أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

وقد عرفت الجواب.

ويظهر من كلام الشهيد أنّ القبول عنده غير الإجزاء وإن فسّر بموافقة الأمر وامتثاله ، حيث قال ـ بعد ذكر أنّ القبول عنده غير الإجزاء ـ : لأنّ المجزئ ما وقع على الوجه المأمور به شرعا ، وبه يخرج عن العهدة ، وتبرأ الذمّة ، ويسمّى فاعله مطيعا ، والقبول ما يترتّب عليه الثواب (١).

والإتيان بالفعل على الوجه المأمور به شرعا هو موافقة الأمر وامتثاله.

وغير خفيّ أنّه لا فرق في الاستدلال بالظواهر المذكورة على مغايرة الإجزاء للقبول والجواب عنه بين تفسير الإجزاء بما يوجب سقوط القضاء ، أو موافقة الأمر ، إلاّ أنّ الحكم بالمغايرة في الصورة الثانية أفحش ؛ لأنّ السيّد إذا أمر عبده بشيء ووعد عليه الإحسان ، ففعل العبد ما أمره به على النحو المأمور به ، وكان موافقا لأمره ، فلم يقبله السيّد وردّه ولم يحسن إليه ، يذمّه العقلاء ، وينسبونه إلى خلاف العدل ، بخلاف ما إذا لم يأت بالفعل على النحو المأمور به وإن أسقط عنه القضاء.

ويرد عليهما (٢) : أنّ العبادة التي لم يترتّب عليها الثواب كيف يخرج بها المكلّف عن التكليف؟! بل تكون لاغية عبثا ؛ لأنّ كلّ تكليف يترتّب عليه الثواب والعقاب.

وبعض العرفاء وافق السيّد وقال :

لكلّ عبادة قالب وصورة ، وروح وحقيقة ، فروح الصلاة ـ مثلا ـ وحقيقتها هو الإقبال والإخلاص والخشوع والحضور ، فإذا أتى بأفعال الصلاة التي هي قالبها من دون الإتيان بما هو روحها ، يكون ممتثلا لأمر الله ، خارجا عن عهدة التكليف ؛ لأنّ تكليفه كان هذا ، ولكن لا يثاب ثواب الصلاة ؛ لأنّه موقوف على إيجاد حقيقة الصلاة وروحها دون قالبها ، فهذه الصلاة من حيث الصورة مجزئة ، فيخرج المكلّف بها عن عهدة التكليف ، ومن حيث الحقيقة غير مجزئة ، فلا يثاب عليها ، فتأمّل فيه (٣).

__________________

(١) القواعد والفوائد ٢ : ٩٧ ، القاعدة ١٨٠.

(٢) أي يرد على السيّد المرتضى والشهيد.

(٣) لم أهتد إلى اسم هذا العارف القائل بعدم التلازم بين الإجزاء والقبول.

١٦١

ثمّ الحقّ أنّ الإجزاء في العبادة هو موافقة الأمر دون ما يوجب سقوط القضاء ؛ لأنّ القضاء فرض مستأنف يحتاج إلى أمر جديد كما تعلم (١) ، ولو كان الإجزاء ما يوجب (٢) سقوط القضاء ، لكان مستلزما لترتّب القضاء على الأداء.

ثمّ إنّ السيّد لمّا فرّق بين الإجزاء والقبول بالنحو المذكور فرّع عليه الحكم بأنّ كلّ عبادة حكم عليها الشارع بعدم القبول لا تكون مقبولة ، ولكن تكون مجزئة ولا تحتاج إلى القضاء ؛ ولذا ذهب إلى أنّ العبادة بنيّة الرياء مجزئة وإن لم يترتّب عليها الثواب ؛ لأنّ الأخبار الواردة في النهي عن الرياء (٣) إنّما تدلّ على عدم القبول الموجب للثواب (٤).

وأنت تعلم كيفيّة الحال بعد الإحاطة بما حقّقناه.

فصل [١٧]

الحقّ أنّ العبادات ـ كالصلاة والصوم وأمثالهما ـ والعقود ـ كالبيع والصلح ونحوهما ـ والإيقاعات ـ كالنكاح والطلاق وشبههما ـ لا تطلق حقيقة على الفاسد منها ؛ لأنّ هذه ماهيّات جعليّة موضوعة بإزاء ما بيّنه الواضع ، أعني الفعل الخاصّ المشتمل على الأركان والشرائط المخصوصة ، فلو اختلّ أحدها لا يكون من الموضوع له. ويتفرّع عليه عدم الامتثال والخروج عن العهدة إذا فسدت العبادة ، وعدم ترتّب الأثر على العقود الفاسدة.

وتظهر الفائدة في الأيمان ، والنذور ، وأمثالهما أيضا.

فصل [١٨]

إذا رفع الوجوب بسبب النسخ أو انتفاء الشرط أو وجود المانع ، فهل يبقى الجواز أم لا؟ قولان. وقبل الخوض في الاستدلال لا بدّ من تقديم مقدّمة يعلم بها تحرير محلّ النزاع ، وهي أنّ الجواز على قسمين :

__________________

(١) يأتي في ص ١٦٨.

(٢) لم يرد في « ب » : « ما يوجب ».

(٣) منها ما في الكافي ٢ : ٢٢٢ ـ ٢٢٤ ، باب الكتمان ، ح ١ و ١٠ و ١٤.

(٤) راجع الانتصار : ١٠٠.

١٦٢

أحدهما : الجواز بالمعنى الأعمّ الذي هو بمعنى مطلق الإذن ، وهو قدر مشترك بين الواجب ، والسنّة ، والإباحة ، والكراهة.

وثانيهما : الجواز بالمعنى الأخصّ وهو استواء الطرفين ، وهذا إمّا أن يكون ثبوته بحكم (١) الشارع وبيانه ، فهو الإباحة الشرعيّة التي هي من الأحكام الخمسة ، أو من العقل فهو الإباحة العقليّة الأصليّة التي تكون هي الأصل في الأشياء والأفعال قبل بيان الشارع.

والوجوب ماهيّة مركّبة من الجواز بالمعنى الأعمّ والمنع من الترك ، والأوّل جنسه ، والثاني فصله ، فالأمر الدالّ على الوجوب يدلّ على جنسه تضمّنا ، وليس الجواز بالمعنى الأخصّ جزءا للوجوب ؛ لأنّه قسيمه ، ولا مدخليّة للإباحة العقليّة للوجوب ؛ لأنّها ليست من أحكام الشرع ، فلا كلام في أنّ كلّ فعل رفع وجوبه يجوز الإقدام عليه ؛ نظرا إلى الإباحة الأصليّة إن كان حكمه قبل الوجوب ذلك. فالخلاف في أنّه إذا رفع الوجوب هل يبقى الجواز بالمعنى الأعمّ الذي هو جزؤه ، أم لا؟

والتحقيق عدم بقائه ؛ لأنّه جنسه ، والمنع من الترك فصله ، والجنس متقوّم بفصله ، فإذا رفع الفصل يرفع الجنس أيضا.

فإن قيل : الجنس محتاج إلى فصل ما ، لا إلى فصل معيّن ، فرفع هذا الفصل ـ أعني المنع من الترك ـ مستلزم لرفع الجنس إذا لم يخلفه فصل آخر ، مع أنّ رفع المنع من الترك يقتضي ثبوت الإذن فيه ، فيكون هذا فصلا للجنس المذكور ، فكان أوّلا في ضمن الوجوب ، وثانيا في ضمن الجواز بالمعنى الأخصّ.

قلنا : أمّا أوّلا : فحدوث الفصل الآخر إمّا أن يكون قبل ارتفاع الجنس ، أو معه ، أو بعده. والأوّل غير ممكن ؛ لأنّه متأخّر عن ارتفاع الفصل الأوّل الذي يقارنه ارتفاع الجنس. وعلى الأخيرين يتحقّق ارتفاع الجنس. فإن حدث بعد ذلك ، لا يكون الجواز الذي كان في ضمن الواجب ، ولا يصدق حينئذ أنّه رفع الوجوب وبقي الجواز ، مع أنّه بعد ارتفاع الجنس والفصل لا مقتضي لحدوث هذا الجنس وفصل آخر ، فرجع الأمر حينئذ إلى ما كان

__________________

(١) في « ب » : « لحكم ».

١٦٣

قبل الوجوب من الإباحة العقليّة أو التحريم.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الجواز الذي كان في ضمن الوجوب لا يمكن أن يتحقّق بعينه في ضمن الإباحة ؛ لأنّ حصص الجنس متفاوتة ، والحصّة الموجودة منه في ضمن نوع غير الحصّة التي في ضمن نوع آخر ، وكلّ فصل علّة للحصّة التي معه ، فتزول بزواله ؛ لأنّ المعلول يزول بزوال علّته (١) ، فإذا ارتفع المنع من الترك ، يرتفع الجواز الذي كان معه ، والجواز الذي يتحقّق مع الإذن فيه غير الجواز المرتفع.

فإن قيل : إذا كان الكلّي الطبيعي موجودا في الخارج ـ كما هو التحقيق ـ يلزم أن يكون الجنس الموجود في ضمن أنواعه واحدا ، بمعنى أنّ الجنس الموجود في ضمن هذا النوع هو بعينه الجنس الموجود في ضمن نوع آخر.

قلت : يلزم منه أن يكون واحدا بالمعنى لا بالعدد ، وإلاّ لم يمكن أن يكون الفصول المختلفة عللا له ، والوحدة المعنويّة لا تنافي الاختلاف العدديّ ، فيلزم ما ذكر.

واحتجّ بعض من أنكر البقاء (٢) : بأنّ زوال الوجوب الذي هو معلول للأمر مستلزم لزوال الأمر ؛ لاستلزام رفع المعلول لرفع علّته (٣) ، فإذا زال الأمر يزول الجواز أيضا ؛ لعدم وجود المقتضي له حينئذ.

واجيب : بأنّ الاستلزام ممنوع ، لأنّ ثبوته مسلّم فيما لو كان الأمر علّة للوجوب مطلقا ، أي من دون شرط عدم طريان الرافع ، وأمّا إذا كان مشروطا به ، فيمكن أن يرتفع الوجوب بدون ارتفاع الأمر ؛ لجواز ارتفاعه بارتفاع شرط تحقّقه (٤).

ولا يخفى ما فيه. فتأمّل.

واحتجّ القائل بالبقاء : بأنّ الوجوب ماهيّة مركّبة من الجزءين ، ورفع المركّب قد يتحقّق برفع جميع أجزائه ، وقد يتحقّق برفع بعض أجزائه ، فالرفع أعمّ منهما (٥) ، ولا دلالة للعامّ على

__________________

(١) في « ب » : « العلّة ».

(٢) منهم الغزالي في المستصفى : ٥٩.

(٣) استلزام عدم المعلول لعدم العلّة هو في مقام الإثبات دون الثبوت.

(٤) قاله الشيخ حسن في معالم الدين : ٨٧.

(٥) في « ب » : « منها ».

١٦٤

الخاصّ ، ففي رفع الوجوب يكفي رفع المنع من الترك الذي هو أحد جزءيه ، ولا يلزم رفع الجواز أيضا (١).

وردّ : بأنّ [ بقاء ] الجواز حينئذ لا يكون محقّق الوقوع ، فلا يثبت مطلوبكم (٢).

واجيب : بأنّ الظاهر بقاؤه ؛ لأنّه كان ثابتا أوّلا ؛ لوجود مقتضيه ، والأصل استمراره حتّى يثبت خلافه (٣).

وأنت بعد ما علمت من عدم إمكان بقاء الجواز ، تعلم سقوط هذا الجواب مع أصل الاحتجاج.

وإذا علمت ذلك تعلم أنّ الحقّ أنّه إذا ارتفع الوجوب ، يرجع الحكم إلى ما كان عليه قبل ورود الأمر من إباحة ، أو تحريم ، أو غيرهما. ورجوعه إلى الإباحة العقليّة إذا كان قبله عليها لا سترة به. ورجوعه إلى التحريم إنّما يكون في العبادة ؛ لأنّها لمّا كانت توقيفيّة فهي موقوفة على بيان الشارع وأمره ، فإذا أمر بها تكون إمّا واجبة أو مستحبّة ، وإذا رفع الأمر لا يجوز فعلها ؛ لأنّ العبادة لا تكون مباحة ، ولذا لمّا نسخ وجوب التوجّه إلى بيت المقدس ، صار التوجّه إليه حراما. فالعبادة إذا رفع وجوبها لا يمكن أن يرجع (٤) إلى الإباحة.

وأمّا غير العبادة ، فيرجع إلى ما كان عليه قبل حكم الشرع من حكم العقل من إباحة ، أو حرمة ، أو غيرهما ؛ فإنّ للعقل في كلّ فعل حكما.

وإن كان قبل الوجوب على حكم من أحكام الشرع ، فهل يرجع بعد رفع الوجوب إلى هذا الحكم الشرعي ، أو إلى الحكم العقلي الذي كان قبله؟ الظاهر الثاني ؛ لأنّ الحكم الشرعي الذي كان قبل الوجوب رفع به (٥) ، وبعد رفعه لا يعود ؛ لعدم المقتضي ، فيرجع إلى الحكم العقلي.

ومن التفريعات لهذا الأصل : أنّه إذا كان الإمام عليه‌السلام ، أو نائبه شرطا لوجوب الجمعة ، ففي

__________________

(١) راجع معالم الدين : ٨٧.

(٢) فإنّ مطلوبهم وقوع بقاء الجواز ودليلهم يقتضي إمكان البقاء. راجع المصدر : ٨٩.

(٣) قاله الشيخ حسن في المصدر.

(٤) أي يرجع الحكم.

(٥) في « ب » : « رفع به ومنع ».

١٦٥

زمان الغيبة لا يجوز فعلها على ما اخترناه ، فيبطل التخيير. وقس عليه نظائره.

ثمّ اعلم أنّ بعض القائلين ببقاء الجواز ذهب إلى أنّ الباقي هو المعنى الظاهر من الجواز ، أي الإباحة (١). وقال بعضهم : إنّ الباقي هو الاستحباب (٢). وقال بعضهم : الباقي ما يعمّهما (٣) والمكروه (٤).

ولا يخفى أنّه لو تمّ قولهم كان خير أقوالهم أوسطها ؛ لأنّ الوجوب مركّب من الإذن في الفعل ورجحانه والمنع من الترك ، فإذا رفع الأخير بقي الأوّلان.

[ البحث في أفعال المكلّفين والمكلّف ]

واعلم أنّه لمّا كان البحث في المبادئ الأحكاميّة عن الحكم والحاكم والمحكوم فيه ـ وهو أفعال المكلّفين ـ والمحكوم عليه ـ وهو المكلّف ـ وقد ذكرنا الأبحاث المتعلّقة بالأوّلين ، فلا بدّ من ذكر الأبحاث المتعلّقة بالأخيرين ، فنذكرها في فصول :

فصل [١٩]

امتناع التكليف بالمحال ظاهر ؛ لقبحه ، فلا يصدر من الحكيم. ولم يخالف أحد سوى الأشاعرة (٥) ، ولهم شبه واهية. ولمّا كان ثبوت المطلوب وضعف شبه المخالفين. وكيفيّة التفريع في غاية الوضوح ، فلا نطيل الكلام بذكرها.

مسألة : لا يشترط في التكليف بفعل حصول الشرط الشرعي له ، ولذا يجب الصلاة على

__________________

(١) جعله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ١ : ٢٣٧ مقتضى كلام صاحب المحصول.

(٢) نسبه الطرطوشي إلى المالكيّة ، كما في المصدر.

(٣) في « ب » : « يعمّها ».

(٤) نسبه المطيعي إلى الأكثر في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ١ : ٢٣٧.

(٥) قال الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٧٩ : « اختلف قول أبي الحسن الأشعري في جواز التكليف بما لا يطاق نفيا وإثباتا ... وميله في أكثر أقواله إلى الجواز ».

١٦٦

المحدث والجنب مع عدم تحقّق شرطها فيهما ، وهو الطهارة. ويجب الصلاة على من لم يتلبّس بالنيّة مع أنّها شرطها. والاستقراء يفيد القطع في ذلك. والسرّ في ذلك ما تقدّم من وجوب تحصيل الشرط للواجب المطلق ، فيجب على المحدث أن يتطهّر ويصلّي.

وقد وقع الخلاف في تكليف الكفّار بفروع الشريعة على أقوال (١) : ثالثها : أنّهم مكلّفون بالنواهي دون الأوامر. ورابعها : أنّ المرتدّ مكلّف دون الكافر الأصلي. وخامسها : أنّهم مكلّفون بما عدا الجهاد.

ثمّ بعض المنكرين قال بعدم الجواز (٢) ، وبعضهم قال بعدم الوقوع (٣).

والحقّ الجواز والوقوع.

والدليل على الأوّل ، ما ذكرنا أوّلا ؛ فإنّ انتفاء الشرط الشرعي للتكليف ـ وهو الإيمان ـ لا ينافي وجوبه كما علمت (٤). ولا يتصوّر مانع سواه.

احتجّ الخصم : بأنّه لو صحّ تكليف الكافر ، لأمكن له الامتثال مع أنّه لا يمكن ، أمّا في حالة الكفر ، فظاهر. وأمّا بعده ، فلأنّ الإسلام يجبّ (٥) ما قبله ، فيسقط عنه التكليف ، والامتثال فرعه.

والجواب : أنّه ممكن في حال الكفر بأن يسلم ، ثمّ يمتثل التكليف كالمحدث والجنب.

وعلى الثاني ، ما ورد من الأوامر العامّة بالعبادات الشاملة لهم ، كقوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ )(٦) ، و ( وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ )(٧) ، و ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )(٨) الآية.

__________________

(١) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٧٥ ـ ٨١ ، ومنهاج الاصول المطبوع مع نهاية السؤل ١ : ٣٦٩ وما بعدها ، وتمهيد القواعد : ٧٦ و ٧٧ ، القاعدة ١٧.

(٢ و ٣) هم من أصحاب الرأي وأبي حامد الإسفرايني. ونسب الآمدي عدم الجواز إلى بعض الثنويّة في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٨٠.

(٢ و ٣) هم من أصحاب الرأي وأبي حامد الإسفرايني. ونسب الآمدي عدم الجواز إلى بعض الثنويّة في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ١٨٠.

(٤) ما مرّ هو انتفاء شرط المكلّف به دون شرط التكليف ، راجع مقدّمة الواجب ، ص ١٣٤ ، وأوّل هذه المسألة. والتنافي بين انتفاء شرط التكليف ووجوب العمل واضح.

(٥) تفسير القمّي ١ : ١٤٨.

(٦) البقرة (٢) : ٢١.

(٧) يس (٣٦) : ٦١.

(٨) آل عمران (٣) : ٩٧.

١٦٧

وما ورد من ذمّهم على ترك العبادة ، كقوله تعالى : ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ )(١).

وما دلّ من أنّ الله يعاقبهم على ترك العبادات ، كقوله تعالى : ( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ )(٢) الآية.

احتجّ الخصم : بأنّه لو وقع التكليف لوجب عليهم القضاء (٣).

والجواب : أنّ الأمر بالأداء ليس أمرا بالقضاء ، بل هو بأمر جديد ، فلا ملازمة بينهما.

وكيفيّة التفريع : أنّه يحرم علينا إعانة الكفّار بالمحرّم عندنا ، كالخمر ، والخنزير ، والأكل والشرب في نهار رمضان. وعلى القول بعدم تكليفهم لا تحرم. وإذا زنى ذمّيّ ، فيجب عليه الحدّ بمقتضى شرعنا ، أو شرعهم ، والحاكم مخيّر في ذلك. ويتأتّى عدم الوجوب على القول بعدم تكليفهم ، كما ذهب إليه بعض العامّة (٤).

فصل [٢٠]

قيل : كلّ مكلّف به لا بدّ أن يكون فعلا ، فالمكلّف به في النهي فعل ضدّ المنهيّ [ عنه ] ؛ فإذا قيل : لا تتحرّك ، فمعناه اسكن ، وليس المراد منه التكليف بترك الحركة ؛ لأنّه عدم ، وكلّ عدم غير مقدور عليه (٥).

والأكثر على أنّ المكلّف به في النهي الترك ، إلاّ أنّهم اختلفوا في أنّ المراد منه الكفّ وتوطين النفس عليه حتّى يكون فعلا أيضا ، أو نفي الفعل؟ ذهب إلى كلّ منهما طائفة (٦) ؛ فالمذاهب ثلاثة.

وحجّة الأوّل ما ذكر.

__________________

(١) فصّلت (٤١) : ٦ و ٧.

(٢) المدّثّر (٧٤) : ٤٢ و ٤٣.

(٣) حكاه الأسنوي في نهاية السؤل ١ : ٣٧٠.

(٤) راجع تمهيد القواعد : ٧٧ ، القاعدة ١٧.

(٥) نسبه القاضي عضد الدين إلى أكثر المتكلّمين في شرح مختصر المنتهى ١ : ٢٠٢ ، ويفهم ذلك من العلاّمة في تهذيب الوصول : ١١١.

(٦) راجع : المستصفى : ٧٢ ، والمحصول ١ : ٣٥٠ ، وتهذيب الوصول : ١١١ ، والتمهيد للإسنوي : ٢٩٤.

١٦٨

وجوابها : منع عدم القدرة على العدم إذا كان مضافا. وتعرف له زيادة بيان.

هذا ، مع أنّ هذه الحجّة إن تمّت لا تدفع القول الثاني.

وحجّة الثاني وجهان :

أوّلهما : أنّ حمل النهي على أنّ المراد منه إيجاد الضدّ خلاف اللغة والعرف ، فاندفع القول الأوّل. وليس المراد منه نفي الفعل ؛ لأنّه غير مقدور عليه ، والمكلّف به يجب أن يكون ممكن الوقوع من المكلّف (١).

وجوابه : أنّ نفي الفعل لو لم يكن مقدورا عليه ، لم يكن الفعل أيضا كذلك ؛ لأنّ نسبة القدرة إلى الطرفين على السواء.

وردّ : بأنّه عدم كان ثابتا قبل واستمرّ ، ولا يمكن أن يكون أثرا للقدرة ؛ لأنّه لا بدّ لها عقلا من أثر حادث متجدّد (٢).

ولا يخفى ما فيه ؛ فإنّ إبقاء الاستمرار وعدم رفعه ممّا يصلح أن يكون متعلّقا للقدرة ، بل هو المكلّف به في النهي ليس إلاّ.

وثانيهما : أنّ المكلّف به في النهي لو كان نفي الفعل ، لزم أن يترتّب عليه الثواب وإن لم يتحقّق الكفّ ؛ لأنّ المكلّف به في الحرام ما يترتّب عليه الثواب ، فيلزم أن يكون تارك الزنى ـ مثلا ـ مثابا وإن لم يكفّ نفسه عنه ، كما في صورة عدم القدرة ، أو الشوق ، أو الشعور (٣).

وجوابه : أنّ الثواب يترتّب على نفي الفعل ، إلاّ أنّه مشروط بأن يكون مقارنا للشعور والقدرة.

وإذا عرفت عدم تماميّة القولين الأوّلين ـ بل عدم صحّة القول الأوّل ؛ لما ذكر في حجّة الثاني ـ تعلم أنّه لا بأس بالقول الثالث ، بل هو الحقّ ؛ لأنّه قد يتحقّق ترك الحرام مع إرادة الفعل عند القدرة ، ولا شكّ أنّه لا يمكن تحقّق الكفّ حينئذ ، فثبت القدرة على نفي الفعل من دون الكفّ.

__________________

(١ و ٢) تقدّم تخريجهما آنفا في أوّل البحث ، وأيضا راجع شرح مختصر المنتهى ١ : ٢٠٢ و ٢٠٣.

(٣) قاله الأسنوي في نهاية السؤل ٢ : ٣٠٧.

١٦٩

وأيضا لو كان المكلّف به في النهي الكفّ (١) ، يلزم أن لا يترتّب الإثم على ترك الواجب (٢) بدون الكفّ (٣) ، فمن ترك الصلاة مثلا من دون أن يكفّ نفسه (٤) ويوطّنه على الترك ، لا يكون معاقبا وهو باطل.

وأيضا إذا كان المطلوب بالنهي هو الكفّ ، فيكون فعلا واجبا ، فتركه إنّما يتحقّق بالكفّ عنه على ما هو الفرض ، فيترتّب الإثم في الحرام على الكفّ عن الكفّ ، مع أنّ فاعل الحرام لا يجد من نفسه الكفّ عن الكفّ.

وأيضا على تفسير القدرة يدخل عدم الفعل في المقدور ، كما لا يخفى (٥).

وكيفيّة التفريع على الخلاف الأوّل : أنّه إذا قال : « إن خالفت أمري ، فأنت عليّ كظهر أمّي » فقال لها : « لا تكلّمي زيدا » فكلّمته ، فعلى القول الأوّل يقع الظهار ؛ لأنّ المراد من قوله : « لا تكلّمي » اسكتي ، فوقع مخالفة الأمر. وعلى القول الثاني لا يقع ؛ لأنّه لم يقع مخالفة الأمر ، بل النهي.

وعلى القول الأوّل يلزم أن يكون النهي عن كلّ شيء أمرا بضدّه ، فإذا كان له ضدّ واحد يتعيّن ، وإن كان له أضداد فيكفي واحد منها. ولا يخفى أنّ ثبوت هذا (٦) لا ينافي ما ذهبنا إليه (٧) ؛ لأنّ هذا إنّما يكون على سبيل الاستلزام لا العينيّة (٨).

ويتفرّع على الثاني (٩) أنّه لو حصلت نخامة في فم الصائم ، فتركها حتّى نزلت بنفسها إلى جوفه ، فعلى القول الثاني لا يبطل صومه ، بل إنّما هو في صورة ابتلعها قصدا. وعلى القول الثالث يبطل.

__________________

(١) في هامش « أ » : « لا النفي ؛ لعدم كونه مقدورا ».

(٢) في هامش « أ » : « لعدم كونه مقدورا ، ووجوب ترتّب الإثم على المقدور الصادر من المكلّف ».

(٣) في هامش « أ » : « عن الواجب ».

(٤) في هامش « أ » : « عن الصلاة ».

(٥) في هامش « أ » : « إذ القدرة بالنسبة إلى طرفي النقيض متساوية ، ولا شكّ أنّ الفعل مقدور ، فنفي الفعل الذي هو نقيضه أيضا مقدور ».

(٦) في هامش « أ » : « كما سبق في بحث استلزام كلّ من الأمر والنهي ».

(٧) في هامش « أ » : « من بطلان القول الأوّل ».

(٨) في هامش « أ » : « كما يلزم من القول الأوّل ».

(٩) أي على الخلاف الثاني ، وهو أنّ المراد من الترك هل هو الكفّ ، أو نفي الفعل؟

١٧٠

ولو قال : « لو فعلت ما ليس فيه رضى فعليّ كذا » فترك إحدى الواجبات ، ففيه الوجهان ، وقد عرفت الحقّ.

فصل [٢١]

الفهم شرط التكليف ، وبه قال أصحابنا وكلّ من أحال تكليف المحال (١) ؛ للزومه لولاه ، ولو لم يكن شرطا له لصحّ تكليف البهائم.

وقد ورد أخبار كثيرة بأنّ التكليف يتوقّف على فهم المكلّف وعلمه (٢). ويدلّ عليه بعض الآيات (٣) أيضا.

واحتجّ المخالف : بأنّه تعلّق بالصبي والمجنون ضمان ما أتلفاه (٤) ، ومع اشتراط التكليف بالفهم لا معنى لضمانهما.

واجيب : بأنّه ليس بتكليف ، بل من الأسباب ، والمكلّف بها الوليّ ، وعلى تقدير تعلّق التكليف بهما ـ نظرا إلى دخول الحكم الوضعي في الشرعي ـ لا منع أيضا ؛ لأنّه يجوز التخلّف عن الأصل باعتبار النصّ. ومن ذلك صحّة جميع ما تعلّق بغير المكلّفين من الأحكام الوضعيّة على فرض الثبوت ، كضمان النائم والسكران ما أتلفاه. وقد تقدّم أيضا ما ينفع في المقام (٥).

واحتجّ أيضا : بأنّه تعالى خاطب السكران بقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ )(٦) ، ومخاطبة السكران من باب التكليف بمن لا يعلم (٧).

__________________

(١) كذا في النسختين. والأولى : « التكليف بالمحال ».

(٢) منها : ما في التوحيد : ٤١٠ ـ ٤١٣ ، باب التعريف والبيان والحجّة والهداية ، ح ٢ ـ ٤ و ٧ ـ ١١ ، ومنها : حديث رفع القلم ، كما في بحار الأنوار ٤٠ : ٢٧٧ ، ح ٤١ ، ومنها : حديث الرفع ، كما في الخصال ٢ : ٤١٧ ، باب التسعة ، ح ٩ ، ووسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ ، أبواب جهاد النفس ، الباب ٥٦ ، ح ١.

(٣) منها : قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) ، الطلاق (٦٥) : ٧.

(٤) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٠٠.

(٥) أجاب به الآمدي في المصدر.

(٦) النساء (٤) : ٤٣.

(٧) راجع الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٠١.

١٧١

واجيب بوجهين (١) :

أحدهما : أنّ المراد من السكران الثمل ، وهو من ظهر منه مبادئ الطرب وعقله ثابت بعد ، وكثيرا ما يسمّى الثمل سكرا من باب المجاز ؛ لأنّه يؤدّي إليه غالبا ، ولفظة « حتّى » على هذا بمعنى الغاية ، ويكون ما بعدها مؤوّلا ، أي يتكامل فيكم العلم والفهم.

وثانيهما : أنّ المراد منه لا تسكروا وقت الصلاة ، نحو « لا تموتنّ وأنتم كافرون » أي لا تكفروا ، فتموتوا وأنتم كافرون. وعلى هذا لفظة « حتّى » بمعنى كي.

وكيفيّة التفريع : أنّه يحكم بنفي تعلّق الحكم بغير المكلّفين ، كالحكم بنفي الحدّ عن المجنون إذا زنى ، ونفي صحّة تزويج السكرى نفسها ، ونفي صحّة طلاق السكران ؛ وتعلّق الحكم بغير المكلّفين في بعض الموادّ لدليل خارجي ، كوجوب قضاء الصلاة على النائم والسكران.

ثمّ الحقّ اشتراط الفهم في ابتداء الفعل وأثنائه ، فلو زال الفهم في وسط الفعل سقط التكليف ؛ لأنّ الأدلّة تشمل بعمومها أثناء الفعل أيضا ، ولذا لم يفرّق القوم بينهما.

وذكر بعض المتأخّرين : أنّه يظهر من الأدلّة اشتراط الفهم في ابتداء الفعل فقط ، حتّى لو نوى الفعل المتوقّف على النيّة مع الفهم ثمّ زال في أثنائه ، صحّ هذا الفعل (٢).

وفرّع عليه صحّة صلاة الساهي عن بعض الأفعال ، وصوم النائم وصوم من أكل سهوا إذا وقع النيّة منهم مع التذكّر (٣).

ولا يخفى أنّ إخراج هذه الأشياء من القاعدة لدليل خارجي ، وفي غيرها ـ ممّا لم يثبت التخلّف بدليل خارجي ـ يكون الحكم كما ذكرناه. ويتفرّع عليه عدم صحّة صوم المغمى عليه في أثناء اليوم ، وعدم وجوب القضاء عليه.

فصل [٢٢]

اتّفق أكثر العقلاء على امتناع تعلّق التكليف بالمعدوم ، وخالف الأشاعرة وصرّحوا بأنّ

__________________

(١) راجع الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٠١.

(٢ و ٣) راجع تمهيد القواعد : ٦٨ و ٦٩ ، القاعدة ١٥.

١٧٢

المعدوم مكلّف (١). ولا بدّ من تحرير محلّ النزاع ، والإشارة إلى ما هو الحقّ.

فنقول : يتصوّر هاهنا صور :

الأولى : أن يكون المراد من تكليف المعدوم تكليفه تنجيزا ، بأن يطلب منه الفعل في حالة العدم ، ولا ريب في بطلانه ؛ فإنّ الفهم لو كان شرطا للتكليف ، فالوجود أولى بذلك.

والظاهر أنّ الأشعري أيضا لم يقل به.

الثانية : أن يكون المراد منه تكليفه في حالة الوجود ، بأن لا يكون التكاليف الشرعيّة متعلّقة بالمعدوم في حالة عدمه ، بل إذا صار موجودا وحصل فيه شرائط التكليف حدث تعلّقها به ، وعلى هذا لم يتوجّه على المعدوم شيء ، لا تنجيز التكليف ، ولا التعلّق العقلي. وإطلاق تكليف المعدوم على ذلك بناء (٢) على أنّه لمّا استمرّ الأمر الأزلي إلى زمان وجوده وصار بعد الوجود داخلا تحته ، فكان للأمر المذكور علاقة ما به في حال عدمه أيضا.

وغير خفيّ أنّ هذا لا ضير فيه ؛ لأنّ بناءه على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر الموجودين الحاضرين بأنّ كلّ معدوم يوجد ، فيكلّفه الله بما كلّفكم ، فالأوامر الإلهيّة لم تتعلّق بالمعدومين مطلقا ، ولكن لمّا علم الله أنّه يوجد المعدومين ، فأخبر الأنبياء بأن يخبروا الموجودين بأنّ من يوجد يكون مكلّفا بما يتضمّن هذه الأوامر ، فيحدث تعلّق الأمر بكلّ أحد بعد وجوده بخبر النبيّ. وهذا ممّا نقول به ، ولكنّ الإطلاق المذكور على ذلك غير مناسب ، والتعليل المذكور غير صالح لتصحيحه ، ومراد الأشاعرة أيضا ليس هذا.

الثالثة : أن يكون المراد منه التعلّق العقليّ ، وهو أنّ المعدوم الذي علم الله في الأزل أنّه يوجد فيما لا يزال قد تعلّق به التكليف الذي يفعله إذا وجد وحصل فيه شرائط التكليف ، وعلى هذا يتعلّق التكليف بالمعدوم ، إلاّ أنّه ليس تعلّقا تنجيزيّا.

واورد عليه : بأنّ مطلق التعلّق يتوقّف على متعلّق موجود ؛ لأنّ الإضافة تتوقّف على المضاف إليه (٣).

__________________

(١) وممّن صرّح به الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٠٢.

(٢) خبر لإطلاق.

(٣) راجع : المحصول ٢ : ٢٥٥ ـ ٢٥٩ ، وتهذيب الوصول : ١١٧ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٠٢.

١٧٣

واجيب : بأنّ المتعلّق هو الموجود العلمي ؛ فإنّ ما تعلّق به التكليف وإن كان معدوما في الخارج ، إلاّ أنّه موجود في علم الله ، فتعلّق به التكليف تعلّقا علميّا ، وإذا وجد في الخارج يتعلّق به تعلّقا تنجيزيّا. وهذا هو مراد الأشاعرة (١).

واحتجّوا أمّا أوّلا : فبأنّ كلامه أزلي ، وإلاّ لزم قيام الحوادث (٢) بذاتها ، ومن جملة كلامه الأمر والنهي ، وكلّ منهما تكليف ، فيكون التكليف أزليّا. ومن اللوازم الذاتيّة للتكليف التعلّق ؛ لعدم تحقّقه بدونه ، فيكون التعلّق أيضا أزليّا ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ بأن يتعلّق التكليف بالمعدوم (٣).

وغير خفيّ أنّ كون الكلام عندهم أزليّا بناء (٤) على ما ذهبوا إليه من إثبات الكلام النفسي ، وهو باطل عندنا ، بل الكلام مؤلّف من الحروف وهو حادث ، وليس قائما بذاته حتّى يلزم ما ذكر. وقد حقّق ذلك في محلّه.

وأمّا ثانيا : فبأنّا مكلّفون بأوامر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع كوننا معدومين في حالة أمره (٥).

واجيب : بأنّه يحدث تعلّقها بنا (٦) بخبر النبيّ إذا وجدنا كما تقدّم. فكلّ موجود وإن دخل تحت الأوامر الصادرة عند عدمه ، إلاّ أنّ تعلّقها به لم يكن عند عدمه ، بل بعد وجوده ؛ فإنّ الآمر إذا علم وجود شخص فيما بعد ، وأراد في وقت عدمه أن يأمره بشيء عند وجوده ، ولم يكن في غرضه تعلّق الأمر به في حالة عدمه ، يجوز أن يأمره به مطلقا من غير تقييد ، كأمر الرجل ولده الذي أيقن من طريق بأنّه سيولد بتعلّم إحدى الصناعات (٧).

هذا ، مع أنّ تعلّق التكليف بالمعدوم لا يترتّب عليه فائدة وإن كان له وجود علمي ، وصدور أمر لم يكن فيه فائدة قبيح من الحكيم.

والقول بأنّه يترتّب عليه الفائدة بعد زمان ، أي حالة وجوده ، وهو كاف لخروجه عن

__________________

(١) راجع : المحصول ٢ : ٢٥٥ ـ ٢٥٩ ، وتهذيب الوصول : ١١٧ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٠٢.

(٢) في « ب » : « الحادث ».

(٣) راجع : المحصول ٢ : ٢٥٥ ـ ٢٥٩ ، وتهذيب الوصول : ١١٧ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٠٢.

(٤) خبر.

(٥) تقدّم تخريجها آنفا.

(٦) في « ب » : « بها بناء ».

(٧) تقدّم تخريجهما آنفا.

١٧٤

القبح مع إمكان ترتّب فائدة على التعلّق في حالة العدم أيضا وإن لم نعلمها (١) ، ضعيف جدّا ، كما لا يخفى.

ثمّ لمّا عرفت أنّ كلامه تعالى ليس أزليّا ، فلا يكون فرق بين أوامره تعالى وخطابات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شمولها للمعدومين وعدمه. وكيفيّة التفريع أيضا في الجميع واحدة.

وقد وقع الخلاف في شمول خطاب الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله للمعدومين. وللمجوّزين حجج يمكن إجراؤها فيما نحن فيه. وسيجيء تحقيقه مع كيفيّة التفريع.

فصل [٢٣]

الإكراه إذا بلغ حدّ الإلجاء لا يصحّ معه التكليف بأحد الطرفين ؛ لأنّ أحدهما حينئذ واجب الوقوع ، والآخر ممتنع الوقوع ، فلا يبقى معه قدرة على أحدهما ، والتكليف مشروط بها.

ولم يخالف فيه سوى المجوّزين للتكليف بما لا يطاق (٢).

وإذا لم يبلغ حدّ الإلجاء ، فالمشهور جواز التكليف بأحد الطرفين ؛ لبقاء القدرة.

وقال المعتزلة : لا يجوز ؛ نظرا إلى أنّ المكلّف به يترتّب عليه الثواب ، أو العقاب ، وفعل المكره لا يترتّب عليه شيء منهما (٣) ؛ لأنّه أتى به لأجل الإكراه ، لا لأجل أمر الشارع (٤).

والجواب : أنّه إذا اختار نقيض ما اكره عليه ، فلا شبهة في كونه أبلغ في إطاعة أمر الشارع إذا كان (٥) مأمورا به منه ، وأبلغ في مخالفة أمره إذا كان (٦) منهيّا عنه منه.

وإذا اختار ما اكره عليه ، فيقدر أن يأتي به لأجل أمر الشارع أو نهيه ، فيترتّب عليه الثواب أو العقاب. وهذا كاف للمطلوب (٧).

__________________

(١) تقدّم تخريجها آنفا.

(٢) هم أبو الحسن الأشعري وأصحابه.

(٣) في « ب » : « منها ».

(٤) راجع : المعتمد ١ : ١٦٥ ، والتمهيد : ١٢٠.

(٥ و ٦) ضمير « كان » في الموردين راجع إلى « نقيض ».

(٥ و ٦) ضمير « كان » في الموردين راجع إلى « نقيض ».

(٧) في « ب » : « في المطلوب ».

١٧٥

أقول : وممّا يدلّ على قول المعتزلة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن أمّتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه » (١) ، فيجب حمل الإكراه فيه على الإلجاء ، أو القول بأنّ الموارد التي بقي فيها التكليف مع الإكراه مخصّصة من القاعدة. وهذا أقوى.

وكيفيّة التفريع : أنّه إذا ألجئ الصائم على الإفطار بأن وجر شيء في حلقه ، أو حبس رجل من الصلاة أو غيرها من الطاعات ، يسقط عنه التكليف ؛ نظرا إلى عدم بقاء القدرة.

وكذا الإلجاء على الزنى ، وإمكانه في حقّ المرأة ظاهر. وأمّا في حقّ الرجل ، فالظاهر كذلك أيضا ، كما لا يخفى.

ولا يباح القتل بالإكراه إذا لم يبلغ حدّ الإلجاء. وإن علم أنّه إذا لم يقتل قتل ، فإذا قتل يجب به القصاص إجماعا ، فهذا مخصّص.

وإذا اكره على إتلاف المال ، لم يتعلّق به شيء ، ويتعلّق الضمان بالآمر.

وفروع هذه القاعدة كثيرة. وحقيقة الحال ظاهرة عليك في جميعها بعد تحقيق الأصل.

والضابط : أنّه لا يترتّب على فعل المكره شيء إلاّ في مواضع مخصوصة : منها ما ذكر.

ومنها : الإكراه على الحدث في الصلاة والطواف ، فإنّه يبطلهما (٢). ووقع الخلاف في أنّ الإكراه على فعل المنافي غير الحدث هل يبطل الصلاة ، أم لا؟

ومنها : الإكراه على إعطاء الخمس والزكاة ؛ فإنّه (٣) يبرئ الذمّة.

ومنها : الإكراه على الإرضاع ؛ فإنّه ينشر الحرمة.

ومنها : إكراه الحربيّ والمرتدّ عن ملّة ، والمرتدّة مطلقا على الإسلام ؛ فإنّ إسلامهم مقبول حينئذ ، بخلاف الذمّيّ.

ومنها : الإكراه على تولّي الحدّ والقصاص.

وقد ذكر بعض مواضع أخر أيضا (٤).

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ٦٥٩ ، ح ٢٠٤٣ ، والخصال ٢ : ٤١٧ ، باب التسعة ، ح ٩ ، ووسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ ، أبواب جهاد النفس ، الباب ٥٦ ، ح ١.

(٢) في « ب » : « يبطلها ».

(٣) في « ب » : « فإنّها ».

(٤) راجع تمهيد القواعد : ٧٥ و ٧٦ ، القاعدة ١٧.

١٧٦

فصل [٢٤]

الفعل المكلّف به إذا كان مشروطا بشرط ، فإن جهل الآمر انتفاء شرطه ، يصحّ التكليف به (١) إجماعا ، كتكليف السيّد عبده بفعل (٢) في غد مع جهله بموته قبله.

وإن علم انتفاءه لم يصحّ التكليف به على الأقوى ، وفاقا لمحقّقي أصحابنا والمعتزلة (٣) ، وخلافا للأشاعرة (٤). فكلّ فعل مكلّف به في زمان لا بدّ أن يدرك المكلّف مقدارا منه يتمكّن فيه من أدائه ، فإن علم عدم الإدراك سقط الوجوب ، كتكليف زيد بصوم غد مع العلم بموته أو جنونه فيه أو قبله. وإن لم يعلم يجب الشروع فيه ، فإن أدرك جميع الوقت استقرّ الوجوب ، وإلاّ تبيّن (٥) سقوطه.

لنا : أنّ الإتيان بالفعل مع عدم شرطه غير ممكن ، فالتكليف به تكليف بما لا يطاق.

وأيضا لو صحّ التكليف مع علم الآمر بانتفاء الشرط ، لصحّ مع علم المأمور به أيضا ، واللازم باطل بالإجماع. وبيان الملازمة ظاهر.

واجيب : بأنّ الأمر كما يحسن لمصلحة في المأمور به ، كذلك (٦) قد يحسن في نفس الأمر ، كما إذا أمر السيّد عبده ، أو غيره غيره بفعل للامتحان مع علمه بأنّه يمنعه عن الفعل ، وحينئذ لا يلزم التكليف بما لا يطاق ؛ لأنّه يلزم إذا كان المراد من الأمر فعل المأمور به (٧) بانتفاء الشرط ؛ لأنّه لا معنى حينئذ للامتحان (٨).

ولا يخفى أنّه لو حسن الأمر لنفسه (٩) لا للمأمور به ، لما دلّ مطلق الأمر بشيء على حسن المأمور به ، ولا على وجوب مقدّمته ، ولا على النهي عن ضدّه ، بل توقّف ذلك على ثبوت أنّ

__________________

(١) لم يرد في « ب » : « التكليف به ».

(٢) لم يرد في « ب » : « بفعل ».

(٣ و ٤) راجع معالم الدين : ٨٢.

(٥) في « ب » : « يتبيّن ».

(٦) لم يرد في « ب » : « كذلك ».

(٧) في « ب » بعد « به » : « ولا صحّة التكليف مع علم المأمور به ».

(٨) حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : ٨٤ و ٨٥.

(٩) أي لمصلحة في نفس الأمر لا في المأمور به.

١٧٧

المراد من الأمر فعل المأمور به ، فكان الواجب الفحص عن كلّ أمر حتّى يعلم أنّه من الفرد الذي يستلزم الامور المذكورة أم لا ، مع أنّ القوم يحكمون باستلزام مطلق الأمر للامور المذكورة من غير فحص.

هذا ، مع أنّ صحّة التكليف المذكور مستلزمة للإغراء بالجهل ؛ لأنّ المأمور معتقد حينئذ إرادة الآمر منه الفعل مع أنّه ليس كذلك. والمثال الذي ذكر ـ لو سلّم حسنه ـ تمّ في حقّ غير الله ؛ لأنّ المطلوب منه تحصيل العلم بحال الغير ، والله غنيّ عن ذلك.

احتجّ الخصم : بأنّه لو لم يصحّ التكليف بفعل علم عدم شرطه ، لم يكن تارك كلّ مكلّف به عاصيا ؛ لأنّ من شروطه إرادة المكلّف ، والله علم عدم الإرادة منه (١).

والجواب : أنّ المراد من الشرط شرط الواجب المقيّد الذي ليس تحصيله واجبا على المكلّف ، أو شرط الواجب المطلق الذي لم يقدر المكلّف على تحصيله ؛ فإنّه لو علم انتفاء هذين الشرطين في الواقع ، لم يصحّ التكليف.

وأمّا شرط الواجب المطلق الذي كان المكلّف قادرا على تحصيله ، فيصحّ التكليف بمشروطه. والإرادة من هذا القبيل ؛ فإنّ المكلّف يقدر على تحصيلها ، فعدمها من سوء اختياره ، فلا يسقط به التكليف.

ولو كان المراد من الشرط شرط الواجب المطلق الذي أمكن تحصيله ، لم يكن فرق بين هذه المسألة وما تقدّم (٢) من أنّ التكليف بالواجب المطلق لا يتوقّف على حصول شرطه.

ولهم بعض أدلّة ضعيفة أخر (٣). وجوابها في غاية الظهور ، ولذا لم نتعرّض لها.

وفروع هذه القاعدة كثيرة : كعدم وجوب الكفّارة على من أفطر في نهار رمضان عمدا ثمّ مات ، أو جنّ ، أو مرض ، أو سافر ؛ لأنّ كلاّ منها كاشف عن عدم وجوب الصوم ؛ لانتفاء شرطه.

وكعدم وجوب قضاء الحجّ عمّن أيسر ومات في سنة اليسر قبل التمكّن من الحجّ.

__________________

(١) حكاه الشيخ حسن في معالم الدين : ٨٤.

(٢) في ص ١٦٦ ـ ١٦٧.

(٣) راجع معالم الدين : ٨٤.

١٧٨

وعدم نقض تيمّم من وجد الماء ولم يتمكّن من الطهارة.

وعدم وجوب قضاء الصلاة على من أدرك الوقت ومات ، أو جنّ ، أو حاضت ، أو نفست قبل مضيّ وقت يسع فعل الصلاة.

فائدة (١)

قد تقدّم (٢) أنّ الفهم والعلم شرط التكليف ، ولذا لا يتعلّق بالساهي والغافل وغير العاقل وأمثالهم. وربما يتراءى تنافيه لما ذكر القوم من تعلّق التكليف بالجاهل وعدم معذوريّته إلاّ في مواضع مخصوصة ؛ لأنّ العلم إن كان شرطا في التكليف لزم عدم تعلّقه بالجاهل أيضا ، وإن لم يكن شرطا له لزم تعلّقه بالساهي وغير العاقل وأمثالهما أيضا (٣).

والحقّ عدم المنافاة ؛ لأنّ سقوط التكليف عنهم بناء (٤) على فقدانهم العلم ، وعدم تمكّنهم من تحصيله أيضا. فلو كلّفوا مع ذلك يلزم التكليف بما لا يطاق ، ولذا حكموا بسقوط التكليف فيما لا نصّ فيه ، وصرّحوا فيه بالإباحة ؛ لأنّ التكليف به مع عدم إمكان تحصيل العلم به من الأدلّة تكليف بما لا يطاق.

وأمّا تكليف الجاهل فليس تكليفا بما لا يطاق ؛ لأنّ عدم علمه باعتبار تقصيره ؛ فإنّه كان متمكّنا من تحصيله فقصّر ولم يحصّله ؛ فإنّ كلّ مكلّف يعلم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أتى بواجبات ومحرّمات كلّف بها كلّ مكلّف ، ومكّنه الله من العلم بها ، فلو سامح ولم يحصّلها يكون عاصيا باعتبار التقصير.

فمثله مثل عبد أعطاه سيّده طومارا مطويّا فيه بعض الأوامر ، وقال له : يلزم عليك أن تفتحه وتقرأه وتعمل بجميع ما فيه ، وكان العبد متمكّنا من قراءته إمّا بنفسه أو بإعانة الغير ، فلو لم يعمل به متعذّرا بعدم العلم به عدّ عاصيا.

ومثل غير العاقل والساهي ومن لم يصل إليه دليل الحكم بعد الفحص التامّ ، مثل عبد

__________________

(١) في « ب » : « قاعدة ».

(٢) تقدّم في ص ١٧١ ، الفصل ٢١.

(٣) للمزيد راجع معالم الدين : ٨٢.

(٤) خبر.

١٧٩

أعطاه سيّده الطومار المطويّ في موضع لم يقدر على قراءته بوجه ، أو كتب الطومار ولم يعطه ، فلا يتوجّه عليه ذمّ باعتبار عدم العمل.

وما ذكر إنّما يجري في الجاهل في نفس الحكم الشرعي ، كالجاهل ببطلان الصلاة في المكان المغصوب. وأمّا الجاهل في موضوعه ـ كالجاهل بأنّ هذا المكان مغصوب ـ فلا يجري فيه ما ذكر ؛ لأنّ الأوّل علم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء ببعض الأحكام وعلمها إجمالا ، ويتمكّن من تعلّمها تفصيلا ، وذمّته مشغولة بالعمل بها يقينا ، فيجب عليه تعلّمها والعمل بها ؛ لأنّ شغل الذمّة اليقينيّ محتاج إلى البراءة اليقينيّة.

وأمّا الثاني ، فلا يجب عليه الفحص عن كلّ مكان مثلا بأنّه مغصوب أم لا ، ولا عن كلّ طعام بأنّه نجس أم لا ؛ لأنّ الأصل عدم الغصب والنجاسة. وكذا الحكم في جميع موضوعات الأحكام. ولذا ترى العلماء يفرّقون في الأكثر بين الجهل في نفس الحكم وموضوعه.

وممّا ذكر علم أنّه يجب على كلّ مكلّف تعلّم ما يجب عليه وما يحرم عليه من الأحكام المتعلّقة بالعبادات والمعاملات بشرط التمكّن ، فلو لم يتمكّن ـ كالمستضعف وأمثاله ممّن يستحيل عادة أن يفهمها ومع ذلك بذل جهده ـ فهو معذور ، وكذا الحكم فيمن لم يتمكّن من الوصول إلى العلماء بعد بذل جهده ، ولو تمكّن من أخذ بعضها ، يجب عليه أخذه دون البعض الآخر.

ثمّ إنّ كيفيّة أخذ الأحكام تظهر فيما بعد. وكيفيّة التفريع واضحة.

١٨٠