أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

العدم ، فيجتمع النقيضان في الحكم المشكوك فيه وهو باطل.

فالحقّ ، كما قال بعض المحقّقين : إنّ هذا يجري فيما علم أنّه لو كان هناك دليل ، لظفر به فيما يعمّ به البلوى (١) ؛ لأنّه يمتنع عادة ثبوت حكم لقضيّة (٢) ترد على الناس في أكثر الأوقات ولم ينقل إليهم مع توفّر الدواعي على نقل مثله. مثاله : عدم الدليل على نقض الوضوء بالمذي دليل على عدمه ؛ لأنّه ممّا يعمّ به البلوى ؛ لحصوله لأكثر الناس في أكثر الأوقات ، فلو ثبت لعلم من الشرع كما علم نقض الوضوء بالبول ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

تذنيب

النافي للحكم إذا قال : لا أدري ، فلا دليل عليه وفاقا ؛ لأنّ قوله لا يعدّ مذهبا. وإن نفاه على البتّ ، فقيل : لا دليل عليه أيضا ؛ لأنّ النفي عدم وهو لا يفتقر إلى الدلالة (٣).

وضعفه ظاهر ؛ لأنّ الجازم بالنفي يدّعي العلم به ، وهو إمّا أن يستند إلى الضرورة أو النظر. والأوّل باطل ؛ فتعيّن الثاني ، فالمحتاج إلى الدليل هو الجزم بالنفي ، ولو لم يفتقر إليه ، لزم التفصّي عنه في كلّ دعوى ؛ لإمكان إرجاعه إلى النفي وهو باطل.

ويمكن أن يقال : إنّ مراد القائل أنّه لمّا كان المتيقّن هو العدم للاستصحاب أو لأصل البراءة حتّى يعلم خلافه ، فالمدّعي له لا يخلو قوله عن دليل ، ولا يفتقر إلى دليل آخر. وهو لا يلائم حكمه بعدم افتقاره إلى الدليل أصلا.

فصل [٦]

ومن النوع الثاني : استصحاب حال الشرع ، وهو إبقاء حكم ثبت على ما كان. وتنقيحه يتوقّف على بيان امور :

[ الأمر ] الأوّل : الاستصحاب إمّا أن يكون في نفس الحكم الشرعي ، بأن يحكم بعدم

__________________

(١) قاله الفاضل التوني في الوافية : ١٨٢.

(٢) في « ب » : « القضيّة ».

(٣) قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : ٢١١.

٤٠١

كون شيء مزيلا إذا شكّ في كونه كذلك مع القطع بوجوده ، أو في موضوعه بأن يحكم بعدم وجود المزيل القطعيّ مع الشكّ في وجوده ، أو في متعلّقه ، كالحكم ببقاء المعنى اللغوي على حاله إذا شكّ في النقل ، أو فيما لا علاقة له بالأمر الشرعي أصلا ، كالحكم ببقاء رطوبة ثوب إذا شكّ فيها مع سبق العلم بها.

[ الأمر ] الثاني : الأكثر على حجّيّة الاستصحاب مطلقا. والمرتضى (١) والبصري (٢) وأكثر الحنفيّة على نفي حجّيّته كذلك (٣). وبعض المتأخّرين من أصحابنا على حجّيّته إذا كان في موضوع الحكم الشرعي دون نفسه (٤). وبعض آخر منهم على حجّيّته في الحكم الذي كان مغيّا بغاية مخصوصة من زمان أو حالة وشكّ في حصولها ، فيحكم باستمراره إلى أن يقطع بحصولها ، ولا يحكم بنفيه بمجرّد الشكّ في حدوثها (٥). وبعض آخر منهم على حجّيّته في الأحكام الوضعيّة دون الشرعيّة ؛ لجريانه أصالة في الأوّل دون الثاني (٦).

نعم ، يجري فيه بتبعيّة الأوّل ، فالجريان والحجّيّة في الأوّل بالذات ، وفي الثاني بالعرض.

والحقّ عندي الحجّيّة مطلقا ، إلاّ أنّ حجّيّة في بعض المواضع قطعيّة ينتهض فيها مؤسّسا للحكم ودليلا ، وفي بعضها ظنّيّة يصلح فيها تأييدا وترجيحا. وسيظهر لك بعد ذكر هذه المواضع وأدلّته.

[ الأمر ] الثالث : الموارد بالنسبة إلى جواز جريان الاستصحاب فيها وعدمه ثلاثة أصناف :

الصنف الأوّل : ما لا شكّ في إمكان جريانه فيه ، وهو أقسام :

منها : أن يعلم ثبوت حكم شرعي أو وضعي إلى غاية أو حالة معيّنتين وشكّ في حصول ما جعل مزيلا له.

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٣٤٥ و ٣٤٦.

(٢) حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٣٢.

(٣) حكاه الشيخ في العدّة في أصول الفقه ٢ : ٧٥٦.

(٤) قاله السبزواري في ذخيرة المعاد : ١١٥ و ١١٦.

(٥) قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : ٢٠٦ و ٢٠٩ و ٢١٠.

(٦) قاله الفاضل التوني في الوافية : ٢٠٢ و ٢٠٣.

٤٠٢

ومنها : أن يعلم وجوب أمر معيّن في الواقع مردّد عندنا بين امور ، أو ثبوت حكم إلى غاية معيّنة في الواقع مردّدة عندنا بين أشياء ، وعلم عدم اشتراطهما بالعلم ، فإذا اتي بواحد من الامور أو الأشياء يمكن إجراء الاستصحاب في عدم كفايته لارتفاع التكليف ، ووجوب الحكم ببقائه إلى أن يؤتى بجميع الامور ، ويحصل جميع الأشياء المردّدة فيها في نظرنا.

ومنها : أن يعلم ثبوت حكم في جميع الأزمنة بالإجماع أو النصّ أو العموم أو الإطلاق ، وشكّ في ثبوته في جزء منها غير ابتدائها لأجل معارض ، فيمكن دفعه بالاستصحاب. وإمكان دفعه بالإجماع أو النصّ أو عمومه أو إطلاقه لا ينافي إمكان جريانه فيه ودفعه به أيضا ؛ فإذا شكّ في وقوع الطلاق ببعض الألفاظ كقوله : « أنت خليّة وبريّة » فيصحّ للمستدلّ أن يقول : حلّ الوطء كان ثابتا قبل النطق بهذه ، فكذا بعده للاستصحاب ، كما يصحّ له أن يقول : إنّ الدليل المقتضي له ـ وهو العقد ـ اقتضاه مطلقا من دون التقييد بوقت ، فيلزم دوامه.

وإلى ما ذكرنا أشار جماعة من المحقّقين حيث صرّحوا بأنّ الاستصحاب على أربعة أقسام (١) :

أحدها : استصحاب حكم العموم إلى ورود مخصّص ، وحكم النصّ إلى ورود ناسخ ، وهو إنّما يتمّ بعد استقصاء البحث عن المخصّص والناسخ.

وثانيها : استصحاب حكم الإجماع في موضع النزاع ، كما يقال : الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء ؛ للإجماع على أنّه متطهّر قبله ، فيستصحب ؛ إذ الأصل في كلّ متحقّق دوامه حتّى يثبت معارض ، والأصل عدمه. وكما يقال في التيمّم : إذا وجد الماء في أثناء الصلاة لا ينقض تيمّمه ؛ للإجماع على صحّة صلاته قبل وجوده ، فتستصحب حتّى يثبت دليل.

وثالثها : استصحاب حكم ثبت شرعا ، كالملك عند وجود سببه ، وشغل الذمّة عند إتلاف مال ، أو التزام إلى أن يثبت رافع.

__________________

(١) منهم : الشهيد في القواعد والفوائد ١ : ١٣٢ و ١٣٣ ، القاعدة ٣ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٧١ ، القاعدة ٩٦ ، والفاضل التوني في الوافية : ٢١٦ و ٢١٧.

٤٠٣

ورابعها : استصحاب النفي في الحكم الشرعي إلى أن يرد دليل ، وهو المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة.

والحقّ أنّه لا ريب في إمكان جريان الاستصحاب وحجّيّته في كلّ من الأقسام الأربعة ، كما يأتي (١) ، فما ذكره بعض المتأخّرين من أنّه لا استصحاب في القسمين الأوّلين ، ولا يمكن إثبات الحكم فيهما به ، بل بالعموم والنصّ والإجماع (٢) ، غير صحيح. ووجهه ما ذكرناه.

وكذا (٣) الحال في حكم علم ثبوته في قطعة مستمرّة من الزمان بإحدى الطرق المذكورة ، وشكّ في ثبوته في جزء منها غير جزئها الأوّل.

الصنف الثاني : ما شكّ في جريانه فيه ، ووقع فيه الخلاف ، وهو على قسمين :

أوّلهما : أن يعلم ثبوت حكم في الجملة من غير العلم بثبوت استمرار ما له وعدمه.

وثانيهما : أن يعلم استمراره في الجملة ، ثمّ حصل الشكّ فيهما بعد مضيّ ما يصلح ظرفا لهما.

والمشهور بين القوم إمكان جريان الاستصحاب وحجّيّته فيهما ، ونفاه جماعة (٤) ؛ لأنّه في موضع لو لم يعرض الشكّ في ثبوت الحكم ، لحصل اليقين بالبقاء ، وهنا ليس كذلك ، ويأتي تحقيق الحال فيهما (٥).

ثمّ ثبوت الحكم في المواضع المذكورة إمّا باعتبار يعلم من خارج أنّ زواله لا يستلزم زواله ، كثبوت نجاسة ثوب باعتبار ملاقاته للبول مثلا ، ولا ريب أنّ زوال الملاقاة لا يستلزم زوال النجاسة.

أو باعتبار لا يعلم ذلك فيه ، كوجوب الاجتناب عن إناء مخصوص باعتبار وقوع النجاسة فيه بعينه ، فإذا اشتبه بغيره وزالت المعلوميّة بعينه ، يقع الشكّ في زوال الحكم ،

__________________

(١) يأتي في ص ٤٠٨.

(٢) قاله الفاضل التوني في الوافية : ٢١٧.

(٣) عطف على « ومنها أن يعلم ثبوت حكم في جميع الأزمنة » في ص ٤٠٣.

(٤) منهم : السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٣٥٢ ، ونسبه الشيخ إلى أكثر المتكلّمين وكثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة في العدّة في أصول الفقه ٢ : ٧٥٦.

(٥) يأتي في ص ٤٠٨.

٤٠٤

ولا يعلم أنّ زوال هذا الاعتبار يستلزم زواله أم لا؟

والحقّ : أنّ الاستصحاب يجري في كليهما (١) ، فما لم يعلم طهارة الثوب على الوجه المعتبر شرعا يستصحب حكم النجاسة فيه ، وكذا يستصحب وجوب الاجتناب عن الإناءين.

هذا ، ولا فرق بين المواضع التي يجري فيها الاستصحاب بين أن يكون الحكم الثابت فيها أوّلا حكما شرعيّا أو وضعيّا ، وأن يكون المشكوك فيه وجود المزيل القطعي ، أو كون الحاصل قطعا مزيلا ، أم لا.

الصنف الثالث : ما لا شكّ في عدم إمكان جريان الاستصحاب فيه ، وهو أيضا على قسمين :

أوّلهما : أن يعلم ثبوت حكم شرعي أو وضعي في وقت خاصّ ، أو حالة خاصّة ، بحيث يكون للزمان والحالة مدخل فيه ، فلا يجري الاستصحاب فيما بعدهما.

وهذا القسم إمّا أن يتجدّد الحكم فيه بتجدّدهما ، كالصلاة ومثلها ، فيمكن إجراؤه فيه من جهة دون اخرى ، أو لا ، كوجوب الحجّ عند الاستطاعة.

وثانيهما : أن يعلم ثبوت حكم في وقت لم يسبقه وقت آخر يثبت فيه هذا الحكم.

[ الأمر ] الرابع : احتجّ الأكثر (٢) بوجوه أربعة :

[ الوجه ] الأوّل : استفاضة الأخبار بأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ (٣). وأكثرها يدلّ على عدم نقض مطلق اليقين بالشكّ ، فيثبت منها حجّيّة الاستصحاب في الصنف الأوّل من الموارد ، سواء كان في الحكم الشرعي أو الوضعي ، وفي نفسه ، أو موضوعه ، أو متعلّقه.

[ الوجه ] الثاني : أنّ شغل الذمّة اليقينيّ يحتاج إلى البراءة اليقينيّة وفاقا ، وهو أيضا يدلّ على حجّيّته فيما ذكر.

والحقّ ، أنّهما لا يدلاّن على حجّيّته في الصنف الثاني.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ أنّه عند التعارض لا ينقض به.

__________________

(١) أي القسمين من الصنف الثاني.

(٢) أي القائلين بحجّيّة الاستصحاب.

(٣) راجع : الكافي ٣ : ٣٥١ ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح ٣ ، وتهذيب الأحكام ١ : ٨ ، ح ١١.

٤٠٥

والمراد بالتعارض أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ ، وما ذكروه ليس كذلك ؛ لأنّ اليقين في زمان لا يوجب حصوله في زمان آخر لو لا عروض الشكّ.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ شغل الذمّة في الزمان الذي وقع فيه الشكّ ليس يقينيّا ؛ لعدم دليل يتناوله بنصّه ، أو عمومه ، أو إطلاقه.

وما يوضحه : أنّه لو امرنا بفعل وقلنا : إنّ الأمر لا يفيد التكرار بل الماهيّة المطلقة ، وفعلنا ما يتحقّق [ به ](١) الماهيّة في ضمنه وشككنا بعده في وجوب المأمور [ به ](٢) ، لا يمكن إثباته فيه بهذين الدليلين ؛ لعدم ثبوت يقين بوجوب الفعل علينا فيه حتّى يدفع الشكّ به.

وما قيل : إنّه بعد ملاحظة الوجود المتقدّم يحصل رجحان البقاء في الزمان الثاني ؛ لأنّه لو فرض ارتفاع هذا الشكّ يحصل اليقين بالبقاء ؛ لأنّ عدم عروض الشكّ إنّما يتحقّق عند تحقّق جميع أجزاء علّة الوجود ، ومعه يحصل الجزم ببقاء المعلول ؛ لأنّ بقاءه ببقاء العلّة التامّة ، وزواله بزوالها (٣).

يرد عليه : أنّ معنى قولنا : « إنّ اليقين لا ينقض بالشكّ » وقولنا : « شغل الذمّة اليقينيّ لا يدفع بالبراءة المشكوك فيها » أنّه إذا ثبت بالدلالة أنّ هنا يقينا ، ثمّ ورد عليه الشكّ ، لا يترك اليقين به ؛ لأنّه في قوّة قولنا : « اليقين باق مع الشكّ » وهو قضيّة موجبة تقتضي وجود الموضوع ، ولم يتحقّق ذلك في زمان ثان حصل فيه الشكّ ؛ إذ لم يحصل فيه يقين أوّلا وإن حصل في زمان سابق عليه.

واستلزام ثبوت حكم في زمان لثبوته في زمان آخر من غير دلالة ممنوع ، واستلزام فرض ارتفاع الشكّ لوجود اليقين كلّيا مسلّم ، إلاّ أنّ فرض ارتفاعه في بعض المواضع يكشف عن بقاء اليقين ، وهذا إذا ثبت يقين أوّلا بدليل ثمّ ورد عليه الشكّ.

والدليلان يدلاّن على عدم مقاومة مثل هذا الشكّ لمثل هذا اليقين. وفي بعضها يتوقّف على تجدّد يقين باعتبار دليل ، وهذا إذا لم يحصل يقين أوّلا ، وهما لا يجريان فيه ؛ لعدم

__________________

(١ و ٢) أضفناهما بمقتضى الضرورة.

(٣) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٦ : ١٢٠ ، وقاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٣٤ ، والمحقّق الحلّي في معارج الأصول : ٢٠٨.

٤٠٦

ثبوت يقين فيه حتّى يقع التعارض بينه وبين الشكّ ، ولا معنى لتحقّق الاستصحاب فيه.

نعم ، إن بني الدليل الثاني على وجوب حصول اليقين بالامتثال مطلقا ، سواء علم شغل الذمّة أم لا ـ كما يستفاد من كلام جماعة (١) ـ دلّ على جريان الاستصحاب وحجّيّته فيما ذكره القوم أيضا ، إلاّ أنّه حينئذ يكون ممنوعا ، ووجهه ظاهر.

[ الوجه ] الثالث : أنّ ما يثبت أوّلا ولم يتحقّق ما يزيله يظنّ بقاؤه ، ولولاه لعدّ إرسال الودائع والهدايا والمكاتيب من البعيد سفها ، وسفّه من اشتغل بما يقتضي زمانا من حراثة وتجارة وغيرهما ، ولزم أن يكون نسبة الوجود والعدم إلى قرية سبق العلم بوجودها ، وقرية سبق العلم بعدمها على السواء ، وهو ظاهر البطلان. والسرّ فيه أغلبيّة استمرار تحقّق مطلق الجواهر والأعراض القارّة المتحقّقة والانتزاعيّة بعد تحقّق ما ينزع منه. وما ينقض سريعا هو غير القارّ من الأعراض ، ولا يقطع بكون الأحكام الشرعيّة منها ، فإمّا أن يجزم أو يظنّ بكونها من الانتزاعيّة على ما هو الظاهر ، فثبت المطلوب ، أو يشكّ ولا يعلم أنّه من أيّ الأقسام؟ ولا ريب أنّ ما فيه أغلبيّة الاستمرار أغلب من غيره ، والمشكوك يلحق بالأعمّ الأغلب. وهذا الدليل يدلّ على حجّيّته في الصنف الأوّل والثاني ، سواء كان في الحكم الشرعي أو الوضعي ، وفي نفسه ، أو موضوعه ، أو متعلّقه ، أو فيما لا تعلّق به أيضا (٢).

[ الوجه ] الرابع : الاستقراء ؛ فإنّ تصفّح جزئيات الأحكام الصادرة من الشارع يعطي الظنّ بأنّ الأصل عنده في كلّ متحقّق دوامه ، كحكمه بعدم جواز قسمة مال الغائب ، وبقاء أنكحته ، وعزل نصيبه في المواريث وإن طال غيبته وبقاء الملك ، وجواز الشهادة عليه ما لم يعلم الرافع ، وبقاء الليل والنهار حتّى يجزم بانقضائهما ، وجواز إعتاق الآبق في الكفّارة ، وعمل الشاكّ في الطهارة ، والمتيقّن في الحدث ، وعكسه على (٣) يقينه ، وجواز الاستمتاع لو شكّ في الزوجيّة إذا تقدّم عليه العلم بثبوتها ، وحرمته لو شكّ فيها ابتداء ، ولا فارق بين

__________________

(١) راجع : تهذيب الوصول : ٢٩٣ ، وتمهيد القواعد : ٢٧١ ، القاعدة ٩٦ ، والوافية : ١٩١.

(٢) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٦ : ١٢١ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٣٩ ، والفاضل التوني في الوافية : ٢٠٨.

(٣) متعلّق على « عمل ».

٤٠٧

الصورتين إلاّ استصحاب الزوجية في الاولى وعدمها في الثانية.

وهذا الدليل أيضا يدلّ على جريانه وحجّيّته في كلّ ما دلّ سابقه على جريانه وحجّيّته فيه ، سوى ما لا تعلّق له بالحكم الشرعي (١) ؛ وربّما منع دلالته على جريانه في الصنف الثاني أيضا ؛ لأنّ الجزئيّات الصادرة من الشارع ليست منه ، كما يفصح عنه التتبّع.

وقد استدلّ للأكثر بوجوه أخر (٢) ، أعرضنا عنها ؛ لظهور ضعفها.

وبما ذكر ظهر أنّ الوجوه الأربعة تدلّ على حجّيّة الاستصحاب في الصنف الأوّل مطلقا ، سواء كان في نفس الحكم الشرعي ، أو موضوعه ، أو متعلّقه ، أو في الحكم الوضعي ، فيكون حجّيّته فيه قطعيّة ؛ لتعاضدها ، وإفادة بعضها القطع كالثاني ، بل الأوّل أيضا عند التحقيق. والثالث يدلّ على حجّيّته في الصنف الثاني أيضا.

ولعدم إفادته أكثر من ظنّ لا ينتهض مؤسّسا لحكم شرعي يكون حجّيّته فيه ظنّيّة تصلح للتأييد لا غير ، فثبت ما اخترناه وانفسخ باقي المذاهب.

ثمّ بعض من قال بحجّيّته في الصنف الأوّل استثنى منه استصحاب حكم الإجماع في موضع النزاع وقال بعدم حجّيّته ؛ محتجّا بأنّ كلّ دليل يضادّه نفس الخلاف فلا يمكن استصحابه معه ، والإجماع يضادّه نفس الخلاف ؛ إذ لا إجماع مع الخلاف ؛ إذ المخالف لا يسلّم شمول الإجماع محلّ الخلاف ، بخلاف النصّ والعموم ودليل العقل ؛ لأنّ الخلاف لا يضادّه (٣) ؛ فإنّ المخالف قائل بأنّ العموم مثلا يتناول موضع الخلاف لكن يقول : أخصّه بدليل ، فإن لم يأت بالدليل يستصحب العموم (٤).

والجواب : أنّ هذا يدلّ على عدم بقاء نفس الإجماع ، ونحن لا نستدلّ به ، بل باستصحاب حكمه ، وقد ثبت حجّيّته من عموم الأدلّة.

وهو الجواب عمّا قيل إنّ استصحاب حكمه إن كان بنصّ أو عموم فهو الدليل لا

__________________

(١) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٣٤ ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : ٢٠٧ ، والفاضل التوني في الوافية : ٢٠٨.

(٢) راجع : نهاية السؤل ٤ : ٣٥٨ ، والفوائد الحائريّة : ٢٧٧ ، الفائدة ٢٧.

(٣) أي كلّ واحد.

(٤) قاله الغزالي في المستصفى : ١٦٠.

٤٠٨

الاستصحاب ، أو بالإجماع ، فلم يجز المخالفة ، وهو خلاف الإجماع (١).

وعمّا يستدلّ في بعض المسائل بأنّ هذا الحكم ثابت بالإجماع ، والإجماع إنّما هو إلى هذا الوقت الخاصّ ، ولا (٢) دليل عليه فيما بعده ، فلا يكون الحكم فيما بعده ثابتا.

ثمّ إنّ هذا الدليل إنّما يتمّ إذا كان ثبوت الحكم المجمع عليه محدودا إلى وقت خاصّ ، وإذا كان مطلقا غير محدود ، فكيف يجدي تحقّق الخلاف لنفيه؟! بل للخصم أن يقول : الإجماع حينئذ يحرّم الخلاف ، فكيف يرتفع بالخلاف؟!

والحقّ : أنّ ثبوته إن كان مطلقا ولم يطرأ ما يوقع الشكّ في شموله لموضع النزاع ، حرم الخلاف ، وإن طرأ ذلك لم يحرم الخلاف للوفاق ، ولكن لا ريب حينئذ في جواز التمسّك بالاستصحاب وحجّيّته ؛ لما أشرنا إليه.

هذا ، وما لا تعلّق له بالحكم الشرعي كرطوبة الثوب ونحوها إن أمكن أن يصير منشأ لحكم شرعي بالعرض ، فلا ريب في جريان الاستصحاب وحجّيّته فيه ؛ لدلالة الأدلّة المذكورة عليه ، وإلاّ فلا يجري فيه ؛ لعدم دلالة غير الثالث حينئذ على جريانه فيه.

أمّا الثاني والرابع ، فظاهر. وأمّا الأوّل ؛ فلأنّه يبعد أن يكون مرادهم بيان ما لا مدخليّة له بالحكم الشرعي أصلا. والثالث وإن دلّ على ذلك إلاّ أنّك قد عرفت حاله ، مع أنّه لا فائدة في بيان حجّيّة مثله ؛ لعدم تعلّق غرض علميّ به. وهذا ما يقال إنّ الاستصحاب في الامور الخارجيّة لا عبرة به ، ولا فائدة فيه.

احتجّ من أنكر حجّيّته مطلقا بأنّ دليل الحكم إمّا أن يدلّ على ثبوته في الوقتين ، فلا استصحاب. أو على ثبوته في الوقت الأوّل فقط ، فالتسوية بينهما فيه تؤدّي إلى إثبات الحكم (٣) بغير دليل ؛ لأنّ ثبوت الحكم في وقت أو حال لا يتناول ما عداه ، وهو باطل.

وبأنّ حجّيّته تقتضي أولويّة بيّنة النفي على بيّنة الإثبات ؛ لاعتضادها به ، مع أنّها لا تسمع.

__________________

(١) المصدر : ١٦١.

(٢) في « ب » : « فلا ».

(٣) في « ب » : « حكم ».

٤٠٩

وبتسفيه من حكم ببقاء زيد في الدار إذا غاب عنه.

وبأنّ أدلّة الأحكام معروفة وليس الاستصحاب واحدا منها (١).

والجواب عن الأوّل : اختيار الشقّ الأوّل أوّلا ، ولا يلزم انتفاء الاستصحاب حينئذ ؛ لما تقدّم. ثمّ الثاني ثانيا ، ولا يلزم إثبات الحكم بغير دليل ؛ لدلالة بعض الأدلّة المتقدّمة على أنّ الثابت في زمان لا يرتفع إلاّ بدليل.

وعن الثاني : أنّا لا نمنع اعتضاد بيّنة النفي بالاستصحاب ، لكن لبيّنة الإثبات وجوه أخر من الأولويّة تترجّح عليه وتغلبه :

منها : إمكان اطّلاع المثبت على ما يخالف الأصل ، وعدم اطّلاع النافي عليه ؛ لجواز حدوثه عند غيبته.

ومنها : أنّ غلط المثبت ـ بأن يظنّ المعدوم موجودا ـ أبعد من غلط النافي ، بأن يعكس ؛ بناء على عدم علمه.

ومنها : أنّ المثبت لمّا كان مدّعيا للعلم بالوجود ، يكون له طريق قطعيّ بخلاف النافي ؛ فإنّ طريقه ـ وهو عدم العلم ـ ظنّي.

ومنها : أنّ إنكار الحقّ أكثر من دعوى الباطل ؛ لأنّ دفع غير الملائم أهمّ من جلب الملائم عند المحقّ والمبطل ، ولذا يدفع كلّ منهما عن نفسه كلّ الأوّل ، ولا يجلب كلّ منهما إلى نفسه كلّ الثاني ، وغير خفيّ أنّه إذا عارض الأصل واحد منها وتساقط (٢) ، بقي الباقي سالما.

و [ الجواب ] عن الثالث : أنّ التسفيه هنا لوجود ما يدفع الأصل ، وهو قضاء العادة بالخروج ، ولولاه لكان الحكم بالبقاء صحيحا.

و [ الجواب ] عن الرابع : أنّ الأدلّة العقليّة من أدلّة الأحكام ، والاستصحاب منها ؛ لثبوت حجّيّته من العقل. وعلى ما ذكرنا من دلالة الأخبار على حجّيّته ، يمكن عدّه من السنّة ، إلاّ

__________________

(١) قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٣٤٥ و ٣٤٦ و ٣٤٨ ، والغزالي في المستصفى : ١٥٩.

(٢) في « ب » : « تساقطا ».

٤١٠

أنّ القوم لمّا أثبتوا حجّيّته بالعقل ، عدّوه من الأدلّة العقليّة (١).

واحتجّ من قال بحجّيّته في موضوع الحكم دون نفسه : بأنّ الاعتماد في حجّيّته إنّما هو على الأخبار ؛ لضعف سائر الأدلّة. وهي تدلّ على حجّيّة ما في موضوعه دون نفسه ؛ لأنّها وردت في قضايا خاصّة من أفعال الإنسان وأحواله ، ويشترك كلّها في الدلالة على بنائه في هذه القضايا على يقينه السابق ، وعدم التفاته إلى شكّ في حدوث ما يعلم أنّه مزيل ، لا إلى العلم في حدوث ما يشكّ أنّه مزيل أيضا ، كما ورد : « أنّ اليقين بالطهارة لا ينقض بالشكّ في الحدث ، واليقين بطهارة البدن والثوب لا ينتقض بالشكّ في إصابة البول أو المنيّ إليهما » (٢).

وجوابه : أنّ أكثر أخبار الباب يدلّ على عدم انتقاض مطلق اليقين بمطلق الشكّ ، كما ورد في صحيحة زرارة : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، ولكن ينقضه يقين آخر » (٣).

وفي صحيحته الاخرى : « فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا » (٤).

وفي صحيحته الاخرى : « ولا ينقض اليقين بالشكّ ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يختلط أحدهما بالآخر ، ولكنّه ينتقض الشكّ باليقين » (٥).

وفي مكاتبة القاساني : « اليقين لا يدخل فيه الشكّ » (٦).

وفي موثّقة ابن صدقة : « والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة » (٧). وقس عليها أمثالها. وإطلاق اليقين والشكّ يعمّ عدم نقض مطلق اليقين بمطلق الشكّ ، سواء كان في موضوع الحكم أو نفسه.

__________________

(١) منهم : السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٣٤٣ ، والشيخ في العدّة في أصول الفقه ٢ : ٧٥٢ ، وابن حمزة في غنية النزوع ٢ : ٤٢٠ ، والمحقّق الحلّي في معارج الاصول : ٢٠٦ ، والعلاّمة في مبادئ الاصول : ٢٥٠ ، والشهيد في القواعد والفوائد ١ : ١٣٢ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٧١ ، القاعدة ٩٦ ، والشيخ حسن في معالم الدين : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

(٢) راجع : تهذيب الأحكام ١ : ٤٢١ ، ح ١٣٣٥ ، والاستبصار ١ : ١٨٣ ، ح ٦٤١ ، ومستدرك الوسائل ١ : ٢٧٧ ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب ١ ، ح ١ ـ ٣.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٨ ، ح ١١.

(٤) المصدر : ٤٢١ ، ح ١٣٣٥.

(٥) الكافي ٣ : ٣٥١ ، باب السهو في الثلاث والأربع ، ح ٣.

(٦) تهذيب الأحكام ٤ : ١٥٩ ، ح ٤٤٥.

(٧) الكافي ٥ : ٣١٣ ، باب النوادر ، ح ٤٠.

٤١١

وفي موثّقة عمّار عن الصادق عليه‌السلام : « كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » (١). وهي بإطلاقها تدلّ على عدم الالتفات إلى الشكّ في حدوث ما يعلم أنّه قذر ، وفي قذارة ما علم حدوثه (٢).

هذا ، مع أنّ الشكّ في موضوع الحكم يستلزم الشكّ في نفسه ؛ فإنّه إذا شكّ في نجاسة ثوب باعتبار ما ، يقع الشكّ في وجوب التنزّه عنه في الصلاة ، فإذا اقتضى الجهل بالموضوع الجهل بنفس الحكم ، اقتضى جريان الاستصحاب وحجّيّته في الأوّل جريانه وحجّيّته في الثاني. وقد بسطنا الكلام في هذا المقام في جامعة الاصول (٣).

واحتجّ من قال بحجّيّته في الحكم الذي كان مغيّا بغاية مخصوصة وشكّ في وجودها دون غيره بأنّ الاعتماد في حجّيّته إنما هو على الأخبار والدليل الثاني ، وهما يدلاّن على حجّيّة هذا القسم دون غيره (٤).

وجوابه : ما عرفت من دلالتهما على حجّيّة أقسام أخر منه.

والإيراد : بأنّه لا فائدة في إجراء الاستصحاب فيها ؛ لثبوت حجّيّتها من النصّ أو الإجماع أو العموم أو الإطلاق ، مشترك ؛ لأنّ القسم الذي ذكره أيضا ممّا يلزم فيه أن يدلّ أحد الأدلّة المذكورة على ثبوت الحكم إلى غاية معيّنة ، كما اعترف به هذا القائل ، فإذا شكّ في زمان في وجودها ، يمكن دفعه بالدليل الذي دلّ على ثبوت الحكم إلى الغاية المعيّنة.

نعم ، يمكن أن يقال : لا يثبت من الدليل استمرار الحكم إلى العلم بوجود الغاية ، بل الثابت منه استمراره إلى وجودها ، وهو أعمّ من العلم بوجودها أو الشكّ فيه ، فربّما قيل : يكفي الشكّ فيه في زوال الحكم ، فلا بدّ لدفعه من ضميمة الاستصحاب ، وهذا لا يأتي في الأقسام التي أجرينا فيها الاستصحاب ، إلاّ أنّك قد عرفت (٥) أنّ عدم الفائدة لا ينافي الوجود والحجّيّة.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢٨٤ ، ح ٨٣٢.

(٢) الأوّل في الشكّ في حدوث الرافع ، والثاني في الشكّ في رافعيّة الموجود.

(٣) جامعة الأصول : ١٦٦ وما بعد.

(٤) قاله السبزواري في ذخيرة المعاد : ١١٥ و ١١٦.

(٥) في ص ٤٠٩.

٤١٢

واحتجّ من قال بحجّيّته بالذات في الأحكام الوضعيّة لا غير :

بأنّ الأحكام الشرعيّة لا يجري فيها الاستصحاب مطلقا ؛ لأنّه إذا ورد أمر بطلب شيء فلا يخلو : إمّا أن يكون موقّتا أم لا ، فعلى الأوّل ، يكون وجوب هذا الشيء وندبه في كلّ جزء من (١) هذا الوقت ثابتا بالأمر ، ففي الزمان الثاني يثبت الحكم بالأمر ، فلا حاجة فيه إلى الاستصحاب. وعلى الثاني أيضا كذلك إن قلنا بإفادة الأمر التكرار ، وإلاّ فيكفي الإتيان بفرد يتحقّق في ضمنه الماهيّة وليس فيه استصحاب. وكذا الحكم في النهي.

وأمّا الأحكام الوضعيّة كالأسباب وغيرها : فإمّا أن يكون سببيّتها ـ مثلا ـ على الإطلاق ، كسببيّة الإيجاب والقبول لإباحة التصرّفات والاستمتاعات ، فإنّ سببيّتهما على الدوام إلاّ أن يتحقّق مزيل ، أو في وقت معيّن ، كالدلوك والكسوف والحيض ، سواء كان السبب وقتا للحكم أو لا ؛ فإنّها أسباب للحكم في أوقات معيّنة لا دائما. وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء ؛ لأنّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ، ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة ، فلا معنى لجريان الاستصحاب في الحكم الذي يقتضيه السبب من حيث إنّه حكم.

نعم ، إذا شكّ في تحقّق السبب في جزء من الزمان يمكن إجراء الاستصحاب فيه.

وكذا الكلام في الشرط والمانع وغيرهما ، فالاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعيّة من حيث هي ، ووقوعها في الشرعيّة بتبعيّتها ، كما يقال في الماء الكرّ المتغيّر بالنجاسة : إذا زال تغيّره من قبل نفسه يجب الاجتناب عنه ؛ لوجوبه قبل الزوال. فإنّ مرجعه إلى أنّ النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيّره ، فكذا بعده. وقس عليه مثال المتيمّم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة وغيره.

ثمّ لو لم تكن الأخبار لم يكن الاستصحاب في مطلق الأحكام الوضعيّة أيضا حجّة ، وإن أمكن جريانه فيها ؛ لأنّ العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت لا يقتضي العلم بوجوده في غير ذلك الوقت ، فإذا زال العلم بوجوده في

__________________

(١) في « ب » : « في ».

٤١٣

زمان بطروّ شكّ لا يمكن الحكم بثبوت الحكم الثابت أوّلا فيه ، إلاّ أنّ الظاهر من الأخبار أنّه إذا علم وجود شيء ، يحكم به حتّى يعلم زواله (١).

وأنت بعد الإحاطة بما تقدّم تعلم أنّ هذا التطويل لا طائل تحته ؛ فإنّك عرفت إمكان جريان الاستصحاب وحجّيّته فيما ذكره أوّلا من الحكم الذي ورد بطلبه أمر من الشارع ، وفي غيره أيضا. وإرجاعه الاستصحاب في الحكم الشرعي إلى الوضعي ، وجعله تابعا له مقلوب عليه.

وما ذكره من عدم تابعيّة ثبوت حكم في جزء من الزمان لثبوته في جزء آخر مع كون نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة ، يتأتّى في نفس السبب أيضا ؛ فإنّ ثبوت السبب في جزء من الزمان ليس تابعا لثبوته في جزء آخر بعد ما جعله الشارع سببا في كلّ جزء.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ هذا الأصل أهمّ الاصول التي تبتني عليها الأحكام. والفروع له لا تحصى كثرة : كطهارة الكرّ إذا وجد متغيّرا وشكّ في تغيّره بالنجاسة ، أو بالأجون (٢) ، وإعادة الصلاة بالشكّ في الركعتين الاوليين أو في الثنائيّة أو الثلاثيّة ، والتحريم بالشكّ في انقضاء العدّة ، ووجوب أداء الزكاة والخمس بالشكّ في أدائهما ، وصحّة الصوم لو شكّ في عروض المفطر ، وصحّة الاعتكاف لو شكّ في عروض المبطل ، وكذا الشكّ في أفعال الوضوء والصلاة والحجّ بعد الفراغ عنها ، وجواز تصرّف الولي في مال الطفل إذا شكّ في بلوغه ، وحرمة الأكل بالشكّ في الغروب ، وجوازه بالشكّ في طلوع الفجر. وقس عليها أمثالها.

وقد أشرنا إلى شطر آخر منها أيضا فيما سبق (٣). ومن أحاط بها يجد أنّ جلّها من الصنف الأوّل ، فيجزم بحجّيّة الاستصحاب فيها ، والصنف الثاني منها نادر ، وإن عثر عليه لا يخفى عليه حقيقة الحال فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه.

__________________

(١) قاله الفاضل التوني في الوافية : ٢٠٠ ـ ٢٠٣.

(٢) « الأجون » مذكّر الجوناء ، أي الأسود. راجع القاموس المحيط ٤ : ٢١٣ ، « ج ون » أو من « أ ج ن » ومصدره يكون « أجون » بمعنى تغيّر الماء من غير اختلاطه بشيء. راجع لسان العرب ١٣ : ٨ ، « أ ج ن ».

(٣) سبق في ٤٠٧ و ٤٠٨.

٤١٤

تذنيب

للعمل بالاستصحاب شروط محرّرة في كتب الاصول (١) ، ويجمعها أربعة أصناف :

[ الصنف ] الأوّل : أن لا يتغيّر الموضوع بحيث يصير حقيقة اخرى في الواقع أو عند العرف ، فلا يستصحب الأحكام الثابتة لبعض الأعيان بعد طروّ الاستحالة ، أو الانقلاب ، أو الانتقال له. وغير خفيّ أنّ هذا شرط تحقّقه لا شرط العمل به.

[ الصنف ] الثاني : أن يكون الحكم المستصحب ثابتا في الوقت الأوّل ، فلا يمكن الحكم بوجود زيد في الدار لوجود ضاحك فيه ؛ لإمكان أن يكون الضاحك عمرا.

ولا يخفى أنّ هذا أيضا شرط وجوده لا العمل به ؛ لعدمه لولاه ؛ فإنّ وجوده يتوقّف على العلم ببقاء الموضوع ، وهنا لا يعلم بقاؤه ، أو يعلم انتفاؤه. ومنه يعلم عدم جواز الحكم بثبوت حكم في الزمن الثاني لوجود لازمه الأعمّ ، أو لازم مقتضيه الأعمّ في الزمن الأوّل. والأوّل قد علم مثاله. والثاني على أربعة أقسام :

الأوّل : أن يمكن ثبوت مقتضى الحكم وغيره ممّا هو ملزوم للازم المذكور في الزمن الثاني ، ولأجله أمكن ثبوت لازم كلّ منهما. ومثاله وعدم جواز جريان الاستصحاب فيه ظاهر (٢).

الثاني : أن يتعيّن ثبوت مقتضى الحكم فيه ، فيتعيّن ثبوت لازمه أيضا فيه دون غيره من ملزومات اللازم المذكور ، فلا يوجد لازمه فيه. وهنا يجوز القول بثبوت الحكم فيه ، ووجهه ظاهر ، فيأتي (٣) فيه الاستصحاب وجواز العمل به.

الثالث : عكس الثاني. وعدم تأتّي الاستصحاب فيه أظهر من الأوّل.

الرابع : أن يمتنع وجود غير المقتضي للحكم ممّا (٤) هو ملزوم للازم المذكور فيه ، إلاّ أنّ

__________________

(١) راجع : الوافية : ٢٠٨ ـ ٢١٠ ، والفوائد الحائريّة : ٢٨١.

(٢) كذا في النسختين. والأولى : « ظاهران ».

(٣) « ب » : « فيتأتّى ».

(٤) في « ب » : « فيما ».

٤١٥

وجود المقتضي أيضا لم يكن معلوما ؛ لإمكان ثبوت ما لا يجتمع معه من غير (١) الملزومات. وهذا أيضا لا يجري فيه الاستصحاب ، كما إذا قيل بنجاسة الجلد المطروح لاستصحاب عدم المذبوحيّة ، فيردّ بأنّ عدم المذبوحيّة لازم للحياة والموت حتف نفسه ، والمقتضي للنجاسة هو الثاني دون الأوّل ، مع أنّه غير باق في الزمن الثاني ، فلازمه معلوم الانتفاء فيه ، ولازم الثاني غير معلوم الثبوت في الزمن الأوّل حتّى يستصحب ؛ لما يأتي من تعارض الاستصحابين فيه (٢).

[ الصنف ] الثالث : أن لا يحدث في الزمن الثاني ما يوجب زوال الحكم الأوّل ، فالمرأة المطلّقة المرضعة إذا تزوّجت بعد العدّة بزوج آخر وحملت منه ولم ينقطع لبنها ، فيمكن منع الحكم بكون اللبن من زوجها الأوّل ؛ لحدوث التزوّج والحمل من غيره.

[ الصنف ] الرابع : أن لا يوجد معارض له ، فلو وجد لا يجوز العمل به على الإطلاق ، وهو على أقسام :

منها : أن يعارضه استصحاب آخر ، سواء كان استصحاب حال الشرع ، كسقوط ذبابة على نجاسة رطبة ثمّ على الثوب أو البدن وشكّ في جفافها ، وكدخول المأموم في صلاة فشكّ كون الإمام راكعا أو رافعا.

أو استصحاب حال العقل ، كمسألة الجلد المطروح ؛ فإنّ استصحاب الطهارة أو عدم الموت معارض باستصحاب عدم الذبح. وقد يعارضه أصل البراءة ، كالشكّ في بقاء العبد الآبق فيجب فطرته أوّلا.

ويعبّر عن كلّ من المواضع الثلاثة بما تعارض فيه الأصلان ، ويجب الرجوع في الترجيح إلى المؤيّدات الخارجيّة. وربما تعارض أصل واحد أصلين أو أكثر. وفي الجميع يصار إلى ما ينجرّ إليه النظر في الشواهد الترجيحيّة.

ومنها : أن يعارضه الظاهر. ويعبّر عن كلّ موضع تعارض فيه أحد الاستصحابين ، أو أصل البراءة الظاهر بما تعارض فيه الأصل والظاهر.

__________________

(١) لم يرد في « ب » : « غير ».

(٢) يأتي آنفا.

٤١٦

ولمّا كان مستند الظاهر العرف أو العرف أو العادة أو القرائن أو الأغلبيّة والأكثريّة ، وبالجملة ما يفيد ظنّا معتبرا في الشرع ، وهو يختلف في الموارد قلّة وكثرة وضعفا وشدّة ، فاختلف (١) الموارد في ترجيح أحدهما ، فإن بلغ الظنّ الحاصل من الظاهر بحيث يقاوم الأصل ويغلبه فيؤخذ به ويترك الأصل ، وإلاّ فيعكس ، وإن تكافئا في النظر يتوقّف حتّى يعثر على مرجّح من خارج.

ولمّا كان دخول بعض الموارد في الأوّل ودخول بعض آخر منها في الثاني ظاهرا ، بحيث لا يشتبه على أحد ، أجمع الأصحاب في الأوّل على تقديم الظاهر على الأصل ، وفي الثاني على العكس (٢).

وفي بعض آخر منها لمّا لم يكن الدخول في أحدهما معلوما ، إمّا لكونه من الثالث ، أو لعدم بلوغ الظهور حدّا لا يشتبه على أحد ، فاختلف فيه. فهنا ثلاثة موارد :

الأوّل : كالشكّ في فعل من أفعال إحدى العبادات بعد الفراغ عنها ، أو في أداء الصلاة بعد خروج وقتها ، ونجاسة البلل الخارج بعد البول إذا لم يستبرأ ، والمسلم الذي غاب بعد نجاسة بقدر مضيّ زمان يمكنه فيه الطهارة ، وغير ذلك ممّا حرّر في تصانيف الفقه (٣).

وقد يعلم تقديم الظاهر على الأصل شرعا ، بحيث يصير حجّة شرعيّة ، كتقديم البيّنة على أصل براءة الذمّة ، ومنه الرواية والأخبار فيما يقبل فيه.

الثاني : كدعوى من هو في غاية العدالة على من يعرف بالظلم والتقلّب ، ومنه ثياب من لا يتوقّى النجاسة من مدمني الخمر والكفّار والقصّابين والأطفال. وقس عليهما أمثالهما.

الثالث : كغسالة الحمّام وطين الطريق. ورجّح الأكثر الظاهر في الأوّل (٤) ، والأصل في الثاني (٥).

__________________

(١) جواب لقوله : « ولمّا كان ».

(٢) راجع : تهذيب الوصول : ٢٧٨ ، ومبادئ الوصول : ٢٣٢ ، والقواعد والفوائد ١ : ١٣٧ ـ ١٣٨ ، القاعدة ٣ ، وتمهيد القواعد : ٣٠٠ ـ ٣٠٤ ، القاعدة ٩٩.

(٣) راجع : القواعد والفوائد ١ : ١٣٧ ، القاعدة ٣ ، وتمهيد القواعد : ٣٠٣ ، القاعدة ٩٩.

(٤) راجع : القواعد والفوائد ١ : ١٣٧ ، القاعدة ٣ ، وتمهيد القواعد : ٣٠٣ ، القاعدة ٩٩.

(٥) منهم : الشهيد في القواعد والفوائد ١ : ١٣٨ ، القاعدة ٣ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٣٠٣ ، القاعدة ٩٩.

٤١٧

وغير خفيّ أنّ ما وقع فيه التعارض إن كان أحد الموردين الأوّلين ، فلا إشكال فيه. فإن كان من الثالث فإمّا أن يرجّح أحدهما في نظر المجتهد ـ إمّا لقوّته في نفسه ، أو لاعتضاده بدليل من خارج ـ فيجب عليه أن يأخذ به ويترك الآخر ، أو لا ، ويقوى في نفسي حينئذ لزوم الأخذ بالأصل ؛ لأنّ الغالب فيما تعارض فيه الأصل والظاهر تقديم الأصل ، كما لا يخفى على من تصفّح أمثلة الموارد الثلاثة ، فيكون الأصل معتضدا بظاهر آخر ، والظاهر الواحد لا يقاومهما.

نعم ، لو كان له قوّة بحيث يعادلهما معا من غير ترجيح لأحدهما ، فيكون من باب تعادل الأمارتين ، ويأتي حكمه إن شاء الله.

ومنها : أن يعارضه دليل شرعي آخر ، كالإجماع ، أو الكتاب ، أو السنّة. فإذا قاومه وغلبه يؤخذ به ويترك الأصل ، ولذا غلب الشكّ على اليقين في مسائل : كوجوب غسل جميع الثوب والبدن لو علم إصابة موضع وجهل تعيينها مع أصالة الطهارة في غير ذلك الموضع ، ووجوب ثلاث صلوات على من فاته واحدة مع أصالة البراءة ، وغير ذلك (١).

فائدة

إذا دلّ دليل على الانتقال عن مقتضى أصل عدم ، أو استصحاب ، أو قاعدة ، أو غيرها إلى غيره كائنا ما كان.

فإن دلّ على لزومه ، فلا يجوز العدول عن الأصل المنتقل إليه إلى الأصل المهجور ، وإن دلّ على مجرّد الرخصة والجواز ، فيجوز. وإن وقع الاشتباه في الدلالة على اللزوم والرخصة ، وقع الاشتباه في الجواز وعدمه أيضا.

وربّما عدّ منه بناء كثير السهو على عدم الفعل ، مع أنّ حكمه عدم الالتفات ؛ فإنّه لو شكّ في سجدة أو تسبيحة أو قراءة وهو في محلّها ، فإنّه لا يلتفت ؛ لأنّ كثرة السهو جوّزت البناء على الفعل ، مع أنّ الأصل عدمه. فلو فعل ذلك ، فهل يبطل صلاته؟

ثالثها الفرق بين الترك وغيره. والظاهر البطلان مطلقا. ومنه المسح على موضعه بعد ما علم صحّة غسله في موضع التقيّة.

__________________

(١) للمزيد راجع : الوافية : ٢٠٨ ـ ٢١٨ ، الفوائد الحائريّة : ٢٨١ ـ ٢٨٢ ، الفائدة ٢٧.

٤١٨

فصل [٧]

وممّا عدّ من النوع الثاني التلازم. ويقال له : الملازمة ، واللزوم ، والاستلزام أيضا.

وتنقيح البحث عنه يتوقّف على بيان امور :

[ الأمر ] الأوّل : التلازم نسبة بين شيئين مصحّحة للحكم باستصحاب أحدهما الآخر في الصدق الواقعي أو التقديري ، فصدقها لا يستلزم صدقهما ، بل قد تصدق بين كاذبين نحو « إن كان زيد حمارا ، كان ناهقا » ، أو بين كاذب وصادق على أن يكون الملزوم كاذبا نحو « إن كان زيد حمارا ، كان حيوانا » دون العكس ، وإلاّ لزم صدق الكاذب وكذب الصادق ؛ لاستلزام كذب اللازم كذب الملزوم ، وصدق الملزوم صدق اللازم. وهذا في الملازمة الكلّيّة الدائمة ، وهي أن يكون تقدير صدق الملزوم فيه مستلزما لصدق اللازم في جميع الأزمان على جميع الأوضاع. دون الجزئيّة ، وهي أن يكون ذلك في بعض الأزمان ، أو بعض الأوضاع ؛ فإنّه يجوز صدقها بين صادق وكاذب ؛ لجواز أن يكون صدق الملزوم على بعض الأوضاع ، وصدق الملازمة الجزئيّة على بعض الأوضاع الأخر ، فلا يلزم المحذوران.

فإنّا إذا قلنا : « إذا كان الشيء حيوانا كان ناطقا » ، يصدق الملزوم ، وهو كون الشيء حيوانا على بعض الأوضاع وهو وضع الفرسيّة مثلا ، ويكذب اللازم وهو كونه ناطقا ، وحينئذ يكذب الملازمة ، إلاّ أنّها صادقة على بعض الأوضاع الأخر ، وهو وضع الإنسانيّة ، وإن لم يكن الملزوم حينئذ صادقا ، ولذا لا ينتج الجزئيّة في القياس الاستثنائي ، وليس فيها كثير فائدة في المقاصد العلميّة.

[ الأمر ] الثاني : التلازم إمّا شرعي ، كتلازم القصر والإفطار في الصلاة والصوم المستفاد من قوله عليه‌السلام : « إذا أفطرت قصّرت ، وإذا قصّرت أفطرت » (١). وإمّا عقلي ، كتلازم الأمر بشيء والنهي عن ضدّه ، والأمر بالشيء والأمر بمقدّمته ، وغير ذلك من الملازمات العقليّة الثابتة

__________________

(١) الفقيه ١ : ٤٣٧ ، ح ١٢٧١ ، بتقديم قصّرت وأفطرت في الفقرتين.

٤١٩

في الاصول ، وربّما كان بعضها منصوصا من الشرع أيضا.

[ الأمر ] الثالث : التلازم إمّا أن يكون طردا وعكسا ، أي من الطرفين. أو طردا فقط ، أي من طرف واحد. فهذا شقّان.

وأيضا إمّا أن يكون نسبة بين حكمين ، أو مفردين. والغالب أنّ التلازم بين الأخيرين لا ينفكّ عن التلازم بين الأوّلين.

والحكمان إمّا وجوديّان ـ أي مثبتان ـ وإن كان مفرداته (١) عدميّة ، أو عدميّان ، أو وجودي وعدميّ ، أو بالعكس. فهذه أربعة أصناف.

وأيضا لمّا لم يمكن أن يوجد (٢) بين الخاصّ والعامّ من وجه ، فهو إمّا أن يكون بين المتساويين ، أو بين الخاصّ والعامّ مطلقا ، أو بين المتنافيين طردا وعكسا ، أي إثباتا ونفيا ، أو المتنافيين طردا فقط ، أي إثباتا ، أو عكسا فقط ، أي نفيا. فهذه خمسة أنواع ، فلينظر أيّ الشقّين والأصناف في أيّ الأنواع يجري.

النوع الأوّل : المتساويان ، كالإنسان والناطق. ويجري فيه الصنفان الأوّلان بالشقّ الأوّل ، أي التلازم بين الوجوديّين والعدميّين كليهما طردا وعكسا ، فيصدق : كلّ ما كان إنسانا كان ناطقا ، وبالعكس ، و: كلّ ما لم يكن إنسانا لم يكن ناطقا ، وبالعكس. ففيه (٣) يلزم من استثناء عين الملزوم عين اللازم وبالعكس ، واستثناء نقيض الملزوم نقيض اللازم وبالعكس ، فيلزم أربع نتائج ، فيثبت التلازم في أحد الصنفين بطرده ، ويتقوّى بعكسه ، وبالصنف الآخر طردا وعكسا ، وإنّما يحصل التقوّي بما ذكر إذا تناوله أيضا دليل التلازم ، وإلاّ فلا. وكذا الحال في باقي الأصناف الآتية. ولا يجري في هذا النوع الصنفان الآخران مطلقا ؛ بمنافاتهما (٤) للتساوي.

__________________

(١) كذا في النسختين. والصحيح : « مفرداتهما » ، أو رجوع الضمير إلى التلازم.

(٢) أي التلازم.

(٣) في « ب » : « وفيه ».

(٤) كذا في النسختين. والتعليل باللام أولى.

٤٢٠