أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

ووجهه عندهم : أنّ المتيقّن ثبوت الفرع بما يثبت به الأصل ؛ نظرا إلى ما ذكروه ، وبأنقص منه مشكوك فيه فلا يصار إليه إلاّ بدليل ، والاكتفاء بتعديل شهود الزنى بالعدلين للنصّ (١) ، وعلى ما اخترناه لا يخفى حقيقة الحال.

وثانيهما : أنّ مفهوم آية التثبّت (٢) يدلّ على عموم قبول خبر الواحد العدل إلاّ ما خرج بدليل كالشهادة.

وجوابه : أنّ المراد بالفاسق في الآية من له صفة الفسق في الواقع ، فيتوقّف قبول الخبر على العلم بانتفائها ، وهو يتوقّف على العلم بالعدالة ، كما تقدّم (٣) مفصّلا. فمنطوق الآية يدلّ على توقّف قبول الخبر على العلم بالعدالة ، وحصوله موقوف على أحد الامور الثلاثة ، وواحد منها ـ أعني البيّنة ـ وإن لم يفد العلم إلاّ أنّه قائم مقامه شرعا ، وخبر الواحد لا يفيد العلم لا عقلا ولا شرعا. فلو دلّ مفهوم الآية على عموم قبول خبر الواحد وإن كان في معرفة العدالة ، يلزم التناقض بين المفهوم والمنطوق ؛ لأنّ مقتضى المفهوم ـ وهو قبول خبر الواحد في معرفة العدالة ـ عدم اشتراط العلم بالعدالة ؛ لأنّه لا شبهة في أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم ، ومقتضى المنطوق خلافه ، كما عرفت (٤) ، فلا بدّ من حمل المفهوم على إرادة الإخبار بما سوى العدالة حتّى يندفع التناقض.

فإن قيل : المفهوم يدلّ على عموم قبول خبر الواحد ، والمنطوق يدلّ على عموم عدم قبوله ، فكما يمكن أن يخصّص المفهوم بالمنطوق ويقال : المراد من المفهوم الإخبار بما سوى العدالة ، فيمكن العكس أيضا بأن يقال : المراد من عدم قبوله فيما سوى البيّنة وخبر الواحد عن العدالة ، وليس تخصيص أحد العمومين بالآخر أولى من العكس.

قلت : تخصيص المفهوم بالمنطوق أولى ؛ لكونه أقوى وأرجح ، وتخصيص المنطوق بالمفهوم في باب البيّنة للدليل الخارجي لا بالنظر إلى خصوص العمومين ، وخبر الواحد في التعديل لمّا لم يثبت بدليل من خارج ، ووقع فيه التعارض بين العمومين ، يلزم أن يخصّص

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة ٢٧ : ٤٠٣ ، أبواب الشهادات ، الباب ٤٤ ، ح ٢.

(٢) هي آية النبأ في سورة الحجرات (٤٩) : ٦.

(٣) تقدّم في ص ٢٣٤ وما بعدها.

(٤) آنفا.

٢٨١

فيه الأضعف بالأقوى ، فيثبت المطلوب.

وإذا عرفت كيفيّة معرفة التعديل ، والخلاف الواقع فيه ، والمذهب المختار ، فاعلم أنّ الجرح أيضا مثله من غير تفاوت.

وإذا عرفت الحقّ فكيفيّة التفريع ظاهرة عليك.

فصل [١٥]

قيل : يكفي الإطلاق في التعديل والجرح من غير حاجة إلى ذكر السبب فيهما (١).

وقيل باحتياجهما إلى ذكره ، وبدونه لا يسمعان (٢).

وقيل باحتياجه في الجرح دون التعديل (٣).

وقيل بالعكس (٤).

وقيل : إن صدرا عن العالم بأسبابهما ، كفى الإطلاق فيهما من غير حاجة إلى السبب. وإن صدرا عن غير العالم بها ، فلا بدّ من ذكر السبب (٥).

وقيل : لو علم اتّفاق مذهب المعدّل أو الجارح والمعتبر (٦) فيما يتحقّق به العدالة والجرح ، كفى الإطلاق ، وإلاّ فلا بدّ من ذكر السبب (٧).

وتحقيق الحقّ في هذه المسألة يتوقّف على بيان أمرين :

[ الأمر ] الأوّل : أنّه لا ريب في اختلاف العلماء فيما يوجب الجرح والتعديل ؛ لاختلافهم في العدالة ـ كما تقدّم (٨) ـ فربّ رجل كان عدلا عند بعضهم وفاسقا عند آخر. وكذا اختلفوا في الكبائر ، فربّ فعل كان كبيرة موجبة للجرح عند بعضهم ولم يكن كبيرة

__________________

(١) نسبه ابن الحاجب إلى القاضي أبي بكر في منتهى الوصول : ٧٩.

(٢) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٧٩ ، ونسبه القاضي عضد الدين إلى قوم في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٧٠.

(٣ و ٥) نسبه ابن الحاجب إلى الشافعي في منتهى الوصول : ٧٩.

(٤) نسبه ابن الحاجب إلى الشافعي أيضا في مختصر المنتهى : ١٧٠.

(٦) والمعتبر هو طالب الجرح والتعديل ليعمل بالحديث أو يتركه.

(٧) قاله الشهيد الثاني في شرح البداية : ١١٦.

(٨) في ص ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

٢٨٢

عند آخر. فقول كلّ واحد من المعدّل والجارح في حقّ من ارتكب هذا الفعل ليس حجّة لمن يريد العمل حتّى يعلم أنّه ما هو؟ ليظهر له هل هو موجب للجرح عنده ، أم لا؟

والحقّ : عدم الفرق في ذلك بين التعديل والجرح ؛ لأنّه كما لا يكفي الإطلاق في الجرح باعتبار الاختلاف في أسبابه ، فكذا الحكم في التعديل ؛ لأنّه يتبعه في ذلك ؛ لأنّ العدالة تتوقّف على اجتناب الكبائر مثلا ، فربما لم يكن بعض الذنوب كبائر عند المعدّل ولم يقدح فعلها عنده في العدالة ، فيعدّل مرتكبها وهو فاسق عند الآخر ؛ لكونها كبائر عنده.

والفرق بأنّ التعديل بذكر السبب يتوقّف على ذكر جميع أسبابه وهي كثيرة يصعب ذكرها بخلاف الجرح ؛ فإنّه يثبت بسبب واحد ، لا يدفع ما ذكر.

[ الأمر ] الثاني : الثقة العالم الورع المطّلع على سرّ اشتراط العدالة واختلاف الناس فيها وفي أسبابها وأسباب الجرح إذا صنّف كتابا في تعديل الرجال وجرحهم لأن يكون مرجعا للعلماء وهداية لهم ، وعرف التعديل ، أو الجرح من سبب لم يكن سببا عند كثير ممّن يرجع إلى كتابه ، وكان عالما بذلك ، ومع ذلك اكتفى فيهما بالإطلاق ، كان مدلّسا ، وهو قادح في عدالته.

والجواب : بأنّه قد يبنى الجرح والتعديل على اعتقاده فيما يراه جرحا وتعديلا ، أو بأنّه ربما لم يعرف الخلاف ولم يخطر بباله أصلا ، فلا تدليس ، لا يجري فيما نحن فيه.

لأنّ الأوّل إنّما يجوز في مقام الاجتهاد والفتوى لمن يستفتيه ويقلّده ، أو في مقام الشهادة لمن يريد العمل بقوله مع علمه باتّفاقهما فيما يتحقّق به العدالة والجرح ، لا في مقام الشهادة لجمّ غفير من الناس مختلفين فيما يتحقّق به العدالة والجرح ، كما هو شأن علماء الرجال ؛ فإنّ تعديلهم وجرحهم من باب الشهادة ، ويعتقدون أنّ ما ذكروه حجّة لمن يأتي بعدهم من العلماء والمحدّثين ، ويعلمون أنّهم يلتزمون العمل بقولهم مع اختلاف آرائهم في أسباب الجرح والتعديل ، وعدم جواز التقليد لهم ؛ لكونهم من أهل الاجتهاد مكلّفين بما اقتضت آراؤهم في باب التعديل والجرح. فلو زكّوا رجلا أو جرحوه بسبب وقع الخلاف في سببيّته ولم يذكروه ، بل اكتفوا فيهما بالإطلاق ، لزم التدليس إن اعتقدوا حجّيّة قولهم لأهل العلم بالإطلاق ، أو عدم الفائدة في أقوالهم وتصانيفهم إن اعتقدوا عدم حجّيّته ، ولزوم الفحص

٢٨٣

لهم عن أسباب الجرح والتعديل ؛ لأنّ قولهم ـ لإطلاقه ـ لا يعلم منه أسبابهما.

والثاني أيضا لا يجري في أمثال فحول علماء الرجال ؛ لأنّهم عالمون بالخلاف في الأسباب ، وعارفون بحقيقة الحال ، بل هو يجري في حقّ العامّي ، فيجب أن يكون مرادهم من العدالة في مقام الإطلاق ما يثبت الوثاقة ، ولزوم العمل بقول صاحبها باعتقادهم على جميع التقادير والمذاهب ، ويتوقّاه عمّا يوجب الاختلال في المقال البتّة ، ومن الجرح ما يقابلها.

وإذا عرفت هذين الأمرين ، تعرف فساد المذاهب المذكورة جميعا ؛ ووجهه ظاهر ، وتعلم أنّ الحقّ في هذه المسألة أنّه يكفي الإطلاق من الثقة العالم إذا علم اتّفاقه مع من يريد العمل بقوله فيما يتحقّق به العدالة و

الجرح ، أو كان في مقام الشهادة لجماعة كثيرة مكلّفين بعقولهم في معرفة أسباب الجرح والتعديل ، وعلم اختلاف أسبابهما ومع ذلك اعتقد حجّيّة قوله لهم ، كما هو شأن علماء الرجال ، وبدون ذلك لا يكفي الإطلاق ، بل لا بدّ من بيان السبب.

ومن الأمر الثاني يندفع إشكال مشهور ، وهو أنّ اعتماد الناس في أمثال زماننا في الجرح والتعديل إنّما هو على أقوال علماء الرجال كالشيخ ، والنجاشي ، والكشّي ، وابن الغضائري ، ولا نعلم مذهبهم في العدالة ، وقلّما يتعرّضون في كتبهم لبيان السبب ومع ذلك يقبل قولهم في الجرح والتعديل.

ووجه الاندفاع ممّا ذكر ظاهر. والتفريع غير خفيّ عليك بعد ما عرفت الحقّ.

فصل [١٦]

إذا تعارض الجارح والمعدّل وأطلقا ، فالوجه تقديم قول الجارح ؛ لأنّ المعدّل يخبر عمّا ظهر من حاله ، أي يشهد بأنّه لم يعلم منه فسقا ، والجارح يخبر عن باطن خفيّ عنه ، فتقديم قوله جمع للجرح والتعديل ؛ لأنّه يوجب صدقهما ، وتقديم قول المعدّل يوجب كذب الجارح. والجمع أولى مهما أمكن ؛ لأنّ تكذيب العدل خلاف الظاهر.

ويظهر ممّا ذكر أنّه لم يقع بينهما حينئذ تعارض. هذا إذا لم يزد عدد المعدّل على عدد

٢٨٤

الجارح ، وإن زاد فالحكم أيضا كذلك ، إلاّ إذا صار بحيث حصل الظنّ الأقوى بالعدالة. وحينئذ يجب تقديم التعديل ، ووجهه ظاهر.

وإن لم يطلقا ، بل عيّن الجارح السبب وأنكره المعدّل بعنوان القطع ، بأن يقول الجارح : قذف فلانا في وقت كذا ، وقال المعدّل : إنّه كان فيه نائما أو ساكتا ، فيجب أن يصار حينئذ إلى الترجيح بالأكثريّة ، والأورعيّة ، والأضبطيّة.

والقول بتقديم قول الجارح (١) حينئذ أيضا ضعيف ؛ ووجهه ظاهر. وكيفيّة التفريع في الجميع ظاهرة.

فصل [١٧]

حكم الحاكم العدل بمقتضى شهادة رجل تعديل له إذا رأى العدالة شرطا في قبول الشهادة ؛ ووجهه ظاهر.

وأمّا رواية العدل عنه ، فالأقوى أنّها ليست تعديلا له ؛ ووجهه أيضا ظاهر.

وترك عمل العدل بشهادته وروايته ليس جرحا له وفاقا ؛ لجواز الترك لوجود المعارض ، أو فقد شرط غير العدالة.

وإذا قال العدل : « حدّثني عدل » قيل : لا يكفي ذلك في تعديله ـ وإن قبل تعديل الواحد ـ من غير ذكر السبب (٢) ، بل لا بدّ من تسميته وتعيينه حتّى ينظر هل له جارح ، أم لا؟ فإنّه يجوز أن يكون ثقة عنده ، وغيره قد اطّلع على جرحه بما لم يطّلع هو عليه.

ولا بدّ للمجتهد من الفحص عن جميع ما يحتمل أن يكون له معارض حتّى يغلب على ظنّه عدمه ، وعلى هذا لم يكف ذلك في العمل بروايته على القول بالاكتفاء بتعديل الواحد. وعلى اعتبار العدلين لا يكتفى به وبأحدهما.

وقيل : يكتفى به في تعديله ، نظرا إلى أنّ الأصل عدم الجارح (٣).

__________________

(١) ذهب إليه ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٨٠ ، وفي مختصر المنتهى : ١٧١.

(٢) نسبه الشيخ حسن إلى والده في معالم الدين : ٢٠٧.

(٣) نسبه الشيخ حسن إلى المحقّق في المصدر.

٢٨٥

وهو ضعيف ؛ لما ذكر. فالحقّ الأوّل.

لا يقال : لو قال العدل : « حدّثني عدل » ولم يكن عدلا في الواقع لما ذكر ، يلزم تدليس العدل.

قلت : مثل هذه العبارة لا يكون في مقام الشهادة لعموم الناس ، كما هو شأن تعديل علماء الرجال ، بل هو في مقام الاجتهاد أو الرواية ، ويعتقد أنّ قوله ليس حجّة لأهل العلم والحديث ، ويعلم أنّهم لا يعتقدون حجّيّة قوله ، فيبني التعديل على اعتقاده ، فلا تدليس.

وكيفيّة التفريع : أنّه إذا وصف بعض الفقهاء رواية بالصحّة ، لم يكف ذلك في العمل بها ؛ لأنّه في الحقيقة تعديل لرواتها ، بل لا بدّ من المراجعة إلى سندها حتّى يظهر حقيقة الحال ، وقد رجعنا مرارا بأسانيد بعض الروايات التي وصفها بعض الأصحاب بالصحّة فوجدناها مخالفة لما ذكروه.

فصل [١٨]

الاعتبار بحال الراوي وقت أداء الرواية ، لا وقت تحمّلها ، ووجهه ظاهر. فلو تحمّلها متّصفا بالشرائط المعتبرة ـ من الإسلام ، والإيمان ، والعدالة ، وغيرها ـ وأدّاها وقت عدم اتّصافه بها كلاّ أو بعضا ، لم تقبل منه ، ولو عكس قبلت منه.

فمن روى عن أئمّتنا عليهم‌السلام أو رواتهم ؛ إذا زال اتّصافه بالشروط المعتبرة بعد اتّصافه بها ـ كمحمّد بن عليّ بن رباح (١) ، وعليّ بن أبي حمزة (٢) ، وإسحاق بن جرير (٣) وأمثالهم من الواقفة ؛ حيث خلطوا في زمن الكاظم عليه‌السلام بعد استقامتهم ، والفطحيّة ، حيث خلطوا في زمن الصادق عليه‌السلام ، وكمحمّد بن عبد الله أبي المفضّل (٤) ، ومحمّد بن عليّ الشلمغاني (٥) وغيرهم ممّن اتّصف بعد الاستقامة بإحدى القوادح ـ يقبل منه ما روى قبل الاختلاط ، ويردّ ما روى بعده.

__________________

(١) لم نعثر عليه في كتب الرجال مع فحص ليس بقليل. الظاهر أنّه اشتباه والصحيح : عليّ بن محمّد بن رباح. راجع : رجال النجاشي : ٢٥٩ ، الرقم ٦٧٩ ، وقوانين الاصول ١ : ٤٦٣.

(٢) رجال النجاشي : ٢٤٩ ، الرقم ٦٥٦.

(٣) رجال الشيخ : ٣٤٣ ، الرقم ٢٤ من أصحاب الكاظم عليه‌السلام.

(٤) رجال النجاشي : ٣٩٦ ، الرقم ١٠٥٩.

(٥) المصدر : ٣٧٨ ، الرقم ١٠٢٩.

٢٨٦

ويعكس الأمر فيمن عكس حاله ، كعليّ بن أسباط (١) ، والحسين بن يسار (٢) ، ونظرائهما ممّن تاب ورجع بعد الإنكار ، أو اتّصف بالعدالة بعد كونه فاسقا.

ثمّ ما رواه أحد هؤلاء إن عرف أنّه في أيّ الوقتين رواه ، فيتّصف بما يقتضيه هذا الوقت. ومعرفة ذلك إمّا بالتأريخ ، أو بقول الراوي : « حدّثني قبل اختلاطه » أو « بعده » أو ببعض القرائن. ومع الإطلاق والجهل بالتأريخ وعدم مائز آخر ، يقع الشكّ فيلزم ردّه.

وهنا إشكال مشهور ، وهو أنّ كثيرا من الرجال كانوا على الحقّ ثمّ رجعوا إلى خلافه ، أو بالعكس ، والقوم يعتمدون على رواياتهم ويقبلونها مع الشكّ في وقت أداء الرواية.

والجواب : أنّ الاعتماد والقبول إن كان من الأقلّين ، فلا إشكال ؛ لعدم حجّيّة في قولهم ، فلا يعبأ به ، وإن كان من الأكثرين أو الجميع وكان مرادهم من الاعتماد الوثاقة ، بمعنى كونها موثّقات دون الصحاح ، فلا إشكال أيضا ؛ لأنّ أكثر هؤلاء رواياتهم من الموثّقات ؛ لكونهم موثّقين في القول وإن لم يكونوا إماميّين.

وإن كان مرادهم منه عدّ رواياتهم من الصحاح ، فنقول : إنّ قدماء القوم لمّا كانوا مطّلعين على حقيقة الأمر لقرب عهدهم إلى هؤلاء ، فيمكن أن يقال : إنّهم اطّلعوا على أنّ السماع من هؤلاء ، أو النقل من اصولهم كان قبل اختلاطهم ، أو بعد استقامتهم ، أو أخذ هؤلاء كان من شيوخ أصحابنا الموثوق بهم ، كما قيل في عليّ بن الحسين (٣) الطاطري : إنّه روى كتبه عن رجال موثوق بهم من أصحابنا (٤).

فائدة

قد أشرنا فيما تقدّم (٥) أنّ الشهادة والرواية تشتركان في كونهما إخبارا عن الجزم ، وتفترقان في أنّ المخبر عنه إن كان خاصّا بمعيّن فهو الشهادة ، وإن كان عامّا فهو الرواية.

__________________

(١) المصدر : ٢٥٢ ، الرقم ٦٦٣.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٤٤٩ ، ح ٨٤٧. وفيه : « بشّار » مكان « يسار ».

(٣) كذا في النسختين. والصحيح عليّ بن الحسن ؛ لعدم وجود عليّ بن الحسين الطاطري في الكتب الرجاليّة.

(٤) قاله الشيخ في الفهرست : ٢١٦ ، الرقم ٤٧٠.

(٥) في ص ٢٧٩ ، الفصل ١٤.

٢٨٧

وهذا هو المعيار في تمييزهما ، إلاّ أنّه في كثير من الموارد يكون للمخبر عنه متعلّقات متعدّدة ، ومن حيث تعلّقه ببعضها يكون عامّا ، ومن حيث تعلّقه ببعض آخر يكون خاصّا ، ولذلك وقع فيها الاشتباه والخلاف في اشتراط التعدّد وعدمه ، وحينئذ لا بدّ من التأمّل في متعلّقاته حتّى يظهر أيّ الحيثيّتين أقوى ، ومع تكافئهما يرجع إلى الأدلّة الخارجيّة.

ونحن نشير إلى جملة من هذه الموارد حتّى تعلم كيفيّة الحال :

منها : الإخبار عن رؤية الهلال. فقيل : رواية ؛ لأنّ الصوم أو الإفطار لا يشخّص (١) بمعيّن (٢).

وقيل : شهادة ؛ لاختصاصه بشهر معيّن (٣).

والمطلوب أنّ المخبر عنه هنا ـ وهو رؤية الهلال ـ يتعلّق بأمرين :

أحدهما : فاعل الصوم أو الإفطار ، وهو جماعة غير محصورين ، فمن حيث تعلّقه بهم يكون عامّا.

وثانيهما : زمان الصوم أو الإفطار ، وهو شهر خاصّ في عام خاصّ ، فمن حيث تعلّقه به يكون خاصّا. والأوّل يفيد كونه رواية ، والثاني يعطي كونه شهادة. ولتعارضهما وقع فيه الخلاف ؛ ورجّح الثاني بالأمارات الخارجيّة (٤).

والقول بأنّ الإخبار عن رؤية الهلال في موضع خاصّ لا يشمل جميع الناس ، بل لطائفة خاصّة ؛ لأنّ رؤية الهلال في بلد لا تثبت الحكم لجميع البلاد ، بل لبلاد مخصوصة ، كما ذكر في كتب الفروع ، ضعيف ؛ لأنّ الظاهر أنّ المراد من العموم في أمثال المقام هو العموم العرفي ، ولا يخفى صدق العامّ العرفي على المتناول لأهل بلاد كثيرة وإن لم يتناول لجميع الناس. ولو كان المراد منه الحقيقيّ الصادق على جميع الناس من غير أن يشذّ منهم فرد في زمان ، لما وجد رواية.

ونظير ذلك في كلام الفقهاء « المحصور » و « غير المحصور » ، فإنّ مرادهم من غير المحصور ما هو كذلك عرفا ، لا غير المتناهي.

__________________

(١) في « ب » : « لا يتشخّص ». والصحيح : « لا يختصّ بشخص معيّن ».

(٢ و ٣) قالهما الشهيد في القواعد والفوائد ١ : ٢٤٧ ـ ٢٤٩ ، الفائدة ١.

(٤) ذكرهما الشهيد في المصدر.

٢٨٨

ومنها : الترجمة عند الحاكم ، وتقويم المقوّم ، وقسمة القاسم. وعلى القاعدة يلزم كونها شهادة ؛ لأنّها إخبار عن معيّن لمعيّن ، فيلزم فيها التعدّد.

والقول : بكونها عامّة من حيث إنّ كلّ واحد من المترجم ، والمقوّم ، والقاسم منصوب لكلّ ترجمة وتقويم وقسمة (١) ، ضعيف ؛ لأنّ ذلك لا يصير سببا لعمومها في كلّ قضيّة معيّنة ، وهو ظاهر. فإن لم يعتبر في واحد منها التعدّد واعتبر فيه حكم الرواية ، فذلك لدليل خارجي ، وهو كلام آخر.

ومنها : الإخبار عن دخول الوقت ، والقبلة ، والطهارة ، والنجاسة ، وأمثالها. ولا يخفى كونه خاصّا بمعيّن ، فيكون شهادة ، فيشترط فيه التعدّد ، سيّما في الأوّل والأخير ؛ لكونهما خلاف الأصل (٢).

نعم ، يكتفى بالواحد في الإخبار عن الطهارة ؛ لاستناده إلى الأصل (٣).

وقيل : إنّه عامّ بالنسبة إلى كلّ المكلّفين ، فيكون رواية (٤).

وأيضا هو إخبار عن التزام حكم الله وهو من لوازم الرواية (٥).

ولا يخفى ضعف الوجهين.

إلاّ (٦) أنّ أكثر الأصحاب رجّح عدم اشتراط التعدّد في بعضها ، كالإخبار عن القبلة والوقت. والظاهر أنّه لأجل الأمارات الخارجيّة كالإخبار عن الطهارة.

ومنها : الإخبار عن عدد الركعات والأشواط ، وكونه من الشهادة أظهر ممّا تقدّم ؛ لأنّه إخبار خاصّ لبعض خاصّ.

والقول : بأنّه (٧) إخبار عن التزام حكم لله فيكون رواية ، غير جيّد ؛ لأنّ الفرق بين الشهادة والرواية بما ذكر أوّلا ، لا بكون المخبر عنه حقّ المخلوق أو الخالق.

__________________

(١) ذكرهما الشهيد في المصدر.

(٢) لأنّ دخول الوقت مسبوق بعدم الدخول فيستصحب العدم. وكذا النجاسة أمر عرضي مسبوق بالطهارة ؛ لأنّ الأشياء طاهرة فالنجاسة مسبوقة بعدمها ؛ فيستصحب العدم ؛ فالمراد من الأصل هو الاستصحاب.

(٣) المراد استصحاب الطهارة أو قاعدتها.

(٤ و ٥) ذكرهما الشهيد في القواعد والفوائد ١ : ٢٤٨ ، الفائدة ١.

(٦) استثناء عن قوله : « فيشترط فيه التعدّد ».

(٧) في « ب » : « بأنّها ».

٢٨٩

ومنها : الإخبار بأنّ هذا هديّة ، والإخبار عن الإذن في دخول دار الغير. ولا تأمّل في كونهما شهادة ، لكن اكتفي فيهما وفي أمثالهما بالواحد ؛ للقرائن المفيدة للقطع. وربما قيل : إنّ أمثالهما قسم ثالث خارج عن الشهادة والرواية ، كإخبار ذي عمل أمين عن عمله بأن يقول : هذا ميتة ، أو مذكّى ، أو طاهر ، أو نجس ، أو بأنّه طهّر الثوب الذي امر بتطهيره. ومثله إخبار المسلم بوكالته في بيع وأمثاله ، وغير ذلك ؛ فإنّه لا يسمّى شهادة ولا رواية (١).

ومنها : الإخبار عن توقيت الصلوات بأوقاتها المخصوصة ، فإنّه رواية وفاقا (٢) ، وإن تضمّن حكما خاصّا ؛ لأنّ التوقيت المذكور شرع عامّ لجميع الناس.

ومنها : الإخبار عن الوقف العامّ ، والنسب ، وكون الأرض عنوة (٣) أو صلحا ، وهو شهادة وفاقا (٤) ، وإن تضمّن العموم من جهة إلاّ أنّه طار. والمقصود بالذات فيه التعيين ؛ فإنّ الإخبار عن الوقف شهادة على معيّن بفعل معيّن ، وعن النسب شهادة بإلحاق معيّن بمعيّن ، ثمّ يعرض العموم.

فائدة

لا بدّ لكلّ واحد من البيّنة والأمين في فعله من ذكر السبب إذا أخبرا بحكم اختلف أسبابه ، كالإخبار عن نجاسة الماء ، واستحقاق الشفعة ، أو بأنّ بينهما رضاعا محرّما ، أو بارتداد زيد ، أو بكونه وارث عمرو ، وغير ذلك ؛ فإنّه يمكن أن يتوهّم فيها ما ليس بسبب سببا.

وربما قيل بالقبول إذا كان المخبر فقيها وعلم توافق اعتقاده مع اعتقاد المخبر (٥) و (٦).

__________________

(١) قاله الشهيد في القواعد والفوائد ١ : ٢٤٩ ، الفائدة ١.

(٢ و ٤) ادّعاء الوفاق في الموضعين يخالف قوله في ص ٢٨٨ : « ولذلك وقع فيها الاشتباه والخلاف في اشتراط التعدّد ». ولعلّ وجه التعرّض لموارد الوفاق هو الجواب عمّا أورده القرافي في الفروق ١ : ١٥ و ١٦ على معيار الفرق بين الرواية والشهادة. راجع القواعد والفوائد ١ : ٢٤٩ ، الفائدة ١.

(٣) أي مفتوحة عنوة.

(٥) كذا في النسختين. ولعلّ الصحيح : « المستخبر » أو « المعتبر ».

(٦) راجع : الفروق ١ : ١٥ و ١٦ ، والقواعد والفوائد ١ : ٢٤٩ ، الفائدة ١.

٢٩٠

تذنيب

لا خلاف في أنّ الفتوى والحكم ليسا من الشهادة ، بل هما كالرواية ؛ لأنّ المفتي والحاكم ناقلان عن الله إلى الخلق ؛ لأنّهما وارثا المعصوم ، فلا يشترط فيهما التعدّد.

والفرق بينهما ـ كما قيل ـ : أنّ الفتوى مجرّد إخبار عن حكم الله في القضيّة ، والحكم إنشاء إطلاق ، أو إلزام في المسائل الاجتهاديّة وغيرها مع تقارب المدارك فيها ممّا ينازع فيه الخصمان لمصالح المعايش. والإطلاق والإلزام نوعا الحكم. فالأوّل كالحكم بإطلاق المسجون ونحوه. والثاني كإلزام أحد الخصمين بإعطاء ما يدّعي عليه الآخر (١).

ويخرج من قوله : « مع تقارب المدارك » ما ضعف مدركه كالعول والتعصيب ، فلو حكم به حاكم وجب نقضه.

ومن قوله : « لمصالح المعايش » العبادة ؛ فإنّه لا مدخل للحكم فيها ، فلو حكم حاكم ببطلان عبادة زيد لم يلزم منه بطلانها ، بل إن كانت باطلة في نفس الأمر فذاك ، وإلاّ فهي صحيحة.

ثمّ الحكم لمّا كان إلزاما لقطع النزاع ، فلا يجوز نقضه لحاكم آخر وإن كان مخالف رأيه ، بخلاف الفتوى ؛ فإنّه مجرّد إخبار بحسب اعتقاد المفتي ، فلو كان مخالفا لاعتقاد مفت آخر يجوز نقضه. فمسائل العبادة يجوز نقضها مطلقا إذا علم المخالفة ؛ لأنّ الإخبار عنها لا يكون إلاّ بعنوان الفتوى دون الحكم. وغيرها إن كان بعنوان الفتوى يجوز لمفت آخر نقضها ، وإن كان بعنوان الحكم فلا يجوز.

ولو اشتمل قضيّة على أمرين : أحدهما من مصالح العبادة ، وثانيهما من مصالح المعاش ، فيلحق كلاّ منهما حكمه ، كما لو حكم بصحّة حجّ من أدرك اضطراريّ المشعر وكان نائبا ؛ فإنّه لا يؤثّر في براءة ذمّة النائب في نفس الأمر ، ولكنّه يؤثّر في عدم رجوعهم عليه بالاجرة. وقس عليه أمثالها.

__________________

(١) قاله الشهيد في القواعد والفوائد ١ : ٢٤٨ ، الفائدة ١.

٢٩١

فصل [١٩]

أجمع الأصحاب على جواز نقل الحديث بالمعنى مطلقا للعارف بمواقع الألفاظ مع عدم قصور الترجمة عن إفادة ما يفيده الأصل ، وتساويهما في الجلاء والخفاء ؛ لأنّ الخطاب قد يقع بالمحكم أو المتشابه لحكمة خفيّة ، فلا يجوز تغييره. وأمّا لغيره ، فلا يجوز وفاقا.

والدليل عليه ـ بعد الإجماع ـ كون المقصود من التخاطب إفادة أصل المعنى من غير اعتبار باللفظ ؛ والأخبار المستفيضة من طرقنا (١) ؛ والقطع بنقل الأحاديث عن النبيّ والأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ في وقائع متّحدة بألفاظ مختلفة ، ولا ريب في أنّ قولهم واحد ، والباقية نقل بالمعنى ؛ وما روي عن جمع من الرواة أنّهم قالوا : « قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » أو « واحد من الأئمّة عليهم‌السلام كذا (٢) ، أو نحوه » ؛ والقطع بتفسير الحديث بالعجميّة ، فبالعربيّة أولى ؛ وما ورد في القرآن من القصّة الواحدة بألفاظ مختلفة (٣) مع أنّها إمّا وقعت بغير العربيّة ، أو بعبارة واحدة منها ، بل نعلم أنّ جميع القصص القرآنيّة لم تقع بهذه الألفاظ والنظم ، فإن وقعت بالعربيّة ، وقعت بعبارة اخرى ؛ للقطع بكون القرآن معجزة ، فلا يقدر البشر أن يأتي بهذه الألفاظ بهذا النظم والتأليف.

هذا ، وذهب بعض العامّة إلى عدم جوازه مطلقا (٤). وذهب بعض آخر إلى جوازه بلفظ مترادف ـ أي تبديل ألفاظ الحديث بألفاظ ترادفها ـ وعدم جوازه بغيره (٥).

والأدلّة المذكورة تدفع القولين.

__________________

(١) منها ما في الكافي ١ : ٥١ ، باب رواية الكتب والحديث ... ، ح ٢ و ٣ و ٥.

(٢) للاستدلال بقوله : « أو نحوه » راجع مقباس الهداية ٣ : ٢٥٣.

(٣) كقصّة موسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام.

(٤) نقلها ابن الحاجب عن ابن سيرين وأبي بكر الرازي وجماعة في منتهى الوصول : ٨٣ ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٧٨.

(٥) راجع المصدرين.

٢٩٢

وممّا يدفع الأوّل ما تقدّم (١) من جواز وقوع أحد المترادفين مقام الآخر في إفادة أصل المعنى بلا شبهة.

واحتجّ القائل بعدم الجواز مطلقا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نضّر الله من سمع مقالتي » (٢) إلى آخره ، وبأنّ فتح هذا الباب يؤدّي إلى الإخلال بمقصود الحديث ؛ لاختلاف العلماء في معاني الألفاظ ، والتنبيه في الاستنباط ، فالنقل في كلّ مرّة يوجب تغييرا ما حتّى يحصل تغيير كثير ، فيتغيّر المقصود بالكلّيّة (٣).

والجواب عن الأوّل : أنّ النقل بالمعنى بشرطه تأدية على نحو السماع.

و [ الجواب ] عن الثاني : أنّه خروج عن المتنازع فيه ؛ لأنّ النقل المجوّز ما لا يستلزم تغييرا ، وإلاّ لم يجز وفاقا.

واحتجّ المفصّل على الجزء الإثباتي بما أشرنا إليه أخيرا ، وعلى الجزء السلبي بمثل ما احتجّ به المانع مطلقا.

وقد عرفت جوابه.

فصل [٢٠]

إذا روى ثقة خبرا مجملا عن المعصوم وحمله على أحد محامله ، فالأكثر على لزوم حمله عليه ؛ لأنّ الظاهر أنّه لم يحمله عليه إلاّ لقرينة.

وإن كان ظاهرا في معنى وحمله على غيره ، فالأكثر على لزوم العمل بالظاهر ؛ لأنّه لازم العمل ، كما تقدّم (٤). وقول الراوي ليس حجّة حتّى يعارض ما هو حجّة ، بل هو كقول غيره ، ولذا قال الشافعي : كيف أترك الحديث بقول من لو عاصرته لحاجته؟! (٥)

ولا يخفى أنّ ما ذكر في الصورة الاولى يتأتّى هاهنا أيضا (٦) ، فإن قبل قوله هناك لما ذكر ،

__________________

(١) تقدّم في ص ٤٣.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٢٥٤.

(٣) تقدّم في ص ٢٩٢.

(٤) في ص ٢٢٠.

(٥) حكاه عنه ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٨٦ ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٨٢.

(٦) في « ب » : « أيضا بقول ».

٢٩٣

يلزم قبوله هنا أيضا. وإن لم يقبل هنا لعدم حجّيّته فيه ، يلزم عدم قبوله هناك أيضا ، والتوقّف فيه كما في سائر المجملات.

والظاهر عدم حجّيّة قوله في الصورتين ؛ لإمكان أن يكون حمله عن رأيه ، إلاّ أنّه يصلح تأييدا ، ففي الصورة الاولى لمّا لم يكن له معارض ، يكون لحمله رجحان ، بخلاف الصورة الثانية ؛ لوجود معارض أقوى.

فصل [٢١]

إذا كذّب الأصل الفرع فلا ريب في سقوط روايته ؛ لأنّ أحدهما كاذب قطعا ، ولكن لا يقدح هذا في عدالتهما ؛ لأنّ الكاذب لم يعرف بعينه ، واليقين لا يرتفع بالشكّ ، فإذا انفرد كلّ منهما برواية حديث آخر ، يلزم قبوله ، وكذا إذا انفرد كلّ منهما بشهادة في واقعة يلزم على الحاكم قبوله.

نعم ، لو اجتمعا في سند رواية واحدة ، فلا ريب في سقوطها ؛ للقطع بكون واحد منهما فاسقا وإن لم يعرف بعينه. وكذا لو شهدا معا في قضيّة واحدة ، فلا شكّ في عدم جواز قبول شهادتهما معا ؛ لما ذكر ، بل على الحاكم أن يقبل شهادة واحد منهما لا على التعيين ، ويردّ الآخر.

فإن قيل : كما يلزم القطع بكذب أحدهما في صورة الاجتماع ـ ولذا يترك روايتهما وشهادة واحد منهما ـ فكذا في صورة الانفراد إذا انفرد كلّ منهما بنقل رواية معيّنة ، أو أداء شهادة في واقعة خاصّة ؛ فإنّ المجتهد علم أنّ أحدهما كاذب ، فإذا عمل بالروايتين معا لزم عمله برواية الكاذب قطعا ، وهو باطل. وكذا الحاكم إذا اعتبر شهادتهما في الواقعتين.

قلنا : لا نسلّم بطلان اللازم فيما نحن فيه ؛ لأنّه إذا (١) تعبّدنا في الاجتهاد ، والحكم بتحصيل العلم بعدالة رواة جميع الأخبار التي يعمل بها معا ، وشهود جميع الوقائع كذلك. وليس كذلك ـ ومن ادّعى ذلك فعليه البيان ـ بل لا نتعبّد فيهما إلاّ أن نعمل في كلّ رواية معيّنة ، وواقعة خاصّة بقول من علم عدالته ولم يزل عنه ذلك ، ولا ريب في صدق ذلك على

__________________

(١) زمانيّة وخبر أنّ أي بطلان اللازم مخصوص بهذا الزمان.

٢٩٤

كلّ واحد من الروايتين والواقعتين ؛ نظرا إلى أنّ الشكّ لا يزيل اليقين.

نعم ، لو اعتبر العلم بصدق رواتهما ، أو بيّنتهما معا ـ أي من حيث الاجتماع ـ فلا يجوز العمل ؛ ولا دليل عليه.

هذا ، وأمّا إذا لم يكذّب الأصل الفرع ، بل كان شاكّا ـ بأن يقول : لا أدري رويته أم لا ـ فالأكثر على قبولها ؛ لأنّ العدل روى رواية ولم يكذّبه الأصل ؛ فيجب قبولها. وسكوت الأصل لا ينافيه ، كما إذا مات أو جنّ.

احتجّ الخصم بأنّه لو جاز ذلك في الرواية لجاز في الشهادة أيضا ، واللازم منتف قطعا (١).

والجواب : أنّ باب الشهادة أضيق ، كما أشرنا إليه فيما تقدّم (٢).

وبأنّه لو جاز ذلك لجاز للحاكم العمل بحكمه إذا نسيه وشهد به شاهدان.

واجيب بالتزامه.

هذا ، والظاهر أنّ الأصل لو قال : ظنّي أنّه ما رويته ، لكان حكمه كذلك إذا جزم الفرع بروايته عنه ؛ لتأتّي ما ذكر فيه أيضا.

نعم ، إن كان الفرع أيضا ظانّا في روايته عنه ، أو شاكّا ، أو كان كلاهما شاكّين ، سقطت روايته ؛ لتعارض كلّ واحد من الظنّ (٣) والشكّ بمثله ، ويبقى أصل العدم سالما.

والضابط : أنّه إن تعادل قولهما أو ترجّح قول الأصل ، وجب الردّ ، وإلاّ القبول. ووجهه ظهر ممّا ذكر سابقا ولا حقا.

فصل [٢٢]

قد يوجد في الرواة من لم يذكر في كتب الرجال بجرح ولا تعديل ، ولكنّ مشايخنا المتقدّمين قد أكثروا الرواية عنهم ، واعتنوا بشأنهم ، وفقهاؤنا المتأخّرون حكموا بصحّة أخبارهم في أسانيدها ، نحو أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار ، والحسين بن الحسن بن (٤)

__________________

(١) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٨٤.

(٢) تقدّم في الفصل ١٤ ص ٢٧٩.

(٣) أي الظنّ بعدم الرواية كما ادّعاه الأصل ، والظنّ بالرواية كما ادّعاه الفرع ، وكذلك الشكّ.

(٤) لم يرد في « ب » : « الحسن بن ».

٢٩٥

أبان ، وأحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد وأمثالهم.

ومن هذا شأنه تعدّ أخباره من الصحاح ويعمل بها ؛ لأنّ الظاهر أنّ عدم تعرّضهم لتعديلهم ؛ لعدم افتقارهم إليه ؛ لاشتهار حالهم بينهم في العدالة والجلالة. وهذا إنّما هو فيمن كثر الرواية عنه والاعتناء بشأنه بحيث صار معروفا مشهورا كالجماعة المذكورين.

وأمّا من لم يتحقّق فيه ذلك ولكنّه روى عنه بعض مشايخنا الثقات في بعض الأحيان ، كجعفر بن محمّد بن إبراهيم بن عبد الله الموسوي ـ الذي يروي عنه ابن قولويه وبعض مشايخ الكليني والصدوق ـ ، فليس بهذه المثابة ، بل يدلّ ذلك على مجرّد كونه من مشايخ الإجازة ، وهو لا يفيد سوى الحسن ، كما تقدّم (١).

وقد يوجد فيهم من لم ينصّ عليه بالتوثيق ، ولكنّه كثر عليه الثناء والمدح ، كاويس القرني ، وثعلبة بن ميمون ، ومعلّى بن خنيس ، وعبد الله بن يحيى الكاهلي ونظرائهم ، والظاهر حصول الظنّ بصحّة أخبارهم.

وفيهم جماعة أجمع الأصحاب على تصحيح ما يصحّ عنهم وهم معروفون (٢). وهذه العبارة تحتمل معنيين :

أحدهما : أنّ كلّ خبر اتّصل سنده بأحد هؤلاء وكان السند إليه صحيحا ، فهو صحيح يجوز (٣) إسناده إلى المعصوم وإن لم يعلم عدالة من يروي هو عنه ، حتّى لو كان فاسقا أو مجهولا ، كان ما نقله صحيحا منسوبا إلى المعصوم. وعلى هذا تكون مراسيلهم مقبولة.

وثانيهما : أنّ كلّ خبر اتّصل سنده إلى أحدهم وهو أسنده إلى غيره ، فهو صحيح إن لم يعرض بعد ذلك مانع. والمطلوب أنّه في إسناده الحديث إلى الغير صادق ، فإن قال : « عن فلان » أو « سمعت عنه » أو « رويته عنه (٤) » فهو في ذلك صادق ، فهي كناية عن تحقّق الإجماع على عدالة هؤلاء ووثاقتهم ، بمعنى أنّه لو كان أحد هؤلاء في طريق رواية

__________________

(١) في ص ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٢) وهم ستّة عشر نفرا على المشهور.

(٣) لم يرد في « ب » : « يجوز ».

(٤) لم يرد في « ب » : « أو رويته عنه ».

٢٩٦

ولم يوجد مانع من غير جهته ـ قبل وبعد ـ كانت الرواية صحيحة. وهذا لا يوجب تصحيح الحديث مع الإرسال.

ولا يخفى أنّ المعنى الأوّل أظهر من هذه العبارة ، إلاّ أنّ الثاني لمّا كان محتملا ، لا يمكن الحكم بصحّة مراسيلهم وما في معناها.

فصل [٢٣]

راوي الحديث لا بدّ له من مستند يصحّ لأجله الرواية. فإن روى عن المعصوم نفسه ، فمستنده السماع بأن يقول : « سمعته » أو « حدّثني » أو « أخبرني » ، ونحوه ، وحينئذ يجب قبوله وفاقا.

وإن قال : « سمعته أمر بكذا » أو « نهى عن كذا » فيجب قبوله أيضا عند الأكثر ؛ لأنّه ظاهر في سماع ما هو الأمر في نفس الأمر.

والقول : بأنّه يحتمل أن يكون استمع (١) صيغة فاعتقد أنّها أمر أو نهي مع عدم اعتقاد غيره ذلك ، كما إذا كان معتقدا بأنّ الأمر يدلّ على النهي عن ضدّه مطلقا ، أو بالعكس ، فربما سمع من المعصوم صيغة فأخبر بأنّه أمر أو نهى مع أنّ الأكثر لا يراه أمرا ونهيا ، فهو بالإطلاق ليس بحجّة (٢) ، ضعيف ؛ لأنّه خلاف الظاهر لا يصار إليه إلاّ بدليل.

وإن قال : « قال المعصوم كذا » ، فالحقّ أن يحمل على أنّه سمعه منه بلا واسطة ، فيكون حجّة ، وإمكان حمله على أنّه سمعه منه بواسطة ـ كما قيل (٣) ـ خلاف الظاهر.

وإذا قال : « امرنا بكذا » أو « نهينا عن كذا » أو « اوجب كذا » أو « حرّم كذا » أو « ابيح كذا » ـ وبالجملة ، بيّن الأحكام بصيغة ما لم يسمّ فاعله ـ فالحقّ كونه حجّة ؛ لأنّ الظاهر أنّ المعصوم هو الآمر ، والناهي ، والموجب ، والمحرّم ، والمبيح. واحتمال كونه غيره بعيد.

__________________

(١) في « ب » : « مستمع ».

(٢) حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٨٢.

(٣) نسبه ابن الحاجب إلى القاضي في المصدر.

٢٩٧

وإذا قال : « من السنّة كذا » أو « كنّا نفعل كذا » أو « كانوا يفعلون كذا » فقد ظهر حكمه فيما تقدّم (١).

[ طرق تحمّل الحديث ]

وإن روى عن غير المعصوم ، فلمستنده وجوه ثمانية ، وهي طرق التحمّل للحديث في أمثال هذا الزمان :

أوّلها : السماع من الشيخ ، سواء كان بإملائه من حفظه ، أو بقراءته في كتابه. وهو أعلى الطرق على الأقوى ؛ لأنّ الشيخ أعرف بوجوه تأدية الحديث وضبطه ، ولأنّه خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسفيره ، والآخذ منه كالآخذ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ولأنّ السامع أوعى قلبا وأجمع فكرا ، وتوزّعه (٢) للقارئ.

والدالّ عليه قول الراوي : « سمعته » أو « حدّثنا » أو « أخبرنا » إن قصد سماعه (٣) ، ولو لم يقصد ذلك يقول : « حدّث » أو « أخبر » ، ولا يضيفه إلى نفسه ؛ لأنّه يدلّ على القصد.

وقد شاع بين المتأخّرين تخصيص الأخير (٤) بالقراءة على الشيخ ، كما شاع بينهم تخصيص « أنبأنا » و « نبّأنا » بالإجازة (٥).

ويدلّ عليه أيضا « قال » مطلقا ، أو بزيادة لفظة « لي » أو « لنا ». واحتمال دلالته على السماع بالواسطة قد عرفت ضعفه (٦).

وثانيها : القراءة على الشيخ ، بشرط أن لا ينكر عليه ، وعلم منه الاعتراف بمضمونه إمّا بتصريحه والإقرار به ، أو من سكوته وانضمام القرائن المفيدة ، ولم يوجد أمر يوجب السكوت ، كالغفلة ، والإكراه ، أو غيرهما ، وتسمّى عرضا.

__________________

(١) آنفا.

(٢) أي تفرّق الفكر ، مجرور باللام الجارّة عطفا على « أنّ السامع » ، وفي شرح البداية : ١٢٨ : « وشغل القلب وتوزّع الفكر إلى القارئ أسرع ». وهذه العبارة موجودة في قوانين الاصول ١ : ٤٨٨.

(٣) في « ب » : « إسماعه ».

(٤) أي أخبرنا. راجع مقدّمة ابن الصلاح : ٩٩.

(٥) راجع شرح البداية : ١٣٠ ـ ١٣١.

(٦) في ص ٢٩٧.

٢٩٨

والحقّ أنّه حجّة معمول به ؛ لأنّه يفهم منه اعتراف العدل به ، فهو في حكم قراءته (١) ، إلاّ أنّ نفسه (٢) أرجح لما ذكر ، ولصحيحة (٣) عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام (٤).

ويقول الراوي حينئذ : « قرأت على فلان وقد أقرّ به » ، أو « أخبرنا » أو « حدّثنا قراءة عليه » (٥) وبدون القيد أيضا على رأي جماعة (٦) ، سيّما الأوّل. ومنعه آخرون (٧) ؛ لأنّ المتبادر منهما عند الإطلاق تحديث الشيخ بلفظه ، وسماعه منه (٨).

والحقّ جوازه ؛ لأنّا سلّمنا أنّ المعنى الحقيقيّ لهذين اللفظين ما ذكر ، إلاّ أنّه يمكن إرادة المعنى المجازي أيضا وهو الاعتراف بما قرأه عليه ، فإنّه يشابه الحقيقي في المعنى.

ونظيره جواز الشهادة بالبيع في صورة سماع لفظة « بعت » من البائع ، وفي صورة قراءة كتاب البيع عليه والاعتراف بمضمونه ، وإن لم يسمع منه هذه اللفظة.

ثمّ جواز استعمالهما (٩) فيه مقيّدين بقوله : « قراءة عليه » ممّا اتّفق عليه أهل الحديث ، إلاّ المرتضى ، فإنّه منعه في الذريعة ؛ حيث قال فيها :

وأمّا قول بعضهم : يجب أن يقول : حدّثني قراءة عليه حتّى يزول الإبهام ، ويعلم أنّ لفظة « حدّثني » ليست على ظاهرها ، فمناقضة ؛ لأنّ قوله : « حدّثني » يقتضي أنّه سمعه من لفظه وأدرك نطقه به ، وقوله « قراءة عليه » يقتضي نقيض ذلك ، فكأنّه نفى ما أثبت (١٠).

ولا يخفى ما فيه ؛ فإنّ انضمام لفظ إلى آخر يعيّن إرادة المعنى المجازي أمر شائع ، ولو

__________________

(١) أي قراءة العدل ، والمراد من العدل هنا هو الشيخ.

(٢) أي نفس اعتراف العدل. والمراد أنّ السماع من الشيخ أرجح من القراءة على الشيخ. والمراد من « ما ذكر » هو كون الشيخ أعرف بوجوه تأدية الحديث.

(٣) تعليل ثان لقوله : « حجّة معمول به » لا لقوله : « أرجح ».

(٤) الكافي ١ : ٥١ ، باب رواية الكتب والحديث ، ح ٥.

(٥) قيد لقوله : « أخبرنا » و « حدّثنا » كليهما.

(٦) نسب إلى المشهور في مقدّمة ابن الصلاح : ١٠٠ ، ونسب إلى عدّة في فائق المقال : ٣٤.

(٧) راجع نهاية الوصول إلى علم الأصول ٣ : ٤٣٥.

(٨) في مقدّمة ابن الصلاح : ١٠٠ نسب إلى أهل الحديث وقال : « قيل : إنّه قول ابن المبارك ويحيى بن يحيى التميمي وأحمد بن حنبل والنسائي ».

(٩) أي « أخبرنا » و « حدّثنا ».

(١٠) الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٥٦٠.

٢٩٩

لم يجز ذلك لزم سدّ أبواب المجاز. فالحقّ ما ذهب إليه الأكثر.

وإن قرأه غيره على الشيخ بحضوره ، فهو كقراءته ، والعبارة عنه « قرئ عليه وأنا أسمع فأقرّ به ».

وكلّ واحد من السماع والقراءة على الشيخ إمّا أن يكون مجرّدا عن الإجازة ، أو مقرونا بها ، وإذا صار مقرونا بها يصير أقوى في الحجّيّة. وكما يجوز التعبير عنه بما ذكر ، يجوز بما يفيد الإجازة أيضا ، كقوله : « أجازني » أو « أخبرني » أو « حدّثني إجازة ».

وثالثها : الإجازة ، وحقيقتها عرفا إخبار إجمالي بامور معلومة ، مضبوطة ، مأمون عليها من الغلط والتصحيف ، ولها صور :

الاولى : أن يقول الشيخ لمعيّن : « أجزت لك أن تروي ما قرأت عليك » ، وهذه إجازة اقترنت السماع.

الثانية : أن يقول له : « أجزت لك أن تروي عنّي ما قرأت عليّ » أو « ما قرأ غيرك عليّ بحضورك » ، وقد عرفت حالهما ، وهي إجازة اقترنت للقراءة على الشيخ.

الثالثة : أن يقول له : « أجزت لك أن تروي عنّي الكتاب الفلاني » ، وهذه إجازة معيّن لمعيّن.

الرابعة : أن يقول له : « أجزت لك أن تروي عنّي ما صحّ عندك أنّه من مسموعاتي » ، وهذه إجازة غير معيّن لمعيّن.

وهاتان الصورتان من الإجازة المجرّدة ؛ لعدم اقترانهما للمراتب الأخر.

وقد تقترن المناولة والكتابة ، وستعرفها بصورها وحكمها عند ذكرهما (١).

ولا يختلف الحكم إذا ضمّ الشيخ إلى المجاز له المخاطب في الصورة (٢) المذكورة واحدا أو متعدّدا متعيّنين ، كأن يقول : « أجزت لك ولغيرك فلان وفلان وفلان » من الموجودين المعيّنين (٣).

__________________

(١) يأتي مبحث المناولة والكتابة في ص ٣٠٢.

(٢) كذا في النسختين. والأولى : « الصور ».

(٣) في « ب » : « المتعيّنين ».

٣٠٠