧]

قد صحّ لديك من حدّ الإجماع أنّه لا عبرة فيه بالكفّار ومن لم يوجد ، وقد اتّفق عليه الفريقان ، ووجهه عندنا ظاهر ، وعندهم الأدلّة المتقدّمة (٢) ، وعدم تحقّق إجماع قطّ لولاه.

ومنه يظهر عدم العبرة بالعامّيّ موافقته ومخالفته عندهم ، وبه يقيّدون إطلاقات الأدلّة. وأمّا عندنا : فالحكم فيه ظاهر.

ولا عبرة عندنا بالمخطئ من أهل القبلة ، سواء تضمّن خطؤه كفرا كالمجسّمة ، أو فسقا فاحشا ، ووجهه ظاهر.

ووافقنا أكثر العامّة في الأوّل (٣) ؛ لأنّه كالكافر.

واختلفوا في الثاني على أقوال : ثالثها : أنّه يعتبر في حقّ نفسه دون غيره ، ويكون الإجماع الذي خالفه فيه حجّة على غيره لا عليه (٤).

والحقّ على اصولهم اعتباره مطلقا ؛ لأنّه بالفسق لم يخرج عن الامّة ، فاتّفاق من سواه ليس اتّفاق كلّ الامّة ، فلا تدلّ الأدلّة المتقدّمة على حجّيّته.

قيل : ولا عبرة بقول المجتهد في فنّ في إجماع ثبت في فنّ آخر (٥) ، فلا يعتبر قول الفقيه في الكلام ، وبالعكس ، ويعتبر قول الاصوليّ المتمكّن من الاجتهاد في الفقه. والضابط : أنّ

__________________

(١) في « ب » : « الإمام ».

(٢) راجع : المحصول ٤ : ١٩٦ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٨٤.

(٣) راجع المحصول ٤ : ١٨٠ و ١٨١.

(٤) حكاه العلاّمة في تهذيب الوصول : ٢١١ ، والفخر الرازي في المحصول ٤ : ١٨٠ و ١٨١.

(٥) قاله الفخر الرازي في المحصول ٤ : ١٩٨ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢١٣.

٣٨٤

المجتهد في فنّ إن لم يتمكّن من الاجتهاد في فنّ آخر ، يكون حكمه فيه حكم العامّيّ ، فلا يعتبر موافقته ولا مخالفته ، كما سبق ، وإن تمكّن منه ، يعتبر قوله عند العامّة (١) ، وعندنا لا يخفى جليّة الحال.

هذا ، وبقيت مسائل ذكرها العامّة في اصولهم بعضها متّفق عليه بينهم ، وهو عدم حجّيّة إجماع أهل البيت عليهم‌السلام. وبعضها مختلف فيه بينهم ، وهو عدم حجّيّة إجماع أهل المدينة ، وإجماع الخلفاء الأربعة ، والشيخين ، وعدم اختصاص الإجماع المحتجّ به بالصحابة (٢). تركناها ؛ لظهور الحال فيها على اصول الفريقين ، والتعرّض لها لا يثمر إلاّ تكثير السواد.

__________________

(١) قاله الغزالي في المستصفى : ١٤٤ ، والفخر الرازي في المحصول ٤ : ١٨٥.

(٢) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٤ : ١٦٢ ـ ١٨١ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٨٤ ـ ٣٠٩.

٣٨٥

الباب الرابع

في الأدلّة العقليّة

وهي ثلاثة أنواع :

[ الأوّل : ] ما يعتمد عليه وينتهض دليلا لنفي الحكم الشرعي لا لإثباته.

و [ الثاني : ] ما يعتمد عليه وينتهض دليلا لإثباته.

و [ الثالث : ] ما لا يعتمد عليه.

وها هي نذكرها في فصول :

فصل [١]

ممّا عدّ من النوع الأوّل : أصل البراءة عن الشواغل الشرعيّة حتّى يدلّ دليل على خلافه ، وهو على صنفين :

[ الصنف ] الأوّل : أصالة براءة الذمّة عن حقوق الله حتّى يثبت خلافه ، وهو على قسمين :

أوّلهما : أصالة نفي فعل وجوديّ هو الحرمة أو الكراهة ، حتّى يثبت خلافه. وبه يثبت الحلّ في الأعيان ، والإباحة في الأفعال قبل بعثة الرسل وبعد بعثتهم فيما لا نصّ فيه.

وثانيهما : أصالة نفي فعل وجوديّ هو الوجوب أو الاستحباب ، حتّى يثبت خلافه.

و [ الصنف ] الثاني : أصالة براءتها عن حقوق الناس حتّى يثبت شغلها (١).

__________________

(١) في « ب » : « خلافه ».

٣٨٦

فهنا ثلاث مقامات (١) :

[ المقام ] الأوّل : في أنّ الأصل في الأشياء الإباحة قبل ورود الشرع. وإليه ذهب المعظم (٢). وقيل بالتوقّف مطلقا (٣). وقيل به فيما احتمل الحرمة ولم يكن من الشبهة في طريق الحكم ، وفي غيره الحكم فيه الإباحة (٤). وقيل بوجوب الاحتياط (٥).

والأكثر على أنّ القائل بالاحتياط هو القائل بالتوقّف ؛ فإنّه يتوقّف في الفتوى والحكم ، ويحتاط في العمل. وليس القول به مذهبا على حدة ، ويأتي (٦) حقيقة الحال فيه.

وقيل بالحرمة ظاهرا (٧). وقيل به واقعا (٨). ومحلّ الخلاف الأفعال الاختياريّة. وأمّا الاضطراريّة : فالأصل فيها الإباحة وفاقا.

لنا : استفاضة الأخبار بإطلاق كلّ شيء حتّى يرد فيه نهي (٩) ، وبعدم المؤاخذة قبل البيان (١٠) ، وبأنّه لن يكلّف الله نفسا إلاّ ما آتاها (١١) ، وبعدم قيام الحجّة قبل المعرفة (١٢) ، وبعدم تعلّق التكليف بمن لا يعقل ، كالمجانين والصبيان وأمثالهما (١٣) ، وتعلّقه بهم يوم القيامة.

ولنا : قوله تعالى : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً )(١٤) دلّ على إباحة جميع أفراد

__________________

(١) في « ب » : « مقالات ».

(٢) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٣٢٥ ، والعدّة في أصول الفقه ٢ : ٧٤٢ ، والمستصفى : ٥١.

(٣) حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٣٢٤ ، والفخر الرازي إلى أبي الحسن الأشعري وأبي بكر الصيرفي وطائفة من الفقهاء في المحصول ١ : ١٥٩.

(٤) حكاه الآمدي عن المعتزلة في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٣٠.

(٥) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٣٢٥ و ٣٢٦ ، والعدّة في أصول الفقه ٢ : ٧٤١ و ٧٤٢ ، والمحصول ١ : ١٥٨ و ١٥٩ ، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ١ : ٥٢ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٣٠ ـ ١٣٣.

(٦) يأتي في ص ٣٩١.

(٧ و ٨) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٣٢٥ و ٣٢٦ ، والعدّة في أصول الفقه ٢ : ٧٤١ و ٧٤٢ ، والمحصول ١ : ١٥٨ و ١٥٩ ، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ١ : ٥٢.

(٧ و ٨) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٣٢٥ و ٣٢٦ ، والعدّة في أصول الفقه ٢ : ٧٤١ و ٧٤٢ ، والمحصول ١ : ١٥٨ و ١٥٩ ، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ١ : ٥٢.

(٩) الفقيه ١ : ٣١٧ ، ح ٩٣٧ ، ووسائل الشيعة ٦ : ٢٨٩ ، أبواب القنوت ، الباب ١٩ ، ح ٣.

(١٠) الكافي ١ : ١٦٤ ، باب حجج الله على خلقه ، ح ٤.

(١١) المصدر : ١٦٣ ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة ، ح ٥.

(١٢) المصدر : ١٦٤ ، باب حجج الله على خلقه ، ح ٤.

(١٣) بحار الأنوار ٥ : ٣٠٣ ، ح ١٣.

(١٤) البقرة (٢) : ٢٩.

٣٨٧

الانتفاع في جميع ما في الأرض إلاّ ما ثبت من خارج ؛ لأنّ المقام مقام امتنان (١) ، واللام يقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع ، ولفظة « ما » ظاهرة في العموم.

وقوله : ( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ )(٢) إلخ دلّ بمفهوم الحصر على إباحة غير ما ذكر.

وقوله : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً )(٣). وحمل « من » على التبعيضيّة ، وإرادة بعض معيّن أو مبهم لا يناسب مقام الامتنان ، وإرادة بعض لم يثبت حرمته يثبت المطلوب.

وقوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ )(٤). والمراد بـ « الطيّب » ما يستطاب طبعا لا الحلال ، وإلاّ لزم التكرار ، وهو يقتضي حلّ المنافع بأسرها.

وقوله : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ )(٥) إنكار على من حرّم الزينة والرزق الطيّب ، فيثبت الإباحة في كلّ ما يصدق عليه الزينة والطيّب.

وقوله : ( لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً )(٦) إلخ. وجه الاستدلال به ظاهر. وفيه إشعار بأنّ إباحة الأشياء مركوزة في العقل قبل الشرع ؛ لأنّه في صورة (٧) الاحتجاج على الحلّ بعدم وجدان التحريم إلاّ للأشياء الخاصّة.

وقوله : ( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ )(٨) الآية دلّ باعتبار إفادة « ما » للعموم على إباحة ما سوى المتلوّ عليهم.

وقوله تعالى : ( إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ )(٩). ووجه الاحتجاج به ظاهر.

وقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )(١٠).

__________________

(١) كذا في النسختين. والأولى : « الامتنان ».

(٢) البقرة (٢) : ١٧٣.

(٣) البقرة (٢) : ١٦٨.

(٤) المائدة (٥) : ٤.

(٥) الأعراف (٧) : ٣٢.

(٦) الأنعام (٦) : ١٤٥.

(٧) كذا في النسختين. ولعلّه : « صدد ».

(٨) الأنعام (٦) : ١٥١.

(٩) الأعراف (٧) : ٣٣.

(١٠) الإسراء (١٧) : ١٥.

٣٨٨

وقوله : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها )(١).

وقوله : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ )(٢).

وقوله : ( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ )(٣) ، ووجه الاحتجاج بها ظاهر.

ولنا : حكم العقل بقبح التكليف من غير بيان ؛ لاستلزامه تكليف ما لا يطاق ، والإجماع المعلوم بالتتبّع ، ونقل غير واحد من أجلّة الأصحاب (٤). قال المحقّق :

إنّ أهل الشرائع كافّة لا يخطّئون من بادر إلى تناول شيء من المشتهيات ، سواء علم الإذن فيها من الشرع أو لم يعلم ، ولا يوجبون عليه عند تناول شيء من المآكل أن يعلم التنصيص على إباحته ، ويعذرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم ، ولو كانت محظورة لأسرعوا إلى تخطئته حتّى يعلم الإذن (٥).

فإن قلت : مقتضى هذه الأدلّة أنّه لا سبيل للعقل إلى إدراك الأحكام الشرعيّة ، وهذا ينافي ما اخترت فيما سبق (٦) من استقلال العقل في إدراك الوجوب والحرمة العقليّين ، واستلزامهما للوجوب والحرمة الشرعيّين.

قلت : قد سبق (٧) منّا أنّ أمثال هذه الأدلّة لا تفيد أكثر من أنّه لا حكم للعقل فيما لا يقتضي فيه بحسن وقبح ، وهو محلّ الخلاف.

احتجّ المتوقّف بالأخبار الحاصرة بين أقسام ثلاثة :

[ الاولى : ] الدالّة على التثليث (٨) ولزوم الكفّ والتثبّت عند الشبهة (٩).

و [ الثانية : ] الدالّة على المنع عن القول بغير علم (١٠).

__________________

(١) الطلاق (٦٥) : ٧.

(٢) الأنفال (٨) : ٤٢.

(٣) التوبة (٩) : ١١٥.

(٤) راجع : العدّة في أصول الفقه ٢ : ٧٤٢ ، وتهذيب الوصول : ٥٥ ، ومعارج الاصول : ٢٠٤.

(٥) معارج الاصول : ٢٠٥ و ٢٠٦.

(٦ و ٧) تقدّم في ص ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٦ و ٧) تقدّم في ص ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٨) الكافي ١ : ٦٦ ، باب اختلاف الحديث ، ح ٧.

(٩) المصدر ، ح ١٠ ، وتهذيب الأحكام ٥ : ٤٦٦ ، ح ١٦٣١.

(١٠) الكافي ١ : ٤٢ ، باب النهي عن القول بغير علم ، ح ١ و ٢.

٣٨٩

ويدلّ عليه بعض الآيات أيضا كقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ )(١) إلخ. وقوله : ( وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ )(٢) إلخ. وما لم يرد به الشرع شبهة ، والحكم فيه بالإباحة قول بغير علم.

و [ الثالثة : ] الدالّة على أنّ لله في كلّ واقعة حكما مخزونا عند أهله (٣) ، والقول بالإباحة فيما لا نعلمه ينافيه (٤).

والجواب عن الأوّل : منع كون ما لا نصّ فيه شبهة ؛ لأنّ المراد من الشبهة في أخبار التثليث ما تعارض [ فيه ] النصّان ؛ لأنّها وردت فيه ، ولو كانت الأخبار الدالّة على الوقف فيما تعارض فيه النصّان دالّة على الوقف فيما لا نصّ فيه ، لكانت الأخبار الدالّة على التوسعة في الأوّل دالّة على الإباحة في الثاني ؛ لأنّ التوسعة في معنى الإباحة.

ومع التسليم نقول : إنّ هذه الأخبار كالصريحة في أنّ الشبهة ليست من المحرّمات ، فلا يكون اجتنابها واجبا ، بل المفهوم منها أنّها لمّا كانت ممّا يفضي إلى ارتكاب المحرّم يكون اجتنابها مستحبّا وارتكابها مكروها.

وما ورد في بعضها من أنّه من ارتكبها ارتكب الحرام أو هلك (٥) ومثله ، فالمراد منه الإشراف على الارتكاب والهلاك ، ومثله متعارف في المحاورات ، كما يقال : من سافر وحده ضلّ عن الطريق ، أو أكله السبع.

والجواب عن الثاني : أنّ القول بالإباحة ليس قولا بغير علم بعد دلالة الأدلّة المتقدّمة (٦).

و [ الجواب ] عن الثالث : أنّ ثبوت حكم لكلّ واقعة في الواقع لا ينافي براءة ذمّتنا ، وعدم تكليفنا به إذا لم يبلغنا ؛ لأنّ التكليف لا يكون إلاّ بعد البيان.

ولو قطع النظر عن ذلك كلّه وقلنا بدلالتها على مطلوبهم ، نقول : الترجيح لأخبار

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ٣٦.

(٢) النساء (٤) : ١٧١.

(٣) راجع وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٤ و ٢٥ أبواب صفات القاضي ، الباب ٤ ، ح ١٢ : « العلم مخزون عند أهله ... ».

(٤) قال الفاضل التوني في الوافية : ١٨٧.

(٥) تقدّم في ص ٣٨٩.

(٦) تقدّمت في ص ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

٣٩٠

الإباحة ؛ لأكثريّتها ، واعتضادها بالكتاب والعقل والإجماع.

واحتجّ القائل بالاحتياط باستفاضة الأخبار بالأخذ به ، وبأنّ شغل الذمّة اليقينيّ يحتاج إلى البراءة اليقينيّة (١).

والجواب عن الأخبار : أنّها محمولة على الاستحباب ؛ جمعا بين الأدلّة ، وبعضها صريح فيه.

و [ الجواب ] عن الثاني : منع ثبوت شغل الذمّة اليقيني فيما نحن فيه. وسيأتي تحقيق القول في الاحتياط (٢).

ثمّ الحقّ ـ على ما يستفاد من موارد الاحتياط والتوقّف ـ : أنّ الاحتياط يختلف في الموارد كما يأتي (٣) ، فربّ مورد يكون الاحتياط فيه الترك ، وربّ مورد يكون الاحتياط فيه ارتكاب فعل واحد أو أفعال متعدّدة ، وليس هو مجرّد ارتكاب أمر محتمل للوجوب (٤) وحكم آخر ما عدا التحريم ، كما فهمه بعض المتأخّرين (٥).

والتوقّف إمّا في القول ، وهو الكفّ عن الفتوى والحكم. وإمّا في العمل ، وهو ترك الأمر المحتمل للحرمة وحكم آخر من الأحكام الخمسة ، فهو أخصّ مطلقا من الاحتياط. والظاهر أنّ المتوقّف يرتكب الفعل فيما يحتمل الوجوب وغيره من الأحكام سوى الحرمة وإن لم يكن هو معنى التوقّف. والمحتاط يكفّ عن الفتوى والحكم ، فيتّحد القول بالتوقّف والاحتياط عند التحقيق. وحينئذ يصير أدلّة كلّ من الاحتياط والتوقّف معاضدة لأدلّة الآخر ، إلاّ أنّ الجميع لا يقاوم أدلّة القول بالإباحة ، كما عرفت وجهه.

واحتجّ المحرّم بأنّه تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، وهو قبيح (٦).

وجوابه : أنّ الإذن معلوم ، أمّا عقلا ؛ فلأنّه لا ضرر على المالك ، كالاستظلال بحائط الغير ، وأخذ أحبّ مملوك قطرة من بحر لا ينزف لمولاه المتّصف بغاية الجود. والتقريب واضح.

__________________

(١) حكاه الفاضل التوني في الوافية : ١٩١ ـ ١٩٢.

(٢ و ٣) يأتيان في ص ٤٢٦.

(٤) في « ب » : « الوجوب ».

(٥) قاله الفاضل التوني في الوافية : ١٩٢.

(٦) حكاه السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٣٣٧ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٥٦.

٣٩١

وأمّا شرعا ؛ فلما عرفت. ولو كانت الأشياء على الحصر وفرض ضدّان لا ثالث لهما ، لزم التكليف بالمحال.

إذا تقرّر ذلك فالفروع له كثيرة :

منها : إباحة شرب التتن.

ومنها : إذا وقعت واقعة ولم يوجد من يفتي فيها ، فعلى القاعدة يلزم الرجوع إلى ما يقتضيه أصل الإباحة ، والحكم بعدم التكليف ، وقس عليهما أمثالهما.

تتمّة

الشبهة على قسمين :

أحدهما : الشبهة في نفس الحكم الشرعي ، وهو ما اشتبه حكمه الشرعي ، أعني الإباحة والتحريم ، وعدّ منها ما لا نصّ فيه.

وثانيهما : الشبهة في طريقه ، وهو ما اشتبه فيه موضوع الحكم الشرعي ، كما في اشتباه اللحم بأنّه مذكّى أو ميتة مع العلم بأنّ المذكّى حلال والميتة حرام ، والاشتباه في صوت خاصّ بأنّه غناء أم لا مع القطع بأنّ الغناء حرام.

وتوقّف الأخباريّون في الأوّل ؛ محتجّين بأخبار التثليث (١) ، كما تقدّم (٢). ووافقوا الاصوليين في الثاني في أنّ الأصل فيه الإباحة ، محتجّين بعموم بعض الأدلّة المتقدّمة ، وباستفاضة الأخبار بحلّيّة كلّ شيء فيه الحلال والحرام حتّى يعرف الحرام بعينه (٣).

وغير خفيّ أنّ أخبار التثليث تدلّ على وجوب التوقّف في كلّ ما يصدق عليه الشبهة. ولا ريب في أنّها كما تصدق على ما اشتبه فيه نفس الحكم الشرعي تصدق على ما اشتبه فيه موضوعه أيضا ؛ لأنّه ليس لها حقيقة شرعيّة ، فيجب الرجوع إلى العرف واللغة وهما

__________________

(١) حكاه عنهم السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٣٢٥ ، والبصري في المعتمد ٢ : ٣٢١ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٥٥ ، والفاضل التوني في الوافية : ١٨٨. راجع الفوائد المدنيّة : ١٩٢ و ١٩٣.

(٢) تقدّم في ص ٣٨٩.

(٣) حكاهما عنهم السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٣٢٥ ، والبصري في المعتمد ٢ : ٣٢١ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٥٥ ، والفاضل التوني في الوافية : ١٨٨. راجع الفوائد المدنيّة : ١٩٢ و ١٩٣.

٣٩٢

يطلقان عليه ، وقد اطلقت عليه في كثير من الأخبار (١) أيضا ، فإدراج الأوّل فيها والحكم فيه بالوقف وإخراج الثاني منها والحكم فيه بالإباحة تحكّم ، مع أنّ صدقها عليه أظهر من صدقها على ما لا نصّ فيه ، كما لا يخفى على العارف بالعرف واللغة.

وتسليم صدق الشبهة عليه وتخصيص الشبهة في أخبار التثليث بالشبهة في نفس الحكم الشرعي لا دليل عليه. ومجرّد دلالة بعض الأخبار على الإباحة في أحدهما دون الآخر لا يصحّح الفرق ؛ لانعكاس دلالة بعض آخر من الأخبار والأدلّة ، مع أنّه لا يلائم ما ذهبوا إليه من القول بالتثليث (٢) ؛ لبداهة أنّ الشبهة في موضوع الحكم الشرعي ليس حلالا بيّنا.

فالحقّ ، ما ذهب إليه الاصوليّون من اتّحاد حكم الشبهتين ، وهو الإباحة فيهما ، واستحباب الاجتناب عنهما (٣).

وكيفيّة التفريع : الحكم بإباحة ماء النهر الذي وقع فيه الشكّ بأنّه مباح أو مملوك. وجواز النظر إلى من شكّ فيه بأنّه ذكر أو أنثى ، أو محرم أو أجنبيّة ، أو حرّة أو أمة. وجواز لبس الثوب المخلوط من الحرير وغيره إذا شكّ في استهلاك الحرير.

وبعضهم رجّح هنا المنع ؛ لوجود الحرير المانع ، والشكّ في المبيح وهو الاستهلاك (٤) ، والأصل عدمه.

ولا يخفى أنّ ما اشتبه فيه موضوع الحكم إمّا أن يكون الأصل فيه الإباحة ويشكّ في سبب الحرمة ، فاللازم فيه العمل بالأصل بلا كلام ، كالمثال الأوّل ، والطائر المقصوص ، وكتعليق أحد رجلين ظهار زوجته بكون الطائر غرابا والآخر بكونه غير غراب ، ولم يمكن استعلام حاله ، فيحكم بعدم وقوع الظهارين ؛ عملا بالأصل (٥). ولو غلب على الظنّ تأثير السبب ، ربّما حكم بالتحريم ، كما لو بال كلب في الماء فوجده متغيّرا.

__________________

(١) راجع الكافي ١ : ٦٨ ، باب اختلاف الحديث.

(٢) حكاهما عنهم السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٣٢٥ ، والبصري في المعتمد ٢ : ٣٢١ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٥٥ ، والفاضل التوني في الوافية : ١٨٨. راجع الفوائد المدنيّة : ١٩٢ و ١٩٣.

(٣) تقدّم في ص ٣٨٧.

(٤) قاله الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٧٠.

(٥) للاطّلاع على المسألة وأمثلتها راجع : القواعد والفوائد ١ : ١٨٢ و ١٨٣ ، وإيضاح الفوائد ٣ : ١١٩ ، ونضد القواعد الفقهيّة : ٤٤٢ ، والأقطاب الفقهيّة : ١٤٨.

٣٩٣

وإمّا أن يكون الأصل فيه الحرمة ويشكّ في سبب الإباحة ، كمثال الثوب المخلوط من الحرير وغيره ، والجلد المطروح مع عدم قيام قرينة معيّنة ، فالظاهر من كلام جماعة البناء على التحريم (١). هذا ، إلاّ أن يغلب على الظنّ تأثير السبب.

وإمّا أن يتساوى فيه الاحتمالان ، كطين الطريق ، وثياب مدمن الخمر ، والحكم فيه أيضا الإباحة كالأوّل ، ووجهه ظاهر ممّا تقدّم (٢).

ثمّ أكثر الاصوليّين قسّموا الشبهة في الموضوع إلى الشبهة في المحصور والشبهة في غيره ، وأوجبوا الاجتناب في الاولى دون الثانية (٣). ومرادهم من غير المحصور ما كان كذلك عادة ـ بمعنى ـ تعسّر حصره ـ لا ما امتنع حصره ؛ لأنّ كلّ ما يوجد من الأعداد قابل للعدّ.

واحتجّوا عليه بأنّ القطع حاصل بوجود الحرام أو النجس بين الامور المحصورة ، فالحكم بحلّيّة الجميع مستلزم للحكم بحلّيّة الحرام القطعيّ ، والحكم بحلّيّة واحد منها دون غيره ترجيح بلا مرجّح. وهذا وإن كان جاريا في غير المحصور أيضا إلاّ أنّ التنزّه فيه عن الجميع يوجب الحرج المنفيّ بخلاف المحصور (٤).

وفيه : أنّ هذا ممنوع ؛ لأنّه كما يمكن الاجتناب عن الإناءين ، يمكن الاجتناب عن الأواني الكثيرة والرجوع إلى ماء آخر ، أو التيمّم من غير حرج. والاحتجاج على وجوب الاجتناب في المحصور بأنّه من باب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به (٥) ، يجري في غيره أيضا.

والجواب بأنّ الواجب مقدّمة واجب قطعيّ متعيّن وهنا ليس كذلك. ولو سلّم نقول : التخصيص جائز ؛ للأدلّة.

والحقّ ـ كما ذهب إليه بعض المحقّقين (٦) ـ : أنّ الحكم فيهما واحد وهو الإباحة ؛ لعموم

__________________

(١) قاله العلاّمة في تحرير الأحكام ٢ : ١٥١ ، والشهيد في ذكرى الشيعة ٣ : ٢٨ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٣١١ ، القاعدة ٩٩.

(٢) تقدّم في ص ٣٩٠.

(٣) قاله الشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٥٩٩ ، والكركي في جامع المقاصد ٢ : ١٦٦ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ١ : ٥٠٣ ، والوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : ٢٤٧.

(٤) قاله الشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٥٩٩ ، والكركي في جامع المقاصد ٢ : ١٦٦ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ١ : ٥٠٣ ، والوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : ٢٤٧.

(٥) راجع الحدائق الناضرة ١ : ٥٠٣.

(٦) منهم : المحقّق الحلّي في معارج الاصول : ٢٠٨ ، والوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : ٢٤١ ، الفائدة ٢٤.

٣٩٤

الأدلّة المتقدّمة ما لم يحصل القطع باستعمال الحرام أو النجس ، وهو إنّما يتحقّق باستعمال جميع الامور التي حصل فيها الاشتباه ، وحينئذ لا يحكم بحلّيّة الجميع ، ولا يجوز استعماله محصورا كان أو غيره ، ويحكم بحلّيّة كلّ واحد وكلّ جملة منها إذا خرج منها واحد ، ويجوز استعماله.

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أنّ الفروع له كثيرة وفي بعضها حكم معظم الأصحاب بالفرق :

منها : ما قالوا : إنّ النجاسة إذا كانت في موضع وجهل موضعها ، لم يسجد على شيء منه إن كان محصورا ، كالبيت وشبهه ، وإلاّ جاز على كلّ جزء منه ما لم يتحقّق السجود على مجموع ما وقع فيه الاشتباه.

ومنها : حكمهم بوجوب الاجتناب عن الإناءين المشتبهين والثوبين كذلك. ومن هذا القبيل ما قال بعضهم : إنّه لو علّق رجل ظهار إحدى زوجتيه على كون الطائر غرابا ، والاخرى منهما على كونه غير غراب ، وامتنع استعلام حاله يلزم عليه الاجتناب عنهما.

وغير خفي أنّه إذا ثبت الفرق بنصّ أو إجماع فلا كلام ، وإلاّ فالحكم ما قدّمناه (١).

المقام الثاني (٢) : في أصالة نفي الوجوب والاستحباب حتّى يثبت خلافه. وقد اتّفق عليه الجميع إلاّ بعض الأخباريّين ؛ حيث قالوا بوجوب الاحتياط بالفعل (٣).

لنا : أكثر الأدلّة المذكورة في المقام الأوّل.

احتجّ الخصم بما دلّ على الأخذ بالاحتياط (٤). وقد عرفت جوابه (٥).

وكيفيّة التفريع هنا ظاهرة. وممّا يتفرّع عليه طهارة كلّ شيء حتّى يعلم أنّه قذر ؛ لأنّ النجاسة ممّا يجب الاجتناب عنه ، فثبوتها يستلزم التكليف والأصل عدمه. ويمكن إثباته

__________________

(١) تقدّم في ص ٣٩٤.

(٢) تقدّم المقام الأوّل في ص ٣٨٧.

(٣) المراد من البعض هو الأسترآبادي في الفوائد المدنيّة : ١٩٢ ، كما حكاه عنه وعن بعض آخر الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : ٢٤٠ ، الفائدة ٢٤.

(٤) راجع الفوائد الحائريّة : ٢٤٢ ، الفائدة ٢٤.

(٥) تقدّم آنفا.

٣٩٥

بأصل الإباحة أيضا ، ووجهه ظاهر. وقد ورد به بعض الأخبار من طرقنا (١) أيضا.

المقام الثالث : في أصالة براءة الذمّة عن حقوق الناس حتّى يثبت شغلها. وقد أجمع عليه المسلمون ، ودلّ عليه أكثر الأدلّة المتقدّمة (٢).

ثمّ إجراء أصل البراءة في نفي الحكم الشرعي مشروط بأمرين :

أحدهما : أن يكون بعد ضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة وعدم الظفر بما يدلّ على ثبوته.

قيل : ويتفرّع على هذا اشتراط حجّيّة أصل البراءة عن حقوق الناس بعدم عروض ما يناسب شغل الذمّة ، وأمّا إذا عرض ذلك ، فلا يقطع بحجّيّته ، كما إذا حبس شاة فمات ولدها ، أو أمسك رجلا فهربت دابّته وهلكت ، أو فتح قفصا لطائر فطار. ولا يمكن في هذه الصور إجراء الأصل في نفي شغل الذمّة عن ولد الشاة والدابّة والطائر ، بل لا بدّ للمفتي التوقّف عن الإفتاء ، ولصاحب الواقعة الصلح (٣).

أقول : ما يناسب شغل الذمّة إن انتهض حجّة له ، فلا يجوز التمسّك حينئذ بالأصل ، وإلاّ جاز ، فلا وجه للتوقّف ، فمن يدرج الصور المذكورة في قوله عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار » (٤) لا يتمسّك فيها بالأصل ، ومن لا يدرجها فيه يتمسّك به فيها.

وثانيهما : أن لا يكون مستلزما لإثبات حكم شرعي من جهة اخرى ؛ لما عرفت من أنّه ينتهض دليلا لنفي الحكم الشرعي لا لإثباته ، فإذا علم نجاسة أحد الإناءين واشتبه بالآخر ، فلا يصحّ التمسّك في جواز الطهارة من أحدهما بالأصل ؛ لأنّه مستلزم لوجوب الاجتناب من الآخر ، وكذا الحكم في الزوجة المشتبهة بالأجنبيّة ، والثوب الطاهر المشتبه بالنجس ، والحلال المشتبه بالحرام المحصور وغير ذلك.

وقال بعض المتأخّرين : ويشترط أن لا يكون الأمر المتمسّك فيه بالأصل جزء عبادة

__________________

(١) راجع الفقيه ١ : ٣١٧ ، ح ٩٣٧.

(٢) تقدّمت في ص ٣٨٦ ـ ٣٨٨.

(٣) قاله الفاضل التوني في الوافية : ١٩٣ و ١٩٤.

(٤) دعائم الإسلام ٢ : ٤٩٩ ، ح ١٧٨١ ، والفقيه ٤ : ٣٣٤ ، ح ٥٧١٨ ، ومستدرك الوسائل ١٣ : ٣٠٧ ، باب ثبوت خيار الغبن للمغبون ، ح ٣.

٣٩٦

مركّبة ؛ لأنّها توقيفيّة ، ويعلم نفي ما شكّ في جزئيّته من النصّ الذي بيّن فيه أجزاؤها إذا لم يذكر فيه ، لا من الأصل (١).

وهو ظاهر الفساد ؛ لأنّ النصّ الذي لم يذكر فيه جزء نفيا ولا إثباتا ، كيف يدلّ على نفيه إذا شكّ في جزئيّته لإجمال دلالته عليه ، أو لأمر آخر بدون ضميمة الأصل؟!

ولو صحّ ذلك ، لتأتّى في غير العبادات أيضا إذا ورد في بيانه نصّ ، وكون العبادة توقيفيّة دون غيرها لا مدخليّة له في هذا الفرق ، مع أنّه غير ممكن ؛ فإنّ شروط العبادات والمعاملات وغيرهما تتوقّف على بيان الشارع ، فالحقّ عدم الفرق ، كما ذهب إليه المعظم (٢) ؛ لعموم الأدلّة ، وعدم نهوض ما ذكره فارقا.

فصل [٢]

ومن النوع الأوّل أيضا : استصحاب حال العقل ، وهو إبقاء الحالة السابقة ـ أي العدم الأزلي لكلّ شيء ، سواء كان تكليفا أو غيره ـ إلى أن يثبت المزيل.

والفرق بينه وبين أصل البراءة أنّه يلاحظ فيه العدم السابق ويجري إلى اللاحق ، وفي أصل البراءة يحكم بانتفاء الحكم في الحال ، سواء وجد في السابق أم لا ، ولا يلتفت فيه إلى السابق أصلا. وعدم الفرق بينهما ـ كما قيل (٣) ـ ضعيف.

ووجه حجّيّته استفاضة الأخبار بأنّ اليقين لا يزول بالشكّ (٤) ، وأنّ التكليف بالشيء من غير الإعلام به محال. وهذا إنّما ينتهض دليلا لأصالة نفي الحكم الشرعي وموضوعه ومتعلّقه كالنقل ، دون غيرها ممّا لا مدخليّة له بالحكم الشرعي أصلا ، كحدوث واقعة كذا في بلدة كذا ، فلا يمكن نفيها بالاستصحاب ؛ لعدم دليل على أصالة مثله. وعدم مقاومة الشكّ لليقين إنّما يثبت شرعا في الأحكام الشرعيّة ، ولا يدلّ عليه العقل في غيرها ؛ لأنّه إذا شكّ في وجود الشيء في زمان يقع الشكّ في عدمه فيه أيضا ، فلا يصحّ الحكم بتحقّقه.

__________________

(١) قاله الفاضل التوني في الوافية : ١٩٥.

(٢) حكاه الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : ٤٧٥ و ٤٧٦ ، الفائدة ٢٩.

(٣) قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : ٢٠٨.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٤٢١ ، ح ١٣٣٥ ، والاستبصار ١ : ١٨٣ ، ح ٦٤١.

٣٩٧

نعم ، يمكن ادّعاء الظنّ على بقاء ما كان على ما كان ـ وجودا كان أو عدما ـ إلى أن يعلم المزيل ، كما يأتي في استصحاب حال الشرع (١).

وربّما استدلّ عليه بأنّ الله تعالى صوّب الكفّار في مطالبتهم البرهان من الرسل على نبوّتهم حتّى قال : ( تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ )(٢) ، والتصويب لأجل تمسّكهم بالنفي الأصلي وهو عدم النبوّة.

ثمّ أصل العدم أعمّ من كلّ من أصل البراءة والاستصحاب المذكور ، وهو ظاهر. ووجه حجّيّته يعلم ممّا ذكر فيهما.

وما ذكر في أصل البراءة (٣) من أنّه لا يجوز التمسّك به فيما يلزم منه ثبوت شغل الذمّة من جهة اخرى يأتي في أصل العدم أيضا ، فلا يصحّ أن يقال في الماء الملاقي للنجاسة المشكوك كرّيّته : الأصل عدم بلوغه كرّا ؛ للزوم الاجتناب عنه حينئذ.

وكيفيّة التفريع ظاهرة. مثلا إذا شكّ في كون المذي ناقضا للوضوء نقول : عدم نقضه كان ثابتا في السابق ، فكذا الآن. ومنه عدم وجوب الزكاة لو شكّ في بلوغ النصاب ، وعدم قتل الصبيّ الذي شكّ في بلوغه.

واعلم أنّ كلّ واحد من الاصول التي تنتهض حجّة لنفي الحكم إنّما يدلّ على سقوط التكليف به عنها ، لا على نفيه في الواقع ؛ لما عرفت من عدم دلالتها عليه (٤) ، ولاستفاضة الأخبار بأنّ لله في كلّ واقعة حكما مودعا عند الأئمّة عليهم‌السلام إلاّ أنّهم لم يتمكّنوا من إظهار الجميع (٥).

نعم ، إن كان الحكم ممّا يعمّ به البلوى ولم يوجد دليل على ثبوته ، يمكن ادّعاء نفيه في الواقع ؛ لما يأتي (٦).

__________________

(١) يأتي في ص ٤٠١.

(٢) إبراهيم (١٤) : ١٠.

(٣) تقدّم في ص ٣٩٦.

(٤) تقدّم في ص ٣٨٩.

(٥) راجع : نهج البلاغة : ٦٨٦ ـ ٦٨٧ ، قصار الحكم : ١٤٧ ، والوافية : ١٧٩.

(٦) يأتي في ص ٤٠١.

٣٩٨

فصل [٣]

ومن النوع الأوّل أيضا : أصالة عدم تقدّم الحادث ، كأن يقال في الماء الذي وجد فيه نجاسة بعد الاستعمال ولم يعلم أنّ وقوعها فيه بعده أو قبله : الأصل عدم تقدّم النجاسة ، فلا يكون ما لاقاه هذا الماء قبل رؤية النجاسة نجسا ، وهو من أقسام أصل العدم ، فيترتّب حجّيّته على حجّيّتها (١).

ويشترط في جواز التمسّك به أن لا يستلزم شغل الذمّة من جهة اخرى ، فإذا استعمل ماء ثمّ ظهر أنّه كان قبل ذلك في وقت نجسا ، ثمّ طهر بما يقع به التطهير وشكّ في تقدّم الاستعمال على التطهير وتأخّره عنه ، فلا يجوز أن يقال : الأصل عدم تقدّم التطهير ؛ للزوم نجاسة ما لاقاه حينئذ.

وممّا يتفرّع عليه قبول قول البائع دون المشتري لو تنازعا في تقدّم العيب على العقد وتأخّره عنه.

فصل [٤]

ومن النوع الأوّل أيضا : الأخذ بالأقلّ عند فقد الدليل على الأكثر ، وهو إنّما يكون فيما اختلف العلماء فيه على أقوال ، وكان يدخل بعضها في بعض ، وكان الأقلّ ثابتا بنصّ أو إجماع وشكّ في الزائد ، ولم يكن ثبوته راجحا ، فيلزم أن يؤخذ بالأقلّ (٢) ، وينفى الزائد بالأصل. مثاله : قيل في عين الدابّة ربع قيمتها (٣). وقيل نصف قيمتها (٤). وليس للقول الثاني دليل يرجّحه على الأوّل ، فنقول : الربع ثبت إجماعا ، فينفى الزائد للأصل ، فهو من أقسام أصل البراءة ، فوجه حجّيّته ظاهر.

لا يقال : الذمّة مشغولة بشيء يقينا ، وقد اختلف فيما تبرأ (٥) ، واشتغال الذمّة اليقينيّ

__________________

(١) في « ب » : « حجّيّته ».

(٢) في « ب » : « الأقلّ ».

(٣) قاله المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٣٢.

(٤) حكاه المحقّق الحلّي في المصدر. وأيضا حكاهما الفاضل التوني في الوافية : ١٩٨.

(٥) في « ب » : « يبرئه ». والصحيح : « يبرئها ».

٣٩٩

يحتاج إلى البراءة اليقينيّة وهي إنّما تتحقّق بالأخذ بالأكثر.

لأنّا نقول : المحتاج إلى البراءة القدر المتيقّن من اشتغال الذمّة وهو الأقلّ ، والقدر المشكوك فيه لا يحتاج إلى البراءة ؛ للأصل.

وقد ظهرت كيفيّة التفريع.

وممّا يتفرّع عليه : قول الفقهاء : الأصل عدم بلوغ الماء كرّا. وهذا إذا شكّ في كرّيته ابتداء من غير سبق العلم بالقلّة اليقينيّة ، ومع سبقه والشكّ في كرّيته في أثناء دخول ماء آخر فيه ، يكون من الاستصحاب.

فصل [٥]

وممّا عدّ منه أيضا : عدم الدليل على حكم ؛ فإنّه يدلّ على عدمه ، وهذا ما يعبّر عنه (١) العامّة بأنّ عدم المدرك مدرك العدم (٢).

واستدلّ عليه بأنّ الحكم الشرعي لا بدّ له من دليل ، وإلاّ لزم التكليف بالمحال ، فإذا شكّ في حكم ولم يظفر بدليل عليه ، غلب على الظنّ عدمه (٣).

وغير خفيّ أنّ هذا الدليل يفيد عدم تعلّق التكليف بمثل هذا الحكم (٤) لا عدمه في الواقع ، فيرجع إلى أصل البراءة ولا يكون مسلكا على حدة ، مع أنّ الظاهر من كلام القوم أنّه غير أصل البراءة ، بل غرضهم أنّ عدم الدليل دليل عدم الحكم في الواقع ، وحينئذ لا يكاد أن يصحّ هذا بإطلاقه.

أمّا أوّلا ؛ فلما دريت من أنّه لا يوجد واقعة إلاّ ولها مدرك شرعي وحكم واقعي عند أهله وإن لم يصل إلينا.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّ عدم الدليل لو كان دليل العدم ، لكان عدم دليل العدم دليلا على عدم

__________________

(١) في « ب » : عند.

(٢) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٦ : ١٦٨.

(٣) قاله الغزالي في المستصفى : ١٥٩ ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : ٢١٢ ، وحكاه وفصّله الفاضل التوني في الوافية : ١٩٨.

(٤) تعلّق التكليف بالحكم ممّا لا وجه له إلاّ أن يراد من التكليف الفعليّة.

٤٠٠