أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

المبحث الثاني

في الأدلّة الشرعيّة

ـ أعني الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ـ

والأدلّة العقليّة

وأمّا القياس ، فله أقسام ، بعضها ليس حجّة عندنا وفاقا ، وبعضها حجّة

عند بعض أصحابنا. فلا بدّ لنا من بيانه ، وإبطال الباطل وإحقاق الحقّ.

فهنا أبواب :

١٨١
١٨٢

الباب الأوّل

في الكتاب

وفيه فصول :

فصل [١]

الكتاب لغة (١) يتناول كلّ مكتوب ، وخصّ شرعا بالقرآن. وقد عرّف القرآن بتعريفات لا يتمّ واحد منها :

منها : أنّه كلام منزل للإعجاز بسورة منه (٢).

والإيراد عليه بوجوه :

الأوّل : أنّه دوريّ ؛ لأنّ القرآن مأخوذ في تعريف السورة ، كما يجيء (٣).

الثاني : أنّه ليس تعريفا بالحدّ ولا بالرسم ؛ لأنّ الأوّل يكون بالأجزاء ، والثاني باللوازم البيّنة ، وكونه للإعجاز ليس كذلك.

الثالث : أنّه لا يتناول البعض ؛ لأنّ لفظة « من » للتبعيض ، والضمير عائد إلى الكلام ، و « منه » في موضع الحال ، وقوله : « بسورة » يفيد العموم ، كما هو شأن كلّ نكرة مقارنة للوحدة وإن كانت في سياق الإثبات ، كقولهم : « تمرة خير من جرادة » فيصير المعنى أنّه كلام (٤) منزل للإعجاز بكلّ سورة حال كون كلّ سورة جزءا من هذا الكلام » والكلام الذي كلّ

__________________

(١) المصباح المنير : ٥٢٤ ، « ك ت ب ».

(٢) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٤٥ ، ومختصر المنتهى : ١٠٩.

(٣) في « ب » : « سيجيء ». وسيجيء في ص ١٨٦.

(٤) في « ب » : « كلامه ».

١٨٣

سورة جزء منه هو مجموع القرآن دون أبعاضه. فعلى هذا لا يكون القرآن صادقا على بعضه ، وهو لا يلائم غرض الاصولي ؛ لأنّه إذا قال : دليل هذا الحكم القرآن ، إنّما يريد منه بعضه.

ويمكن أن يدفع ذلك بتقدير مضاف (١) ، بأن اريد « بسورة من جنسه » في العلوّ والبلاغة ، وحينئذ يصير المعنى أنّ كلّ سورة من جنس هذا الكلام.

ولا يخفى أنّه يصدق على كلّ بعض « أنّ كلّ سورة من جنسه في البلاغة والعلوّ » فيكون القرآن اسما لمفهوم كلّي صادق على المجموع ، وعلى كلّ بعض منه ، إلاّ أنّ هذا خلاف الظاهر ، والاجتناب عن أمثاله في الحدود لازم.

ومنها : أنّه ما نقل بين دفّتي المصحف تواترا (٢).

وهو أيضا دوريّ ؛ لأنّ معرفة المصحف تتوقّف على معرفة القرآن ؛ لأنّه ما كتب فيه القرآن ، ولو لم يتميّز المصحف عن سائر الكتب بكتابة القرآن فيه ، لصدق التعريف على سائر الصحف أيضا.

ويرد عليه الإيراد الثاني (٣) أيضا ؛ لأنّ النقل المذكور ليس من أجزاء القرآن ، ولا من لوازمه البيّنة.

ومنها : أنّه كلام لا يصحّ الصلاة بدون تلاوة بعضه (٤).

ويرد عليه الإيراد الثالث (٥) ، وينتقض طردا بمثل التشهّد.

ومنها : أنّه كلام يحرم مسّ خطّه محدثا (٦).

ومنها : أنّه كلام بعض نوعه معجز ، أو كلام الله المنزل للإعجاز (٧).

ويرد على هذه الثلاثة الإيراد الثاني ، مع أنّه يرد على الأوّل ، أنّ حرمة المسّ ممّا وقع فيه الخلاف.

قيل : الحقّ أنّ هذه التعريفات لفظيّة ، والمراد منها تصوير مفهوم اسم القرآن بذكر

__________________

(١) والمراد المضاف إلى الضمير في « منه » والمضاف هو لفظ « جنس ».

(٢) قاله الغزالي في المستصفى : ٨١ ، ونسبه القاضي عضد الدين إلى قوم في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٠٩.

(٣ ـ ٥) راجع المصدر.

(٦) قاله المطيعي في سلّم الوصول ، المطبوع مع نهاية السؤل ٢ : ٣.

(٧) قاله الأسنوي في نهاية السؤل ٢ : ٣.

١٨٤

بعض أحكامه العارضة ، وليس المراد منها التحديد ولا التمييز ، وحينئذ تكون التعريفات بأجمعها صحيحة ؛ لعدم اعتبار الانعكاس والاطّراد ، وكونه بالجزء أو اللازم البيّن في التعريف اللفظي (١).

أقول : يمكن تصحيح التعريف الآخر بأن يقال : الإنزال للإعجاز لا يصدق على غير القرآن ، فلا يصدق على سائر المعجزات حقيقة بأنّها معجزات منزلة ، فالإنزال للإعجاز بيّن الثبوت للقرآن ، بيّن الانتفاء عن غيره ، فلا ينتقض التعريف.

ولو لا وقوع الخلاف في حرمة مسّ القرآن ومسّ غيره من أسماء الله وأنبيائه ، لأمكن تصحيح التعريف الرابع أيضا بنحو ما ذكر ، فالصواب هو التعريف الأخير ، ويدخل فيه كلّ بعض من القرآن وإن كان نحو « قل » و « افعل » ؛ فإنّه من حيث الجزئيّة ، واعتباره مع السابق واللاحق يكون منزلا للإعجاز ، ويصدق عليه القرآن ، ولذا يحرم مسّه على القول بحرمة مسّ القرآن.

ويتفرّع عليه أيضا ثبوت جميع الأحكام اللازمة للقرآن لكلّ بعض منه.

ويظهر الفائدة أيضا في الأيمان ، والتعليقات ، وأمثالهما.

ثمّ إنّه قيل لتأييد أنّ هذه التعريفات لفظيّة : إنّ القرآن اسم علم شخصي ، فلا يعرّف ؛ لأنّ التعريف إنّما يكون للحقائق الكلّيّة دون الأعلام الشخصيّة (٢).

أقول : بناء هذا القائل على أنّ القرآن اسم لهذا المؤلّف الحادث القائم بأوّل محلّ أوجده الله فيه ، والقائم بالمحالّ الآخر ليس عينه ، بل مثله ، فيكون القرآن شخصا واحدا. وهذا مذهب ضعيف.

والتحقيق : أنّه اسم لهذا المؤلّف من دون تعيين المحلّ ، فيكون مفهوما كلّيّا صادقا على ما ثبت في أيّ محلّ كان ، سواء كان ذوات الملائكة ، أو صدور الحفّاظ ، أو متون الصحف ، أو غير ذلك. ولو لا ذلك لم يصدق القرآن حقيقة على ما يقرأه القرّاء وما ثبت في الصحف ،

__________________

(١) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٤٥ ، والقاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٠٩ ، وراجع : الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢١١ و ٢١٢ ، وذكرى الشيعة ١ : ٤٤ و ٤٥ ، وإرشاد الفحول ١ : ٨٥ و ٨٦.

(٢) قاله القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٠٩.

١٨٥

ويلزم منه عدم ترتّب الأحكام الثابتة للقرآن عليه (١) ، وهو واه.

تتمّة

عرّف السورة بأنّها البعض المترجم أوّله وآخره توقيفا (٢).

واورد عليه : بأنّه يدخل فيه الآية ؛ إذ لا معنى للمترجم إلاّ المبيّن ، وبيان أوّل الآية وآخرها بالتوقيف (٣).

وقيل : هي طائفة من القرآن مصدّرة بالبسملة ، أو البراءة (٤).

ونقض طرده بالآية التي بعد البسملة والبراءة. فاضيف إليه « متّصل آخرها بالبسملة ، أو البراءة » فنقض عكسه بالسورة الأخيرة. فاضيف إليه « أو غير متّصل بشيء منهما » (٥) فنقض طرده بسورتين (٦) وببعض سورة النمل.

وقيل : هي الطائفة المترجمة ، أي المسمّاة باسم خاصّ (٧).

ونقض طرده بآية الكرسيّ (٨) ، وآية المباهلة (٩) ، والمداينة (١٠).

واجيب : بأنّ المراد من التسمية تسمية الشارع ، ولم يثبت تسمية الآيات المذكورة من الشارع ، بل يجوز أن تكون من النبيّ أو غيره ، بخلاف تسمية السور ؛ فإنّها من الله تعالى.

والأولى أن يراد من الترجمة ما يكتب في عنوان السور بالحمرة ؛ فإنّ الترجمة قد تطلق

__________________

(١) راجع المصدر.

(٢) قاله القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٠٩.

(٣ و ٤) راجع المصدر.

(٥) في هامش « أ » : الظاهر سقوط لفظة « منهما » إذ معها يبقى نقض الطرد بحاله ؛ لأنّه يصدق على صدور السور أنّه طائفة من القرآن مصدّرة بالبسملة ، وآخره غير متّصل بشيء من البسملة وبراءة. أمّا لو اسقطت لفظة « منهما » ، لم يصدق عليه ؛ فإنّ آخره متّصل بشيء وهو آية اخرى. ولا بدّ من زيادة لفظة « فيه » بعد « متّصل » حتّى لا يخرج السورة الأخيرة لو اتّصل آخره بالتأريخ ؛ إذ التأريخ ليس من القرآن. « نصرآبادي ».

(٦) والمراد بهما سورتا « والضحى » و « ألم نشرح » وسورتا « الفيل » و « لإيلاف قريش ».

(٧) نسبه السيوطي إلى غير الجعبريّ في الإتقان ١ : ٥٢.

(٨) البقرة (٢) : ٢٥٥. وهي قوله تعالى : ( اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ .... )

(٩) آل عمران (٣) : ٦١. وهي قوله تعالى : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ .... )

(١٠) البقرة (٢) : ٢٨٢. وهي قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ .... )

١٨٦

على ما يكتب في عنوان المكاتيب من اسم المرسل إليه وأمثاله.

ولو أريد التخلّص عن هذا التوجيه أيضا ، فيجب أن تعرّف بـ « أنّها طائفة من القرآن يكتب ترجمتها في عنوانها بالحمرة » وحينئذ لا يرد عليه نقض ، ولا يحتاج إلى تكلّف التوجيه.

ووحدة سورة « والضحى » و « ألم نشرح » وكذا « الفيل » و « لإيلاف » ـ على ما ذهب إليه جماعة من الأصحاب (١) ـ لم تثبت. والأخبار (٢) التي استدلّوا بها عليها غير دالّة على مطلوبهم ، وبعض الأخبار (٣) يدلّ صريحا على التعدّد.

فصل [٢]

القرآن متواتر ؛ لتوفّر الدواعي على نقله ؛ لكونه من اصول الأحكام (٤) ، ومتحدّى به للإعجاز ، وما هو شأنه ذلك يجب أن يتكثّر فيه النقل إلى أن يتواتر ، فما لم يتواتر ليس بقرآن.

والبسملة في كلّ سورة جزء منها عندنا ؛ للإجماع ، والأخبار المتظافرة (٥) ، وكونها مكتوبة بلون خطّ القرآن ، كسائر الآيات المتكرّرة نحو ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ )(٦) و ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ )(٧) و ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ )(٨) مع مبالغة الصدر الأوّل بتجريد القرآن عمّا سواه.

وخالف أكثر العامّة ، وحكموا بأنّها ليست من القرآن في أوّل سورة ، مع أنّه روي في

__________________

(١) منهم : الشيخ في التبيان ١٠ : ٣٧١ ، والعلاّمة في قواعد الأحكام ١ : ٢٧٣ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ : ٢٦٢.

(٢) منها : صحيحة زيد الشحّام ، المرويّة في تهذيب الأحكام ٢ : ٧٢ ، ح ٢٦٦ ، ورواية مفضّل ، المرويّة في مجمع البيان ١٠ : ٥٤٤ ، ورواية أبي العبّاس عن أحدهما عليهما‌السلام ، المرويّة في مجمع البيان ١٠ : ٥٤٤.

(٣) وهي رواية مفضّل ، المرويّة في مجمع البيان ١٠ : ٥٤٤. وجه الدلالة على التعدّد أنّ الاستثناء فيها متّصل ، واستثناء عن سورتين « لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلاّ الضحى وأ لم نشرح ، وسورة الفيل ولإيلاف قريش ».

(٤) في « ب » : « الكلام ».

(٥) راجع البرهان ١ : ٩٥ و ٩٦ ، ح ٢٢٢ ـ ٢٣٠.

(٦) الرحمن (٥٥) : ١٣.

(٧) القمر (٥٤) : ١٧.

(٨) المرسلات (٧٧) : ١٥.

١٨٧

طرقهم أنّه ذكر عند ابن عبّاس أنّه ترك بعض الناس قراءة البسملة في أوائل السور ، فقال : سرق الشيطان من الناس آية (١).

وروي أيضا أنّه قال : من تركها ، فقد ترك مائة وأربع عشرة آية (٢).

والظاهر أنّ تحقّق ترك العدد المذكور مبنيّ على اعتبار البسملة في وسط النمل مع البسملة في أوائل السور ؛ لأنّها مائة وثلاث عشرة. ويمكن أن يقال : بناء ذلك على المبالغة وإن لم يكن للبراءة بسملة.

وقد أجاب العامّة عن الروايتين بأجوبة واهية.

وأقوى احتجاجاتهم على عدم الجزئيّة : أنّ القرآن يجب أن يتواتر ، ولم يتواتر أنّ البسملة من القرآن في أوائل السور ، وإلاّ لم يختلف فيه الطوائف (٣).

والجواب : أنّ العلّة في توفّر الدواعي على النقل تعطي تواتر المكرّر في محلّ ما ، وليس تواتره في كلّ محلّ لازما ، ولا كلام في تواتر البسملة في وسط النمل ، مع أنّ تواتر جميع آيات القرآن عند جميع الطوائف محلّ كلام ، خصوصا إذا حدث سبب خارجي.

وقد ذكر بعض علماء العامّة (٤) أنّه لمّا تواتر كون البسملة من القرآن في أوائل السور من مذهب عليّ عليه‌السلام ، فوضع أنس بن مالك بأمر المعاندين أحاديث دالّة على عدم الجزئيّة عنادا.

وكيفيّة التفريع على كون القرآن متواترا : أنّه لا يقع التعارض بينه وبين أخبار الآحاد وما في قوّتها من الأدلّة ؛ لعدم تقاومها مع المتواتر ، فيجب العمل به بشرط عدم مانع آخر من جهته ، كالإجمال ، وأمثاله.

والتفريع على جزئيّة البسملة ـ على ما ذهب إليه أصحابنا (٥) ـ أنّه يجب تعيين السورة عند قراءة البسملة ، كما قال به الأصحاب (٦).

__________________

(١ ـ ٣) الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢١٧ ، وأصول السرخسي ١ : ٢٧٩ ـ ٢٨١ ، وراجع نهاية الوصول إلى علم الأصول ١ : ٣٣٦ ـ ٣٣٩.

(٤) لم أعثر عليه.

(٥) منهم الشهيد في الدروس الشرعيّة ١ : ١٧١.

(٦) منهم الشهيد في البيان : ١٥٧.

١٨٨

تتميم

المشهور أنّ القراءات السبع (١) متواترة ، وبعضهم أضاف إليها الثلاث الباقية (٢).

والحقّ أنّ تواترها لم يثبت ؛ لأنّ خلافه كاد أن يكون إجماعا.

ثمّ المشهور بين قول بتواتر السبع مطلقا (٣) ، وبين قول بتواتر ما هو من قبيل جوهر اللفظ كـ « ملك » و « مالك » دون ما هو من قبيل الهيئة ، كالمدّ ، والإمالة ، وأمثالهما. وهو الذي ذهب إليه الأكثر (٤). وهو لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّ القرآن عبارة عن اللفظ ، وهو مركّب من الجزء المادّي الذي هو من قبيل الجوهر ، ومن الجزء الصوري الذي هو الهيئة ، وتواتره إنّما يتمّ بتواتر كلا جزءيه ، اللهمّ إلاّ أن يلتزم بأنّ القرآن بالإطلاق ليس متواترا في القراءات (٥) السبع ، بل المتواتر جوهره فيها.

ثمّ الحجّة على تواتر السبع والعمل بها ، أنّه وصل إلينا من السلف هذه القراءات السبع على نحو يفيد العلم ، وقولهم حجّة ؛ لإدراكهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه. وقد أمر أئمّتنا بقراءة القرآن كما يقرأ الناس إلى قيام القائم (٦).

ويؤيّده تقريرهم أيضا. وورد بعض الأخبار عنهم بأنّ القرآن نزل على سبعة أحرف (٧).

ويرد عليه : أنّه لا شكّ أنّ القرآن النازل من الله واحد لا اختلاف فيه ، فكيف يكون السبع حجّة ، ولم يثبت أنّ المراد من سبعة أحرف القراءات السبع؟! بل قال الصادق عليه‌السلام لحمّاد ـ حين قال له : قد ورد منكم أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ـ : « أدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه » (٨).

وبعض أهل اللغة فسّر سبعة أحرف بسبعة لغات ، كلغة اليمن ، وهوازن ، وأهل مصر ،

__________________

(١) في « ب » : « القراءة بالسبع ».

(٢) كما في قوانين الاصول ١ : ٤٠٦ ، وفيه : « ومشايخ القراءات الثلاث الباقية هم : أبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف ».

(٣ و ٤) كما في المصدر.

(٥) في « ب » : « القرّاء ».

(٦) الكافي ٢ : ٦٣٣ ، باب النوادر ، ح ٢٣.

(٧) راجع جامع البيان ١ : ٩ ـ ١٥.

(٨) تفسير العيّاشي ١ : ٨٨ ، ح ٤٢ / ٢ ، والخصال ٢ : ٣٥٨ ، باب السبعة ، ح ٤٣.

١٨٩

وأمثالها (١) ، مع أنّه قد ورد بعض النصوص عن أئمّتنا عليهم‌السلام بأنّ القرآن نزل على حرف واحد ، وكذب من زعم أنّه نزل على سبعة أحرف ، والاختلاف إنّما جاء من قبل الرواة (٢).

ويمكن الجواب : بأنّه لمّا ثبت تواتر القرآن ، ووصل إلينا باعتبار اختلاف الرواة القراءات السبع على نهج واحد من حيث الشهرة ، ولا يمكن تخصيص واحدة منها بالتواتر والحجّيّة ، وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح ، فحكم بتواتر السبع وحجّيّتها وإن لم يكن النازل من عند الله إلاّ قراءة واحدة ، وتقرير الأئمّة وأمرهم بها لأجل هذا ، وعدم إظهارهم ما هو الحقّ للتقيّة ، والغرض أنّه ثبت تواتر القرآن وحجّيّته ، ويعلم أنّه نزل بقراءة واحدة ، إلاّ أنّه وقع الاختلاف في نقله لأسباب نذكرها ، فنقلوه لنا على النحو المذكور ، فيمكن أن يكون واحدة منها حجّة ، ويمكن أن يكون بعض من كلّ واحدة منها حجّة ، إلاّ أنّ ذلك ليس بمعلوم لنا. فيلزم إمّا القول بعدم التواتر والحجّيّة مطلقا ، أو بالترجيح بلا مرجّح ، أو حجّيّة القراءات السبع وتواترها. والأوّلان باطلان ضرورة ؛ فالأخير حقّ.

ثمّ المخالف للمشهور صاحب الكشّاف من العامّة (٣) ، وابن طاوس (٤) ، ونجم الأئمّة (٥) من أصحابنا ؛ فإنّهم حكموا بعدم تواتر القراءات السبع وحجّيّتها.

ويمكن أن يحتجّ له بمنع تواترها ؛ لأنّ القوم صرّحوا بأنّ لكلّ قار من القرّاء السبعة راويين ، وقولهما لا يفيد العلم ، مع أنّ شرط ثبوت التواتر استواء الطرفين والوسط في إفادة العلم ، فحصول التواتر ـ لو سلّم ـ إنّما هو في الطبقة اللاحقة لا الاولى ، وهو غير كاف.

ولو سلّم تواترها عن القرّاء السبعة ، فلا نسلّم حجّيّتها وجواز العمل بها ؛ لأنّهم كانوا من أهل الخلاف استبدّوا بآرائهم ، وتصرّفوا في القرآن بمجرّد الاستحسان من غير استناد إلى

__________________

(١) فسّرها بذلك ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر ١ : ٣٦٩ ، « ح ر ف ».

(٢) الكافي ٢ : ٦٣٠ ، باب النوادر ، ح ١٢ و ١٣.

(٣) قال في الكشّاف ٢ : ٦٩ ـ ٧٠ في ذيل تفسير قوله تعالى : ( وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) : « والذي حمله ... » حيث يدلّ على أنّ قراءة ابن عامر كانت رأيا منه ، والصواب والصحيح خلافه ، وهذا إنكار تواتر القراءات السبع.

(٤) انظر سعد السعود : ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

(٥) قال في شرحه على الكافية ٢ : ٣٣٦ : « لا نسلّم تواتر القراءات السبع ».

١٩٠

حجّة وبرهان ، ولذا وقع بينهم اختلافات كثيرة ، وقد نقل (١) أنّ المصاحف التي وقعت إلى القرّاء في عصر القراءة كانت خالية عن الإعراب والنقط ، ولم تكن معربة ممّن كان قبلهم من الذين أدركوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورووا عنه.

نعم ، ذكر بعض الادباء أنّ أبا الأسود الدؤلي أعرب مصحفا واحدا في زمان خلافة معاوية ، فلمّا رأوا المصاحف خالية عن الإعراب والنقط ، تصرّفوا فيها على ما اقتضته آراؤهم ووافقته مذاهبهم في اللغة والعربيّة ، كما تصرّفوا في سائر العلوم من النحو والتصريف ، فحصل اختلاف كثير بينهم في الإعراب والنقط والإدغام والإمالة وأمثالها ، وكان أصحاب الآراء في القراءة كثيرة ، وكان دأب الناس أنّه إذا جاء قار جديد صاحب رأي ، أخذوا بقوله وتركوا قراءة من تقدّمه ، سواء كان من السبعة ، أو لا ؛ نظرا إلى أنّ كلّ قار متأخّر كان منكرا لقول من تقدّم عليه ، ثمّ بعد زمان رجعوا عن هذه الطريقة ، وبعضهم يأخذ قول بعض المتقدّمين ، وبعضهم يأخذ قول بعض آخر منهم ، فحصل بين الناس في ذلك اختلاف ، ثمّ اتّفقوا على الأخذ بقول السبعة من غير بيّنة وحجّة ؛ لأنّ الأرجح منهم في أصحاب الآراء كان كثيرا ، فإذا كان قولهم بمجرّد الرأي من غير استناد إلى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن قوله حجّة لنا ، كيف يبقى الوثوق بقولهم؟! بل كثيرا ما ينقل قولهم مقابلا لقول المعصوم ، كما يقال : قراءة عاصم أو حفص كذا ، وقراءة عليّ عليه‌السلام كذا ، وربما يجعل قولهم قسيما لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما يظهر في الاختلاف الواقع في قراءة ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ )(٢).

ثمّ لو سلّم أنّ بناء قراءتهم على الرواية من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا نسلّم حجّيّتها لنا كرواية الحديث ، لكونهم مخالفين.

ولا يخفى أنّ ما ذكر لا يخلو عن قوّة ، إلاّ أنّ الأمر فيه سهل ؛ لأنّ أمر الإعراب والنقط والإمالة وأمثالها لمّا كان ظاهرا من اللغة ، صار موكولا إلى أهل اللسان ، ولم يتعرّضه

__________________

(١) راجع النشر في القراءات العشر ١ : ٧ ، ومناهل القرآن في علوم القرآن ١ : ٢٥١ ، وآلاء الرحمن في تفسير القرآن ـ ضمن موسوعة العلاّمة البلاغي ـ ١ : ٤٤ ـ ٧٥.

(٢) الفاتحة (١) : ٧.

١٩١

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ، ولذا لم يعرب المصاحف التي في خزانة مولانا الرضا عليه‌السلام ، وشاع أنّها بخطّه وخطّ آبائه عليهم‌السلام ، والقرّاء السبعة كانوا من أهل اللسان ، عارفين بكيفيّة الإعراب والنقط ، فقولهم حجّة ، إلاّ فيما ظهر أنّه خلاف القواعد العربيّة.

وجواز كون كلمة واحدة في لغة العرب ذات وجوه من الإعراب ، يدفع استبعاد كون كلام الله مختلفا ؛ لأنّ القرآن نزل على لغة العرب باسلوب خاصّ.

وقد ذكر جواب آخر لهذا الاستبعاد ، فلا شبهة في جواز القراءات السبع في الصلاة وغيرها.

نعم ، يشكل الأمر في اختلاف القراءات الذي يختلف به الأحكام ، وهذا قليل. وإذا وقع ، كقوله تعالى : ( يَطْهُرْنَ )(١) ـ بالتخفيف والتشديد ـ يجب الرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة ، ومع فقدها فالمشهور التخيير في العمل بأيّها شاء.

وذهب بعض أصحابنا إلى رجحان قراءة عاصم بطريق أبي بكر (٢) ، فتأمّل.

ثمّ إنّه لا عمل على القراءة الشاذّة وليست بحجّة (٣).

وقيل : إنّها كأخبار آحاد والعمل على المشهور (٤) وإن أمكن فيه المناقشة على ما ذكرناه.

ثمّ على المشهور لو لم يثبت من الأخبار وجوب التتابع في صوم كفّارة رمضان ، لكان اللازم أن يحكم بعدم وجوبه ؛ نظرا إلى القراءة المشهورة في كفّارة اليمين ، وهي : ( فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ )(٥) من دون « متتابعات ». وعلى القول الآخر (٦) يلزم الحكم بوجوبه ، نظرا إلى هذه الضميمة ، إلاّ أنّ وجوب التتابع ثابت عندنا من النصوص (٧).

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٢٢.

(٢) ذهب إليه العلاّمة في منتهى المطلب ٥ : ٦٤ ، والفاضل التوني في الوافية : ١٤٩.

(٣) قال العلاّمة في المصدر : « السادس : لا يجوز أن يقرأ بالشاذّ ـ وإن اتّصلت روايته ـ ؛ لعدم تواترها ».

(٤) في هامش « أ » : « القائل أبو حنيفة » ولكن قال القمّي في قوانين الاصول ١ : ٤٠٩ : « لا عمل بالشواذّ ... وذهب بعض العامّة إلى أنّها كأخبار الآحاد يجوز العمل بها ». ونسبه السيوطي في الإتقان ١ : ٧٦ إلى أشخاص ، منهم أبو حنيفة ، ونسبه العلاّمة أيضا إلى أبي حنيفة في نهاية الوصول إلى علم الأصول ١ : ٣٣٣.

وحاصل ما ذكر إمّا عدم صحّة ما في الهامش وما يوافقه ، أو عدم صحّة المتن ، أو كون « والعمل على المشهور » من تتمّة كلام المصنّف.

(٥) المائدة (٥) : ٨٩.

(٦) وهو قراءة ابن مسعود بضميمة « متتابعات ».

(٧) منها : ما في الكافي ٧ : ٤٥٢ ، باب كفّارة اليمين ، ح ٣ و ٨.

١٩٢

فصل [٣]

أجمع المسلمون على وجوب العمل بالقرآن الموجود الآن واتّباعه. وقد وقع الخلاف بين أصحابنا في تغييره ، وتحريفه. فمعظم الأخباريّين على أنّه وقع فيه التحريف ، والزيادة ، والنقصان (١). والصدوق (٢) والسيّد (٣) والطبرسي وأكثر المجتهدين على أنّه لم يقع فيه ذلك (٤) ، بل القرآن الذي نزل به جبرئيل هو ما بين دفّتي المصحف من غير زيادة ونقصان.

احتجّ الأوّلون بوجوه :

منها : استفاضة الأخبار بالسقوط في بعض المواضع المعيّنة من القرآن ، والتحريف في بعضها ، كآية الغدير (٥) ، وآية ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى )(٦) ، وآية ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ )(٧) ، وغيرها (٨).

ومنها : الأخبار (٩) الدالّة على وقوع تحريف وزيادة في القرآن من غير تعيين موضعهما (١٠).

ومنها : أنّ كتّاب الوحي كانوا أربعة عشر رجلا ، والقرآن نزل منجّما بحسب المصالح ، وكانوا في الأغلب لا يكتبون إلاّ آيات الأحكام وما ينزل في المجامع ، ولم يكونوا متمكّنين من كتابة ما ينزل في خلوات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل كتابة الجميع كان منحصرا بعليّ عليه‌السلام ، فكان

__________________

(١) راجع الوافية : ١٤٧.

(٢) تصحيح الاعتقاد ( ضمن مصنّفات الشيخ المفيد / ج ٥ ) : ١٢٣.

(٣) جوابات المسائل الرازية ( ضمن رسائل الشريف المرتضى / ج ١ ) : ١٠٢ ـ ١٠٥ ، ونقله الطبرسي في مجمع البيان ١ : ٤٢ ، الفنّ الخامس.

(٤) مجمع البيان ١ : ٤٢ ، الفنّ الخامس.

(٥) وهي قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) ، المائدة (٥) : ٦٧.

(٦) النساء (٤) : ٢.

(٧) آل عمران (٣) : ١١٠.

(٨) نقل القمّي الأخبار عن منبع الحياة للسيّد نعمة الله الجزائري في قوانين الاصول ١ : ٤٠٣.

(٩) راجع الكافي ٢ : ٦٣٤ ، باب النوادر ، ح ٢٨.

(١٠) في « ب » : « موضعها ».

١٩٣

قرآنه (١) جامعا ، فلمّا مضى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووقع التنازع بين الأمّة ، جمعه كما انزل ، وشدّ بردائه وأتى به إلى المسجد وخاطب الصحابة ، وقال : « هذا كتاب ربّكم على ما انزل » ، فقال له عمر : لا حاجة لنا فيه ، حسبنا كتاب عثمان ، فقال عليه‌السلام : « لن تروه ولن يراه أحد أبدا (٢) حتّى يظهر قائمنا » (٣).

ومنها : حكاية إبقاء مصحف عثمان وطبخ غيره من مصاحف كتّاب الوحي ، ولو لم يختلف ، لما ارتكبوا هذا القبيح (٤).

ومنها : أنّ عثمان أرسل سبعة مصاحف إلى أهل الأمصار وكلّها بخطّه (٥) ، فوجد فيها اختلاف كثير ، فإذا اختلف المصاحف التي بخطّه ، فكيف حال غيرها من مصاحف كتّاب الوحي؟

واحتجّ الآخرون : بقوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ )(٦) ، وبقوله عليه‌السلام : « القرآن واحد ، نزل من عند واحد على نبيّ واحد ، وإنّما الاختلاف من جهة الرواة » (٧) ، وبأنّ القول بوقوع التبديل في القرآن الذي بين أيدينا فتح لباب الكلام على إعجاز القرآن وعدم مقدرة البشر على الإتيان بمثله ، وعلى استنباط الأحكام منه (٨).

واجيب (٩) عن الأوّل : بأنّ المراد من الحفظ حفظ نوعه ، وهو كما نزل محفوظ عند أهل البيت ، فلا يمحى عن العالم.

وعن الثاني : بأنّه يدلّ على خلاف المطلوب.

وعن الثالث : بأنّه لم يقع فيه تغيير يخرج به عن اسلوبه الخاصّ الذي هو مناط الإعجاز ،

__________________

(١) في « ب » : « قراءته ».

(٢) لم يرد في « ب » : « أبدا ».

(٣) الكافي ٢ : ٦٣٣ ، باب النوادر ، ح ٢٣. مع اختلاف.

(٤) نقله عن منبع الحياة للجزائري في قوانين الاصول ١ : ٤٠٤.

(٥) نقله ابن طاوس في سعد السعود : ٤٣٧ عن مقدّمات علم القرآن لبحر الرهني ، والقمّي عن منبع الحياة للجزائري في قوانين الاصول ١ : ٤٠٤.

(٦) الحجر (١٥) : ٩.

(٧) الكافي ٢ : ٦٣٠ ، باب النوادر ، ح ١٢.

(٨ و ٩) راجع قوانين الاصول ١ : ٤٠٥.

١٩٤

وكذا لم يقع تحريف في آيات الأحكام ، وإن فرض وقوعه بيّنه الأئمّة عليهم‌السلام على وجه لا يقدح في استنباط الأحكام منه.

وغير خفيّ أنّ أخبار القائلين بوقوع التغيير وسائر أدلّتهم لا تدلّ على وقوع الزيادة ، وما يقدح في الإعجاز هو وقوع الزيادة. فالقول بوقوع النقصان وعدم وقوع الزيادة لا يخلو عن قوّة. ووقوع بعض التحريفات أيضا لا يخرجه عن الاسلوب الخاصّ ، فلا يقدح في الإعجاز.

تحديد

في القرآن محكم ومتشابه ، ونصّ وظاهر ، ومأوّل ومجمل.

وقد عرّف المحكم بتعريفات كثيرة وأصحّها : أنّه ما اتّضح معناه. والمتشابه خلافه (١).

والنصّ : ما لم يحتمل غير ما يفهم منه لغة.

والظاهر : ما دلّ على أحد محتملاته دلالة راجحة. والمأوّل خلافه.

والمجمل : ما دلّ على أحد محتملاته دلالة مساوية. فالمحكم أعمّ من النصّ مطلقا ، وأخصّ من الظاهر كذلك. والنصّ مباين للظاهر. وقد فسّر بعض أهل اللغة النصّ بالمضبوط المتقن (٢). وعلى هذا يكون المحكم مساويا له. ونسبة الثلاثة مع البواقي ونسبة بعضها مع بعض ظاهرة.

فصل [٤]

ذهب الأخباريّون إلى أنّه لا يجوز تفسير القرآن بدون نصّ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأئمّة عليهم‌السلام فكلّ آية منه لم يرد في تفسيرها أثر منهم عليهم‌السلام لا يجوز العمل بها ، سواء كانت من النصوص ، أو المحكمات ، أو الظواهر ، أو المتشابهات ، وقالوا : كلّ القرآن متشابه بالنسبة إلينا (٣).

ويؤول قولهم إلى عدم حجّيّة القرآن مطلقا ؛ لأنّ الآيات التي لم يرد في تفسيرها الآثار

__________________

(١) نسبه الزركشي إلى بعض المتأخّرين في البحر المحيط ١ : ٣٦٥.

(٢) راجع المصدر : ٣٦٣.

(٣) نسبه إليهم السيّد المحدّث الجزائري في منبع الحياة على ما في حاشية قوانين الاصول ١ : ٣٩٣.

١٩٥

المعصوميّة لا يجوز تفسيرها حينئذ ، والعمل بها ، والتي وردت في تفسيرها الآثار يكون الحجّة هي دونها.

وذهب بعض إلى جواز العمل بالمحكمات دون الظواهر (١).

وأجمع أهل الاجتهاد على أنّ كلّ آية كانت واحدة من الثلاث الاول يجوز تفسيرها والعمل بها من دون الافتقار إلى ورود نصّ في تفسيرها ، بل كلّ من كان عارفا بلغة العرب ، وحصل له من العلم ما تمكّن من فهمها ، يجوز أن يفسّرها ويعمل بها ، وتكون حجّة له وعليه. وإن كانت من الأخيرة ـ أي المتشابهات ـ فلا يجوز أن يعمل بأحد محتملاتها بمجرّد إخطاره بالبال من دون شاهد من العقل أو النقل ، كما يظهر من كلام المبتدعين ، بل حجّيّته موقوفة على الدليل.

وهذا هو الحقّ ؛ لوجوه :

منها : أنّ الله تعالى أنزل قرآنا بلسان عربيّ مبين ، وجعله قطعا لعذر المكلّفين وحجّة على العالمين ، ووصفه بكونه نورا وهدى وبيانا وشفاء ، وأودع فيه دلائل التوحيد ، ومعرفة صفاته الكماليّة ، واصول الأحكام ، وما يتعلّق بالحلال والحرام ، وأمر عباده بالتفكّر فيه ، وندبهم على الاستنباط منه ، وذمّ على ترك تدبّره ، وذكر فيه المواعظ والنصائح ، وأمر الناس بأخذها والعمل بها ، وقصّ فيه قصص الماضين ، وأمر عباده بالعبرة عنها.

وعلى قول الأخباريّين لم يتصوّر منه هذه الفوائد ، بل لم يجز لنا الانتفاع منه مطلقا.

ومنها : أنّه يمتنع أن يخاطب الله بما يدلّ ظاهره على غير مراده ؛ لإجماع الأمّة سوى المرجئة ، وللزوم التكليف بما لا يطاق ، أو الإغراء بالجهل. ولا شكّ أنّ ما عدا المتشابهات صريح أو ظاهر فيما فهم القوم منه.

ومنها : استفاضة الأخبار بعرض الحديث ـ مطلقا ، أو عند التعارض ـ على القرآن ، وأخذ ما وافقه ، وطرح ما خالفه (٢) ، والعرض عليه يتوقّف على كونه مفهوم المعنى.

__________________

(١) ذهب إلى هذا التفصيل السيّد صدر الدين في شرح الوافية كما في المصدر.

(٢) راجع : تفسير العيّاشي ١ : ٨٢ ـ ٨٣ ، ح ١٨ / ١ ـ ٢٤ / ٧ ، والكافي ١ : ٦٩ ، باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب ، ح ١ ـ ٥ ، والبرهان ١ : ٦٧ ـ ٦٨.

١٩٦

ومنها : الخبر المتواتر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي تارك فيكم الثقلين ... » (١).

وعلى مذهب الأخباريّين ما ترك إلاّ الثقل الواحد ؛ لعدم كون الثقل الأكبر حجّة.

ومنها : ما روي عن ابن عبّاس أنّه قسم وجوه التفسير على أربعة أقسام : قسم لا يعذر أحد بجهالته ، وقسم يعرفه العرب بكلامها ، وقسم يعرفه العلماء ، وقسم لا يعلمه إلاّ الله (٢).

فالأوّل : ما فيه من اصول الشرائع والأحكام وجمل دلائل التوحيد.

والثاني : حقائق اللغة وموضوع كلام العرب.

والثالث : تأويل المتشابه وفروع الأحكام.

والرابع : ما يجري مجرى الغيوب وقيام الساعة.

ومنها : ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ القرآن ذلول ذو وجوه ، فاحملوه على أحسن الوجوه » (٣) و « أنّ للقرآن ظهرا وبطنا ... » (٤).

ومنها : أمرهم عليهم‌السلام في عدّة أخبار بالتمسّك بالقرآن عند ظهور الفتن واختلاف الآراء (٥).

ومنها : أمرهم عليهم‌السلام بتدبّر القرآن وفهم آياته ، والنظر في محكماته ، والإضراب عن متشابهاته (٦).

ومنها : ما ورد في تفسير قوله تعالى : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ )(٧) أنّ الرادّ إلى الله الآخذ بمحكم كتابه ، والرادّ إلى الرسول الآخذ بسنّته الجامعة (٨).

ومنها : ما ورد منهم عليهم‌السلام من التوبيخ على ترك العمل به (٩).

__________________

(١) راجع : تفسير العيّاشي ١ : ٧٨ ، ح ٨ / ٨ ، والبرهان ١ : ٢٠ ، باب في الثقلين.

(٢) نقله الطبرسي في مجمع البيان ١ : ٢٦ و ٢٧.

(٣) مجمع البيان ١ : ١٣ ، الفنّ الثالث.

(٤) راجع تفسير العيّاشي ١ : ٨٦ ـ ٨٧ ، ح ٣٣ / ٢ ، ٣٥ / ٤ ، ٣٦ / ٥ ، ٣٩ / ٨.

(٥) منها : ما في تفسير العيّاشي ١ : ٧٤ ، ح ١ / ١ ، وبحار الأنوار ٣٧ : ٢٠٩ ، ح ١٦.

(٦) راجع : الاحتجاج ١ : ١٣٦ ، ح ٤٢ ، وبحار الأنوار ٣٧ : ٢٠٩ ، ح ١٦.

(٧) النساء (٤) : ٥٩.

(٨) نهج البلاغة : ٦٠٠ ، الكتاب ٥٣ ، الفقرة ٦٤ و ٦٥. وفيه : « الردّ والأخذ » مكان « الرادّ والآخذ ». وعنه في الصافي ١ : ٤٢٩. وفيه كما في المتن.

(٩) راجع بحار الأنوار ٧ : ٢١٥ ، ح ١١٦.

١٩٧

ومنها : ما ورد منهم عليهم‌السلام من تعليم الاستدلال به (١).

ومنها : وقوع الاحتجاج به من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام وتقريرهم عليه (٢).

ومنها : بعض الآيات ، كقوله تعالى : ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ )(٣) ؛ حيث أثبت استنباطا للعلماء ، والتخصيص خلاف الأصل ، وقوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ... )(٤) الآية ؛ حيث دلّ على جواز اتّباع غير المتشابه ، وقوله تعالى : ( هُدىً وَنُورٌ )(٥) و ( نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ )(٦) وغيرها من الآيات.

وهذه الآيات لمّا كانت محكمة ، تقوم حجّة على من قال بجواز العمل بالمحكم دون الظواهر.

وأمّا على الأخباريّين الذين قالوا : إنّ جميع القرآن متشابه بالنسبة إلينا ، فلا تنهض حجّة ؛ لأنّ الاستدلال بها على إبطال مذهبهم يصير دوريّا.

وقد اجيب عن بعض الوجوه المذكورة بأجوبة ظاهرة الاندفاع ، فلا نطيل الكلام بذكرها ودفعها.

احتجّ الأخباريّون بأربعة وجوه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّه يجوز أن يكون ما نفهم من الظواهر غير مقصود ، ولا يلزم منه التخاطب بما يدلّ ظاهره على غير المقصود ؛ لجواز ظهور المقصود منها للمخاطبين بمعونة القرائن المنضمّة معها عند النزول (٧).

والجواب عنه بالنقض والحلّ :

أمّا النقض : فبأنّه يرد على ظواهر السنّة أيضا.

وأمّا الحلّ : فبأنّ المتكلّم إذا أراد خلاف ظاهر اللفظ ، يلزم عليه نصب قرينة تدلّ عليه ،

__________________

(١) راجع : الوافية : ١٣٦ ـ ١٤٤ ، وقوانين الاصول ١ : ٣٩٣.

(٢) المصدر.

(٣) النساء (٤) : ٨٣.

(٤) آل عمران (٣) : ٧.

(٥ و ٦) المائدة (٥) : ٤٤ و ١٥.

(٧) حكاهما الفاضل التوني في الوافية : ١٣٦ و ١٣٧.

١٩٨

فإذا لم ينصب قرينة يعلم أنّه أراد ظاهره ، فإذا حان حين العمل ولم يعثر على قرينة بعد الفحص يجب حمل اللفظ على ظاهره. ولا فرق في ذلك بين المخاطبين والغائبين ؛ لأنّ تكليف الجميع على السواء ، فإن ظهر لنا أنّ تكليف المخاطبين من خطاب كان على خلاف ما يفهم من ظاهره لقرينة كانت ظاهرة لهم ، لزم علينا حمل اللفظ على خلاف ظاهره. وإن لم يظهر يلزم علينا حمله على ظاهره.

[ الوجه ] الثاني : أكثر تفاسير أهل العصمة بل كلّها ممّا يخالف الظواهر ، كما يظهر من الأخبار (١). فالآيات التي فسّرها المعصوم ووصل إلينا تفسيره لا يمكن حملها على الظاهر ؛ لأجل تفسير المعصوم ، وكذا التي لم يفسّرها ؛ لتأتّي هذا الاحتمال فيها (٢).

والجواب : أنّ التفاسير التي وردت منهم عليهم‌السلام بعضها من ظواهر القرآن ، وبعضها من بواطنه ؛ فإنّ للقرآن ظاهرا وباطنا ، كما ورد عنهم عليهم‌السلام (٣) ، ولا منع في جمعهما ، فكلّ ما ورد منهم في تفسير القرآن ممّا يخالف الظاهر فهو من بطونه. ولا يقدح هذا في جواز إرادة ما يفهم من الظاهر.

[ الوجه ] الثالث : استفاضة الأخبار بالمنع عن تفسير القرآن بالرأي ، وفي بعضها وعيد عليه (٤)(٥).

والجواب عنه أمّا أوّلا : فبأنّ المراد من التفسير بالرأي الممنوع منه هو أن يكون للإنسان ميل إلى شيء فأخذ آية من القرآن وحملها عليه ، ولولاه لم يفعل كذلك ، كما يوجد في كلام المبتدعين.

وأمّا ثانيا : فبأنّ المراد منه ما نشأ عمّن لم يظفر بدقائق القرآن وغرائبها ممّا يتوقّف على النقل والسماع ، أو بعض العلوم ، بل فسّر بمجرّد وقوفه على ظاهر العربيّة.

__________________

(١) وهي الأخبار التي تكون أخصّ مطلقا ، أو من وجه من الآيات.

(٢) حكاهما الفاضل التوني في الوافية : ١٣٦ و ١٣٧.

(٣) راجع : تفسير العيّاشي ١ : ٨٦ ـ ٨٧ ، ح ٣٣ / ٢ ، ٣٥ / ٤ ، ٣٦ / ٥ ، ٣٩ / ٨ ، والبرهان ١ : ٤٤ ، ح ١٣٩ / ١.

(٤) هذه الروايات مذكورة في مجمع البيان ١ : ٣٩ ، الفنّ الثالث ، والصافي ١ : ٣٢ ، المقدّمة الخامسة ، والبرهان ١ : ٣٩ ـ ٤٢ ، ح ١٢١ ـ ١٣٣.

(٥) حكاه الفاضل التوني في الوافية : ١٣٩ و ١٤٠.

١٩٩

وأمّا ثالثا : فبأنّ المراد منه حمل المجمل والمتشابه ، أو أمثالهما من الألفاظ المشكلة على أحد المحتملات ، والجزم به من غير دليل عقلي أو نقليّ.

ويدلّ عليه أنّ المراد من التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل أو كشف المغطّى ، فالمراد من التفسير بالرأي القطع بالمراد من اللفظ المشكل من غير دليل.

ويدلّ عليه أيضا أنّ الشيخ الطبرسي قال :

قد صحّ عن النبيّ وعن الأئمّة القائمين مقامه أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح والنصّ الصحيح. وروت العامّة أيضا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « من فسّر القرآن برأيه فأصاب الحقّ فقد أخطأ » (١).

مع أنّا نرى أنّه يفسّر القرآن من غير استناد إلى نصّ وأثر.

[ الوجه ] الرابع (٢) : استفاضة الأخبار بأنّ علم القرآن منحصر في النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام (٣).

والجواب : أنّ المراد أنّ علم الكتاب كلّه ـ أي ظاهره وباطنه ، ومحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، وبالجملة ، الإحاطة التامّة الواقعيّة لجميع ما أودع الله في القرآن ـ منحصر بهم عليهم‌السلام ، وقد نطق بذلك أخبار كثيرة ، كقول الصادق عليه‌السلام : « ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ، ظاهره وباطنه غير الأوصياء » ، وقوله عليه‌السلام : « ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أنزل إلاّ كذّاب ، وما جمعه وما حفظه كما نزّله الله تعالى إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام والأئمّة من بعده » (٤).

ولا بعد في ادّعاء دلالة جميع الأخبار التي تدلّ على انحصار علم القرآن فيهم على ذلك إمّا تصريحا ، أو تلويحا.

وغير خفيّ أنّه بعد ملاحظة أدلّتنا المتقدّمة يظهر أنّه لو لم يحمل الأخبار المذكورة على ما ذكر ، لزم طرحها.

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ١٣ ، الفنّ الثالث.

(٢) حكاه الفاضل التوني في الوافية : ١٣٧.

(٣) منها ما في الكافي ١ : ٢٢٩ ، باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة عليهم‌السلام ، ح ٥.

(٤) الكافي ١ : ٢٢٨ ، باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة عليهم‌السلام ، ح ١ و ٢. والروايتان منقولتان عن أبي جعفر الصادق عليه‌السلام.

٢٠٠