أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

فصل [٩]

لمّا لم يكن مطلق القياس المستنبط العلّة ـ وهو الذي سمّيناه مرجوح التأثير ـ حجّة عندنا ، وكان لاستنباط العلّة عند القائسين طرق ـ كما عرفت (١) ـ فلا بدّ لنا أوّلا من إبطاله بقول مطلق ، ثمّ تفصيل القول في كلّ واحد منها وتضعيفه.

فنقول : لنا على بطلانه وجوه :

منها : إجماع العترة عليهم‌السلام على ردّه ؛ فقد تواتر عند الفريقين إنكارهم له ، ومنع شيعتهم عن العمل به حتّى قال بعض العامّة : قد اشتهر عن أهل البيت إنكار القياس ، كما اشتهر عن أبي حنيفة والشافعي العمل به (٢).

ومنها : الآيات (٣) والأخبار الناهية عن اتّباع مطلق الظنّ (٤) ، خرج ما خرج بدليل فيبقى الباقي.

ومنها : اشتهار إنكاره عن أكثر الصحابة ، منهم : الشيخان وابن عباس. وإنكار عليّ عليه‌السلام وذمّه له أشهر من أن يخفى (٥).

ومنها : شيوع ذمّ العمل بالرأي عن الصحابة ، سيّما عن الخلفاء الأربعة وابن عمر وابن مسعود ، والعمل بالقياس منه (٦).

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ستفترق امّتي على بضع وسبعين فرقة أعظمهم فتنة قوم يقيسون الامور برأيهم » (٧) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « تعمل هذه برهة بالكتاب ، وبرهة بالسنّة ، وبرهة بالقياس ،

__________________

(١) راجع ص ٤٤٤ وما بعدها.

(٢) حكاه الرازي في المحصول ٥ : ١٠٦ ، والعلاّمة في مبادئ الوصول : ٢١٦.

(٣) البقرة (٢) : ١٦٩ ، والأعراف (٧) : ٣٣ ، ويونس (١٠) : ٣٦ ، والإسراء (١٧) : ٣٦ ، والحجرات (٤٩) : ١.

(٤) راجع : الكافي ١ : ٥٤ ـ ٥٩ ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ووسائل الشيعة ٢٧ : ٣٥ ـ ٦٢ ، أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به ، الباب ٦ ، ح ١ ـ ٥٢.

(٥) راجع مبادئ الوصول : ٢١٦.

(٦) حكاه الفخر الرازي عن النظّام في المحصول ٥ : ٨٠ ، وابن حزم في ملخّص إبطال القياس : ٦٨ ـ ٧٣ ؛ وقاله العلاّمة في مبادئ الاصول : ٢١٥ و ٢١٦.

(٧) المستدرك على الصحيحين ٣ : ٥٤٧ ، وكنز العمّال ١ : ٢١٠ و ٢١١ ، ح ١٠٥٦ و ١٠٥٨.

٤٦١

وإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا وأضلّوا » (١).

ومنها : أنّ بناء شرعنا على الفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات ، فلا يحكم من تشابه المحالّ بتشابه الأحكام (٢).

ومنها : أنّه لو كان حجّة ، لورد التعبّد به ؛ لأنّ الاستدلال به ممّا يعمّ ، والوقائع التي يستدرك به كثيرة ، وما يتفرّع عليه أكثر ممّا يتفرّع على سائر الأدلّة ، ويستحيل عادة أن لا يرد التعبّد بمثله من الشرع لو كان حجّة ، ولو ورد التعبّد به ، لاشتهر بين أهل الشرع ؛ لتوفّر الدواعي على ضبط مثله.

وقد اجيب عن هذه الوجوه بأجوبة (٣) لا يخفى ضعفها على من له أدنى فطانة ، ولذا أعرضنا عن إيرادها والتعرّض لردّها.

ثمّ إنّها بإطلاقها كما تدلّ على بطلان مطلق قياس مرجوح التأثير تدلّ على بطلان مطلق القياس وإن كان راجح التأثير ، إلاّ أنّ ما استثنيناه يخرج بقاطع ، كما أشرنا إليه (٤) فيبقى الباقي.

احتجّ الخصم بوجوه :

منها : أنّه ظهر عن كثير من الصحابة ـ شائعا ذائعا ـ ما يدلّ على حجّيّته ، ولم ينكرهم أحد ، فيكون إجماعا (٥).

أمّا ثبوت الملزوم فبطرق :

الاولى (٦) : أنّهم عملوا به صريحا في وقائع من غير نكير ، كما روي أنّ عمر شكّ في قتل الجماعة بالواحد ، فقال عليّ عليه‌السلام : « أرأيت لو اشترك نفر في سرقة البيت تقطعهم؟ » فقال : نعم ، قال : « هكذا فيها » فرجع إلى قوله (٧).

__________________

(١) حكاه الهيثمي في مجمع الزوائد ١ : ١٧٩ ، باب في التقليد والقياس.

(٢) قاله العلاّمة في مبادئ الوصول : ٢٢٠.

(٣) راجع المحصول ٥ : ٨٧ ـ ٩٣.

(٤) في ص ٤٦١.

(٥) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٤٣.

(٦) تأنيث « الاولى » إمّا باعتبار أنّ « الطريق » يذكّر ويؤنّث ، أو يكون « الطرقة » بمعنى الطريق والطريقة وجمعها « الطرق ».

(٧) ذكره ابن الباجي في إحكام الفصول : ٥٢٢ باختلاف يسير.

٤٦٢

الثانية : أنّهم اختلفوا في مسائل كثيرة ، وأحدثوا فيها أقوالا مختلفة ، ثمّ أخذوا بقول واحد ، ولم يكن تمسّكهم فيها بالنصّ ، فتعيّن أن يكون تعويلهم على القياس ، كما روي أنّ عمر قضى في زوج وأمّ وإخوة لامّ وإخوة لأب وأمّ ، أنّ للامّ السدس ، وللزوج النصف ، وللإخوة من الامّ الثلث ، فقال الباقون : هب أنّ أبانا كان حمارا ، ألسنا من أمّ واحدة؟ فشرّك بينهم (١).

وما روي أنّ أبا بكر ورّث أمّ الامّ دون أمّ الأب ، فقال له بعض الأنصار : تركت التي لو كانت هي الميّتة ورث جميع ما تركت ؛ لأنّ ابن الابن عصبة ، وابن البنت لا يرث. وحاصله أنّ أمّ الأب أقرب ، فهي أحقّ بالإرث ، فرجع إلى التشريك بينهما. وأشباه ذلك كثيرة (٢).

الثالثة : أنّهم صرّحوا بالأخذ به وأشاروا إلى التشبيه في المسائل ، كقول عمر لأبي موسى : اعرف الأشباه والنظائر ، وقس الامور برأيك (٣).

وقول ابن عبّاس في إنكار قول زيد : « الجدّ لا يحجب الإخوة : ألا يتّقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ، ولا يجعل أبا الأب أبا (٤). وليس غرضه التسمية ، بل أراد أنّ الجدّ بمنزلة الأب في حجب الإخوة ، كما أنّ ابن الابن بمنزلة الابن فيه » (٥).

الرابعة : أنّه قد نقل عنهم في وقائع القول بالرأي وهو القياس ، كقول أبي بكر : أقول في الكلالة برأيي (٦). وقول عمر : أقضي في الجدّ برأيي (٧).

وقول عثمان لعمر : إن اتّبعت رأيك فرأيك سديد (٨). وقول عليّ عليه‌السلام : « اجتمع رأيي ورأي أبي بكر وعمر في أمّ الولد أن لاتباع ، وقد رأيت الآن بيعهنّ » (٩).

وأمّا بيان الملازمة ، فلأنّ عدم إنكارهم في مثل هذا الأصل ـ الذي يبتني عليه أكثر الأحكام والقضايا ، ويدوم أثره إلى الأبد في البرايا ـ يدلّ على الموافقة ، ولو ظهر منهم

__________________

(١) حكاه ابن قدامة في المغني ٧ : ٢٢ ، وابن الباجي في إحكام الفصول : ٥١٩.

(٢) راجع المغني لابن قدامة ٧ : ٢٢.

(٣ و ٤) حكاهما ابن الباجي في إحكام الفصول : ٥٢١.

(٥ و ٦) راجع : السنن الكبرى ٦ : ٢٤٨ ، وإحكام الفصول : ٥٢٥ باختلاف يسير ، والمحصول ٥ : ٥٥.

(٧) راجع : إحكام الفصول : ٥١٩ وفيه : « أقول برأيي » وهو كلام أبي بكر ، والمستصفى : ٢٨٧.

(٨) راجع إحكام الفصول : ٥٢١ وفيه : « إن تتّبع رأيك فرأيك أسدّ ».

(٩) راجع : السنن الكبرى ١٠ : ٣٤٨ ، وإحكام الفصول : ٥٢١. كلمة « الآن » لم ترد فيه.

٤٦٣

الإنكار لنقل ؛ لتوفّر الدواعي على نقل مثله (١).

والجواب : أمّا أوّلا : فمنع ثبوت الملزوم ؛ لعدم ثبوت الطرق المذكورة ؛ لأنّ الأخبار المذكورة لم يثبت صحّتها ، بل ثبت عندنا وضعها ؛ لمعارضتها بما هو أقوى ، بل قاطع.

وأيضا دلالتها على المطلوب غير مسلّمة ؛ لاحتمال أن يكون الاستناد في الوقائع المذكورة إلى غير القياس ، فإنّ كلّ واحد منها يحتمل محامل غير القياس من وجوه الاجتهادات وإن كان معنى القياس موجودا فيها.

وأيضا نقول ـ بعد القطع بأنّ طريقة عليّ عليه‌السلام لم تكن العمل بالقياس ، فما نسب من خبر الشركة في السرقة إمّا فرية ، أو تمثيل للتنوير ـ : لو سلّم أنّ بعض الصحابة عمل بالقياس ، فلا نسلّم عدم إنكار الباقين ، بل حصل منهم الإنكار في مواضع كثيرة على ما ذكر في المطوّلات وكتب السير ، مع أنّ عدم وصول إنكارهم لا يدلّ على عدمه ؛ لأنّ وجوب استمرار النقل بحيث يتّصل بنا غير ممكن.

وأمّا ثانيا : فمنع الملازمة ؛ لأنّ سكوت الباقين لا يدلّ على الرضى ؛ فإنّه يحتمل الوجوه المتقدّمة في الإجماع السكوتي.

ومنها (٢) : ما استفاض من ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله العلل في الأحكام (٣) ؛ ليبتني عليها الحكم في غير تلك المحالّ ، لا كالعلل الإيمائيّة المذكورة في الأخبار السابقة.

والجواب : أنّا نمنع أنّ المقصود من ذكرها أن يقاس عليه ، بل يمكن أن يكون ذلك لبيان حكمة الحكم ، ولذا جاز النصّ على العلل القاصرة ، ولذا قيل : إنّ هذا الدليل بالقياس إلى من يمنع القياس المنصوص العلّة (٤) مصادرة على المطلوب ، وبالنسبة إلى غيره نصب الدليل في غير محلّ النزاع. وأيضا يلزم منه جواز الاجتهاد للنبيّ ، وقد ثبت بطلانه عندنا ، كما يأتي (٥).

هذا ، مع أنّه يمكن أن يجاب عن كلّ واحد من أمثال الأخبار المذكورة بوجه على حدة ،

__________________

(١) راجع إحكام الفصول : ٥٢٥.

(٢) أي من الوجوه التي قيلت لحجّيّة القياس المستنبط العلّة.

(٣) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٣٧.

(٤) حكاه الآمدي في المصدر : ٤١.

(٥) يأتي في ج ٢ ، ص ٩٤٨.

٤٦٤

مثل أن يقال في خبر الخثعميّة : إنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه : « دين الله أحقّ بالقضاء » (١) يعطي الأولويّة ، ويمكن أن يكون تمثيلا ذكر للتنوير ، وهو الجواب عن الاحتجاج لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما سأله عمر عن قبلة الصائم : هل توجب الإفطار؟ : « أرأيت لو تمضمضت بماء ، ثمّ مججته أكنت شاربه؟ » (٢) ، على أنّا نطالبهم بصحّة هذه الأخبار.

ومنها : ما روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قرّر معاذا على قوله : « أجتهد رأيي » (٣).

والجواب : أنّه ضعيف سندا ؛ لإرساله ، ودلالة ؛ لإمكان إرادة استنباط الحكم من الأدلّة المعتبرة غير الكتاب والسنّة ، من الاجتهاد ، مع أنّه روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقرّره على قوله ، بل أمره بالمكاتبة (٤).

فإن قيل : فيه شيء آخر أيضا ، وهو أنّ استلزام جواز القياس لمعاذ لجوازه لغيره في حيّز المنع إلاّ أن يقاس عليه ، فيدور.

قلت : بعد ثبوت الملزوم يعلم الاستلزام بمثل قوله : « حكمي على الواحد حكمي على الجماعة » (٥).

ومنها : إلحاق كلّ زان بما عزّ في وجوب الرجم بجامع الزنى (٦).

والجواب : أنّه بالإجماع ، أو بمثل قوله المذكور.

ومنها : أنّ القياس يفيد الظنّ ، والعمل بالظنّ واجب (٧). أمّا الصغرى فوجدانيّة ، وأمّا الكبرى فلأنّ بديهة (٨) العقل حاكمة بلزوم دفع المضارّ وجلب المنافع المظنونتين.

والجواب : أنّه لمّا كان في العمل به احتمال الضرر أيضا وجب التوقّف.

هذا ، مع أنّ القاطع دلّ على عدم جواز العمل بالظنّ في الأحكام إلاّ ما استثني ـ كما

__________________

(١) كنز العمّال ٥ : ١٢٣ ، ح ١٢٣٣١.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ٣١١ ، ح ٢٣٨٥ ، وإحكام الفصول : ٤٩٤.

(٣) سنن أبي داود ٣ : ٣٠٣ ، ح ٣٥٩٢ ، وإحكام الفصول : ٥٠١.

(٤) راجع : سنن ابن ماجة ١ : ٢١ ، باب اجتناب الرأي والقياس ، ح ٥٥. باختلاف يسير ، وإحكام الفصول : ٥٠٢.

(٥) كشف الخفاء ١ : ٤٣٦ ، ح ١١٦١ ، والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة : ٢١٩ ، كتاب القضاء ، ح ١.

(٦) راجع الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٧٩ و ٢٨٠.

(٧) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٩٨.

(٨) في « ب » : « بداهة ».

٤٦٥

عرفت (١) ـ فلا يقاومه أمثال هذه الوجوه الضعيفة.

وقد استدلّوا ببعض الآيات (٢) تركناها ؛ لعدم دلالتها على مطلوبهم بوجه.

فصل [١٠]

قد عرفت أنّ إحدى طرق الاستنباط المناسبة ، وأنّها تسمّى إخالة وتخريج المناط. وحاصله إبداء المناسبة من ذات الأصل لا بنصّ ولا بغيره. وقد عرفت أيضا أنّ إثبات الحكم حينئذ في الفرع يسمّى تحقيق المناط (٣).

وهنا ينبغي أن يعلم أنّ للمناسب في عرفهم تعريفات :

منها : أنّه وصف ظاهر منضبط يحصل من ترتّب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء (٤).

والحكم إمّا وجوديّ أو عدميّ ، والمقصود إمّا حصول مصلحة ، أي لذّة أو وسيلتها ؛ أو دفع مفسدة ، أي ألم أو وسيلته ، وكلّ من اللذّة والألم إمّا معلوم أو مظنون ، نفسيّ أو بدنيّ ، دنيوي أو اخروي ، مثلا : قتل العمد وصف مناسب لشرع القصاص نظرا إلى ذاته ، ومن ترتّبه عليه يحصل حفظ النفوس ، وهو مقصود العقلاء. والإسكار ، فإنّه بالنظر إلى ذاته ووصفه مناسب لشرع التحريم ، ومن ترتّبه عليه يحصل ما هو مقصودهم ، أي حفظ العقول.

وقد علم من التحديد أنّ الوصف لو كان خفيّا أو غير منضبط لم يعتبر ، وهو كذلك ؛ لأنّه لا يعلم في نفسه ، فكيف يترتّب الحكم عليه؟! ولكنّ الطريق حينئذ أن يعتبر الملازمة ويقال له المظنّة ، وهو أن يعتبر وصف ظاهر منضبط يستلزم عقلا أو شرعا ذلك الوصف. مثلا في المثال الأوّل وصف العمديّة خفيّ ؛ لأنّ القصد وعدمه أمر لا يدركه أحد بشيء إلاّ القاتل ، فرتّب الحكم شرعا على ما يلازم العمديّة ، أي الأفعال المخصوصة وهي معرّفة للحكم ، وفي ترتيب الترخّص على المشقّة لمقصود التخفيف لمّا كانت المشقّة

__________________

(١) راجع ص ٤٦١.

(٢) كالآية ٢ من الحشر (٥٩) ، و ٦٦ من النحل (١٦) ، و ٢١ من المؤمنون (٢٣) وغيرها.

(٣) راجع ص ٤٤٤.

(٤) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٩٤ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٨١.

٤٦٦

غير منضبطة ؛ لكونها ذوات مراتب تختلف بالأزمان والأشخاص فانيط الحكم على لازمها المنضبط وهو السفر (١).

ومنها : أنّه ما يفضي إلى موافقة الغرض تحصيلا أو إبقاء. ويعبّر عن التحصيل بجلب النفع ، وعن الإبقاء بدفع الضرر (٢).

ومنها : أنّه ما لو عرض على العقول تلقّته بالقبول (٣) ، ولا يمكن إثبات مثله في المناظرة ؛ إذ للخصم أن يقول : لا يتلقّاه عقلي بالقبول ، وليس لغيره حينئذ إليه سبيل.

وهذه التعريفات الثلاثة متقاربة ، وهي لمن قال بتعليل الأحكام بالمصالح.

ومنها : أنّه الملائم لأفعال العقلاء في العادات (٤) ، كما يقال : الجمع بين هذا الثوب وهذه العمامة ملائم ، وهو لمن ينفي تعليلها بها.

فصل [١١]

للمناسب تقسيمات باعتبارات عند القائسين ، ونحن نشير إليها أوّلا ثمّ نثبت أنّ مطلق المناسبة لا يقتضي العلّيّة :

فمنها : تقسيمه باعتبار ثبوت المناسبة في الواقع وعدمه. وبهذا الاعتبار إمّا حقيقيّ وهو ما علم مناسبته من غير ظهور خلاف ، ومثاله ظاهر.

أو إقناعيّ وهو ما يظهر مناسبته ، ثمّ يظهر الخلاف عند البحث ، كتعليل الشافعيّة تحريم بيع الخمر والميتة والعذرة بالنجاسة ، وقياس الكلب عليها (٥).

ووجه المناسبة أنّ كونها نجسة يناسب إذلالها ، ومقابلتها بالمال في البيع إعزاز لها ، والجمع بينهما باطل. وجليل النظر وإن أثبت هذه المناسبة إلاّ أنّ دقيقه ينفيها ؛ لأنّ معنى

__________________

(١) ليس السفر لازما للمشقّة بل الأمر بالعكس. وما قاله في ص ٤٧٧ من أنّ المشقّة اللازمة للمسافر ، هو الصحيح.

(٢) قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٣.

(٣) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٥٨ عن أبي زيد الدبوسي ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٩٤.

(٤) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٥٨ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٩٦ ، والعلاّمة في مبادئ الوصول : ٢١٩ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٧٩.

(٥) راجع : الإفصاح عن معاني الصحاح ١ : ٢٧١ ، والمهذّب في فقه الشافعي ١ : ٣٤٧ ، وبداية المجتهد ٢ : ١٢٦ و ١٢٧.

٤٦٧

نجاستها عدم جواز الصلاة معها ، ولا مناسبة بينه وبين المنع من بيعه (١).

ومنها : تقسيمه بحسب المقاصد ، أي المصالح ؛ فإنّ المصالح التي شرع لها الأحكام إمّا في محلّ الضرورة ، أو الحاجة ، أو التكميل ، أو التحسين (٢). وهذه أربعة أصناف :

الصنف الأوّل : الضروري ، كحفظ الخمسة الضروريّة بشرع الجهاد ، والقصاص ، والحدّ ، والضمان ، ومنه صون الأحكام ، وحفظ دماء الناس وفروجهم وأموالهم وأوضاعهم بشرع عدالة المفتي ، والقاضي ، والشاهد والراوي ، وأمين الحاكم ، والوصيّ ، وناظر الوقف (٣).

الصنف الثاني : الحاجيّ (٤) ، كانتقال الأعيان والمنافع من بعض الناس إلى بعض آخر ، وقضاء أوطارهم ، وحفظ أوضاعهم بشرع البيع ، والإجارة ، والقراض ، والرهن وغيرها من العقود والمعاوضات ، ومنه حفظ الصلوات والأوقات باشتراط عدالة الإمام ، والمؤذّن ؛ فإنّ أمثال هذه المقاصد وإن كانت محتاجا إليها إلاّ أنّها ليست ضروريّة ، بحيث أدّى اختلالها إلى فوات واحد من الضروريّات الخمس.

هذا ، ومراتب الحاجة فيها مختلفة بالشدّة والضعف ، وربّما بلغ بعضها حدّ الضرورة ، كشرى المطعوم والملبوس ، والإجارة في تربية الطفل الرضيع ، فإطلاق الحاجيّ على مثله بناء على الغالب (٥).

الصنف الثالث : التكميلي وهو على قسمين :

أحدهما : ما هو تكميل للضروريّ ، كتكميل حفظ العقل بشرع الحدّ لقليل المسكر ، وهو لا يزيل العقل. وحفظه قد حصل بشرع حدّ المسكر ، فهو مكمّل له ؛ لأنّ القليل ربّما يؤدّي إلى الكثير (٦).

وثانيهما : ما هو تكميل للحاجّ ، كتكميل مقصود النكاح بوجوب رعاية الكفاءة ، ومهر

__________________

(١ و ٢) قالهما الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٥٩ و ١٦١ و ١٦٢.

(٣) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٥٩ و ١٦٠ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٨٢ و ٨٣.

(٤) أي المنسوب إلى الحاجة.

(٥) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٦٠ و ١٦١ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٣ و ٢٥٤.

(٦) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٦٠ باختلاف.

٤٦٨

المثل على الوليّ إذا زوّج الصغيرة ؛ فإنّ مصلحة النكاح حاصلة بدونه إلاّ أنّ كونه أفضى إلى دوام النكاح أدرجه في مكمّلاته. ومنه تتميم المحافظة على امور الصغار باشتراط العدالة في الأب ، والجدّ في الولاية على الولد ؛ فإنّ شفقته عليه تبعثه على الاحتياط في أمره ، وتردعه عن الخيانة والتقصير في حقّه ، لكن لمّا كان بعض الفسّاق لا يبالي بتضييع ماله وتزويجه من غير كفء ، جعلت العدالة من مكمّلاته (١).

الصنف الرابع : التحسيني وهو ما لا حاجة إليه ، لكن فيه تحسين ، وهو أيضا على قسمين :

الأوّل : ما عدم فيه ظهور اعتبار الحاجة رأسا ، إلاّ أنّ اعتباره سلوك المنهج الأحسن ، كرعاية عدم الجمع بين النازل والعالي بشرع سلب أهليّة العبد للمناصب الجليلة كالشهادة ومثلها ؛ فإنّه لو جعل للعبد أهليّة الشهادة ، لحصل المصلحة التي تحصل من شهادة الحرّ ، ولم يكن له مفسدة أصلا ، إلاّ أنّه سلب ذلك عنه ؛ لأنّ اعتبار المناسبة في المناصب من مكارم الآداب ومحاسن الشيم (٢).

الثاني : ما لا حاجة إليه ؛ لقيام غيره مقامه ، كرعاية حفظ المال في التوكيل والإيداع إذا صدرا من المالك باشتراط العدالة في الوكيل والودعي ؛ فإنّه يجوز له توكيل الفاسق وإيداعه ؛ إذ طبع المالك يردعه عن إتلاف ماله ، فما لم يثق به لا يوكّله ولا يودعه (٣).

تتمّة

اعلم أنّ كلّ واحد من أفراد المصالح الضروريّة والحاجيّة والتكميليّة والتحسينية إمّا أن يكون اندراجه تحت ذلك الصنف بيّنا بحيث لا يقع فيه اختلاف ، وإمّا أن يكون خفيّا يقع فيه الخلاف. ويختلف ذلك بحسب اختلاف الظنون ، فربما أدرج بعضها الحاجة العامّة تحت الضرورة ، والأمر في مثله هيّن.

__________________

(١) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٦٠ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٨١ ـ ٨٦.

(٢) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٦٠ و ١٦١ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٦٤.

(٣) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٦١ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٣ و ٢٥٤ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٨٤ و ٨٥.

٤٦٩

ومنها : تقسيمه باعتبار إفضائه إلى المقصود وعدمه ، وبهذا الاعتبار قسّموه خمسة أقسام (١) :

الأوّل : ما يكون حصول المقصود منه مقطوعا ، كالبيع للحلّ ؛ فإنّ ترتّب الحلّ على كلّ من أفراد البيع يقيني.

الثاني : ما يكون حصوله عنه مظنونا ، كالقصاص للانزجار ؛ فإنّا نقطع بأنّ الانزجار بشرع القصاص لم يحصل لجميع الناس ، بل لأكثرهم ، فلذا يكون ترتّبه عليه ظنّيّا.

الثالث : ما يكون حصوله عنه مشكوكا ، كحدّ الخمر للزجر ؛ فإنّ حصوله ونفيه متساويان تقريبا ؛ ولذا ترى عدد الممتنعين والمقدمين متقاربين.

الرابع : ما يكون حصوله عنه مرجوحا ، كنكاح الآئسة لحصول النسل ؛ فإنّ ترتّبه عليه وإن أمكن عقلا إلاّ أنّه بعيد عادة.

الخامس : ما لا يحصل منه المقصود أصلا ، كنكاح مشرقيّ بمغربيّة قد علم عدم تلاقيهما ، وعدم حصول نطفته في رحمها للحوق ولد تلده وهو في المشرق وهي في المغرب.

وقد اتّفق القائسون على اعتبار الأوّلين وإلغاء الأخير ، واختلفوا في الباقيين (٢) ، وستعلم (٣) حقيقة الحال في الجميع.

ومنها : تقسيمه بحسب شهادة الشرع له بالاعتبار وعدمها ، وبهذا الاعتبار قالوا (٤) : ينقسم أوّلا إلى ثلاثة أنواع : معتبر ، ومرسل ، وملغى.

و [ النوع ] الأوّل : ينقسم إلى ثلاثة أصناف :

مؤثّر ، وهو الذي ثبت اعتباره بنصّ ، أو إجماع.

وملائم يشهد له أصل ، وهو الذي ثبت اعتباره بترتّب الحكم على وفقه ، أي وفق المناسب ، وهو ثبوت الحكم معه في محلّ الوصف ، وثبت مع ذلك بنصّ أو إجماع اعتبار عينه في جنسه ، أو بالعكس ، أو جنسه في جنسه.

__________________

(١) قالها الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٩٨ ـ ٢٩٩.

(٢) راجع الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٩٩.

(٣) يأتي في ص ٤٧٨ وما بعدها.

(٤) راجع : الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٣١١ و ٣١٢ ، والمحصول ٥ : ١٦٣ و ١٦٤.

٤٧٠

وغريب يشهد له أصل ، وهو الذي ثبت اعتباره بترتّب الحكم على وفقه فقط ، أي ثبت اعتبار خصوصه في خصوص الحكم ، أي شهد نوعه لنوعه فقط لا نوعه ولا جنسه لأحد الثلاثة.

والنوع الثاني ينقسم إلى صنفين : ملائم لم يشهد له أصل ، وهو الذي لم يثبت اعتباره بنصّ ، ولا إجماع ، ولا بترتّب الحكم على وفقه ، ولكنّه ثبت اعتبار جنسه في جنسه ، أو عينه في جنسه ، أو بالعكس.

وغريب لم يشهد له أصل ، وهو الذي لم يثبت اعتباره بوجه.

وهذان الصنفان هما المصالح المرسلة التي تقدّمت (١).

فظهر أنّ النوع الأوّل ينقسم إلى ثلاثة أصناف : مؤثّر ، وملائم يشهد له أصل ، وغريب كذلك.

والنوع الثاني ينقسم إلى صنفين : ملائم لا يشهد له أصل ، وغريب كذلك.

والملائم بالمعنى الأوّل ينقسم إلى ثلاثة أقسام ، وكذا الملائم بالمعنى الثاني.

ولا بدّ من زيادة توضيح في بيان الفرق بين الأصناف المذكورة ، وذكر أمثلة الأقسام ؛ ليتّضح جليّة الحال ، ويظهر ما في كتب القوم من الإجمال والاختلال.

فلنمهّد أوّلا مقدّمة ، وهي أنّ اعتبار الوصف في الحكم لا يخلو عن تسع وأربعين صورة ؛ لأنّ الوصف إمّا أن يكون معتبرا بعينه أو نوعه أو جنسه ، أو اثنين منها ، أو الثلاثة.

وعلى كلّ من التقادير إمّا أن يكون معتبرا في عين الحكم أو نوعه أو جنسه ، أو اثنين منها ، أو الثلاثة. ويحصل من ملاحظة السبعة مع السبعة تسع وأربعون.

والمراد بالعين من الوصف كلّ وصف يحاول إثبات اعتباره وإن كان عريقا في العموم ، وبنوعه ما يشمله وغيره ، وهكذا. فيتحقّق النوعيّة والجنسيّة هنا بالإضافة والاعتبار ، ومن الحكم كلّ حكم كذلك. وعلى هذا ، لو لم يتغيّر حال الوصف في الأصل والفرع وتغيّر حال الحكم فيهما ، يكون عين الوصف في الأصل موجودا في الفرع دون عين الحكم ، وإن عكس عكس ، وإن تغيّر حالهما فيهما لا يكون عينهما في الأصل موجودا في الفرع ، بل

__________________

(١) تقدّمت في ص ٤٣١.

٤٧١

الموجود فيه إمّا نوعهما ، أو جنسهما ، وكلّ ذلك يظهر لك من الأمثلة الآتية.

إذا عرفت ذلك فنقول : المقصود من الصنف الأوّل من النوع الأوّل ـ وهو المؤثّر ـ كلّ وصف ثبت اعتبار عينه في عين الحكم بالنصّ أو الإجماع ، كالمسّ بالنسبة إلى الحدث ؛ فإنّ تعليله به منصوص ، والصغر بالنسبة إلى ولاية المال ؛ فإنّ تعليله به إجماعي. فالمؤثّر من الصور المذكورة ما تحقّق فيه تأثير العين في العين ، سواء كان معه تأثير غيره في غيره أيضا من النوع أو الجنس أو كليهما ، أم لا ، وهو ستّة عشر منها (١).

والمقصود من الصنف الثاني منه ـ وهو الملائم الذي يشهد له أصل ـ ما ثبت اعتبار عينه في عينه بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه ، ولكن ثبت بنصّ أو إجماع اعتبار عينه في جنسه ، أو بالعكس ، أو جنسه في جنسه ، ويترتّب الحكم على وفقه أعمّ ممّا اشتمل على الإيماء على التعليل وما لم يشتمل عليه ، بل كان مجرّد الترتّب فقط من غير فهم العلّيّة بوجه ، فكلّ ما لم يشتمل على النصّ عليه يكون من باب الملاءمة.

والظاهر أنّ ثبوت اعتبار العين في العين بالعموم أو الإطلاق ، كاعتبار النبيذ في الحرمة إذا قال الشارع : « كلّ مسكر حرام لإسكاره » من باب التأثير ؛ لأنّ فهم العلّيّة حينئذ يقيني ، فالنصّ على علّيّة الوصف هنا أعمّ من النصّ على علّيّته بخصوصه ، أو على علّيّة (٢) عام أو مطلق يشمله بعمومه أو إطلاقه ، فلنذكر أمثلة الأقسام الثلاثة للملائم ؛ ليظهر حقيقة الحال.

فمثال القسم الأوّل (٣) ما يقال : ثبت للأب ولاية النكاح على الصغيرة ، كما ثبت له عليها ولاية المال بجامع الصغر (٤). فالوصف ـ وهو الصغر ـ أمر واحد ، والحكم الولاية ، وهو جنس يجمع ولاية المال وولاية النكاح ، وهما نوعان من التصرّف ، وقد ثبت اعتبار العين في العين ـ أي الصغر في ولاية النكاح ـ بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه ، حيث ثبت معه في الجملة وإن وقع الاختلاف في أنّه للصغر ، أو للبكارة ، أو لهما جميعا ، لكن عين الصغر معتبر

__________________

(١) أي الصور المذكورة والمراد بها تسع وأربعون صورة.

(٢) في « ب » : « علّيّته ».

(٣) أي اعتبار العيني في العينيّ.

(٤) قاله الأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٨٤.

٤٧٢

في جنس الولاية بالإجماع ؛ لأنّ الإجماع على اعتباره في ولاية المال إجماع على اعتباره في جنس الولاية.

ومثال القسم الثاني ـ وهو تأثّر جنسه في عينه ـ ما يقال : يجوز الجمع (١) في الحضر مع المطر ، كما يجوز في السفر بجامع الحرج ، فالحكم جواز الجمع ، وهو أمر واحد ، والوصف الحرج ، وهو جنس يشمل الحاصل بالمطر ، وهو التأذّي به ، والحاصل بالسفر ، وهو خوف الانقطاع عن الرفقة والضلال عن السبيل ، وهما نوعان مختلفان ، وقد ثبت اعتبار جنس الحرج في عين رخصة الجمع بالنصّ (٢) والإجماع ؛ لثبوت اعتبار حرج السفر ـ ولو في الحجّ ـ فيها (٣) ، وأمّا اعتبار عين حرج المطر فيها ، فقد ثبت بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه.

ومثال الثالث (٤) ما يقال : يجب القصاص بالقتل بالمثقل ، كما يجب بالقتل بالمحدّد بجامع كونهما جناية عدوان ، فالوصف مطلق جناية العدوان ، وهو يجمع الجناية في النفس وفي الأطراف وفي المال (٥) ، والحكم مطلق القصاص الشامل للقصاص في النفس وفي الأطراف وغيرها من القوى ، وقد ثبت اعتبار جنس جناية العدوان في جنس القصاص بالنصّ (٦) والإجماع ؛ لثبوت اعتبار الجناية في القصاص بهما في الأيدي ، ولكن ثبوت اعتبار قتل العمد بالمثقل في القصاص في النفس بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه ، حيث ترتّب القصاص على مطلق قتل العمد الذي هو نوع من جنس الجناية ، ويشرك فيه القتل بالمحدّد والمثقل.

لا يقال : ثبوت القصاص مع قتل العمد ليس بمجرّد الترتّب ، بل ثبت اعتباره فيه بالنصّ والإجماع.

لأنّا نقول : هذا غير معلوم ؛ لتحقّق الاشتباه في أنّ العلّة في القصاص مطلق قتل العمد أو مع قيد كونه بالمحدّد ، فما يقطع بكونه علّة إنّما هو قتل العمد مع القيد ، فمطلقه يبقى في حيّز

__________________

(١) أي الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

(٢) راجع تهذيب الوصول : ٢٥٥.

(٣) أي في الرخصة.

(٤) أي تأثير الجنس في الجنس.

(٥) قاله الأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٧٨.

(٦) أشار إليه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٦٤ وقال : « إنّ عليّا أقام الشرب مقام القذف ».

٤٧٣

الشكّ ، فيعلم حينئذ بمجرّد ترتّب القصاص عليه.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ ثبوت الاعتبار في الجنس في أقسام الملائم بالنصّ أو الإجماع إنّما هو لأجل سرايته من بعض أنواعه إليه ، سواء كان هو المقيس عليه فقط ، كما في المثال الأوّل ، أو هو وغيره ، كما في المثال الثالث.

والسرّ فيه أنّ النصّ أو الإجماع على تأثير نوع في نوع يستلزم النصّ أو الإجماع على تأثير جنسه في جنسه ؛ لأنّ الدالّ على اتّصاف الخاصّ بصفة يدلّ على اتّصاف العامّ (١) بها. غاية الأمر أنّ الدلالة على الثاني بالتضمّن ، وهو لا يقابل النصّ ، بل المطابقة ؛ فالدلالة على الأوّل نصّ ومطابقة ، وعلى الثاني نصّ وتضمّن.

ثمّ إن ثبت التأثير في جنس أوّلا وبالذات ـ أي بالنصّ عليه بعنوان يشمل ما تحته عموما أو إطلاقا ـ يثبت منه التأثير في كلّ واحد من أنواعه بالنصّ. وإن ثبت على طريق السراية من بعض الأنواع ـ كما ذكر ـ لا يثبت منه التأثير في باقي الأنواع ؛ لأنّ معنى كونه مؤثّرا حينئذ أنّ بعض أنواعه مؤثّر ، وهو لا يستلزم تأثير غيره من الأنواع.

نعم ، يفيد ظنّا ما بتأثيره. وإذا ترتّب عليه الحكم أيضا يتقوّى الظنّ بتأثيره ، فيكون ملائما.

وقد ظهر من ذلك أنّ ما يراد إثباته في الفرع في الأمثلة الثلاثة ـ أي اعتبار العين في العين وهو اعتبار عين الصغر في ولاية النكاح ، وحرج المطر في رخصة الجمع ، والقتل بالمثقل في قصاص النفس ـ من باب (٢) الملاءمة.

واعتبار المقيس عليه ـ أعني الصغر في ولاية المال ، وحرج السفر في رخصة الجمع ، والقتل بالمحدّد في القصاص ، وكذا اعتبار العين في الجنس ، وبالعكس ، والجنس في الجنس ـ من باب التأثير.

والمقصود من الصنف الثالث منه ـ وهو الغريب الذي يشهد له أصل ـ ما ثبت اعتباره بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه من دون ثبوت اعتبار عينه في جنسه ، أو بالعكس ، أو جنسه

__________________

(١) المراد بالخاصّ والعامّ ليس معناهما الاصطلاحي بل المراد من الخاصّ هو الكلّ ومن العامّ هو الأجزاء.

(٢) قوله : « من باب ... » خبر لقوله : « أنّ ».

٤٧٤

في جنسه ، أي لم يثبت تأثير عين الوصف في أحد أنواع جنس الحكم ، ولا تأثير أحد أنواعه في عين الحكم ، ولا في أحد أنواعه بالنصّ أو الإجماع ، كما يقال فيمن يطلّق امرأته طلاقا بائنا في مرض موته لئلاّ ترثه : يعارض بنقيض مقصوده ، ويحكم بإرثها ، كما يعارض القاتل بنقيض مقصوده (١) ، حيث قتل ليرث ، فحكم بعدم إرثه بجامع كونهما فعلا حراما صادرا لغرض فاسد ، وهذا الوصف وإن كان مناسبا للحكم المذكور وفي ترتّبه عليه يحصل مصلحة وهو نهيهما عن الفعل الحرام ، وقد ترتّب عليه الحكم على وفقه في القتل ؛ لثبوت الحكم معه بقوله : « القاتل لا يرث » (٢) ، فشهد نوعه لنوعه ، إلاّ أنّه لمّا لم يكن فيه نصّ على تأثير القتل في عدم الإرث ، لم يثبت منه تأثير عينه في جنسه ، ولا بالعكس ، ولا تأثير جنسه في جنسه. ومنه ما يقال : « يحرم النبيذ » قياسا على الخمر بجامع الإسكار ، وهو مناسب لتحريم التناول ؛ صيانة للعقل إذا فرض ترتيب التحريم على الخمر من غير ثبوت تأثيره فيه بالنصّ.

والمقصود من الصنف الأوّل من النوع الثاني ـ وهو الملائم الذي لم يشهد له أصل ـ ما لم يثبت اعتباره بترتيب الحكم على وفقه ، أي لم يثبت اعتبار العين في العين بوجه ؛ لعدم شهادة أصل على اعتبار نوعه في نوعه ، لكن ثبت اعتبار جنسه في جنسه ، أو عينه في جنسه ، أو بالعكس ، فهو أيضا على ثلاثة أقسام.

ومثال القسم الأوّل منه ما يقال : « قليل النبيذ وإن لم يسكر حرام » ؛ قياسا على قليل الخمر بجامع كون القليل داعيا إلى الكثير ، وهذا المناسب وإن لم يعتبره الشرع ، ولم يثبت الحكم على وفقه في المحلّ ـ إذا سلّم أنّ ترتّب الحرمة على قليل الخمر ليس على وفق هذا المناسب ـ إلاّ أنّ الشرع اعتبر جنسه في جنس ذلك الحكم ؛ لأنّه حرّم الخلوة لكونها داعية إلى الزنى. وقس عليه أمثال القسمين الأخيرين.

والمقصود من الصنف الثاني منه ـ وهو الغريب الذي لم يشهد له أصل ـ ما لم يثبت اعتباره بوجه ، ومثاله هو المثالان المذكوران للغريب غير المرسل إذا قدّر عدم شهادة القتل

__________________

(١) أي يقتل الولد والده ليرث أمواله فيصير محروما من الإرث.

(٢) تهذيب الأحكام ١٠ : ٢٣٧ ، ح ٩٤٦ باختلاف يسير.

٤٧٥

والخمر بالاعتبار ، أي عدم ثبوت الحكم معهما ، بل اعتبر مجرّد المناسبة المستخرجة ، فيكونان من الأمثلة التقديريّة ولا بأس به ؛ لأنّ المثال لا يراد لنفسه بل للتفهيم.

هذا ، وأمّا النوع الثالث ـ وهو المناسب الملغى ـ فمثاله ما تقدّم من إيجاب صوم شهرين على الملك في كفّارة الصوم.

تذنيب

إن قلت : قد خرّجت من اعتبار الوصف في الحكم تسعا وأربعين صورة ، وجعلت المؤثّر منها ستّة عشرة (١) ، وهي التي ثبت فيها تأثير العين في العين ، والملاءم منها ثلاثة (٢) ، ففي أيّ صنف يدخل البواقي؟

قلت : ما عدا الستّة عشرة ـ وهو ثلاث وثلاثون صورة ـ من الملاءم المعتبر إن ثبت معها ترتيب الحكم على وفقه ، ومن الملاءم المرسل إن لم يثبت معها ذلك ، فإنّ الثلاث التي عدّت مع الترتيب المذكور من الملاءم المعتبر ، وبدونه من الملاءم المرسل تتناول أكثرها ، كما لا يخفى تفصيله. والخارج منها لا يخرج عن الصور الثلاث التي عدّها بعضهم أيضا من الملاءم (٣) ، وهي اعتبار النوع في النوع ، واعتباره في الجنس ، وبالعكس.

مثال الأوّل : الإسكار المعتبر في التحريم ؛ فإنّ الإسكار نوع واحد يجمع إسكار الخمر وإسكار النبيذ ، وهما صنفان ، والحكم التحريم ، وهو أيضا نوع واحد يجمع تحريم الخمر وتحريم النبيذ ، ونوع الإسكار معتبر في نوع التحريم بالنصّ وإن اعتبره الشارع في تحريم الخمر ؛ لأنّ اختلاف المحلّ لا يوجب اختلاف الحالّ.

ومثال الثاني (٤) : ما يقال : « الاخوّة من الأبوين مقتضية لتقدّم الولاية في النكاح » قياسا على اقتضائها للتقدّم في الميراث ، فالوصف ـ وهو الاخوّة ـ نوع واحد في الموضعين. والحكم الولاية وهو جنس يجمع ولاية الميراث وولاية النكاح ، وهما نوعان مختلفان ،

__________________

(١ و ٢) راجع النحو الوافي ٤ : ٥٠٨ وما بعد : إذا حذف التميّز ، لا يجب المخالفة في الجزء الأوّل. فكلمتا « ستّة » و « ثلاثة » ليستا بغلط ؛ إذ حذف عنهما التميّز.

(٣) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٣١٢.

(٤) أي اعتبار النوع في الجنس.

٤٧٦

وقد اعتبر الشارع نوع الوصف في ولاية الميراث ، فيكون معتبرا في جنس الولاية (١).

ومثال الثالث (٢) : ما يقال : « يسقط قضاء صلاة الحائض » قياسا على سقوط قضاء الركعتين الساقطتين في السفر بجامع المشقّة. فالحكم ـ وهو قضاء الصلاة ـ نوع واحد يجمع قضاء صلاة الحائض وقضاء صلاة المسافر ، واختلافهما بالعوارض. والوصف ـ وهو المشقّة ـ جنس يجمع المشقّة اللازمة للحائض ، والمشقّة اللازمة للمسافر ، وهما نوعان مختلفان وقد اعتبر الشارع مشقّة المسافر ـ وهو نوع من الجنس ـ في سقوط قضاء الصلاة فيكون الجنس معتبرا فيه (٣).

وهذه الثلاث إن ثبت فيها الترتيب على وفق المناسب يكون من الملائم المعتبر ، وإن لم يثبت فيها ذلك يكون من الملاءم المرسل ، وكان عدم تعرّض القوم لما لم يتعرّضوا لها من الصور ؛ لعدم وجودها في الأحكام الشرعيّة.

ثمّ لا يخفى أنّ ملاحظة الصور المذكورة مع النظر في أنّ الجنس قريب أو متوسّط أو بعيد ، وأنّ ثبوت ذلك بالنصّ أو الإجماع أو بهما ، وأنّها تثبت مع ترتّب الحكم على وفق المناسب وبدونه ، وأنّ الترتّب يشتمل على الإيماء على العلّيّة أم لا ، وأنّ كلاّ منها يكون من أحد الأقسام المتقدّمة : من الحقيقيّة ، والإقناعيّة ، والضروريّة ، والحاجيّة ، والتكميليّة وغيرها ، تفضي (٤) إلى أقسام متكثّرة. ولو لوحظ معها وجود معارض من المفسدة بنحو من الأنحاء المذكورة في المصالح المرسلة ، يؤدّي إلى أقسام لا تحصى كثرة ، ويقع بينها تعارضات وترجيحات لا يمكن ضبط القول فيها.

ثمّ إنّ قوّة أقسام الملاءم وضعفها يختلف باختلاف مراتب خصوص الوصف والحكم وعمومهما ، فكلّما كان الوصف والحكم أخصّ كان الظنّ بعلّيّة الوصف للحكم آكد ؛ لكثرة ما به الاشتراك حينئذ بين وصفي الأصل والفرع وحكميهما ، فاعتبار النوع في النوع أقوى من اعتبار الجنس في الجنس ؛ لكثرة المشتركات بين الوصفين والحكمين في الأوّل ؛

__________________

(١) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٦٤ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٥.

(٢) أي اعتبار الجنس في النوع.

(٣) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٦٤ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٥.

(٤) « تفضي » خبر « أنّ ملاحظة ».

٤٧٧

لاتّحادهما نوعا ، فيشتركان في الحقيقة وفي مقوّماتهما من الجنس والفصل وفي لوازمهما ، واختلافهما (١) بالامور الخارجة ، كالمحالّ وما يجري مجراها ، وقلّة (٢) المشتركات بينهما في الثاني. وهو ظاهر.

تتمّة

الحقّ أن طريق المناسبة لا يفيد العلّيّة ، وليست مقبولة إلاّ المناسبة المعتبرة إجماعا أو نصّا من الشرع ، وهو المؤثّر من الأقسام المذكورة ، فإذا علم بالإجماع أو النصّ كون وصف مناسب لحكم مؤثّرا فيه وعلّة له ، يحكم بثبوت الحكم له وكونه علّة له في الأصل ، وهذا هو العمل بنفس المناسبة ، وإذا وجد هذا الوصف في محلّ آخر ، واريد إثبات حكم الأصل له فيه ، يرجع إلى القياس المنصوص العلّة ، وقد عرفت الحال فيه. فهذا القسم من المناسبة ليس من طرق الاستنباط ، وأمّا غيره من الأقسام ، فلمّا لم يقطع بالعلّيّة فيها بنصّ أو إجماع ، فيجوز أن تكون العلّة فيها غير ذلك الوصف ، وحينئذ يحكم في الملائم والغريب المعتبرين بمجرّد ثبوت الحكم مع المناسب في الأصل ؛ نظرا إلى ترتّبه عليه شرعا ، وهذا هو العمل بنفس المناسب المعتبر ، ولا يحكم بعلّيته له ، فإن ثبت هذا المناسب في محلّ آخر ، لا يقاس على الأوّل حتّى يتحقّق العمل بالقياس عليه.

وأمّا الملائم والغريب المرسلان ـ وهما المصالح المرسلة ـ فلا يحكم بثبوت حكم يناسبهما معهما في محلّ أصلا ؛ لعدم ترتّبه عليه في كلام الشارع ، فلا يتأتّى العمل بنفس المصالح المرسلة ، ولا بالقياس عليها.

ثمّ المراد بأصل الملائم هنا هو الفرع في الأمثلة المتقدّمة فلا تغفل ؛ فإنّ الأصل فيها كان من المؤثّر ، وفرعه كان ملائما ، فإذا قيس عليه غيره يصير أصلا ، وما يقاس عليه فرعا. ومن هنا يعلم أنّ فرع المؤثّر أحد الملائمين. هذا.

واتّفق القائسون على قبول المؤثّر والملائم المعتبر ، والقياس عليهما ، وردّ الغريب

__________________

(١) عطف على « اتّحادهما نوعا ».

(٢) عطف على « كثرة المشتركات ».

٤٧٨

المرسل وما علم إلغاؤه. واختلفوا في الغريب المعتبر والملائم المرسل ، والأكثر على قبول الأوّل وردّ الثاني.

واحتجّوا على كون المناسب علّة للحكم بأنّ الأحكام معلّلة بالمصالح ، وهذا الحكم قد وجد فيه هذه المصلحة ، فحصل الظنّ بأنّها الباعث على شرعه.

أمّا الثاني فظاهر ؛ لأنّ الفرض ذلك ، وأمّا الأوّل فلأنّ تخصّص (١) واقعة معيّنة بحكم معيّن لا بدّ له من مرجّح.

وجوابه ما ذكر من جواز كون العلّة غير ذلك الوصف ، على أنّ هذا الدليل فاسد على اصول الأشاعرة (٢) ؛ لأنّهم منعوا من التعليل في أحكام الله بالأغراض ، والمعتزلة ؛ لتجويزهم ترجيح أحد الطرفين من المريد لا لمرجّح (٣).

وإذا أحطت بما ذكر ، فلا أظنّك أن يشتبه عليك كيفيّة التفريع.

فصل [١٢]

ومن طرق الاستنباط ـ كما عرفت (٤) ـ الشبه. وهو لغة : الشباهة (٥). وعرفا كما يطلق على كلّ قياس الحق الفرع فيه بالأصل بجامع يشبهه ، كذلك يطلق على نفس هذا الجامع الذي هو الوصف الشبهي.

وحقيقته إجمالا : أنّ الوصف كما يكون مناسبا فيظنّ بذلك كونه علّة ، فكذلك قد يكون شبيها فيفيد ظنّا ما بالعلّيّة ، فكما أنّ كلّ قياس يكون الجامع فيه وصفا مناسبا يكون استنباط علّيّة الوصف للحكم فيه بالمناسبة ، فكذلك كلّ قياس يكون الجامع فيه وصفا شبهيّا يكون استنباط علّيّته له فيه بالشبه.

__________________

(١) في « ب » : « تخصيص ».

(٢) راجع : المحصول ٥ : ١٧٢ ـ ١٨٠ ، ونهاية السؤل ٤ : ٩٨ ، والتمهيد : ٤٧٩.

(٣) راجع : المعتمد ٢ : ٢٦١ ، والإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٣١٦ ـ ٣٢٤ ، والمستصفى : ٣١٧ ، والتمهيد : ٤٧٩ ، ونهاية السؤل ٤ : ٩٧ ـ ١٠٤.

(٤) تقدّم في ص ٤٤٤.

(٥) المصباح المنير : ٣٠٣ ، « ش ب ه ».

٤٧٩

وقد اختلف في تفسير الوصف الشبهي حتّى قيل : لا يتحرّر في الشبه عبارة مستمرّة في صناعة الحدود (١).

فقيل : ما يوهم المناسبة من حيث التفات الشرع إليه في بعض المحالّ وليس بمناسب (٢) ، والوصف الطردي ما لا يوهمها أيضا فيشبه الشبهيّ الطرديّ من حيث عدم المناسبة ، ويتميّز عنه بأنّ الطردي وجوده كالعدم ، ويشبه المناسب من حيث التفات الشرع ، ويتميّز عنه بأنّ للمناسب مناسبة عقليّة وإن لم يرد الشرع بها ، كالإسكار للتحريم ، فإنّ كونه مزيلا للعقل وكونه مناسبا للمنع منه يحكم به العقل ولا يحتاج إلى ورود الشرع به. وقد أشرنا إلى هذا التفسير ومثاله (٣).

وقيل : ما ناسب الحكم بالتبع كالطهارة لاشتراط النيّة ، والطرد ما لم يناسبه أصلا كبناء القنطرة (٤) ، وبعبارة اخرى كان مستلزما لمناسب ، كالرائحة الفائحة المستلزمة للإسكار الذي هو المناسب بذاته للتحريم.

ولا يخفى أنّ القياس حينئذ نوع من قياس الدلالة ، وهو الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم لكن يستلزم المناسب. والطردي حينئذ ما ليس بمناسب ، ولا بمستلزم له.

وقيل : ما لا يناسب الحكم لكن عرف بالنصّ تأثير جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم ، فمن حيث إنّه لا يناسب يظنّ عدم اعتباره في ذلك الحكم ، ومن حيث علم تأثير جنسه القريب ـ مع أنّ سائر الأوصاف ليس كذلك ـ يظنّ استناد الحكم إليه (٥).

وقيل : ما لا يثبت مناسبته إلاّ بدليل منفصل (٦).

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الشبه لا يدلّ على العلّيّة ، وليس بحجّة على كلّ واحد من التفسيرات.

أمّا على الأوّل والثاني ، فلأنّ المناسبة نفسها لا تفيد العلّيّة ، وليست بحجّة فضلا عمّا يوهمها أو يستلزمها.

__________________

(١) لعلّ القائل هو إمام الحرمين الجويني كما يستظهر من إرشاد الفحول ٢ : ١٣٧.

(٢) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٣٢٧ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٠٦.

(٣) تقدّم في ص ٤٤٤.

( ٤ ـ ٦ ) حكاها الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٠١ ـ ٢٠٥ ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ١٠٧ ـ ١١٢ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٣٢٧ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٠٦ ـ ١١٢.

٤٨٠