أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

والشرب وأمثالهما ، وإذا قال السلطان : « ومن يشاقق وزيري ويتّبع غير سبيل المطيعين له لعاقبته » لفهم سبيلهم في طاعة الوزير لا سائر السبل.

ويدلّ على ذلك (١) ، أنّ الآية نزلت في رجل ارتدّ (٢).

ومنها : قوله تعالى : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً )(٣) الآية. والوسط : العدول (٤) والخيار. والاجتماع على الخطأ ينافي الوصفين.

واعترض (٥) عليه بوجوه ، وأظهرها ورودا : أنّ ظاهره (٦) يقتضي اتّصاف كلّ واحد من الامّة بالعدالة في الأشياء كلّها ، وهو ظاهر الفساد ؛ لأنّه خلاف الواقع ، مع اقتضائه حجّيّة اتّفاق كلّ بعض وإن كان اثنين ، بل حجّيّة قول واحد منهم. فيجب إمّا تخصيص العدالة بالشهادة على الناس في الآخرة خاصّة كما نقله المفسّرون (٧) ، أو تخصيص الخطاب بمن ثبت عصمته ، كما روي عن أئمّتنا عليهم‌السلام (٨). وإن لم يحمل على ظاهره واريد منه اتّصاف مجموع الامّة من حيث المجموع بها ، لم يتحقّق إجماع إلاّ بعد اتّفاق كلّ من كان ويكون منهم ، فلا يفيد.

ومنها : قوله : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )(٩) ، أخبر أنّهم ينهون عن كلّ منكر ؛ لأنّ لام الجنس يفيد الاستغراق وهو ينافي الإجماع عليه (١٠).

وجوابه يعلم ممّا سبق.

ومنها : قوله : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ )(١١) إلى آخره ، شرط في [ وجوب ](١٢) الردّ

__________________

(١) أي على أنّ المراد من سبيل المؤمنين هو الإيمان.

(٢) وهو ابن أبي أبيرق سارق الدرع. كما في مجمع البيان ٣ : ١١٠.

(٣) البقرة (٢) : ١٤٣.

(٤) كذا. وفي هامش « أ » : « العدل. خ ل » وهو الصحيح.

(٥) ومن المعترضين الطبرسي في مجمع البيان ١ : ٢٢٦.

(٦) فإنّ ظاهره عموم استغراقي إفرادي لا مجموعي.

(٧) راجع : التفسير الكبير ٢ ( الجزء الرابع ) : ١١٢ ، ومجمع البيان ١ : ٢٢٥.

(٨) الكافي ١ : ١٩٠ ، باب في أنّ الأئمّة شهداء الله ، ح ٢ و ٤.

(٩) البقرة (٢) : ١١٠.

(١٠) راجع : الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٨٦ ، ونهاية السؤل ٣ : ٢٤٨.

(١١) النساء (٤) : ٥٩.

(١٢) أضيف بمقتضى السياق.

٣٤١

إلى الكتاب والسنّة وجود التنازع ، فإذا عدم وحصل الاتّفاق لم يجب الردّ إليهما ؛ قضيّة للشرط ، وكفى الاتّفاق وهو معنى كونه حجّة (١).

واجيب (٢) عنه بأنّ سقوط وجوب الردّ إليهما إمّا عند حصول الاتّفاق باعتبار الردّ إليهما ، أو عند حصوله لا باعتبار الردّ إليهما. فعلى الثاني يلزم تجويز وقوع الإجماع من غير دليل ، وعلى الأوّل يلزم أن يكفينا (٣) من غير حاجة إلى الإجماع (٤).

وفيه : أنّا نختار الثاني أوّلا ، ولا يلزم ما ذكر ؛ لأنّ حصوله من دلالة العقل ممكن (٥).

ونختار الأوّل ثانيا ، ونقول : لزوم الكفاية لا يستلزم عدم حجّيّة الإجماع ، ولا عدم فائدة فيه ، كما يعلم بعد ذلك.

وقيل : على الثاني يلزم ما ذكر ، وعلى الأوّل يلزم الحكم بسقوط طلب المحال ، وهو باطل.

وجه الملازمة : أنّ طلب الحكم من الكتاب والسنّة بعد ما وجد فيهما محال ، فالحكم بسقوطه يستلزم ما ذكر.

ووجه بطلان اللازم : أنّه عبث ، فلا يصدر عن الحكيم ، فالمراد من الآية الحثّ على طاعة اولي الأمر ، وهو كما ترى.

وقد احتجّوا ببعض آيات أخر (٦) تركناها ؛ لبداهة عدم دلالتها على مطلوبهم.

ومنها : قوله عليه‌السلام : « لا تجتمع امّتي على الخطأ » (٧) وهو متواتر معنى ؛ لورود هذا المعنى في أخبار لا تحصى كثرة من طرق الفريقين. ودلالته على المطلب ظاهرة.

واعترض عليه (٨) بأنّ التواتر المعنوي شرطه استواء الطرفين والوسط ، ووجوده هنا ممنوع.

__________________

(١) راجع : الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٨٦ ، ونهاية السؤل ٣ : ٢٤٨.

(٢) ذكره البصري بعنوان « لقائل أن يقول » في المعتمد ٢ : ١٦.

(٣) أي يكون الحجّة هو الدليل والردّ إلى الله والرسول لا الإجماع الحاصل من الردّ إليهما.

(٤) راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول ٣ : ١٧٩.

(٥) أي يلزم حصول الإجماع من غير دليل شرعي لا من غير دليل أصلا.

(٦) منها قوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) ، آل عمران (٣) : ١٠٣.

(٧) تقدّم تخريجه في ص ٣٣٦.

(٨) ذكره البصري بعنوان « لقائل أن يقول » في المعتمد ٢ : ١٦.

٣٤٢

ولو سلّم ذلك ، فلا نسلّم لزوم تواتر القدر المشترك ؛ لأنّه إنّما يلزم ذلك لو كان دلالة تلك الروايات على القدر المشترك بطريق القطع ، وهو ممنوع ؛ لأنّ القدر المسلّم ظهور دلالتها عليه ، فلا يلزم القطع بمعناها ، وذلك كالتواتر اللفظي الظاهر المعنى ؛ فإنّه وإن كان قطعيّ السند لكن لظنّيّة دلالته لا يقطع بمدلوله.

والجواب عن الأوّل : أنّ بعض هذه الأخبار وردت من طريق العامّة ، وبعضها من طريق الخاصّة ، ولا يمكن اتّحاد رواتهما حينئذ في طبقة من الطبقات. وما ورد في كلّ من الطريقين رواته مختلفة في جميع الطبقات إلاّ فيما شذّ ، كما لا يخفى على المتتبّع.

و [ الجواب ] عن الثاني : لا نسلّم ظنّيّة دلالة كلّ واحد منها ، ومع التسليم نقول : يحصل القطع بالقدر المشترك من المجموع ، وهو كاف للمطلوب.

ثمّ لو قطع النظر عن ذلك كلّه ، وقلنا : إنّها أخبار آحاد ، فما يخرجها عن الحجّيّة وإثبات أصل بها ، سيّما مع تلقّي الامّة لها بالقبول؟

واورد على دلالتها بأنّه إن اريد بالامّة جميع امّته ممّن كان ويكون إلى يوم القيامة ، لم يوجد إجماع ، وإن اريد به البعض ، دخل في حيّز المجمل فلا يفيد.

وجوابه : أنّ المراد من الامّة أهل كلّ عصر ، كما هو المتبادر. ويدلّ عليه أخبار أخر ، كقوله عليه‌السلام : « لا تزال طائفة من امّتي متظاهرين على الحقّ » (١). وقوله عليه‌السلام : « ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن » (٢). وقوله عليه‌السلام : « من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه » (٣).

ثمّ تسليم دلالة هذه الأخبار على حجّيّة الإجماع لا ينافي ما قلنا به ؛ لأنّا موافقون للعامّة في حجّيّته ، إلاّ أنّهم يقولون : حجّيّته لأجل نفس اتّفاق جميع المجتهدين ، فلو خالف واحد منهم خرج عن الحجّيّة على ما يقتضيه قواعدهم ، إلاّ أنّهم اتّفقوا على أنّه يقدح فيه

__________________

(١) كنز العمّال ١٢ : ١٦٥ ، ح ٣٤٥٠١ ، و ٢٨٤ ، ح ٣٥٠٥٥ ، و ١٤ : ٤٦ ، ح ٣٧٨٩٣. وفيها : « ظاهرين » بدل « متظاهرين ».

(٢) الدرر المنتثرة : ٢٤٠ ، ح ٣٧٩.

(٣) كنز العمّال ١ : ١٧٥ ، ح ٨٨٦ ، و ٢٧٨ ، ح ١٣٧١.

٣٤٣

مخالفة غير النادر واختلفوا فيه كما يأتي (١) ، ونحن نقول : حجّيّته لاشتماله على قول الحجّة ، فلو لم يعلم دخوله فيه ، لم يكن حجّة وإن حصل الوفاق من جميع من سواه ، ولو علم دخوله فيه كان حجّة وإن خالف جماعة. وهذا هو فائدة الخلاف بين الفريقين. وصدق الحجّيّة حينئذ في الإجماع ـ مع أنّ المناط قول الحجّة ـ يعلم بعد ذلك. ومن تأمّل في الآيات (٢) والأخبار (٣) المذكورة ، يجد أنّ دلالتها على حجّيّة الإجماع باعتبار اشتماله على قول بعض خاصّ.

وقد عرفت ذلك في أكثر الآيات المذكورة ، وهو الظاهر من قوله عليه‌السلام : « لا تزال طائفة » (٤) إلى آخره. وأمثاله ، ويدلّ عليه قوله عليه‌السلام : « لا تجتمع امّتي » (٥) إلى آخره ، نظرا إلى أنّ اللام في « الخطأ » للجنسيّة كما اعترف به أكثر العامّة ، فالمفهوم منه أنّ الامّة لا يجتمعون على جنس الخطأ ، ولا ريب في أنّه إذا أخطأ كلّ منهم في مسألة غير ما أخطأ فيه الآخر ، صدق اجتماعهم على جنس الخطأ. وهذا جائز وفاقا لو قطع النظر عن المعصوم ، فلا بدّ من القول بعدم جواز خلوّ العصر عن معصوم مصيب في كلّ أحكامه ؛ لئلاّ يمكن اجتماع الامّة على جنس الخطأ.

ومنها : أنّه يمتنع اجتماع الخلق العظيم على حكم بدون قاطع (٦).

واعترض عليه بأنّه يمكن أن يكون ذلك لشبهة ، كما اتّفق لليهود والنصارى والفلاسفة في قدم العالم ، وغيرهم من الفرق المجتمعين على كثير من الأباطيل مع انتشارهم في شرق الأرض وغربها (٧).

ومنها : أنّهم أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف للإجماع ، ولا ريب في أنّهم ـ مع كثرتهم العظيمة وتحقيقهم ـ لا يجتمعون على شيء بدون قاطع ، ومعه يكون خطأ المخالف

__________________

(١) في ص ٣٥١.

(٢) في ص ٣٤٠ ـ ٣٤١.

(٣) في ص ٣٤٢.

(٤) في ص ٣٤٣.

(٥) في ص ٣٤٢.

(٦) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٥٣.

(٧) راجع المعتمد ٢ : ٢١.

٣٤٤

له حقّا ، ومنه يثبت حجّيّة الإجماع (١).

واعترض عليه (٢) بمثل ما اعترض على سابقه.

وربما يدفع عنهما بعدم صدق الإجماع على اتّفاقهم ، كما عرفت (٣) من تحديده.

وفيه : أنّ ما احتجّوا به على حجّيّته يجري في اتّفاقهم أيضا من دون تفاوت ، وإن لم يصدق الإجماع المعرّف عليه.

وقد اجيب (٤) عن النقض باتّفاق اليهود والنصارى : بأنّهم تبعوا الآحاد من متقدّميهم ؛ لعدم تحقيقهم ، ولذا لم يصل إجماع منهم حدّ الضرورة ، كما اتّفق ذلك في إجماعات المسلمين. فالإجماعات القطعيّة لا يمكن أن تحصل عن شبهة ، وما لم يبلغ حدّ القطع يمكن حصوله منها ، كإجماع اليهود والنصارى وبعض إجماعاتنا.

وعن النقض باتّفاق الفلاسفة بإمكان الاتّفاق على الغلط في العقلي دون الشرعي ؛ فإنّ اشتباه الصحيح بالفاسد في الأوّل كثير والتمييز صعب ، بخلاف الثاني ؛ فإنّ الغلط فيه من جهة اشتباه القاطع بالظنّي ، والتمييز بينهما سهل.

ويرد عليه : أنّ الشرعي قد يكون عقليّا ، كأكثر المقاصد الكلاميّة ، فيلزم عدم حجّيّة الإجماع فيه.

والصحيح أن يجاب عنه بأنّ اتّفاق الفلاسفة إنّما يحصل في المسائل الغامضة بسبب الأدلّة العقليّة ، وامتياز الصحيح عن الفاسد فيها بها صعب جدّا ، بخلاف اتّفاق المجتهدين في الشرعيّات ، فإنّه يحصل فيها بمجرّد قول الشارع وإن كان مفيدا للظنّ ؛ وفهمه سهل.

ثمّ إنّه اورد عليهما (٥) بأنّا لا نسلّم لزوم كون إجماعهم عن قاطع ؛ لأنّه كما ينعقد عن القطعي ، يحصل عن الظنّي أيضا. ووجهه ظاهر. وحينئذ لا يفيد القطع.

والقول بأنّ مستنده وإن كان ظنّيّا لكن بعد انعقاده يفيد القطع ، ضعيف ، كما لا يخفى.

__________________

(١) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٥٣.

(٢) حكاه ابن الحاجب في المصدر.

(٣) ص ٣٣٦.

(٤) أجاب به ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٥٣.

(٥) أي على الوجهين العقليّين لحجّيّة الإجماع أورده القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ٥٣.

٣٤٥

نعم ، هو حجّة لحجّيّة الظنّ في الشرعيّات. ويمكن أن يقال : حصوله عن الظنّ ينافي قطعهم به مع كونهم من أهل التحقيق.

واورد عليهما (١) بأنّكم أثبتّم الإجماع بنصّ يتوقّف عليه (٢) ، فيلزم الدور (٣).

وجوابه : أنّا أثبتنا حجّيّة مطلق الإجماع بنصّ دلّ عليه وجود كلّ واحد من الإجماعات أو صورة منها ، وثبوت هذا النصّ ووجود ما دلّ عليه لا يتوقّف على حجّيّة الإجماع ؛ لأنّ وجود الدالّ ودلالته على النصّ ـ نظرا إلى امتناع انفكاكه عنه عادة ـ ممّا لا ريب فيه وإن لم نقل بحجّيّة إجماع أصلا ، فما اخذ دليلا للحجّيّة لا يتوقّف عليها بوجه ؛ فاندفع الدور.

ثمّ إنّ إيراد الدور على الدليل الأخير بنحو ما ذكر مبنيّ على ما هو الظاهر منه من إثبات حجّيّة الإجماع بقاطع دلّ عليه صورة الإجماع. ولو حمل على أنّ المراد منه إثبات حجّيّة الإجماع بإجماع معيّن لا ينفكّ عن دليل ، فبيان الدور حينئذ أنّكم أثبتّم الإجماع بالإجماع.

ووجه دفعه : أنّا أثبتنا حجّيّة مطلق الإجماع بوجود إجماع معيّن لا ينفكّ عن دليل عادة ، وهو لا يتوقّف على حجّيّة إجماع أصلا.

ومنها : أنّهم أجمعوا على أنّ الإجماع يقدّم على القاطع ، وأجمعوا أيضا على أنّ غير القاطع لا يقدّم على القاطع ، فلو لم يكن الإجماع قاطعا ، لزم تعارض الإجماعين وهو باطل (٤).

واورد عليه : بإمكان كون غير قاطع في نفس الأمر قاطعا باعتقادهم ، فلا يلزم ما ذكر (٥).

وفيه : أنّ ذلك يقتضي حصوله عن شبهة ؛ إذ لو كان عن قاطع كان قاطعا في نفس الأمر أيضا. والحاصل عن شبهة لا يقطع الجمّ الغفير من المحقّقين بتقدّمه على القاطع ، فيلزم أن يكون عن قاطع ، فيكون قاطعا في نفس الأمر.

__________________

(١) أي على الوجهين العقليّين لحجّيّة الإجماع. أورده القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ٥٣.

(٢) أي يتوقّف النصّ على الإجماع.

(٣) ذكره ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٥٣.

(٤ و ٥) راجع شرح مختصر المنتهى ١ : ٥٣.

٣٤٦

والإيراد عليه بإمكان حصوله عن الظنّ ، وجوابه كما سبق (١).

ثمّ إنّه يرد عليه وعلى الدليلين السابقين عليه : أنّ غاية ما لزم منها حجّيّة الإجماع إذا بلغ عدد المجمعين حدّ التواتر وأفاد القطع ؛ لأنّ غيره ( لا يمتنع اجتماع جماعة على مدلوله بدون ) (٢) قاطع ، ولا يقطع بتخطئة مخالفه ، ولا تقدّم على قاطع ، فالمقصود منها إثبات حجّيّة الإجماع في الجملة (٣).

وما قيل : إنّ الدليل ناهض في إجماع المسلمين من غير تقييد ولا اشتراط ؛ فإنّهم خطّئوا المخالف ، وقدّموه على القاطع مطلقا من غير تعرّض لعدد التواتر (٤) ، ضعيف ؛ لأنّه لا ريب في اختلاف الإجماعات بإفادة بعضها القطع ، وبعضها الظنّ ، وتفاوت درجات العلم والظنّ كما يجيء مفصّلا (٥) ، والمفيد للظنّ كيف يقدّم على القاطع ويقطع بتخطئة مخالفه؟! بل هذه الأحكام خاصّة بما يفيد القطع.

ثمّ لا يخفى أنّه يحصل من تعاضد هذه الأدلّة وتراكمها العلم بحجّيّة الإجماع في الجملة. وهو إمّا الإجماع القطعي ، أو ما يشتمل على قول الحجّة ؛ لأنّك عرفت (٦) أنّ بعضها يدلّ على الأوّل وبعضها على الثاني ، وهما متلازمان ؛ لأنّ كلّ ما يفيد القطع يعلم اشتماله على قول الحجّة عندنا وعند العامّة أيضا ؛ لأنّ ما خالف فيه واحد من المجتهدين لا يكون قاطعا عندهم ، فكيف بالمعصوم؟ وكلّ ما علم اشتماله عليه يفيد القطع عندنا وإن لم يفد عند العامّة ، فهذه الأدلّة تشيّد أركان ما ذهب إليه أصحابنا (٧).

وممّا يثبت ما ذهبنا إليه أنّ معظم العامّة ذهبوا إلى أنّه لا يمكن أن ينعقد إجماع من غير مستند (٨).

__________________

(١) ص ٣٤٦.

(٢) في « ب » بدل ما بين القوسين : « لم يتحقّق فيه اجتماع الخلق العظيم ، ولا يفيد القطع حتّى يستحال وقوعه من دون ».

(٣) راجع شرح مختصر المنتهى ١ : ٥٣.

(٤) راجع منتهى الوصول : ٥٣.

(٥) في ص ٣٦٦.

(٦) في ص ٣٤٤.

(٧) راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول ٣ : ١٨٩.

(٨) راجع : منتهى الوصول : ٦٠ ، وشرح مختصر المنتهى ١ : ١٣٧.

٣٤٧

ولا ريب في أنّه في الشرعيّات ليس إلاّ قول الشارع ؛ ودليل العقل إن أمكن أن يكون مستندا له فإنّما هو إذا علم أنّه ممّا لا يتخلّف الشارع عن مدلوله.

هذا ، وقد أورد بعض الشكوك على حجّيّة الإجماع ترد عليك مع جوابها في موضعها (١).

فصل [٣]

لا ريب في إمكان وقوعه ؛ لإمكان اطّلاع كلّ مجتهد على دليل حكم فيعتقده ، ويتّفق الآراء على ذلك فينعقد الإجماع ؛ وأيضا يأتي بيان إمكان العلم به (٢) ، بل وقوعه (٣) ، والوقوع العقلي (٤) يستلزم الوقوع الإمكاني.

واحتجّ المنكر بأنّ الاتّفاق لا بدّ له من مستند ، والظنّي لا يصلح مستندا له ؛ لأنّ العادة تحيل اتّفاق الأنظار المتباينة على أمر لأجله ، فتعيّن القاطع ، والعادة تحيل عدم نقله واشتهاره ، فإن لم ينقل علم عدمه ، وإن نقل استغني به عن الإجماع (٥).

وجوابه : أنّ الاتّفاق عن كليهما (٦) جائز.

أمّا عن الظنّي ، فلأنّ العمل به لازم على كلّ مجتهد إذا لم يوجد معارض أقوى منه ، سيّما إذا كان جليّا ، وإلاّ لزم ترجيح المرجوح. وبعد لزومه عليه لا بدّ من اتّفاق الآراء عليه ، وإنّما يمتنع اتّفاق القرائح المختلفة فيما لم يوجد له دليل يتعيّن العمل به.

وأمّا عن القطعي فظاهر. وعدم نقله لا يدلّ على عدمه ؛ لأنّه لمّا وجد ما هو أقوى منه استغني به عن نقله. ونقله لا يغني عن الإجماع ، ولا يجعله غير مفيد ؛ لأنّ تكثير الأدلّة فائدة يعتنى بها ، مع أنّ للعلم مراتب ، فربّما كان العلم الحاصل من الإجماع أقوى من الحاصل من دليله.

__________________

(١) في ص ٣٦٣ وما بعدها.

(٢) في ص ٣٤٩.

(٣) عطف على « إمكان » والضمير راجع إلى العلم دون الإجماع.

(٤) أي العلمي وفي « أ » : « الفعلي ».

(٥) نسبه الشيخ حسن إلى قوم في معالم الدين : ١٧٢ ، والقمّي إلى العامّة في قوانين الاصول ١ : ٣٤٩.

(٦) أي الظنّي والقطعي.

٣٤٨

فصل [٤]

الحقّ إمكان العلم بالإجماع ، بل وقوعه (١) وثبوته في الجملة (٢) ؛ فإنّا نعلم قطعا اتّفاق الامّة على بعض الأحكام ، كوجوب الصلاة ومثلها ، واتّفاق الإماميّة على بعضها كحلّيّة المتعتين وشبهها (٣) ، واتّفاق الحنفيّة على انعقاد البيع الفاسد (٤) ، والشافعيّة على عدمه (٥). وما ذلك إلاّ لحصوله وثبوته عنهم.

وحصول هذا العلم إمّا بالتسامع وتطابق الأخبار عليه ، سواء كان الطريق متواترا أو آحادا. أو تتبّع أقوال خواصّ الامّة أو المذهب ، وربّما حصل من مشاهدة أعيان المجمعين وسماع أقوالهم إن اكتفي بالقول ، ومع القرائن الدالّة على مطابقة آرائهم لأقوالهم إن اشترط الرأي (٦) ، وهذا يمكن في أزمنة أصحاب الحجج فقط ، ولا يتناول غيرها.

ثمّ كلّ إجماع ليس ممّا يعلم ثبوته ، بل له مراتب مختلفة ؛ لأنّه إمّا قطعي أو ظنّي.

والأوّل إمّا بديهيّ للخواصّ والعوامّ من الامّة أو المذهب ، أو لخواصّ أحدهما ، كالاتّفاق على مسح الرّجلين (٧) ؛ فإنّ ثبوته بديهيّ عند خواصّ الإماميّة (٨) وإن لم يكن كذلك عند عوامّهم.

أو نظريّ ، وهو أن يحصل للمجتهد العلم به (٩) بعد بذل جهده واستفراغ وسعه : إمّا بأن لا يظفر على مخالف وادّعاه عدد التواتر أيضا ، وله اتّصال بالبديهيّ.

والقول بأنّه لا يثبت بالتواتر إلاّ ما كان محسوسا ، والإجماع تطابق آراء المجتهدين

__________________

(١) عطف على « إمكان » والضمير راجع إلى العلم دون الإجماع.

(٢) معناه إيجاب جزئي من حيث المعلوم والعالم.

(٣) راجع : المعتبر ٢ : ٧٨٥ ، والمهذّب البارع ٣ : ٣١٣.

(٤) بداية المجتهد ١ : ١٩٣.

(٥) المصدر.

(٦) أي القسم الثاني من الإجماع المحصّل.

(٧) راجع : المعتبر ١ : ١٤٨ ، وتمهيد القواعد : ٥٥ ، المسألة ١١.

(٨) قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ١٢٧ ـ ١٣٠ ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : ١٣٢ ، والفاضل التوني في الوافية : ١٥٣.

(٩) أي بالوقوع.

٣٤٩

وهو غير محسوس (١) ، ضعيف ؛ لأنّ المتواتر قول كلّ واحد منهم ، وهو محسوس ودالّ على الرأي ، فالقطع بأقوالهم يستلزم القطع بآرائهم ؛ ومنع الاستلزام ـ لاحتمال وجود مانع كتقيّة ونحوها ـ مشترك الورود بينه وبين الخبر ، مع أنّ الأصل (٢) عدمه.

وإمّا بأن لا يظفر على مخالف وادّعاه أيضا جماعة لم يبلغوا عدد التواتر ، وكانوا من أهل التدقيق والفحص الشديد.

وإمّا بمجرّد أن لا يظفر بالمخالف وإن لم يضمّ إليه الادّعاء. فإنّ الحقّ ـ كما يأتي (٣) ـ أنّ حصول العلم حينئذ ممكن له إذا بالغ في الفحص وبذل الجهد ولم يعثر على مخالف ، وحصل له بعض القرائن والأحوال أيضا. وليسمّ هذا بالإجماع الاستنباطي ، أو التتبّعي.

والثاني إمّا أن يحصل به الظنّ القويّ ، بأن لا يعثر على مخالف بعد فحص لم يبلغ حدّا يفيد العلم ، سواء نقله أيضا جماعة لم يبلغوا حدّ التواتر ولم يكونوا من أهل الدقّة والفحص ، أم لا. ويختلف درجات هذا الظنّ في الموارد باختلاف القرائن والخصوصيّات.

وإمّا أن يحصل به الظنّ المتوسّط أو الضعيف. وموارد كلّ منهما ظاهرة.

وكلّ واحد من هذه الإجماعات إذا لم يكن له معارض من الأدلّة الأخر ، يتعيّن العمل به للمجتهد ، كما يأتي (٤) ؛ لأنّ الظنّ الحاصل منه ليس أضعف من الظنّ الحاصل من أخبار الآحاد. وإن ضمّت إليه أدلّة أخر صار وجوب العمل به أوضح.

نعم ، العمل في بعض موارد الأخير (٥) إذا لم يضمّ إليه دلالة اخرى محلّ تأمّل. وما يصحّ أن يوجد له معارض إذا وجد له ، ينبغي الترجيح على ما يقتضيه نظر المجتهد. هذا إذا لم يوجد لكلّ منها مخالف (٦).

__________________

(١) راجع معالم الدين : ١٧٥.

(٢) والمراد به استصحاب عدم المانع المحتمل.

(٣) في ص ٣٥٢.

(٤) في ص ٣٥٢.

(٥) أي الإجماع المظنون بالظنّ المتوسّط أو الضعيف.

(٦) أي وإن كان له معارض. توضيحه : أنّ المراد بالمعارض هو الدليل من العقل والكتاب والسنّة ، والمراد بالمخالف هو قول أو إجماع آخر مخالف لهذا الإجماع ، فيمكن الجمع بين عدم المخالف للإجماع ووجود المعارض له كما هو ظاهر عبارة المصنّف.

٣٥٠

وأمّا إذا وجد مخالف ، فربّما حصل القطع بعدم وجود مخالف سوى مخالف نادر ، كالقطع بأنّه لم يخالف في حرمة القياس سوى ابن الجنيد (١) ، وفي استحباب دعاء رؤية هلال رمضان سوى ابن أبي عقيل (٢). وحينئذ لا يضرّ هذا المخالف ، ولا يخرجه عن الحجّيّة ، كما يأتي (٣).

وربّما حصل الظنّ القويّ أو الضعيف بعدم مخالف غيره.

و (٤) ربّما لا يحصل به ظنّ أصلا ، كما إذا ادّعى بعضهم الإجماع على حكم مع ظهور مخالف غير نادر ، بل قد يكون الشهرة على خلافه.

وربّما ادّعى هذا البعض أو بعض آخر الإجماع على خلافه ، كما اتّفق ذلك في كثير من المسائل ، وقد ضبطنا كثيرا من الإجماعات المتناقضة (٥) في بعض رسائلنا (٦).

ثمّ لكلّ من هذه الأقسام أيضا إمّا أن يوجد معارض أو لا. وعلى التقديرين إمّا أن يكون له معاضد أو لا. وعلى جميع الأقسام والتقادير يلزم الترجيح والعمل بحسب ما يقتضيه نظر المجتهد.

ثمّ الإجماع المنقول إمّا يفيد القطع أو الظنّ بعدم مخالف بحيث يتعيّن العمل بمضمونه ـ كما تقدّم (٧) ـ فحكمه ظاهر. وإن لم يكن كذلك فيجيء حكمه (٨).

وبما ذكرنا ظهر أنّه لا بدّ للمجتهد من التتبّع والتفحّص في كلّ إجماع ليعلم أنّه من أيّ قسم ، ثمّ يحكم بما يقتضيه ، وليس له أن يقلّد غيره من المدّعين للإجماع ، بل لا بدّ له من التتبّع ؛ لأنّ الظاهر أنّ كلّ من يدّعي إجماعا على حكم حصل له العلم ، أو الظنّ به من تتبّع الأقوال والقرائن. ومثل هذا ربّما أفاد لبعض علما ولآخر ظنّا ، وربّما لم يفد لآخر شيئا.

__________________

(١) حكاه عنه الفاضل التوني في الوافية : ٢٣٦ ، والوحيد البهبهاني في الرسائل الاصوليّة : ٢٦٧ و ٢٦٨.

(٢) حكاه عنه العلاّمة في مختلف الشيعة ٣ : ٣٦٦ ، المسألة ٩٤.

(٣) في ص ٣٥٢.

(٤) هذا من أقسام قوله : « والثاني » والضمير في « به » راجع إلى الإجماع لا المخالف.

(٥) والمراد به هو المتخالفة وليس معناه الاصطلاحي ؛ فإنّ الإجماعين من المدّعيين ليسا متناقضين.

(٦) لم نعثر على رسالته.

(٧) في ص ٣٥٠.

(٨) في ص ٣٦٥.

٣٥١

هذا ، والحقّ أنّ العلم بالإجماع بكلّ من النقل والتتبّع وكليهما ممكن في الجملة في كلّ عصر ؛ لأنّ فتاوى أعيان القدماء والمتأخّرين محفوظة في الكتب المصنّفة ، فإذا ظهر في حكم من الأحكام المهمّة اتّفاقهم ولم نظفر بالتتبّع التامّ على مخالف له ، علم أنّه مذهب كلّ الإماميّة ؛ إذ العادة لم تجر بأنّ ما لا يكون كذلك لم يقع فيه خلاف ، مع مخالفة أذهانهم ومباينة سلقهم.

واحتمال أن يكون مخالف من المتقدّمين لم يصل خلافه إلى المتتبّع ؛ لخروج قوله عن الكتب المصنّفة ، ينافي اهتمامهم في تتبّع الأقوال وضبطها حتّى الأقوال الشاذّة في المسائل النادرة.

فيتمكّن المجتهد بتتبّع أقوالهم ـ وإن كان بوجدان بعضها في كتب غير قائله ـ أن يظفر باتّفاقهم على حكم وإن لم يعثر على نقل إجماع منهم.

ومن الأصحاب من قصر إمكان الاطّلاع عليه بكلّ من النقل والتتبّع على العصر المقارب لظهور الأئمّة ؛ نظرا إلى إمكان حصول العلم حينئذ بأقوالهم بالتتبّع ؛ لقلّتهم ووجود فتاويهم فيه ؛ لأنّ كتب أصحاب الأئمّة كانت حينئذ موجودة ، وخصّص أمثال زماننا بإمكان الاطّلاع عليه من جهة النقل فقط ؛ لعدم إمكان حصول العلم بأقوالهم حينئذ بالتتبّع ؛ لكثرتهم وانتشار أقوالهم ، وعدم وجود مصنّف من كلّ منهم ، واضمحلال كتب أصحاب الأئمّة ، ولم يضبط أصحاب التصانيف أقوال جميعهم في كلّ حكم ، وإلاّ صارت بحيث لا تعدّ كثرة ، فلا يمكن الاطّلاع على جميعها بالتتبّع ولو باستعانة نقل الخلف عن السلف ؛ لأنّ غاية ما يمكن حينئذ الاطّلاع على مذاهب أرباب التصنيف ومعظمهم من المتأخّرين ، ويبقى مذاهب القدماء وأصحاب الأئمّة في حيّز الجهل.

فكلّ إجماع يدّعى من زمان انتشار الأقوال ، كزمان المفيد وما قاربه إلى زماننا هذا ، إمّا أن يكون مستندا إلى نقل متواتر أو آحاد ، أي يكون حدوث ادّعائه من الزمان السابق عليه ، أو لا ، أي يكون حدوث ادّعائه من عصر المفيد وما تأخّر عنه. والثاني ليس حجّة ؛ لما ذكر (١) ، والأوّل حجّة ؛ لاستناده إلى ادّعاء العصر السابق ؛ فإنّ نقلهم حجّة ؛ لتمكّنهم من

__________________

(١) أي لانتشار الأقوال وعدم الحصول على جميع الأقوال.

٣٥٢

الاطّلاع على الاتّفاق ؛ لقلّة المجمعين ووجود فتاويهم. فإذا اطّلع بعض من في عصر المعصوم ـ مثلا ـ بالتتبّع على اتّفاق الأصحاب على حكم ، فنقله يكون حجّة لمن تعقّبهم ، ونقلهم ـ إذا اطّلعوا عليه أيضا بالتتبّع ، أو من نقل من تقدّم ـ حجّة لمن بعدهم ، وهلمّ جرّا إلى زمان انتشار الأقوال ؛ فإنّ نقل أهله حينئذ حجّة لمن تعقّبهم إذا كان مستندا إلى نقل السابقين. وإذا كان مستندا إلى تتبّعهم ، لم يكن حجّة لمن بعدهم ؛ لعدم تمكّنهم من العلم بأقوال السابقين ، بل المعاصرين أيضا ؛ لكثرتهم وانتشار أقوالهم (١).

وفيه : ما عرفت من أنّ أرباب التصانيف بذلوا جهدهم في ضبط الأقوال ، ونقل كلّ متأخّر قول من تقدّمه ، فلم يخرج قول من ضبطهم ، فيتمكّن أهل كلّ عصر عن العلم بها ، وأصحاب الأئمّة لم يكن من عادتهم أن يصنّفوا كتبا يذكرون فيها فتاويهم ، بل دأبهم أنّ كلّ ما يسمعونه من المعصوم يسندونه إليه ، ولا يقتصرون على مجرّد الفتوى ، كما لا يخفى على المتتبّع لأقوالهم. وأكثر ما أسندوه نقله حفّاظ الأخبار ، كالمحمّدين الثلاثة ، فإن أمكن استنباط مذاهبهم من كتبهم يمكن استنباطها من كتب نقلة الحديث ، مع أنّهم ـ لشدّة اهتمامهم في ضبط الأقاويل ـ نقلوا ما اشتهر من فتاويهم ، ولذا نقل فتاوى جعفر والحسن ابني سماعة ، وعليّ بن أسباط ، وعليّ بن الحسين ، وابن حذيفة في باب الخلع من التهذيب (٢) ، وفتاوى الحسين بن سماعة ، وعليّ بن إبراهيم بن هاشم ، ومعاوية بن حكيم وغيرهم في باب عدّة النساء منه (٣) ، وفتوى جميل بن درّاج في باب المرتدّ والمرتدّة منه (٤) ، وفتاوى فضل بن شاذان (٥) ، ويونس بن عبد الرحمن في كتاب الميراث من الفقيه (٦). وقس عليها غيرها ممّا تطّلع عليه بعد التتبّع. وقد أكثر عنهم النقل في الكافي (٧).

__________________

(١) أشار إليه الشيخ حسن في معالم الدين : ١٧٥.

(٢) تهذيب الأحكام ٨ : ٩٧ ، ذيل الحديث ٣٢٨.

(٣) المصدر : ١٢٤ ، ذيل الحديث ٤٣١.

(٤) المصدر ١٠ : ١٣٧ ، ذيل الحديث ٥٤٤.

(٥) الفقيه ٤ : ٢٥٩ ، ذيل الحديث ٥٦٠٣ ، و ٢٨٦ ، ذيل الحديث ٥٦٥٠.

(٦) لم نعثر على فتاوى يونس بن عبد الرحمن في الفقيه ولكن روى أحاديث عن الأئمّة عليهم‌السلام وهي في الحقيقة فتاواه كما في الفقيه ٤ : ٢٣٠ ، ح ٥٥٤٤ و ٢٨٠ ، ح ٥٦٢٥.

(٧) الكافي ٦ : ٩٢ ـ ٩٦ ، باب الفرق بين من طلّق على غير السنّة وبين المطلّقة إذا خرجت وهي في عدّتها أو أخرجها زوجها.

٣٥٣

ولو سلّم أنّه لم يقع التصريح بخصوص قول كلّ واحد من السابقين ، نقول ـ كما قال بعض أهل التحقيق (١) ـ : إنّ أقوالهم لا تخرج عن أقوال اللاحقين ؛ لأنّ نقلة الأخبار وحفظة الآثار ـ على كثرتهم وانتشارهم في أقطار الأرض ـ لطول مساعيهم وتوفّر دواعيهم ، أخذوا العلم والرواية عن أصحاب الأئمّة ، ولحقهم آخرون وأخذوا عنهم ، وكذلك تعقّب الخلف السلف ، والآتي الماضي ، وهلمّ جرّا إلى زمن المشايخ المتأخّرين الذين دوّنوا الفقه ، وضبطوا الأقوال ، وميّزوا بين الخلاف والوفاق ، فلا يكون قول من أقوال المتقدّمين خارجا من قولهم وإن لم يقع التصريح به بخصوصه ، فالأقوال في كلّ حكم منحصرة بالأقوال المضبوطة في الكتب الموجودة عندنا الآن ، فإذا تفحّصنا فيها ووجدنا اتّفاق ما فيها من الأقوال على حكم ، علمنا اتّفاق جميع الأصحاب عليه وعدم مخالف له.

ومع قطع النظر عن ذلك كلّه نقول : هنا مقدّمة مسلّمة عند المحقّقين من أهل الكلام والاصول والميزان تسمّى بالقطعيّات العاديّة (٢) يستعملونها في المطالب العظيمة يثبت بها مطلوبنا ، وهي أنّه قد يمكن بنحو من التتبّع حصول الاطّلاع على اتّفاق جميع خواصّ طائفة على حكم وهو أن يتتبّع أحد أقوال بعض مشاهيرهم ، فوجدها متطابقة على حكم ، ولم يجد منهم مخالفا ، وانضمّ إليه بعض القرائن الدالّة على الاتّفاق ، فإنّه يجد من نفسه حينئذ العلم به وإن لم يحط بأقوال الكلّ خبرا ؛ لأنّ العادة تحكم بأنّه لو كان فيه مخالف ، لظهر منه أثر فيما بينهم ، فلو وجدنا بالتتبّع تطابق أقوال جماعة من مشاهير القدماء والمتأخّرين على حكم ، فيمكن أن يحصل لنا العلم بالاتّفاق عليه بالمقدّمة المذكورة وإن لم يتتبّع أقوال جميعهم.

ثمّ إنّه ليس المراد أنّه يمكن لكلّ مجتهد تحصيل العلم بالتتبّع بالوفاق في جميع الأحكام الوفاقيّة ؛ فإنّه محال عادة ، بل المراد إمكان ذلك في الجملة.

هذا ، مع أنّه لمّا كان العبرة عندنا في ثبوت الإجماع بدخول قول المعصوم ، فكلّ

__________________

(١) راجع معالم الدين : ١٧٥.

(٢) راجع : العدّة في أصول الفقه ١ : ١٣ ، والقواعد الجليّة : ٣٩٤ ، وشرح المواقف ١ : ٦٢.

٣٥٤

اتّفاق حصل منه العلم به يكون حجّة وإن لم يكن اتّفاق الكلّ ، بل وإن علم مخالفة البعض ، كما يأتي (١).

ولا يخفى أنّه على اعتبار النقل في زمان انتشر فيه الأقوال ، يلزم عدم العلم بشيء من الإجماعات.

بيان ذلك : أنّه لا ريب في انتشار الأقوال في عصر المفيد وما قاربه ، وفي أنّ ابتداء حدوث نقل الإجماع إنّما كان فيه ؛ لعدم نقل الإجماع على حكم ممّن تقدّمه إلاّ ممّن شذّ فيما شذّ ، وفي هذا العصر وبعده لا يمكن العلم بالإجماع ، لا بالتتبّع على ما هو الفرض ، ولا بالنقل ؛ لعدم ثبوته ممّن تقدّمهم ، مع أنّه إن وصل نقل إجماع ممّن تقدّمهم إلى طبقة منهم ، لا يمكن أن يفيد العلم أو الظنّ لهم وإن كان متواترا ؛ لأنّه يتوقّف على تتبّع أقوال المعاصرين ومن تقدّمهم من طبقاتهم ، وهو غير ممكن.

هذا ، واحتجّ من أنكر إمكان العلم به مطلقا (٢) بأنّه يتوقّف على المشافهة ، أو التواتر (٣) ، وهما متعذّران ؛ لانتشارهم شرقا وغربا ، مع احتمال خفاء بعضهم عمدا لئلاّ يتّفق أو يخالف ، أو كذبه في قوله : رأيي كذا ، أو رجوعه قبل قول الآخر به ، أو كونه في مطمورة (٤) لا يعرف له أثر إمّا لخموله ، أو أسره ، أو طول غيبته (٥).

والجواب : أنّه تشكيك في مقابلة الضرورة ؛ فإنّ اتّفاق كلّ أمّة على ضروريّات دينهم ، واجتماع كلّ فرقة على بديهيّات مذهبهم ممّا يعرفه خواصّهم وعوامّهم بالضرورة ، ولا ريب في أنّه لم يحصل (٦) من تفحّص أعيانهم وسماع أقوالهم منهم مشافهة ، بل حصوله من التسامع وتواتر الأخبار عليه كما سبق (٧). وكما يجوز ذلك في الضروريّات للخواصّ والعوامّ ، يجوز

__________________

(١) في ص ٣٥٧.

(٢) أي سواء كان المعلوم إجماعا محصّلا أو منقولا.

(٣) التواتر في المنقول والمشافهة في المحصّل.

(٤) المطمورة : حفرة يطمر فيها الطعام أي يخبأ. الصحاح ٢ : ٧٢٦ ، « ط م ر ».

(٥) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٤ : ٢٢ ، والآمدي عن أحمد بن حنبل في الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٥٦.

(٦) أي العلم بالاتّفاق.

(٧) تقدّم في ص ٣٤٩.

٣٥٥

في القطعيّات النظريّة للخواصّ فقط ، وأيّ استبعاد في حصول القطع في بعض الموارد للخواصّ ، أو بعضهم فقط بعد تجويز حصوله في بعضها لهم وللعوامّ أيضا؟. ولو صحّ المنع في الثاني ، لصحّ في الأوّل أيضا من دون فرق ، مع أنّ منكره كافر. ثمّ طريق حصول العلم للعوامّ منحصر بما ذكر ، وللخواصّ به وبالتتبّع ، كما تقدّم (١).

والإيراد عليه بأنّ العلم بالإجماع على الضروريّات والقطعيّات النظريّة ـ كتقديم القاطع على المظنون ـ وإن كان ممكن الحصول ؛ لأنّ حصوله ليس من جهة النقل والفحص ، بل من طريق العقل ؛ لأنّ حقيقة الحكم لمّا كانت ظاهرة للعقل يحكم بعدم مخالفة أحد من العقلاء ، والإجماع فيها لا يفيد شيئا ؛ لظهور الحكم عند العقل مع قطع النظر عنه ، ولذا يحكم به على ثبوت الإجماع دون العكس ، فهي لا تنتهض نقضا على الدليل المذكور ، ومحلّ البحث ما ليس للعقل سبيل إليه ، كأكثر المطالب الفقهيّة التي يستدلّ عليها بالإجماع ويحصل العلم بها منه ، ولا يمكن الاطّلاع على الإجماع عليها ؛ لما ذكر في الدليل (٢).

فساده ظاهر (٣) ؛ لأنّ أكثر الضروريّات ، كوجوب الصلاة والصوم وغيرهما لا سبيل للعقل إليها ، فلا يحكم بثبوتها فضلا عن الحكم بثبوت الإجماع عليها. وفيما له إليه سبيل لا يمكن له أيضا الحكم بالإجماع عليه ؛ لأنّ أكثر القطعيّات النظريّة التي يجزم بها العقل ممّا وقع فيه الخلاف ؛ فإنّ أجلى القطعيّات عندهم ثبوت الصور الذهنيّة ، وعدم جواز الترجيح بلا مرجّح ، وتخلّف (٤) المعلول عن العلّة التامّة ، مع أنّه خالف في كلّ منها جماعة كثيرة (٥). والعلم بالإجماع لا يتوقّف على تفحّص أشخاص المجمعين وسماع أقوالهم منهم مشافهة حتّى يرد ما ذكر في دليل الخصم ، بل الطريق إليه أحد الوجوه التي أشرنا إليها ، وهي تجري في القطعيّات (٦) وغيرها.

__________________

(١) تقدّم آنفا.

(٢) راجع شرح مختصر المنتهى ١ : ٢٤ و ٢٥.

(٣) جواب للإيراد.

(٤) عطف على « الترجيح ».

(٥) راجع : المعتمد ٢ : ٣١٥ ، وتهذيب الوصول : ٢٥٤ ، ونهاية السؤل ٤ : ٤٤٦.

(٦) في « ب » : « العقليّات ».

٣٥٦

فصل [٥]

مدرك حجّيّة الإجماع عندنا اشتماله على قول المعصوم عليه‌السلام ، فمجرّد العلم به لا يكفي عندنا في حجّيّته ، بل لا بدّ فيها من العلم بدخول قوله عليه‌السلام ، إلاّ أنّ أصحابنا ذكروا أنّ الأوّل ملزوم للثاني (١).

ولهم في بيان ذلك ثلاث طرق :

[ الطريق ] الأوّل (٢) : ما ذهب إليه جماعة منهم المرتضى رحمه‌الله (٣) ، وهو أنّه إذا علم اتّفاق جميع فقهاء الإسلام أو الشيعة على حكم ، علم دخول رئيسهم فيه وإن لم يتميّز شخصه ولا قوله. ويثبت ذلك من قياس واضح المقدّمات ، هو أنّ هذا الحكم ممّا أجمع عليه ـ مثلا ـ جميع خواصّ الدين أو المذهب ، وكلّ ما أجمع عليه جميع هؤلاء يكون رئيسهم من جملة المجمعين عليه ، فينتج المطلوب ؛ والصغرى ظاهرة بعد ما دريت من إمكان حصول القطع باتّفاق جميع خواصّ الدين أو المذهب على حكم ، والكبرى ضروريّة ؛ لبداهة اندراج المعصوم في جميع من يصدق عليهم لفظ « الخواصّ » وأمثاله.

وهذا الطريق يجري في كلّ إجماع كان في جملة المجمعين من يجهل أصله ونسبه ، وعلم عدم مخالف له أصلا ، أو عدم مخالف مجهول النسب ، ولا يضرّ مخالفة معلوم النسب ما لم تبلغ حدّا يقدح في العلم بعدم مخالفة مجهول النسب ؛ فإنّه إذا صار من خالف ممّن يعرف نسبه كثيرا ، شكّ في مخالفة مجهول النسب ، بل قد يظنّ أو يعلم ذلك ، فلا يقطع حينئذ بدخول المعصوم. ومنه يثبت استلزام مثل هذا الإجماع للاطّلاع على دخوله عليه‌السلام فيه كلّيا ، ويكون حجّة لكشفه عنه.

والقول بأنّه لا يكاد يتحقّق إجماع علم دخوله في جملة المجمعين ولم يتميّز شخصه ؛ لامتناع حصول مثله في زمان الغيبة وهو ظاهر ، وفي زمان الحضور أيضا ؛ لأنّ المعصوم فيه

__________________

(١) أي العلم بالإجماع علّة للعلم بدخول قوله عليه‌السلام.

(٢) هذا هو المعروف بالإجماع الدخولي.

(٣) الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ١٢٨ و ١٢٩ ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : ١٣٢ ، والشيخ حسن في معالم الدين : ١٧٣.

٣٥٧

كان ظاهرا يعرفه كلّ أحد ، وكان شخصه وقوله متميّزين ، فإذا صدر منه حكم فيه يكون الحجّة فيه ، ويكون الإجماع لغوا ؛ لأنّ حجّيّته وفائدته لكشفه عنه وهو حينئذ لظهوره في نفسه لا يحتاج إلى كاشف (١).

ضعيف ؛ لأنّه ليس المراد من دخول المعصوم في جملة المجمعين أن يكون شخصه داخلا في جملة أشخاصهم ، بل المراد منه أنّه يكون قوله موافقا لأقوالهم ، وحينئذ يمكن انعقاد مثل هذا الإجماع في زمان الغيبة والحضور مع وجود شاهد له من النصوص وبدونه.

أمّا في زمان الغيبة ، فبأن يظفروا فيه على نصّ فيجمعوا على مدلوله ، ويكون إجماعا مفيدا لمن بعدهم ، سواء فقد عنهم ما كان شاهدا له من النصّ ولم يصل إليهم ، أو عثروا عليه.

أمّا الأوّل : فظاهر ؛ لكشفه عن رأي المعصوم وانحصار الكاشف به.

وأمّا الثاني : فلكشفه عنه أيضا. ووجود النصّ لا يجعله لغوا ؛ لأنّ النصّ من حيث هو ليس حجّة ، بل حجّيّته أيضا لكشفه عن رأي المعصوم ، فهما متساويان في الدلالة على رأيه ، فاعتبار أحدهما وإلغاء الآخر تحكّم (٢). وكون النصّ كاشفا عنه بلا واسطة دون الإجماع لكشفه عنه بواسطته ، ممّا لا يصلح حجّة لتعيّن اعتبار الأوّل وإلغاء الثاني.

نعم ، يمكن العكس ؛ لتساويهما في الفائدة المذكورة مع زيادة فائدة في الإجماع ، وهو كونه قاطعا كما هو المفروض ، وجواز كون الإجماع قاطعا مع ظنّيّة مستنده ممّا لا ريب فيه ، بل هو واقع ؛ فإنّ كثيرا من الأحكام البديهيّة ممّا يحكم بكفر منكره وقتله مع أنّ مستنده إمّا الآية ، أو خبر الواحد ، وكلّ منهما ظنّي ، فالتكفير والقتل إنّما ترتّبا على الإجماع لا على مستنده. وربّما يكون الحكم قطعيّا مع أنّه لم يرد به شيء من آية ولا خبر ، كانفعال المياه المضافة والمائعات ، ونجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه. وربما دلّ العمومات مع ذلك على خلافه ، كمحرميّة أمّ الزوجة.

والحقّ أنّ ذلك (٣) لا يخرج النصّ عن كونه مفيدا ، بل له فائدة أيضا وإن كان الإجماع أولى

__________________

(١) راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول ٣ : ٢٥١ ـ ٢٥٢.

(٢) يفهم من هذا أنّ الإجماع المحتمل المدرك أو مقطوعه عنده قدس‌سره حجّة.

(٣) أي تقديم الإجماع على حكم على النصّ الموافق.

٣٥٨

بالاعتبار منه وكافيا في الحجّيّة ؛ لأنّ تكثير الأدلّة من الفوائد المهمّة وإن كان واحد منها قاطعا ؛ فإنّ للقطع مراتب كما سبق.

ثمّ النصّ الذي ينعقد الإجماع على مدلوله في زمان الغيبة لا يلزم أن يكون من إمام عصرهم ؛ لأنّ انعقاد الإجماع في زمان الغيبة غير موقوف على دخول خصوص قول إمام العصر في أقوالهم ، بل يصحّ انعقاده على طبق قول غيره من الأئمّة ؛ لأنّ قول كلّ منهم حجّة حيّا وميّتا.

وأمّا في زمان الحضور ، فبأن يسمعوا منه حكما مشافهة أو بواسطة النقل فيجمعوا عليه ، ويكون حجّة مفيدة لمن يعقبهم على التقديرين ، كما سبق (١). ويزيد هنا (٢) على سابقه بإمكان اطّلاعهم على رأيه في حكم شرعي من غير أن يصرّح به وينقل لهم خبر خاصّ عنه ؛ لأنّه يمكن حصول العلم لخواصّ رئيس برأيه وإن لم يصرّح به ، ولم ينقل عنه نصّ بخصوصه ، ويمكن حصوله لغيرهم أيضا من تتبّع أفعالهم وأقوالهم ، فإنّ الضرورة قاضية بأنّ كثيرا ما يقع في الوجود أن يعلم أو يظنّ أنّ رجلا معتقده وطريقته كذا من غير أن ينقل عنه خبر خاصّ فيه. ومنه علمنا بوجوب المسح على الرجلين ؛ فإذا أجمعوا حينئذ على ما اطّلعوا عليه من رأيه ، فلا ريب في كون إجماعهم هذا مفيدا ؛ لانحصار الكاشف عن رأيه به.

واعلم أنّه ـ على ما ذكر (٣) ـ لا كلام في استلزام كلّ إجماع قطعي علم عدم مخالف له أصلا ، أو عدم مخالف مجهول النسب له ؛ للعلم بدخول قوله عليه‌السلام ، ولا يتخلّف ذلك عن صورة منه ، فثبت الاستلزام الكلّي.

نعم ، يختلف الملزوم بالنسبة إلى الأشخاص ، فربّ إجماع قطع بعضهم بعدم مخالف له ولم يقطع به آخر ، فعند الأوّل يحصل العلم بدخول قوله ، وعند الثاني لا يحصل به. وهذا لا ينافي الاستلزام الكلّي ؛ لأنّه على (٤) تقدير تحقّق الملزوم ، وهو أن يعلم اتّفاق جميع العلماء بحيث لم يخالف منهم أحد ، أو خالف معروف النسب مع وجود مجهول النسب فيهم ،

__________________

(١) أي تقديري عثور من بعدهم عليه وعدمه ، كما سبق في ص ٣٥٨.

(٢) أي زمان الحضور.

(٣) في ص ٣٥٧.

(٤) الظرف خبر « أنّ » والضمير راجع إلى الاستلزام.

٣٥٩

سواء تعارضت فيما اتّفقوا عليه أدلّة أخر أو لا ، وسواء وجد له شاهد أو معارض منها أو لا.

ثمّ إنّك قد عرفت فيما سبق (١) اختلاف مراتب الإجماعات في العلم بها ، فمنها : قطعيّ بديهيّ ، ومنها : قطعيّ نظريّ ، ومنها : ظنّيّ ؛ فيتبعها العلم بدخول قوله أيضا في ذلك ، ويختلف مراتبها فيه أيضا. ففي الأوّل يكون العلم بدخول قوله بديهيّا ، وفي الثاني قطعيّا نظريّا ، وهكذا.

[ الطريق ] الثاني : ما ذهب إليه معظم المحقّقين (٢) ، وهو أنّه إذا علم اتّفاق جمع من الفقهاء على حكم علم أنّهم أخذوه من قدوتهم ؛ لأنّه يمتنع عادة اتّفاق طائفة من خواصّ رئيس على حكم من غير أن يصدر عنه ، سواء كانوا جميع خواصّه أو بعضهم ، بعد أن علم أنّهم لا يرون الحجّة إلاّ في قوله ، ولا يقولون إلاّ عن رأيه.

وهذا يجري فيما يجري فيه الطريق الأوّل ، وفي غيره ممّا شكّ فيه في وجود مخالف مجهول النسب له ، بل فيما ظنّ أو علم له ذلك أيضا ، إلاّ أنّ هذا ليس كلّيّا بحيث كلّما علم اتّفاق جمع حصل منه العلم بدخول قوله عليه‌السلام ، بل يختلف ذلك باختلافهم في الفتوى والورع ، فربّما حصل من اتّفاق ثلاثة أو اثنين ، وربّما لم يحصل من اتّفاق خمسين ، ويختلف ذلك بالنسبة إلى العاملين أيضا.

فالمناط على هذا الطريق اتّفاق يعلم أنّ المتّفقين لا يجزمون بحكم من غير أخذه عن قدوتهم ، ولذا لا يقدح فيه مخالفة معروف النسب ومجهوله ، ولا يشترط وجود مجهول النسب فيهم.

ويمكن انعقاد مثله في زمان الحضور ؛ لأنّه إذا اتّفق فضلاء أصحاب الصادق عليه‌السلام ـ مثلا ـ على حكم يمكن حصول العلم لبعض بأنّهم أخذوه منه عليه‌السلام وإن خالفهم بعض ، وفي زمان الغيبة أيضا ؛ لأنّه إذا أجمع جماعة من متقدّمي أصحابنا ومتأخّريهم على حكم مع تطابق أقوالهم على أنّ الإجماع من حيث هو ليس حجّة ، بل حجّيّته لكشفه عن الحجّة ـ كما

__________________

(١) في ص ٣٤٩.

(٢) منهم : الشيخ في العدّة في أصول الفقه ٢ : ٦٠٢ ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : ١٢٦ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢١١.

٣٦٠