أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

والأوّل : لا يجوز تعليله بها ، إن اعتبر في محلّ واحد ؛ لامتناع اجتماع الأمثال فيه ، ويجوز إن اعتبر في محالّ متعدّدة ، كتعليل قصاص زيد وعمرو بقتل واحد صدر عنهما.

والثاني : يجوز تعليله بها مطلقا ؛ لأنّ إيجاب علّة واحدة للأحكام المتضادّة لا يمكن أن لا يتوقّف على شروط أصلا ، أو يتوقّف على شروط ممكنة الاجتماع ؛ لأنّه يؤدّي إلى اجتماع النقيضين إن اقتضتها حينئذ جميعا ، أو التحكّم إن اقتضت واحدا منها ، أو بطلان العلّيّة إن لم تقتض شيئا منها ، فهو يتوقّف على شروط ممتنعة الاجتماع ، فيجوز أن تقتضي مع كلّ شرط حكما يضادّ حكما آخر نقيضه مع شرط آخر ، كاقتضاء الجسميّة للحركة عند الخروج عن الحيّز ، وللسكون عند الحصول فيه. ومثاله من الأحكام الشرعيّة الكذب ؛ فإنّه يصير بشرط سببا لوجوبه ، وبشرط آخر سببا لحرمته.

والثالث كالثاني ، سواء كانت العلّة بمعنى الأمارة ، كتعليل جواز الإفطار ووجوب المغرب بالغروب. أو بمعنى الباعث ، كتعليل حرمة الصلاة والصوم ومسّ المصحف بالحيض.

لنا : لا بعد في مناسبة وصف واحد لحكمين ، إمّا بتسميتين متماثلتين إذا كانا متماثلين كما في الأوّل ؛ فإنّ القتل فيه منتسب إلى زيد وعمرو من حيث الصدور. أو بجهتين متضادّتين إذا كانا متضادّين ، كما في الثاني (١) ، أو بحيثيّتين مختلفتين إذا كانا مختلفين ، كالسرقة تناسب القطع ؛ تحصيلا لمصلحة الزجر ، والتغريم ؛ تحصيلا لمصلحة جبر بعض المال. أو بجهة واحدة لا تحصل إلاّ بهما ، كالزنى الموجب للجلد والتغريب ؛ تحصيلا للزجر التامّ الذي لا يحصل إلاّ بهما.

احتجّ الخصم بوجهين :

أحدهما : أنّ الوصف الواحد لا يناسب الحكمين بجهة واحدة ؛ لامتناع مناسبة الواحد من حيث هو للمتغايرين ، فيناسبهما بجهتين ، فيتعدّد العلّة (٢).

وجوابه ما تقدّم (٣).

__________________

(١) وهو اقتضاء الجسميّة للحركة والسكون ، والحكمان ـ وهما الحركة والسكون ـ ضدّان.

(٢) قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٢٩٩ و ٣٠٠ ، والأسنوي في المصدر.

(٣) آنفا في ذيل قوله : « لنا لا بعد ... ».

٥٢١

وثانيهما : أنّ معنى مناسبة الوصف للحكم أنّ مصلحة (١) حاصلة عند الحكم ، والحكم الواحد يحصّل المصلحة المقصودة منه ، فإذا حصل الحكم الثاني فإن حصّلها مرّة اخرى ، لزم تحصيل الحاصل ، وإلاّ لزم كونه عبثا (٢).

وجوابه قد ظهر من تقرّر (٣) الدليل.

وكيفيّة التفريع : أنّه إذا حلف أن يفعل ما يحرّمه الحيض ، يجب عليه الصوم والصلاة ومسّ المصحف وغيرها ممّا يحرم على الحائض ، وعلى القول بعدم جواز تعليل الأحكام بعلّة واحدة لم يلزم وجوب الجميع.

ثمّ لا فرق فيه بين العلّة المنصوصة والمستنبطة على فرض صحّتها ؛ لجريان دليل الصحّة فيهما ، فلمن يعمل بها أن يعلّل أحكاما بواحدة منها ، كأن يعلّل كراهة استقبال الريح عند البول ، والجلوس جنب من يبول مستقبلا له ، والمرور تحت ميزاب يترشّح منه البول بإمكان إصابته بالثوب أو البدن.

[ المبطل ] الثالث (٤) : الكسر وهو نقض يرد على الحكمة ؛ فإنّ العلّة إذا لم تكن حكمة بل مظنّتها (٥) ، فشرط قوم أن يكون حكمتها مطّردة ـ أي كلّما وجدت وجد الحكم ـ فوجودها بدون العلّة والحكم سمّوه كسرا ، وقالوا : إنّه يبطل العلّيّة.

مثاله : أن يقول الحنفي في المسافر العاصي بسفره : مسافر مترخّص في سفره كغير العاصي ، وبيّن مناسبة السفر للرخصة بما فيه من المشقّة (٦) ، فيعترض عليه بأنّ ما ذكرته من الحكمة ـ وهي المشقّة ـ منتقضة ؛ لوجودها في الصنائع الشاقّة في الحضر مع عدم الحكم (٧) ، أي الترخّص.

__________________

(١) في « أ » : « مصلحته ».

(٢) قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٢٩٩ و ٣٠٠ ، والأسنوي في نهاية السؤل.

(٣) كذا في النسختين. والأولى « تقرير ».

(٤) أي للعلّيّة. مرّ الأوّل في ٥٠٦ ، والثاني في ٥١٢.

(٥) والمراد بالمظنّة ـ كما يأتي ـ هو موضوع الحكمة كالسفر ، فإنّه مظنّة المشقّة ، وهي الحكمة لقصر الصلاة. وقد يراد من علّة الحكمة موضوعها.

(٦ و ٧) قالهما الغزالي في المستصفى : ٣١٥ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٥٢ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٤٥ و ١٤٦.

٥٢٢

ثمّ الكسر إمّا أن يكون لتخصيص ، أو مانع ، أو انتفاء شرط ، أو بدون شيء منها.

فعلى الأوّل لا يقدح في العلّيّة ، كما في النقض. والتخصيص هنا إنّما يتصوّر في الحكمة المنصوصة ، سواء كانت العلّة أيضا منصوصة أو لا ـ لو أمكن وجود حكمة منصوصة كانت مظنّتها مستنبطة ـ بأن ينصّ الشرع على كون ما هو الحكمة للحكم حكمة له ، فثبت كونه حكمة له بظاهر عامّ في محلّ الكسر وغيره ، ويكون دلالتها على وجود الحكم في محالّها ، كدلالة اللفظ العامّ على أفراده ، فيجوز تخصيصه بغير محلّ الكسر.

وأمّا إذا لم يكن الحكمة منصوصة ـ وإن كانت العلّة منصوصة ـ فلا معنى لكونها عامّة حتّى يجوز تخصيصها ، بل يجوز تخلّف الحكم عن الحكمة حينئذ لمانع أو انتفاء شرط ، فهما في الحكمة المستنبطة ، كما في النقض.

وعلى هذا يجوز أن يكون الكسر في حكمة لوجود المانع أو انتفاء الشرط ، والنقض في مظنّتها للتخصيص إذا كانت الحكمة مستنبطة والعلّة منصوصة ، وبالعكس إذا جاز العكس ، وأن يكونا (١) معا للتخصيص إذا كانتا (٢) منصوصتين ، وللمانع أو انتفاء الشرط إذا كانتا مستنبطتين.

ثمّ ما تقدّم في النقض (٣) ـ من أنّ التخصيص لا ينفكّ في الواقع عن وجود مانع أي معارض وإن لم نعلمه بعينه فيقدّر ـ يأتي هنا أيضا.

وعلى الثاني (٤) فقيل : يقدح مطلقا (٥). وقيل : لا يقدح مطلقا (٦).

والحقّ أنّه لا يقدح إن كان قدر الحكمة في محلّ النقض أقلّ من قدرها في محلّ التعليل ، كما إذا اعترض على التعليل في المثال المذكور بصنعة الحياكة في الحضر بأنّ ما ذكرته من الحكمة ـ وهي المشقّة ـ موجودة فيها مع عدم جواز الحكم وهو

__________________

(١) أي الكسر والنقض أي المبطل الأوّل والثالث.

(٢) أي الحكمة والعلّة أو المظنّة فإنّ المراد من العلّة والمظنّة هو معروض الحكمة وموضوعها كالسفر والرمّان.

(٣) تقدّم في ص ٥٠٦.

(٤) أي الكسر وعدم الحكم بدون ما ذكر من التخصيص والمانع وانتفاء الشرط.

(٥) قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٩.

(٦) قاله الأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٥٢ و ٢٠٧.

٥٢٣

الترخيص للحائك ؛ فإنّ البداهة حاكمة بأنّ قدر المشقّة في الحياكة في الحضر أقلّ من قدر المشقّة في السفر.

وكذا لا يقدح إن ثبت في محلّ النقض حكم آخر أولى وأليق بتحصيل تلك الحكمة ، كما لو قال المعلّل : إنّما قطع اليد باليد للزجر ، فيعترض عليه بأنّ حكمة الزجر منتقضة ؛ لأنّ مقصود الزجر عن القتل العمد العدوان أزيد ، ولم يشرع فيه الحكم ، أي القطع.

فيجيب بأنّ الحكمة المقصودة وإن كانت في محلّ النقض أزيد ، لكن ثبت فيه حكم آخر أولى بالحكمة وأليق بتحصيلها وهو القتل ؛ فإنّه أشدّ زجرا من القطع ؛ لأنّه يحصل به القطع ، وهو إبطال اليد وزيادة ، أي إبطال ما عداها ، فيحصل فيه رعاية أصل الحكمة وزيادة ، فلا يلزم عدم اعتبارها.

ويقدح إن كان قدرها فيه مساويا لقدرها في محلّ التعليل أو أزيد منه ، ولم يثبت فيه حكم هو أولى بالحكمة.

لنا : أنّ المفروض الحكمة الخفيّة ، أو غير المنضبطة التي يعسر ضبطها لاختلاف مراتبها بوجوه شتّى ، ولم يكن كلّ قدر منها موجبا للحكم ، ولم يمكن تعيين القدر المعتبر منها ، فضبطها الشرع ؛ نظرا إلى إعادته من ردّ الناس إلى المظانّ الواضحة بوصف ضابط لها ، وجعله أمارة لها ؛ لاشتماله على القدر المعتبر منها الذي هو مناط الحكم ، فهو ليس باعثا حقيقيّا بشرع الحكم ، بل الباعث له بالذات هو قدر الحكمة الذي هو ضبطه ، فإن وجد هذا القدر أو أزيد منه في محلّ النقض [ و ] (١) لم يثبت فيه حكم أولى به من الحكم الثابت فيما يراد نقضه ، قدح في العلّيّة ؛ لأنّ الحكمة لو لم تعتبر لوجودها بدون الحكم ، فكيف يعتبر ما هو وسيلتها؟ فإنّه لو لم يعتبر المتبوع المقصود بالذات ، فالتابع المقصود بالعرض أولى بذلك.

وأمّا إذا لم يوجد هذا القدر فيه ، بل وجد فيه قدر أقلّ ، فلا يقدح في العلّيّة ؛ لأنّ عدم اعتبار الأضعف لا يوجب عدم اعتبار الأقوى الذي هو مناط الحكم. وكذا لا يقدح لو ثبت

__________________

(١) أضفناه للضرورة.

٥٢٤

في محلّ النقض حكم أولى بالحكمة وإن وجد فيه القدر المناط أو أزيد ؛ لما ذكر.

وبما ذكر ظهر أنّ مساواة الفرع للأصل في الحكم وصحّة قياسه عليه ، تتوقّف على مساواته له في الحكمة ؛ إذ لا يلزم من الأقلّ ؛ لأنّه قد لا يعتبر ، ومن الأكثر ؛ إذ قد لا يحصل بذلك الحكم ، بل يفتقر حصوله إلى حكم آخر فوقه.

فإن قلت : إذا شكّ في المساواة والزيادة والنقصان ولم يعلم واحد منها بعينه ، فهل يقدح في العلّيّة؟

قلنا : الحقّ لا ؛ لأنّ وجود العلّة في الأصل قطعيّ ، ومساواة قدر الحكمة في محلّ النقض لقدرها في محلّ التعليل أو زيادته عليه مشكوكة ، والشكّ لا يعارض القطع. فإن رجّح قول المعترض بمعاضدته لأصالة عدم الحكم ، رجّح قول المعلّل بموافقته لما ظهر من دليل العلّة من المناسبة والاعتبار ، فيتعارضان ، ويبقى ما ذكر أوّلا سالما عن المعارض.

ثمّ نظر من قال إنّه يقدح مطلقا إلى أنّ المناط والباعث هو الحكمة ، فإذا انتقضت بطلت العلّيّة (١). وذهل عن احتمال كون قدرها في محلّ النقض أقلّ ، أو وجود حكم فيه هو أولى بتحصيل تلك الحكمة.

ونظر من قال إنّه لا يقدح مطلقا إلى أنّ الشرع لمّا ضبطها بوصف منضبط في نفسه ، ضابط لها (٢) ، فكأنّه أعرض عنها وجعله المناط والعلّة ، فإذا لم يرد عليه نقض ، لم يبطل العلّيّة وإن انتقضت الحكمة ؛ لأنّها ليست بعلّة.

وغفل عمّا ذكرنا من أنّه الوسيلة ، والمقصود بالعرض والباعث الحقيقي هو الحكمة ، فإذا انتقضت ، بطلت العلّيّة. هذا.

وبما ذكرناه ظهر أنّ جواب الكسر إمّا منع وجود القدر المناط من الحكمة ، وهو الموجود في الأصل والفرع في محلّ النقض ، أو بيان إمكان ثبوت حكم فيه هو أولى بالحكمة ، أو أحد الأجوبة المذكورة في النقض. والكلام عليها هنا خلافا ، وسؤالا ، وجوابا ، واختيارا كالكلام عليها هناك من دون فرق.

__________________

(١) الناظر هو العلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٦٠.

(٢) هو الأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٥٢ ـ ١٥٤.

٥٢٥

تنبيه

اعلم أنّه إذا ثبت حكم بحكمة ومظنّتها ، فالمتصوّر من الاطّراد والانعكاس ثلاثة :

الأوّل : اطّراد المظنّة ـ أي العلّة ـ وانعكاسها بالنسبة إلى الحكم ، وقد تقدّم (١).

الثاني : اطّراد الحكمة وانعكاسها بالنسبة إليه ، وقد تقدّم بيان اطّرادها (٢). وأمّا انعكاسها ـ أي كونها بحيث كلّما عدمت عدم الحكم ـ وإن لم يستبق بيانه صريحا ، إلاّ أنّه ظهر ممّا تقدّم (٣) تلويحا عدم اشتراطه في صحّة العلّيّة ، وعدم قدح عدمه ـ وهو ثبوت الحكم في محلّ بدونها ـ فيها ؛ لأنّ الباعث الحقيقي للحكم إمّا هي ، أو مظنّتها.

وعلى التقديرين لا يقدح.

أمّا على الأوّل ، فلما عرفت من جواز تعليل حكم واحد بعلّتين ، أو أكثر.

وأمّا على الثاني ، فلعدم مدخليّتها في الحكم حينئذ حتّى يعتبر انعكاسها.

الثالث : اطّراد المظنّة وانعكاسها بالنسبة إلى الحكمة ، أي كلّما وجدت المظنّة وجدت الحكمة ، وكلّما عدمت عدمت. فعدم اطّرادها بالنسبة إليها أن يثبت المظنّة في محلّ بدون الحكمة ، كسفر الملك المرفّة ؛ حيث لم يوجد فيه الحكمة وهي المشقّة ووجدت مظنّتها وهو السفر. وعدم انعكاسها بالنسبة إليها أن يثبت الحكمة في محلّ بدونها ، كحضر اولي الصنائع الشاقّة ؛ حيث وجدت فيه المشقّة بدون السفر. وكلّ من هذا الطرد والعكس بتداخل أحد الأقسام المتقدّمة (٤).

فالتصريح بأنّ عدمها هل يبطل العلّيّة أم لا؟ وإن لم يسبق ، إلاّ أنّه علم حكمه ضمنا.

بيانه : أنّ المراد من عدم اطّرادها هنا إن كان عدم اطّرادها بالنسبة إلى الحكمة فقط دون الحكم ـ أي وجودها مع الحكم بدون الحكمة ـ فهو عدم العكس الثاني ، أي المقابل للكسر ؛ لأنّ المراد منه وجود الحكم بدون الحكمة ، سواء تحقّق معه وجود العلّة أم لا.

__________________

(١ و ٢) تقدّما في ص ٥٢٢.

(٣) تقدّم في ص ٥٢٣.

(٤) أي أقسام الكسر المتقدّمة في ٥٢٥.

٥٢٦

وإن كان المراد منه عدم اطّرادها بالنسبة إليهما ـ أي وجودها بدونهما ـ فهو النقض ؛ لأنّ المراد منه وجود العلّة بدون الحكم ، سواء وجد معه عدم الحكمة أيضا أم لا.

والمراد من عدم انعكاسها هنا إن كان عدم انعكاسها بالنسبة إلى الحكمة فقط ـ أي وجود الحكمة مع الحكم بدون العلّة ـ فهو عدم العكس الأوّل ، أي المقابل للنقض ؛ لأنّ المراد منه وجود الحكم بدون العلّة ، سواء تحقّق معه وجود الحكمة أيضا أم لا.

وإن كان المراد منه عدم انعكاسها بالنسبة إليهما ـ أي وجود الحكمة بدون العلّة والحكم ـ فهو الكسر ؛ لأنّ المراد منه وجود الحكمة بدون الحكم ، سواء وجد معه عدم العلّة أيضا أم لا.

تذنيب

قيل : وممّا يبطل العلّيّة النقض المكسور ، وهو نقض بعض الأوصاف (١) ، سمّي به ؛ لأنّه بين النقض والكسر ، فكأنّ المعترض قال : الحكمة تحصل بهذا البعض وقد وجد في المحلّ بدون الحكم ، فهو نقض لما ادّعاه علّة باعتبار الحكمة.

مثاله : إذا قيل : صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها ، فيجب أداؤها كصلاة الأمن ، فيعترض عليه بأنّه منقوض بصوم الحائض ، فإنّ بعض صفات الصلاة ـ وهو كونها عبادة ـ موجود فيه ولم يوجد معه الحكم.

مثال آخر : ما يقال في بيع الغائب : مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد فلا يصحّ بيعه ، كما لو قال : بعتك عبدا ، فيقول المعترض : ينتقض بما لو تزوّج بامرأة لم يرها.

والحقّ أنّ مجرّد نقض بعض الأوصاف لا يبطل العلّيّة ؛ إذ العلّة هو المجموع ، ولا نقض عليه ؛ إذ عدم علّيّة الجزء لا يوجب عدم علّيّة الكلّ.

نعم ، إن بيّن عدم تأثير أحد الجزءين بكونه وصفا طرديّا ونقض الآخر ، بطلت العلّيّة ؛ لورود النقض حينئذ على ما هو العلّة ، كما إذا قيل : خصوصيّة الصلاة ملغاة ؛ لأنّ الحجّ

__________________

(١) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٥٥ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٦٠ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٢٠٤ و ٢٠٥.

٥٢٧

كذلك ، فبقي كونها عبادة ، وهو منقوض بصوم الحائض. هذا.

واعلم أنّ ما ذكرناه ـ من تفسير الكسر والنقض المكسور ـ هو ما استقرّ عليه آراء جماعة من المحقّقين (١) ، والأكثرون لم يفرّقوا بينهما ، بل فسّروا الكسر بما فسّرنا به النقض المكسور (٢).

واعلم أنّ المناسب لما ذكرناه أن نسمّي نقض بعض الحكم بالكسر المنقوض ؛ لأنّه بين الكسر والنقض ، فكأنّ المعترض قال : إنّ الحكمة الباعثة لعلّيّة العلّة هو هذا البعض ، وقد وجد في المحلّ بدون الحكم ، فهو كسر لما ادّعاه حكمة من حيث كونها باعثة لعلّيّة العلّة.

وحكمه ظاهر ممّا تقدّم (٣).

[ المبطل ] الرابع (٤) : عدم التأثير ، وهو أن يبقى الحكم بعد الوصف ، أي لا يكون له تأثير في إثبات الحكم. وقد قسّم أربعة أقسام :

[ القسم ] الأوّل : ما يظهر عدم تأثيره مطلقا. ويسمّى عدم التأثير في الوصف ، كما إذا قيل : الصبح لا يقصر ، فلا يقدّم أذانه كالمغرب ، فيقال : عدم القصر لا يؤثّر في عدم تقديم الأذان ، ولذا لا فرق في ذلك بين المغرب وغيره ممّا يقصر ، فهو وصف طرديّ لا مناسبة فيه ولا شبه ، فلا نعتبره. وحاصله مطالبة كون الوصف علّة ، أو إثبات عدم علّيّته.

[ القسم ] الثاني : أن يظهر عدم تأثيره في ذلك الأصل ؛ للاستغناء عنه بوصف آخر. ويسمّى عدم التأثير في الأصل ، كما إذا قيل في بيع الغائب : مبيع غير مرئيّ فلا يصحّ بيعه ، كالسمك في الماء والطير في الهواء ، فيقال : كونه غير مرئيّ وإن ناسب نفي الصحّة إلاّ أنّه لا يؤثّر في نفي صحّة بيع السمك والطير ؛ لأنّ عدم القدرة على التسليم فيهما كاف في منع الصحّة ؛ لعدم الفرق بين المرئيّ وغير المرئيّ فيهما. ومرجعه إلى المعارضة في العلّة بإبداء ما يحتمل أن يكون هي العلّة ، أو إثبات أنّ العلّة ذلك الغير.

[ القسم ] الثالث : أن يظهر عدم تأثير قيد منه ، بأن يتحقّق في الأوصاف وصف لا يكون

__________________

(١) راجع : الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٥٥ و ٢٥٦ ، وتهذيب الوصول : ٢٦٠ ، ونهاية السؤل ٤ : ٢٠٦.

(٢) راجع : إحكام الفصول : ٥٩٣ ، والإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٩٦.

(٣) تقدّم آنفا.

(٤) المبطل الأوّل هو النقض ، والثاني هو عدم العكس ، والثالث هو الكسر.

٥٢٨

مؤثّرا في الحكم المعلّل. ويسمّى عدم التأثير في الحكم ، كما إذا قيل في المرتدّ إذا أتلف مالنا في دار الحرب : مشرك أتلف مالنا في دار الحرب فلا ضمان عليه كالحربيّ ، فيقال : دار الحرب وصف طرديّ لا تأثير له ؛ ضرورة استواء الدارين في إيجاب الإتلاف فيهما للضمان. ومرجعه إلى مطالبة كون القيد مؤثّرا ، أو إثبات عدم تأثيره ، فهو كالأوّل.

[ القسم ] الرابع : أن لا يطّرد في جميع صور النزاع وإن كان مناسبا ، فلا يطّرد في محلّ النزاع ، فيظهر عدم تأثيره فيه. ويسمّى عدم التأثير في الفرع ، كما إذا قيل في تزويج المرأة نفسها : زوّجت نفسها بدون إذن وليّها من غير كفء فلا يصحّ ، كما لو تزوّجت من غير كفء ، فيقال : التزويج من غير كفء وإن كان مناسبا لعدم الصحّة إلاّ أنّه لا يطّرد في جميع صور النزاع ؛ لأنّ النزاع وقع في تزويجها نفسها من كفء وغيره ، وحكمهما سواء ، فلا تأثير له في محلّ النزاع. وحاصله المعارضة في العلّة بإبداء وصف آخر وهو مجرّد التزويج ، فهو كالثاني ، أو مطالبة تأثير القيد وهو عدم الكفاءة فكالثالث.

واعلم أنّه على ما ذكر من رجوع الثالث إلى الأوّل ، والرابع إلى الثاني أو الثالث ، يبقى النظر في الأوّل والثاني في قبولهما وإبطالهما للعلّيّة ، وردّهما وعدم إبطالهما لها.

فنقول : مرجع الأوّل إن كان إلى سؤال المطالبة ـ أي منع كون العلّة علّة ـ فهو هو حقيقة وحكما وجوابا وسيجيء (١) ، فليس هو سؤالا برأسه.

وإن كان إلى إثبات عدم علّيّة ما ادّعي علّيّته ، فيقبل لو كان دليله قاطعا أو صالحا له.

وللمعلّل مع عدم كونه قاطعا منعه.

ومرجع الثاني إن كان إلى إبداء ما يوجب احتمال علّيّة الغير ، فهو المعارضة في الأصل بإبداء علّة اخرى ، وسيأتي (٢) ، فليس هو سؤالا برأسه.

وإن كان [ إلى ] إبداء ما يوجب الجزم بعلّيّة الغير ، فلا يبطل العلّيّة ؛ لوجود (٣) تعليل حكم واحد بعلّتين ، ويبطلها لو لم يجوّز ذلك. وقد عرفت الحقّ فيه (٤).

__________________

(١) يأتي في ص ٥٦٠ وبعدها.

(٢) يأتي في ص ٥٦٠ وبعدها.

(٣) كذا. والصحيح : « لتجويز ».

(٤) راجع ص ٥١٧ ـ ٥١٨.

٥٢٩

[ المبطل ] الخامس : القلب ، وهو تعليق خلاف الحكم المدّعى في الفرع ـ الذي هو مذهب المستدلّ ـ على علّته ؛ إلحاقا بأصله. وهذا هو قلب العلّة. وهو إمّا قلب لتصحيح المعترض مذهبه ، فيلزم منه بطلان مذهب المعلّل ؛ لتنافيهما. أو قلب لإبطال مذهب المستدلّ صريحا. أو قلب لإبطال مذهبه إلزاما (١).

مثال الأوّل : كما لو قيل : الاعتكاف يشترط فيه الصوم ؛ لأنّه لبث مخصوص ، فلا يكون بمجرّده قربة كالوقوف بعرفة ، فيقول المعترض : لبث مخصوص ، فلا يشترط فيه الصوم ، كالوقوف بعرفة ، فكلّ من القائس والقالب يعرض في دليله لتصحيح مذهبه ، فالقائس أشار بعلّته ـ وهي كونه لبثا مخصوصا ليس بمجرّده قربة ـ إلى اشتراط الصوم في الفرع ، والقالب أشار بتلك العلّة إلى عدم اشتراطه فيه.

فإن قيل : إن كان الحكمان هنا اشتراط الصوم وعدم اشتراطه ـ وهما متناقضان بالذات ـ فلا يجتمعان لا في الأصل ولا في الفرع ، مع أنّ اللازم من تعريف القلب لزوم اجتماعهما في الأصل دون الفرع.

قلنا : إنّ الأمر وإن كان كذلك ، إلاّ أنّ القائس أخذ مكان اشتراط الصوم عدم كونه قربة وجعله جزء العلّة ، وأشار به إلى الحكم الذي هو مذهبه إلزاما (٢) ـ أي اشتراط الصوم ـ نظرا إلى أنّ الاعتكاف لو لم يكن قربة اشترط فيه الصوم ، فكان الحكمان هنا عدم كونه قربة وعدم اشتراط الصوم ، وهما مجتمعان في الأصل ـ أي الوقوف بعرفة ـ متنافيان في الفرع ؛ للإجماع على أنّ الاعتكاف لو لم يكن بنفسه قربة ، كان مشروطا بالصوم.

والمثال الذي وقع فيه التصريح من كلّ منهما لتصحيح مذهبه ، والحكمان فيه مجتمعان في الأصل دون الفرع : ما يقال : طهارة الخبث طهارة تراد للصلاة ، فيجب بالماء ، كطهارة الحدث ، فيقول المعترض : فيجب بغير الماء ، كطهارة الحدث ، فإنّ الوجوب بالماء والوجوب بغيره يجتمعان في طهارة الحدث ، ويتنافيان في طهارة الخبث.

ومثال الثاني : ما يقول الحنفي في مسألة أنّ مسح الرأس يقدّر بالربع : ركن من أركان

__________________

(١ و ٢) في « ب » : « التزاما ».

٥٣٠

الوضوء ، فلا يكفي أقلّ ما يطلق عليه الاسم ، فيقول الشافعي : إنّه ركن ، فلا يتقدّر بالربع كالوجه (١). والحكمان ـ أي عدم كفاية أقلّه وعدم التقدّر بالربع ـ لا يتنافيان لذاتيهما ؛ لاجتماعهما في الأصل ، وهو الوجه ، لكنّهما يتنافيان في الفرع ؛ لاتّفاق المعلّل والقالب على نفي غيرهما من الأقسام ، فكلّ منهما يعرض في دليله لإبطال مذهب الخصم صريحا.

ومثال الثالث ما يقال في بيع الغائب : عقد معاوضة فيصحّ مع الجهل بأحد العوضين ، كالنكاح ، فيقول المعترض : فلا يثبت فيه خيار الرؤية ، كالنكاح ، ويلزم من فساد خيار الرؤية فساد البيع عند المستدلّ. والحكمان ـ أي الصحّة وعدم خيار الرؤية ـ اجتمعا في الأصل ـ أي النكاح ـ ولا يمكن أن يجتمعا في الفرع ، أي البيع. والمستدلّ لمّا أخذ الأوّل مذهبا وقاس على الأصل ، فالقالب أشار بالثاني وقياسه عليه إلى بطلان مذهبه ضمنا.

ومن الثالث قلب المساواة ، كما يقال : المكره مالك مكلّف فيقع طلاقه ، كالمختار ، فيقول المعترض : فيسوّى بين إقراره وإيقاعه كالمختار ، والحكمان ـ وهما الإيقاع والإقرار ـ مجتمعان في الأصل باعتقاد الخصمين ، وكلاهما مرتفع من الفرع باعتقاد القالب ، وأحدهما ـ وهو الإيقاع ـ موجود فيه دون الآخر باعتقاد القائس ، ولمّا أثبته فيه قياسا على الأصل ، فقلب عليه القالب لزوم ثبوت الحكمين في الفرع من رأسه ، مع أنّه لم يقل به. هذا.

وقد اختلف في قبول القلب ، فأنكره جماعة (٢) ؛ لأنّ الحكمين إن تنافيا امتنع اجتماعهما في الأصل ، مع أنّه لازم لما شرطناه وهو اتّحاد الأصل. وإن لم يتنافيا ، فيجوز استنادهما إلى علّة واحدة ، كما تقدّم (٣) ، فلا يبطل العلّيّة.

ويدفعه إمكان تنافيهما في الفرع بعرض الاجتماع بدليل من خارج دون الأصل ، كما عرفت (٤).

__________________

(١) حكاه القرطبي في بداية المجتهد ١ : ١٢ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١١٣ و ١١٤.

(٢) منهم : الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٦٥ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١١٦ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٦١ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٢١٠.

(٣) تقدّم في ص ٥٢٠ ـ ٥٢١.

(٤) آنفا.

٥٣١

والحقّ ـ كما قال بعض المحقّقين (١) ـ أنّه في الحقيقة معارضة ؛ لأنّ المعارضة إقامة الدليل على خلاف قول المستدلّ ، والقلب كذلك ، إلاّ أنّه نوع مخصوص من المعارضة ؛ لأنّ كلاّ من الأصل والفرع والجامع مشترك بين قياسي المستدلّ والقالب ، ففيه لا يمكن الزيادة في العلّة ، ولا منع وجود العلّة في الأصل والفرع ، بخلاف سائر المعارضات. وعلى هذا ، فحكمه حكم المعارضة ، وجوابه جوابها. وللمستدلّ أن يقدح تأثير العلّة فيه بالنقض أو عدم التأثير أو القول بالموجب ، وأن يمنع حكم القالب في الأصل ، وأن يقلب قلبه إذا لم يناقض الحكم.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ القلب المذكور بأقسامه هو قلب العلّة.

وللقلب نوعان آخران :

أحدهما : قلب الدعوى ، بأن يدّعي المعترض دعوى تقابل دعوى المستدلّ ، سواء استند كلّ منهما إلى الضرورة أو إلى دليل مضمر فيه.

فالأوّل ، كما إذا قيل : النظر يفضي إلى العلم بالضرورة ، فيقول المعترض : النظر لا يفضي إلى العلم بالضرورة.

والثاني ، كما إذا قال الأشعري : كلّ موجود مرئيّ وهو في قوّة « لأنّه موجود » ؛ لأنّ الوجود هو المصحّح للرؤية عنده ، فيقول المعتزلي : كلّ ما ليس في جهة لا يكون مرئيّا ، وتقديره : لأنّ انتفاء الجهة مانع من الرؤية.

وثانيهما : قلب الدليل بأن يبيّن أنّ دليل المستدلّ حجّة عليه لا له ، كما لو استدلّ على توريث الخال بقوله عليه‌السلام : « الخال وارث من لا وارث له » (٢) ، فيقول المعترض : المراد نفي توريث الخال بطريق المبالغة ، كما يقال : الجوع زاد من لا زاد له ، والصبر حيلة من لا حيلة له.

[ المبطل ] السادس : القول بالموجب وهو تسليم ما لزم من الدليل مع بقاء الخلاف ، ومرجعه إلى ادّعاء نصب الدليل في غير محلّ النزاع ، وهو لا يختصّ بالقياس ، بل يأتي في كلّ دليل ، وأقسامه ثلاثة :

__________________

(١) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٦٥ ، والبيضاوي في منهاج الاصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٢١٠.

(٢) كنز العمّال ١١ : ٥ ، ح ٣٠٣٧٧.

٥٣٢

[ القسم ] الأوّل : أن يستنتج المستدلّ من الدليل ما يتوهّم أنّه محلّ الخلاف أو ملزومه ولا يكون كذلك ، كما إذا قال في القاتل العامد الملتجئ إلى الحرم : وجد فيه علّة القصاص ، فيجوز قصاصه ، فيردّ القول بالموجب ، ويقال : محلّ الخلاف ليس جواز القصاص ، بل جواز هتك حرمة الحرم ، وهو ليس عينه ، ولا ملزومه.

ومنه : إذا قال الشافعي في القتل بالمثقل : قتل بما يقتل غالبا ، فلا ينافي وجوب القصاص ، كالقتل بالحرق ، فيقول المعترض : أقول بموجب ما ذكرت ، ولكنّه ليس محلّ النزاع ؛ لأنّ محلّ النزاع وجوب القصاص ، وليس عينه ، ولا لازما له.

ولمّا كان مرجع هذا القسم إلى منع كون اللازم من الدليل محلّ الخلاف أو ملزوما له.

فجوابه أن يبيّن المستدلّ أنّ المثبت مدّعاه وإن لم يكن محلّ النزاع في فرض المعترض ، أو (١) محلّ النزاع والمعترض صرفه عنه وحمله على غيره ، فأورد القول بالموجب أو ملزومه.

ومثال الأوّل ظاهر.

و [ مثال ] الثاني ، كما إذا قال : الخيل يسابق عليه فيجب فيه الزكاة ، كالإبل ، فيقول : هذا مسلّم في زكاة التجارة ، ومحلّ النزاع زكاة العين ، فيرجع ويقول : غرضي وجوب زكاة العين.

و [ مثال ] الثالث ، كما إذا قال : لا يجوز قتل المسلم بالذمّي قياسا على الحربي ، فيقول : هذا مسلّم ، ومحلّ النزاع عدم الوجوب ، فيقول : عدم الجواز ـ وهو الحرمة ـ يستلزم عدم الوجوب.

[ القسم ] الثاني : أن يستنتج من الدليل إبطال ما يتوهّم أنّه مأخذ الخصم ومبنى مذهبه ، كما إذا قال في مسألة القتل بالمثقل : التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص كالمتوسّل إليه ، وهو أنواع الجراحات القاتلة ، فيقول المعترض : [ هذا ](٢) مسلّم ، ولكن لم لا يمنعه غيره من وجود الموانع ، وانتفاء الشرائط ، وعدم قيام المقتضي؟ فإنّ انتفاء مانع لا يستلزم انتفاء جميع الموانع ووجود جميع الشرائط والمقتضي.

__________________

(١) عطف على « مدّعاه ».

(٢) اضيف للضرورة.

٥٣٣

وجوابه : بيان أنّ المبطل هو المأخذ ، وإنّما يتأتّى ذلك إذا أثبته باشتهاره بين النظّار ورؤساء المذهب ، وإلاّ فمجرّد قوله بأنّه المأخذ لا يسمع بعد ما قال المعترض : ليس هذا مأخذي ؛ لأنّه مصدّق في ذلك ؛ نظرا إلى أنّه أعرف بمذهبه ومذهب إمامه.

وما قيل : أنّه لا يصدّق إلاّ ببيان مأخذ آخر لكونه معاندا (١) ، فضعيف جدّا.

واعلم أنّ ورود هذا القسم من القول بالموجب ـ وهو ما يقع لاشتباه المأخذ ـ أغلب في المناظرات ؛ لخفاء مدارك الأحكام لكثرتها وتشعّبها ، وورود الأوّل ـ وهو اشتباه محلّ الخلاف ـ نادر ؛ لشهرته ، أو تقديم تحرير محلّ النزاع غالبا.

[ القسم ] الثالث : أن يسكت عن صغرى غير مشهورة ، ويقتصر على إيراد الكبرى ، فيستعمل قياس الضمير ، كما إذا قال في الوضوء : ما يثبت قربة فشرطه النيّة كالصلاة ، ويسكت عن الصغرى وهي الوضوء يثبت قربة ، فيرد القول بالموجب ، ويقول المعترض :

هذا مسلّم وأمنع من اشتراط النيّة في الوضوء ، فهذا إنّما يرد إذا أهمل الصغرى ، وأمّا إذا ذكرها فلا يرد إلاّ منع الصغرى ، لا القول بالموجب بأن يقول : لا نمنع أنّ الوضوء يثبت قربة.

وجوابه : أنّ حذف إحدى المقدّمتين عند العلم بالمحذوف شائع ، والدليل هو المجموع دون المذكور وحده.

تنبيه

اعلم أنّ الجدليّين قالوا : إنّ القول بالموجب بأقسامه يؤدّي إلى انقطاع أحد المتناظرين ؛ إذ لو بيّن المستدلّ مراده في كلّ قسم بجوابه انقطع المعترض ، وإلاّ انقطع المستدلّ (٢).

وقيل : هو بعيد في الثالث ؛ لاختلاف مراد المتناظرين ؛ فإنّ مراد المستدلّ أنّ الصغرى محذوفة ، ومراد المعترض أنّ المذكور وحده لا يفيد ، فإذا بيّن مراده فله منعه فيه ، فيستمرّ البحث (٣). نعم ، إن سلّمه فقد انقطع.

__________________

(١) حكاه الأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى ٢ : ٣٥٦ ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٢٢٩ ، ونسبه الآمدي إلى بعض الجدليّين في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١١٨.

(٢) حكاه الأنصاري عن الجدليّين في فواتح الرحموت ٢ : ٣٥٧ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١١٧ و ١١٨.

(٣) حكاه المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٢٢٦.

٥٣٤

[ المبطل ] السابع : الفرق. قيل : هو المعارضة في الأصل أو الفرع (١).

وقيل : مجموعهما ، حتّى لو اقتصر على أحدهما لم يكن فرقا (٢) ، ولذا ردّه بعضهم بأنّه الجمع بين أسئلة مختلفة ، ومن قبله بين قائل بكونه جمعا بينهما ولا منع فيه ؛ لكونه أدلّ على الفرق (٣) ، وقائل بأنّه سؤال واحد ؛ لاتّحاد المقصود منه (٤).

وقيل : هو إبداء تعيّن في الأصل أو الفرع هو شرط أو مانع (٥).

وربّما قيل : هو إبداء التعيّنين ، وهو كما يتحقّق بالتعرّض لوجود الشرط في الأصل ووجود المانع في الفرع ، يتحقّق بالتعرّض لوجود أحدهما فيما يخصّه ، وعدمه في الآخر ؛ لأنّ كلاّ من انتفاء الشرط وانتفاء المانع تعيّن (٦). وهذا القول بقسميه مرجعه إلى منع وجود علّة الأصل في الفرع.

والحقّ ، أنّه أيضا لا يخرج عن المعارضة في الأصل أو الفرع ، فجوابه جوابها ؛ لأنّ المعارضة في الأصل إبداء وصف آخر فيه يصلح أن يكون علّة ، ولا ريب في أنّ المتعيّن غير المبهم والمقيّد غير المطلق ، والمعارضة في الفرع إبداء وصف يقتضي نقيض الحكم ، ولا ريب في أنّ المانع لشيء في قوّة المقتضي لنقيضه ، فهو وصف يقتضي نقيض حكم المستدلّ.

ولو قيل : المعارضة في الفرع إبداء ما يقتضي نقيض حكم المستدلّ من نصّ ، أو إجماع ، أو وجود مانع ، أو فوات شرط ، كما صرّح به جماعة (٧) ، فيصير المقصود أوضح. وعلى أيّ

__________________

(١) نسبه الآمدي إلى أبناء زمانه في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٠٨.

(٢) نسبه الآمدي إلى بعض المتقدّمين في المصدر.

(٣) حكاه الآمدي في المصدر.

(٤) حكاه الآمدي عن ابن سريج في المصدر.

(٥) قاله الأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٢٣٢.

(٦) للاطّلاع على الأقوال وأجوبتها راجع : المحصول ٥ : ٢٧١ ـ ٢٧٩ ، وسلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٢٣٠ ـ ٢٣٥ ، والإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٠٨ و ١٠٩ ، وتهذيب الوصول : ٢٦٣ و ٢٦٤ ، ونهاية السؤل ٤ : ٢٣٠ ـ ٢٤٠.

(٧) منهم : الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٠٨ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٢٣٧ ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٢٣١.

٥٣٥

تقدير ، هو إنّما يقدح في العلّيّة إذا لم يجز تعليل الحكم بعلّتين ، وإن جاز ـ كما هو المختار ـ فلا يقدح فيها ، وهو ظاهر.

وهنا مسائل لا بدّ من التنبيه عليها :

[ المسألة ] الاولى : الحقّ جواز كون العلّة مركّبة ، كالقتل العمد العدوان.

أمّا عندنا ، فظاهر ؛ لأنّ المناط في إثبات العلّيّة عندنا هو النصّ ، ولا يمتنع النصّ على علّيّة متعدّد ، وقد وقع ، كما ذكر.

وأمّا عندهم ، فلأنّ المسالك التي يثبت بها علّيّة الواحد ـ من المناسبة والشبه والسبر وغيرها ـ يجوز أن يثبت بها علّيّة المتعدّد ، بأن يتحقّق في ضمن الهيئة الاجتماعيّة من أوصاف متعدّدة ، ويقرن ظنّ العلّيّة بها (١).

وذهب شرذمة قليلة إلى أنّ العلّة يجب أن تكون وصفا واحدا.

واحتجّوا عليه بأنّ العلّيّة صفة ، والصفة يجب قيامها بالموصوف ، وإلاّ لم تكن صفة له ، فالموصوف إن كان ذا أجزاء ، فإمّا أن يقوم بكلّ جزء ، فكلّ جزء علّة ، وهو خلاف المفروض. أو بواحد منها فهو العلّة. أو بجميع الأفراد ، فيلزم أن يقوم بكلّ جزء جزء منها ، فينتقض الصفة العقليّة وهو باطل. أو بالمجموع من حيث هو مجموع ، بأن يتعلّق بها جهة واحدة يتحقّق بها المجموع من حيث هو ، وهي أيضا صفة ، فينقل الكلام إليها ويتسلسل.

وبأنّ عدم كلّ جزء علّة لعدم العلّيّة ؛ لأنّ تحقّقها يتوقّف على تحقّق جميع الأجزاء ، فإذا انتفى جزء ينتفي العلّيّة ، فإذا انتفى جزء آخر يلزم تحصيل الحاصل ، أو تخلّف معلوله وهو انتفاء العلّيّة عنه (٢).

__________________

(١) منهم : الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٠٥ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٢٠ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٢٨٨.

(٢) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٠٥ ـ ٣٠٨ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٢٨٨ ـ ٢٩٠ ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٢٨٩.

٥٣٦

والجواب عن الأوّل : أنّ العلّيّة اعتباريّة ، فيجوز انتزاعها بالعقل ، أو وضع الشارع من عدّة امور.

وعن الثاني : أنّ ما يتوقّف وجوده على وجود امور يعدم لعدم واحد منها ، وليس عدم كلّ واحد منها علّة لعدمه.

وقد احتجّوا بوجوه أخر (١) أضعف ممّا ذكر ، تركناها ؛ لظهور ضعفها.

[ المسألة ] الثانية : لا ريب في جواز تعليل الحكم الشرعي بمثله إذا اخذ العلّة بمعنى الأمارة ؛ لبداهة جواز أن يجعل الشرع حكما معرّفا لآخر ، بأن يقول : إذا حرّمت كذا ، حرّمت كذا. وكذا إذا اخذت بمعنى الباعث ، كتعليل بطلان بيع العذرة بالنجاسة ؛ لأنّ الوجه الذي يثبت به علّيّة الأوصاف ـ من نصّ أو إيماء أو مناسبة أو غيرها ـ يثبت به علّيّة الحكم ، والفرق تحكّم.

وما قيل : إنّ العلّة تقارن المعلول ؛ لأنّ تأخّرها عنه باطل ـ كما تقدّم (٢) ـ وتقدّمها عليه يوجب النقض ، والمقارنة تبطل الحكم بعلّيّة أحدهما دون الآخر ؛ للزوم التحكّم (٣) ، ضعيف ؛ لعدم التحكّم بعد وجود مصحّح العلّيّة ، وهو إحداث في أحدهما دون الآخر.

[ المسألة ] الثالثة : يجوز التعليل بالأوصاف العرفيّة ، كالشرف والخسّة والكمال والنقصان بشرط الضبط والاطّراد وعدم اختلافها باختلاف الأزمنة (٤) ، ووجهه ظاهر.

[ المسألة ] الرابعة : قيل : يجوز أن يكون الحكم الشرعي معرّفا للحكم الحقيقي ، كإثبات الحياة في الشعر بحرمته بالطلاق ، وحلّه بالنكاح ، كاليد (٥). وهو كما ترى.

[ المسألة ] الخامسة : قد اختلف في مدرك حكم أصل القياس المنصوص عليه ، فالحنفيّة على أنّه النصّ ، والشافعيّة على أنّه العلّة (٦).

__________________

(١) راجع : المحصول ٥ : ٣٠٥ ـ ٣١٠ ، والإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٣٤ ـ ٢٣٨.

(٢) تقدّم في ص ٥٠١.

(٣) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٠٢ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٣٣.

(٤) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٠٤.

(٥) المصدر.

(٦) حكاهما عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٧٠.

٥٣٧

والحقّ ، أنّه العلّة إن كانت باعثة ؛ لأنّها مؤثّرة في الحكم ، والشرع أثبته لأجلها ، والنصّ إن كانت معرّفة ؛ لأنّ معرّف حكم الأصل ليس إلاّ النصّ.

[ المسألة ] السادسة : يجب أن يستدلّ بوجود العلّة على الحكم ، بأن يقال : وجد القتل العمد العدوان ، فيجب القصاص لا بعلّيّتها بأن يقال : علّيّته لوجوب القصاص ثابتة وقد وجد ، فيجب القصاص ؛ لأنّها نسبة يتوقّف ثبوتها على وجود الحكم والعلّة ، فلو توقّف الحكم عليها ، لزم الدور.

فصل [١٧]

لحكم الأصل أيضا شرائط :

منها : أن يكون ثابتا فيه ؛ لأنّ تشبيه الفرع به في ثبوته فرع ثبوته ، فالمنسوخ لا يعتبر. والنسخ لمّا دلّ على زوال اعتبار الجامع رأسا ، فلا يجوز أن يثبت به الحكم أصلا وإن لم يكن بالقياس على الحكم المنسوخ.

وفيه نظر ؛ لمنع دلالة النسخ على زوال اعتبار الجامع في غير محلّه ، فلمن جوّز الاستنباط إثبات الحكم فيه بأحد مسالكه ، ثمّ جعله أصلا ، وقياس غيره عليه إن شاء.

ومنها : أن يكون مثبتا بدليل غير القياس على ما ذكره الأكثر (١) ، وخالف فيه الحنابلة (٢).

ولا بدّ من تحرير محلّ النزاع ، وهو بعد تمهيد مقدّمة ، وهي أنّه إذا قيس حكم على حكم آخر قيس هو أيضا على آخر ينعقد قياسان : أحدهما لإثبات المطلوب ، وهو القياس الأوّل ، ولنسمّ العلّة الثابتة فيه بالعلّة الاولى. والآخر لإثبات أصله وهو الثاني ، ولنسمّ العلّة الثابتة فيه بالعلّة الثانية ، والأصل في الأوّل فرع في الثاني ، فنسمّيه الأصل القريب ، ونسمّي الأصل في الثاني الأصل البعيد ، والفرع هو المطلوب.

وإذا عرفت ذلك ، فنقول : إن ثبت حكم القريب في القياس الأوّل بالعلّة الثابتة فيه ابتداء

__________________

(١) منهم : الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٦٠ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢١٥ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٣٠٣ و ٣٠٤.

(٢) حكاه عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢١٥.

٥٣٨

بالنصّ أو الاستنباط وقطع النظر عن اشتراط عدم شمول دليل علّة حكم الأصل أو علّة اخرى لحكم الفرع ، صحّ القياسان على قواعد العامّة (١) مطلقا ، وعلى قواعدنا (٢) إن ثبت الحكم فيهما بعلّة منصوصة ، أو إيمائيّة معتبرة ، سواء اتّحدا في العلّة أم تغايرا فيها ؛ لأنّ حكم الأصل القريب قد ثبت في الأوّل أصلا ، وفي الثاني فرعا بالنصّ ، أو أحد طرق الاستنباط بعلّة واحدة ، أو علّتين. وتعليل الحكم بعلّتين جائز على الأقوى.

غاية الأمر أنّه في صورة اتّحاد العلّة لمّا ثبت بعلّة منصوصة أو مستنبطة وثبت حكم آخر في محلّ آخر بها ، فتارة قيس غيره عليه ملاحظة لكونه ثابتا بالنصّ أو الاستنباط ، وتارة قيس على الآخر إغماضا عنه.

وفي صورة تغايرها لمّا ثبت بعلّة منصوصة أو مستنبطة ، وثبت حكم آخر بعلّة اخرى موجودة فيه ، فتارة قيس غيره عليه لكونه ثابتا بالنصّ أو الاستنباط ، وتارة قيس على الآخر لوجود علّته فيه ، فهو ليس من المتنازع هنا ؛ لأنّ مرجعه إلى أنّه يمكن إثباته بالقياس باعتبار ، وبغيره باعتبار آخر ، وقد صار حكم الأصل في القياس الأوّل بالاعتبار الأخير.

نعم ، إن لوحظ اشتراط عدم شمول دليل علّة حكم الأصل ، أو علّة اخرى لحكم الفرع ، لم يصحّ القياس الثاني. وأمّا الأوّل ، فيصحّ على كلّ حال. فالمتنازع هنا أن يثبت حكم الأصل القريب في القياس الأوّل لا بالعلّة الاولى ، بل بالعلّة الثانية ، بأن يكون مرجعه إلى ما لم يمكن إثباته إلاّ بالقياس ، سواء اتّحدت أم لا. وحينئذ نقول : الحقّ أنّه لا يجوز كما ذهب إليه الأكثر (٣).

لنا : أنّه لو اتّحد القياسان في العلّة ، فالقياس على الأصل البعيد وذكر القريب عبث ، كما إذا قال المستدلّ : السفرجل ربويّ كالتفّاح بجامع الطعم ، ثمّ يقيس التفّاح على البرّ بهذا الجامع ؛ فإنّ إمكان قياس السفرجل على البرّ أوّلا جعل توسّط التفّاح لغوا. ومنه قياس الوضوء على التيمّم ، والتيمّم على الصلاة في اشتراط النيّة بجامع العبادة.

وإن تغايرا فيها لم ينعقد القياس الأوّل ؛ لأنّ العلّة الاولى لم يثبت اعتبارها بوجه ؛ لأنّ

__________________

(١) راجع : المحصول ٥ : ٣٦٠ ، والإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢١٥.

(٢) راجع تهذيب الوصول : ٢٦٤.

(٣) منهم : الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٦٠ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢١٦ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٦٤ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٣٠٣.

٥٣٩

الفرض عدم مدخليّتها في إثبات حكم الأصل القريب ؛ لأنّ معنى كونه مثبتا بالقياس لا غير أن لا يثبت في الفرع بعلّة ابتداء من دون التوصّل إلى علّة اخرى ، والتي ثبت اعتبارها فيه ـ وهي الثانية ـ لم يثبت في القياس الأوّل ، فلا مساواة في أصله وفرعه في العلّة ، فلا تعدية ؛ لأنّها تتوقّف على أن يثبت حكم الفرع بما يثبت به حكم الأصل. فهذا القياس باطل وإن جاز تعليل حكم واحد بعلّتين ؛ لأنّ الفرض عدم إمكان إثبات حكم الأصل القريب إلاّ بالتوصّل إلى العلّة الثانية ، وبعد التوصّل بها إليه كانت الاولى ملغاة عديمة الأثر ؛ لأنّها تعرف بعد ما عرف تعليله بالثانية.

مثاله : أن يقول المستدلّ : الجذام ينفسخ به النكاح كالقرن والرتق بجامع كونه عيبا يفسخ به البيع ، ثمّ يقيس القرن والرتق على الجبّ بجامع كونه مفوّتا للاستمتاع ، فالحكم في الفرع ـ وهو الجذام ـ إنّما يثبت بكونه عيبا يفسخ به البيع ، وفي الأصل القريب ـ وهو القرن والرتق ـ قد يثبت بفوات الاستمتاع ، فيمتنع التعدية.

ومنه قياس الوضوء على التيمّم في اشتراط النيّة بجامع الطهارة ، وقياس التيمّم على الصلاة فيه بجامع العبادة. هذا.

واحتجّ الخصم بمنع وجوب المساواة بين الفرع والأصل في العلّة ، وجواز إثبات الحكم في الفرع بعلّة ، وفي الأصل باخرى ، كما يجوز إثباته في الفرع بدليل هو القياس ، وفي الأصل بآخر هو النصّ أو الإجماع ، وعدم مانع سواه (١).

وجوابه : الفرق بين العلّة والدليل بأنّه يلزم من عدم المساواة في العلّة امتناع التعدية وبطلان القياس كما عرفت (٢) بخلاف اختلاف الدليلين. هذا.

واعلم أنّ المتنازع هو حكم الأصل الذي قبله المستدلّ ومنعه المعترض ، كما تقدّم. وأمّا إن كان بالعكس ، فلا خلاف في فساد القياس ؛ لأنّه يتضمّن اعتراف المستدلّ بالخطإ في الأصل ، والاعتراف بفساد إحدى مقدّمات الدليل يوجب الاعتراف بفساده ، ولا يسمع من المدّعي ما اعترف بفساده.

__________________

(١) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢١٥ و ٢١٦ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٢٩٧ و ٣١١.

(٢) تقدّم في ص ٥٣٩.

٥٤٠