أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

وأمّا على الثالث ، فلما تقدّم (١).

وأمّا على الرابع ، فلأنّ المناسب بالذات إذا لم يكن حجّة ، فالمناسب بالواسطة أولى بذلك.

ثمّ لمّا أمكن أن يثبت علّيّة الشبه بجميع الطرق من النصّ والإجماع والسير وغيرها سوى المناسبة ، فإن ثبت علّيّته بإحدى الطرق المقبولة أفاد العلّيّة ، إلاّ أنّ ثبوت العلّيّة حينئذ بهذا الطريق لا بالشبه ، فهو ليس طريقا مستقلاّ دالاّ على العلّيّة ، ولا يثبت علّيّته بمجرّد المناسبة ، أي تخريج المناط ؛ إذ يخرجه حينئذ إلى المناسبة مع أنّه غيرها ، ولذا عرّف بما عرّف.

ثمّ إن ترتّب حكم على الشبه في محلّ أوّلا ، فهو العمل بنفس الشبه. وإن اثبت هذا الحكم في محلّ آخر إذا وجد فيه ، فهو العمل بالقياس عليه. وحقيقة الحال في المحلّين لا تخفى عليك بعد ما ذكر.

وقد عرّف بتعريفات أخر (٢) لا يعدّ بواحد منها من مسالك العلّة.

منها : أنّه الوصف المجامع لآخر إذا تردّد به الفرع بين أصلين ، أحدهما يشبهه في الصورة ، والآخر يشبهه في المعنى أو الحكم (٣). واعتبر الشافعي المشابهة المعنوية (٤) ، وابن عليّة الصوريّة (٥). وعلى أيّ تقدير فالأشبه منهما هو الشبه ، كالنفسيّة والماليّة في العبد المقتول خطأ إذا زادت قيمته على دية الحرّ ، فإنّه قد اجتمع فيه الوصفان. وبالأوّل يشابه الحرّ ومقتضاه عدم الزيادة على الدية. وبالثاني الدابّة ومقتضاه الزيادة ، إلاّ أنّه بالحرّ أشبه ؛ إذ مشاركته له في الأوصاف والأحكام أكثر. وحاصله تعارض مناسبين رجّح أحدهما.

وهذا ليس من الشبه المقصود في شيء ؛ لأنّ كلاّ من الوصفين مناسب ، وكثرة المشابهة

__________________

(١) تقدّم آنفا.

(٢) راجع : المستصفى : ٣١٦ و ٣١٧ ، وتهذيب الوصول : ٢٥٧ ، ونهاية السؤل ٤ : ١٠٥ ـ ١٠٧.

(٣) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٣٢٥.

(٤) الرسالة للإمام الشافعي : ٤٧٩ ، الرقم ١٣٣٤ ، وحكاه عنه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٠٢.

(٥) حكاه عنه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٠٣.

٤٨١

إن كانت مؤثّرة فهي من باب الترجيح ، ولا تخرجه عن المناسبة ، ولذا قيل : هذا حجّة ؛ لتردّده بين قياسين متناسبين ، ويسمّى قياس علّيّة الأشباه (١).

وممّا يتفرّع عليه إلحاق السلت (٢) بالحنطة حتّى يكمل به نصابها ؛ إذ يشبهها صورة ؛ لأنّه على لونها ونعومتها ، أو بالشعير ؛ إذ يشبهه في برودة الطبع ، هذا هو المعروف عند الفقهاء (٣) وأهل اللغة (٤) ، وعكسه بعضهم (٥). وقيل : جنس مستقلّ لتعارض المعنيين (٦).

ومنها : أنّه ما يعرف فيه المناط قطعا إلاّ أنّه يفتقر في آحاد الصور إلى الحقيقة ، كما في طلب المثل في جزاء الصيد بعد العلم بوجوب المثل بالنصّ.

وهو أيضا ليس من الشبه المقصود ؛ لأنّه العلّة الشبهيّة ، والنظر فيما ذكر إنّما هو في تحقيق الأشبه ؛ لأنّه وجب المثل ، والصيد لا يماثله شيء من النعم ، فكان محمولا على الأشبه ، لا في تحقيق المناط الذي هو العلّة ؛ لكونه معلوما من النصّ (٧).

ومنها : أنّه ما اجتمع فيه مناطان مختلفان لحكمين لا على سبيل الكمال لكن أحدهما أغلب ، فالحكم به حكم بالأشبه ، كالحكم في اللعان بأنّه يمين لا شهادة وإن وجدا فيه لا على سبيل الكمال ؛ لأنّ الملاعن مدّع ، فلا يقبل شهادته لنفسه ، ولا يمينه (٨).

وهذا أيضا ليس من الشبه المقصود وهو ظاهر. وكيفيّة التفريع قد ظهرت لك.

تذنيب

يشترط في تفسير الطرد أن يضاف على ما ذكر قولنا : إذا ثبت معه الحكم فيما عدا المتنازع فيه ؛ لأنّ هذا هو معنى الاطّراد ، وحاصله الاستلزام في الوجود لا في العدم. وبهذا يمتاز عن الدوران ؛ لأنّه الاستلزام في الوجود والعدم.

__________________

(١) قاله الغزالي في المستصفى : ٣١٧ ، والأسنوي في التمهيد : ٤٧٩.

(٢) السلت : الشعير أو ضرب منه لا قشر له.

(٣) راجع : الخلاف ٢ : ٦٥ ، المسألة ٧٧ ، وبداية المجتهد ١ : ٢٦٦ ، والشرح الكبير ـ ضمن المغني ـ ٩ : ٥٢٥.

(٤) المصباح المنير : ٢٨٤ ، ومجمع البحرين ٢ : ٢٠٥ ، والنهاية في غريب الحديث والأثر ٢ : ٣٨٨ ، « س ل ت ».

(٥) المعجم الوسيط : ٤٤١ ، « س ل ت » ، و ٢٠٢ ، « ح ن ط ».

(٦) قاله الأسنوي في التمهيد : ٤٧٩ و ٤٨٠.

(٧ و ٨) حكاهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٣٢٦ ، والغزالي في المستصفى : ٣٢٢.

٤٨٢

مثاله ما يقال في عدم إزالة النجاسة بالخلّ : مائع لا يبنى القنطرة على جنسه ، فلا يجوز إزالة النجاسة به كالدهن (١).

والحقّ أنّه لا يفيد العلّيّة وليس بحجّة ؛ لأنّ الدوران كذلك ، كما يأتي (٢) ، فهو أولى بذلك ، ولأنّ الاطّراد كون الوصف بحيث لا يوجد إلاّ وقد وجد معه الحكم ، وهذا لا يثبت إلاّ إذا ثبت أنّ الحكم حاصل بنفسه في الفرع ، فلو توقّف معرفة ثبوت الحكم في الفرع على كون الوصف علّة ، واستند علّيّته إلى كونه مطّردا ، لزم الدور.

احتجّ الخصم ـ وهم جماعة من العامّة ـ بأنّ عادة الشرع إلحاق الفرد النادر بالأعمّ الأغلب ولا دور ؛ لأنّا لا نحتجّ بالمقارنة في جميع الصور على العلّيّة ، بل فيما عدا الفرع (٣).

وفيه : أنّ المقارنة لو دلّت على العلّيّة لدلّت في صورة المقارنة ، والفرع لم يثبت فيه المقارنة ، فإلحاقه بما ثبت فيه المقارنة يحتاج إلى دليل. غاية ما في الباب حصول ظنّ بإلحاق الفرد بالأغلب ، ومثله لا يصلح لتأسيس الحكم الشرعي ، سيّما على قواعدنا (٤) ؛ لما عرفت (٥) من قطعيّة بطلان القياس. والعجب أنّ بعضهم بالغ وقال : يكفي مقارنته في صورة واحدة لإفادة العلّيّة (٦).

ولا يخفى أنّ تجويزه يفتح باب الهذيان. فظهر أنّ قياس الطرد البسيط باطل مطلقا.

ثمّ إثبات الحكم في صورة المقارنة ـ كإثبات عدم إزالة النجاسة بالدهن ـ عمل بنفس الطرد ، وإثبات الحكم في صورة عدم المقارنة ـ كإثباته بالخلّ ـ عمل بقياس الطرد البسيط.

ولمّا ظهر عليك كيفيّة التفريع مرارا ، فلا نطيل الكلام بإعادتها.

__________________

(١) راجع : الخلاف ١ : ١٨ ، المسألة ٨ ، والمبسوط للسرخسي ١ : ٩٦ ، وبداية المجتهد ١ : ٨٣ و ٨٤ ، والمجموع ١ : ٩٢ و ٩٥ ، والمحصول ٥ : ٢٢٥.

(٢) يأتي في ص ٤٨٧ ، الفصل ١٤.

(٣) قاله الغزالي في المستصفى : ٣٢٣ ، والفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٢١ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٣٥ و ١٣٧.

(٤) راجع مبادئ الوصول : ٢٢٦ و ٢٢٧.

(٥) تقدّم في ص ٤٦١.

(٦) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٢١ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٣٧.

٤٨٣

فصل [١٣]

ومن طرق الاستنباط ـ كما تقدّم (١) ـ السبر (٢) والتقسيم ، وهو ـ كما عرفت (٣) ـ حصر الأوصاف الصالحة للعلّيّة في الأصل ، وسلب العلّيّة عن كلّ واحد إلاّ المدّعى ، والحصر (٤) راجع إلى التقسيم وهو ظاهر ، والسلب إلى السبر ؛ لأنّه في الأصل اعتبار عمق الجراحة ، والمسبار حديدة معدّة لذلك. والمراد منه هاهنا اعتبار كلّ وصف من الأوصاف المعدودة ، وإبطال علّيّتها حتّى ينتهي إلى المدّعى.

والسبر إمّا يقع على التقسيم الحاصر أو المنتشر.

والأوّل ما يقطع فيه بانحصار الأقسام في المعدودة وإبطال ما عدا المدّعى ، وهو يفيد العلم. وقد عوّل عليه في معرفة العلل العقليّة ، كما يقال : هذا الأمر إمّا معلّل أو لا ، فإن كان معلّلا فإمّا بهذا الشيء أو بغيره ، فإذا ابطل الثاني (٥) وأحد شقّي الأوّل يتعيّن شقّه الآخر للعلّيّة. وقد يوجد مثله فى الأحكام الشرعيّة ويعوّل عليه ، كما يقال : ولاية الإجبار إمّا أن لا تعلّل ، أو تعلّل بالبكارة أو الصغر أو غيرهما ، والكلّ باطل سوى الثاني ، فالأوّل والرابع للإجماع ، والثالث لقوله عليه‌السلام : « الثيّب أحقّ بنفسها » (٦).

والثاني ما لا يقطع فيه بالانحصار ، بل يدّعى الانحصار فيه بالاستقراء ، ومثاله ما تقدّم من قياس الأرز على البرّ في الربويّة.

والحقّ ، أنّه ليس بحجّة وفاقا للأكثر (٧) ؛ لجواز الاستغناء عن العلّة ؛ فإنّه لو كان كلّ حكم معلّلا لزم التسلسل في علّيّة العلّة. ومنع (٨) الحصر ؛ لجواز كون العلّة غير الأوصاف المعدودة ،

__________________

(١) في ص ٤٤٥.

(٢) راجع الصحاح ٢ : ٦٧٥ ، « س ب ر ».

(٣) في ص ٤٤٥.

(٤) غرضه أنّ النشر خلاف اللفّ.

(٥) والمراد به « أو لا ».

(٦) سنن أبي داود ٢ : ٢٣٣ ، باب الثيّب.

(٧) راجع : المحصول ٥ : ٢١٧ و ٢١٨ ، والإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٨٩ ، وتهذيب الوصول : ٢٥٨ ، ونهاية السؤل ٤ : ١٢٨ و ١٢٩.

(٨) عطف على « جواز ».

٤٨٤

أو ما تركّب من بعضها أو جميعها ، أو الحكم مشروطا في الأصل بما ليس في الفرع ، أو ممنوعا في الفرع لمانع.

والجواب بأنّ الغالب في الأحكام تعليلها ، والأصل عدم عدّ الأوصاف المحصورة (١) ، ضعيف. هذا.

وعدم جواز الاستدلال بالسبر عندنا ظاهر ؛ لما عرفت (٢) من قطعيّة بطلان مطلق القياس ، إلاّ ما ثبت استثناؤه بالقطع أيضا. فغاية الأمر أن يفيد ظنّ العلّيّة ، وهو لا يقاوم القطع. وعلى هذا ، لو ثبت من الشرع حكم في أصل ـ كالربا في البرّ ـ يحكم بثبوته فيه ، ولكن لا يستند ثبوته فيه إلى الوصف المدّعى حتّى يثبت منه العمل بنفس السبر والتقسيم ، ويلزم منه بالطريق الأولى عدم جواز إثباته في محلّ آخر إذا كان هذا الوصف موجودا فيه حتّى يلزم العمل بقياس السبر.

إن قلت : قد اعترفت بحجّيّة تنقيح المناط في الجملة وهو راجع إلى السبر والتقسيم.

قلت : تنقيح المناط القطعيّ يرجع إلى التقسيم الحاصر ، والظنّيّ إلى المنتشر ، والأوّلان مقبولان ، والأخيران مردودان ، فلا منافاة.

احتجّ الخصم (٣) بأنّ كلّ حكم لا بدّ له من علّة ؛ للإجماع ؛ ولقوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ )(٤) ، فإنّه يفيد أنّه ارسل بأحكام شرعت لمصالحهم ؛ إذ لو ارسل بحكم لا مصلحة فيه ، لكان إرسالا لغير الرحمة ، فهو يفيد التعميم ، فثبت منه المطلوب وهو تعليل كلّ حكم بعلّة. ولو سلّم انتفاء العموم فنقول : الغالب في الأحكام التعليل ، والفرد يلحق بالأعمّ الأغلب.

وإذا ثبت ذلك فنقول : القطع بتعيين العلّة غير ممكن ، فيكفي الظنّ به ، وهو يحصل بالسبر والتقسيم وبغيره من الطرق كالمناسبة والشبه والدوران ، فإذا ثبت ظهور علّيّة وصف لحكم شيء من هذه الطرق ، وجب اعتبارها والحكم بها ، إلاّ أنّ ذلك لا يتوقّف في المناسبة على

__________________

(١) الجواب للإسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٢٨.

(٢) في ص ٤٤٥.

(٣) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢١٧ و ٢١٨ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٨٩ ـ ٢٩١.

(٤) الأنبياء (٢١) : ١٠٧.

٤٨٥

سبق العلم بكون الحكم معلّلا ، ثمّ تعيين العلّة بها ، بل مجرّد المناسبة كاف في ظنّ العلّيّة بخلاف غيرها.

ثمّ إفادة كلّ طريق للعلّيّة لمّا كانت فرع وجوده ، والسبر كان مركّبا من شقّين (١) : الحصر ، وحذف بعض الأوصاف وإبطال كونه علّة ، فوجوده (٢) فرع وجودهما ، فقالوا : لثبوت الأوّل (٣) يكفي التصفّح التامّ عن أوصاف الأصل وعدم الظفر على غير ما ظفر به ، لحصول الظنّ حينئذ بعدم غيرها ؛ لأنّ الغالب أنّ الأوصاف العقليّة والشرعيّة لا تخفى بعد الاستقراء ، مع أنّ الأصل عدم غيرها ، وإذا قال المجتهد في بيانه : بحثت فلم أجد سوى هذه الأوصاف والأصل عدم غيرها ، يصدّق ، بل يصدّق (٤) وإن لم يعلّل بالأصل ؛ لعدالته وتديّنه.

وللثاني ثلاث طرق :

الأوّل : الإلغاء ، وهو بيان أنّ الحكم قد ثبت في الصورة الفلانيّة بدون الوصف المحذوف ، فعلم أنّه لا أثر له ، كما يقال في قياس الأرز على البرّ في الربويّة : القوت ليس بعلّة ؛ لأنّ الملح ربوي وليس بقوت.

الثاني : أن يكون الوصف طرديّا ـ أي من جنس ما علم من الشرع إلغاؤه في جميع الأحكام ـ كالطول والقصر ، أو بالنسبة إلى ذلك الحكم ، كالذكورة والانوثة في أحكام العتق.

الثالث : أن لا يظهر له مناسبة ، ولا يلزم على المناظر أن يبيّن عدم المناسبة بدليل ، بل يكفي له أن يقول : بحثت فلم أجد له مناسبة. فإن عارض المعترض وقال : الوصف المتبقّي أيضا كذلك ، فإن أوجبنا على المستدلّ بيان المناسبة ، انتقل من السبر إلى الإخالة ، وهو قبيح عند أهل النظر ، فيلزم التعارض والمصير إلى الترجيح. وحينئذ نقول : إن سبق من المعترض تسليم مناسبة كلّ من الوصفين لم يسمع منه منع مناسبة المستبقى بعد بيان المستدلّ نفي مناسبة المحذوف ؛ لكونه مانعا لما سلّمه. وإن لم يسبق منه ذلك ، فللمستدلّ

__________________

(١) كذا في النسختين. والأولى : « من الشقّين ».

(٢) أي وجود الطريق فرع وجود الحصر والحذف.

(٣) أي الحصر.

(٤) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٨٩ و ٢٩٠.

٤٨٦

أن يرجّح سبره بموافقته لتعدية الحكم ، وموافقة سبر المعترض للمقصود ، والتعدية أولى منه ؛ ليعمّ الحكم ويكثر الفائدة. هذا ما ذكروه (١).

وأنت بعد الإحاطة بما تقدّم تعلم فساد أصل دليلهم على السبر وغيره من الطرق ، وما ذكروه أيضا في بيان شقّيه (٢).

أمّا [ الشقّ ] الأوّل : فلأنّا نمنع التعليل في جميع الأحكام ، وإلاّ لزم الدور ، كما تقدّم (٣) ، والإجماع عليه لم يثبت ، كيف؟! والأشاعرة منعوا منه (٤) ، والآية (٥) لا تفيد العموم ، والغلبة لا تفيد أزيد من ظنّ لا ينتهض حجّة لتأسيس الأحكام. ومع تسليم ذلك كلّه يجوز أن يكون العلّة غير الأوصاف المحصورة.

وأمّا [ الشقّ ] الثاني : فلأنّ ما ذكر في بيان الشقّ الأوّل ـ وهو الحصر ـ لا يثبته ؛ لأنّ الاستقراء على فرض تحقّقه ليس بحجّة ، والتمسّك بالأصل في أمثال المقام ليس بصحيح.

وما ذكر في بيان الشقّ الثاني إن صحّ ، فلا يضرّنا ؛ لأنّا نقول أيضا بعدم علّيّة المحذوف. هذا.

والمناط عندنا في إبطال هذه الطرق ما ذكرناه مرارا.

ثمّ إنّك بعد الإحاطة بالأمثلة المذكورة هنا وفي تنقيح المناط لا يخفى عليك كيفيّة التفريع.

فصل [١٤]

ومن طرق الاستنباط ـ كما اشير إليه (٦) ـ الطرد والعكس ، أي الدوران. وقد عرفت (٧) أنّه الاستلزام في الوجود والعدم ـ أي كون الوصف بحيث يحدث الحكم بحدوثه وينعدم بعدمه ـ وهو قد يتحقّق في محلّ واحد ، كما في الإسكار والتحريم في العصير وقد يقع في

__________________

(١ و ٢) حكاها الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢١٧ ـ ٢٢٠ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٨٩ ـ ٢٩٣ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٢٨ ـ ١٣٧.

(٣) في ص ٤٨٤.

(٤) حكاه عنهم العلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٤.

(٥) تقدّمت في ص ٤٨٥.

(٦) في ص ٤٣٨.

(٧) في ص ٤٢٤.

٤٨٧

محلّين ، كما في الكيل وتحريم التفاضل ؛ فإنّ أحد جزءيه ـ وهو الطرد ـ تحقّق في البرّ مثلا ، والآخر ـ وهو العكس ـ يتحقّق في الثياب مثلا.

وقد اختلف في إفادته للعلّيّة على أقوال (١) ثالثها : أنّه يفيدها ظنّا لا قطعا (٢). وهو الحقّ ، إلاّ أنّ مثل هذا الظنّ لا يصلح أن يكون مؤسّسا لحكم شرعي. فعلى هذا يحكم بثبوت جميع الأحكام الدائرة مع الأوصاف في الموادّ المخصوصة التي ثبت فيها الترتيب من الشرع ، ولا يقطع بعلّيتها لها حتّى أمكن القياس عليها ، فيبطل قياس الطرد المركّب.

ثمّ لمّا كان العمل في المحالّ التي ثبت فيها الدوران بقول الشارع لما به ، فلا يتحقّق العمل بنفس الدوران ، كما لا يجوز العمل بالقياس على محالّه. هذا.

ولنا على ما اخترناه أنّ الحادث لا بدّ له من علّة ولم يظفر بعلّة غير المدار ، فبضميمة أصالة العدم يحصل الظنّ بعلّيّة المدار. وأيضا إذا وجد الدوران ولا مانع من العلّيّة من معيّة ، كما في المتضايفين ، أو تأخّر كما في المعلول ، أو غيرهما ، كما في الشرط المساوي حصل الظنّ بها ، وذلك ممّا يقضي به العادة ؛ ويؤكّده أنّه إذا دعي الإنسان باسم مغضب فغضب ، ثمّ ترك فلم يغضب وتكرّر ذلك ، علم عادة أنّه سبب الغضب ، ولا يفيد القطع بالعلّيّة ؛ لجواز عدم احتياج الحكم الدائر إلى العلّة ، أو كون العلّة غير المدار ، أو قصر علّيّته على محلّ الدوران.

واحتجّ من قال بإفادته للعلّيّة قطعا (٣) بأمثال ما ذكرناه ، وهو لا يفيد أزيد من الظنّ ، كما عرفت (٤).

واحتجّ من أنكر إفادته للعلّيّة مطلقا بوجهين :

أحدهما : أنّ الطرد لا يؤثّر ، والعكس لا يعتبر (٥).

أمّا الأوّل ، فلأنّ الاطّراد أن لا يوجد الوصف بدون الحكم ، ووجوده بدونه هو النقض. فالاطّراد هو السلامة عن النقض ، وهو أحد مفسدات العلّة. والسلامة عن مفسد واحد

__________________

(١) حكاها الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٣٣٠.

(٢) نسبه الآمدي إلى القاضي أبي بكر الباقلاني في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٣٣٠.

(٣) حكاه الرازي في المحصول ٥ : ٢٠٧ ، والآمدي عن بعض المعتزلة في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٣٣٠.

(٤) تقدّم آنفا.

(٥) قاله الغزالي في المستصفى : ٣١٥ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٣٣٠ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٧.

٤٨٨

لا توجب انتفاء كلّ مفسد ، ولو سلّم ، فلا يصحّح علّيّته إلاّ بوجود مقتض للعلّيّة ؛ لأنّ رفع المانع وحده لا ينتهض علّة مقتضية.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الانعكاس ليس شرطا في العلّيّة ، كما يأتي ، فليس شرطا في صحّتها.

واجيب بأنّه قد يكون للمجموع أثر ليس لكلّ واحد من أجزائه ؛ فإنّ كلّ واحد من أجزاء العلّة المركّبة لا يصلح علّة ، ويحصل من اجتماعها مجموع هو العلّة (١).

وعلى ما اخترناه ، فجوابه أنّ كلّ واحد من الاطّراد والانعكاس يفيد ظنّا ما ، ومن اجتماعهما يتقوّى الظنّ.

وثانيهما : أنّ الدوران قد وجد في محالّ متعدّدة لم يثبت فيها العلّيّة ، كما في المتضايفين ، والعلّة والمعلول المتساويين ؛ لامتناع كون المعلول علّة لعلّته والمعلولين المتساويين وأجزاء العلّة المساوية لها ؛ فإنّها دائرة معها مع انتفاء العلّيّة ، وشرائط المعلول المساوية له ؛ فإنّها دائرة معه ومع علّته مع انتفاء العلّيّة ، ولوازم المعلول ؛ فإنّها دائرة معه ، ولوازم العلّة ؛ فإنّها دائرة معها ومع المعلول ، كالرائحة المخصوصة الملازمة للمسكر ؛ فإنّها توجد بوجوده وتعدم بعدمه وليس بعلّة ، والحدّ والمحدود والجسم واللون والحركة والزمان وغير ذلك (٢).

واجيب بأنّ ارتفاع العلّيّة فيها لمانع ، والمبحث ما لم يوجد فيها المانع (٣). هذا.

واعلم أنّ الدوران بين الوصف والحكم قد يتحقّق في محالّ متعدّدة ، كالدوران في الكيل وتحريم التفاضل ؛ فإنّه قد تحقّق كلّ واحد من جزءيه ـ أي الطرد والعكس ـ في محالّ متعدّدة ، فالأوّل قد وجد في البرّ والشعير والسمن والملح وغيرها ، والثاني قد وجد في الثياب والحيوان والأسلحة وغيرها.

وقد يتحقّق في محلّ واحد ، كما في الإسكار والتحريم ؛ فإنّ الدوران بينهما قد وجد في محلّ واحد وهو العصير. والمتحقّق في محلّ واحد إمّا أن يكون بالحدوث والزوال مرّة أو

__________________

(١) نسبه الفخر الرازي إلى الخصم في المحصول ٥ : ٢١٨ و ٢١٩ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٣٣١.

(٢) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٢٢ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٣٣٢ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٧.

(٣) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢١٠ ـ ٢١٦ ، وقاله الأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٢٥.

٤٨٩

أكثر ؛ ولذلك يختلف مراتب الظنّ بعلّيّة المدارات ، فإنّه لو وجد في محلّ واحد بالحدوث والزوال مرّة يحصل منه ظنّ ضعيف ، وربّما لم يحصل منه شيء.

استدراك

قد دريت ممّا ذكر أنّ ما يقتضيه قواعد الإماميّة بطلان كلّ قياس طريق إثباته إحدى الطرق المذكورة (١) ـ وهو : قياس الإخالة ، وقياس الشبه ، وقياس السبر ، وقياس الطرد البسيط ، وقياس الطرد المركّب ، ويجمعها قياس مرجوح التأثير ـ وعدم صلاحيته للتقوية والتأييد ، ولكن له بعض هذه الطرق التي يمكن الاستدلال بها على حكم أوّلا ، وجعله علّة له من غير أن يجعل طريقا للقياس ، كالمناسبة.

والشبه لا يمتنع أن يجعل مؤيّدا ومرجّحا ؛ لأنّ ما يثبت بطلانه بالقاطع هو العمل بالقياس الذي كان طريق إثباته إحدى الطرق المذكورة ، لا بنفس هذه الطرق ، فإذا حصل من بعضها ظنّ بثبوت حكم أوّلا ، فلا بأس بجعله مرجّحا وإن لم يصلح أن يكون مؤسّسا للحكم.

فصل [١٥]

لمّا عرفت أنّ لطريق معرفة العلّة أقساما (٢) ، فيجب أن تعلم أنّ لنفسها أيضا أقساما ؛ لأنّها إمّا متعدّية ، وهي التي تتجاوز عن الأصل ، فتوجد في غيره ، كتعليل حكمه بما يشارك به غيره. أو قاصرة وهي التي لا تتجاوز عنه ، كتعليل حكمه به ، أو بما يختصّ به.

وأيضا علّة الحكم إمّا محلّه ، كتعليل حرمة الخمر بكونه خمرا عند الحنفيّة (٣). أو جزؤه ، كتعليل خيار الرؤية في بيع الغائب بكونه عقد معاوضة. أو خارج عنه. والخارج إمّا وصف شرعي ، كتعليل جواز رهن المشاع بجواز بيعه. أو عرفي كتعليل عدم جواز

__________________

(١) راجع : تهذيب الوصول : ٢٥١ ، والوافية : ٢٣٧ ـ ٢٣٩.

(٢) في ص ٤٤٦.

(٣) المبسوط للسرخسي ٢٤ : ٣.

٤٩٠

بيع الغائب بالجهالة المجتنب عنها عرفا. أو لغويّ كتعليل حرمة النبيذ بكونه مسمّى بالخمر ، كالمعتصر من العنب. أو عقليّ حقيقيّ كتعليل ربويّة البرّ بالطعم.

أو إضافيّ ، كتعليل ولاية الإجبار بالابوّة. أو سلبيّ ، كتعليل عدم وقوع طلاق المكره بعدم الرضى.

وعلى التقادير إمّا بسيطة ، كالأمثلة المذكورة ، أو مركّبة ، ولها أقسام بحسب تركيبها المتصوّر من الثنائي والثلاثي ، مثلا يمكن أن تكون مركّبة من الحقيقيّة والإضافيّة ، كتعليل جواز بيع المفلس ؛ لكونه بيعا صدر من الأهل في المحلّ. ومن الحقيقيّة والسلبيّة ، كتعليل وجوب القصاص على القاتل الذمّيّ بالقتل بغير حقّ. ومن الحقيقيّة والإضافيّة والسلبيّة ، كتعليل وجوب القصاص بالقتل بالمثقل بكونه قتلا عمدا بغير حقّ. وقس عليها غيرها.

وأيضا العلّة إمّا أن تكون وجه الحكمة ، كحفظ أوضاع الناس بشرع عدالة المفتي ، وكون الصلاة ناهية عن الفحشاء ، والخمر مورثة للبغضاء. أو غيره ، ومثاله ظاهر.

وأيضا العلّة والحكم إمّا ثبوتيان ، أو سلبيّان ، أو الحكم ثبوتي والعلّة عدميّة ، أو بالعكس ، ويسمّى التعليل بالمانع.

وأيضا العلّة قد تدفع الحكم ولا ترفعه ، كالعدّة ، فإنّها تدفع النكاح اللاحق ، ولا ترفع السابق. وقد تعكس ، كالطلاق. وقد تدفع وترفع ، كالرضاع.

وأيضا العلّة إمّا أن لا يتوقّف تأثيرها على شرط ، أو يتوقّف ، كالزنى للرجم بشرط الإحصان ، وللجلد بشرط عدمه. فهنا قد علّل بعلّة ضدّان ، لكن بشرطين متضادّين.

ولهما تقسيمات أخر لا يتعلّق بها غرض علمي.

تمهيد : [ في شروط القياس ]

للقياس شروط عند القائسين ، بعضها متّفق عليه عندهم ، وبعضها مختلف فيه بينهم. وكلّ عدّة منها يتعلّق بركن من أركانه. وها هي نذكرها في فصول ، ونشير إلى ما هو الحقّ على قواعد كلّ من الفريقين ، ونبدأ بشروط العلّة.

٤٩١

فصل [١٦]

قد ذكروا للعلّة شروطا كثيرة (١).

فمنها : أن تكون بمعنى الباعث ، أي مشتملة على حكمة مقصودة للشارع من تحصيل مصلحة أو تكميلها ، أو دفع مفسدة أو تقليلها ، فالأمارة المجرّدة ـ أي الوصف الطرديّ الذي لا يناسب ولا يشابه ـ لا تصلح للعلّيّة.

واحتجّوا عليه بأنّ العلّة لو كانت أمارة لم يكن لها فائدة سوى تعريف الحكم ، فيلزم أن يكون الحكم متفرّعا عليها ، مع أنّ العلّة متفرّعة عن الحكم ؛ لكونها مستنبطة منه ؛ إذ لو كانت منصوصة أو مجمعا عليها لعرف الحكم بالنصّ أو الإجماع لا بها ، فيلزم الدور (٢).

واجيب عنه ، بأنّ العلّة تتفرّع على حكم الأصل ، والمتفرّع على العلّة إنّما هو الحكم في الفرع ، فلا دور (٣).

أقول : ما يقتضيه النظر هو أنّ الأمارة ـ أي الوصف الطرديّ ـ لعدم ظهور مناسبته للحكم لا يكون علّيّته معلومة لنا ، إلاّ أنّه لا يمتنع أن يكون علّة شرعا ؛ لأنّ ظهور المناسبة لكلّ أحد لا يشترط في علّيّة الوصف ، كما اشير إليه. نعم ، يلزم ظهورها لمن يجعله علّة ، فيمكن أن يكون وصف مشتملا على حكمة يكون ذلك معلوما للشرع غير معلوم لنا ، وحينئذ إذا تحقّق الطرد ـ أي ثبوت الحكم في أكثر المحالّ التي وجد فيها الوصف ـ يحصل الظنّ بعلّيّته له ، كما تقدّم (٤) ، فعلى ما ذهب إليه العامّة من العمل بالأقيسة الظنّيّة (٥) يتأتّى قياس غيرها ـ ممّا وجد فيه هذا الوصف ـ عليها وإن لم يثبت فيه ترتّب الحكم على الوصف من الشرع. وأمّا على ما ذهبنا إليه ، فالمناط النصّ على العلّيّة (٦) ، سواء كانت المناسبة معلومة أو لا ؛ فالأمارة

__________________

(١) راجع : المحصول ٥ : ١٢٧ ، والإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢١٥ ـ ٢٢١ ، وتهذيب الوصول : ٢٦٦.

(٢) قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٥٨ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٢٤.

(٣) الجواب للإسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٥٨.

(٤) في ص ٤٨٨.

(٥) راجع : المعتمد في أصول الفقه ٢ : ٢١٥.

(٦) راجع : معارج الاصول : ١٨٥ ، وتهذيب الوصول : ٢٤٨ ، والوافية : ٢٣٧.

٤٩٢

لا تصلح للعلّيّة ، لا لعدم ظهور المناسبة ، بل لعدم النصّ من الشرع.

ومنها : أن تكون وصفا ظاهرا منضبطا في نفسه ، ضابطا للحكمة ، أي جلب المصالح ودفع المفاسد. ولا يجوز أن تكون حكمة مجرّدة مطلقا. هذا ما ذهب إليه الأكثر (١). وقيل : يجوز مطلقا (٢). وقيل : يجوز إذا كانت ظاهرة منضبطة ، ولا يجوز إذا كانت خفيّة أو مضطربة (٣).

احتجّ الأكثر بأنّ الحكمة المجرّدة إمّا خفيّة ، كالرضى في التجارة. أو غير منضبطة ، كالمشقّة ؛ فإنّها ذات مراتب ؛ إذ تختلف بالأشخاص والأحوال ، وليس كلّ مرتبة منها مناطا ، ولا يمكن تعيين ما هو المناط ، والوقوف على المناط في الامور الخفيّة وغير المنضبطة ممّا يتعذّر ، والتكليف به من غير التعيين يؤدّي إلى عسر وحرج ، مع أنّ المألوف من عادة الشرع ردّ الناس إلى المظانّ الجليّة ، ولذا نيط الرضى في التجارة بصيغ العقود ؛ لكونها ظاهرة ضابطة له ، والمشقّة بما يلازمها ويضبطها وهو السفر.

وبأنّه لو جاز التعليل بالحكمة المجرّدة ، لوقع من الشارع ؛ لأنّ ربط الحكم بما هو المقصود الأصلي أحرى من ربطه بمظنّة ، واللازم منتف بالاستقراء.

وبأنّه لو جاز ، لم يعتبر الشرع المظانّ إذا خلت عن الحكمة ، واعتبر الحكمة وإن لم يتحقّق معها مظنّتها ؛ إذ تحقّق المباينة لا يضرّه عدم المظنّة ، واللازم منتف ؛ لأنّه اعتبر السفر وإن خلا عن المشقّة ، كسفر الملك المرفّة ، ولم يعتبر المشقّة إذا لم تحصل من السفر ، كحضر أولي الصنائع الشاقّة من الحمّالين والملاّحين (٤).

والجواب عن الأوّل : منع الحصر ؛ فإنّ بعض الحكم ظاهرة منضبطة. ولو سلّم فنقول ، تعيين المناط من الحكمة غير المنضبطة ممكن للشارع ، ولو لم يمكن ، لم يمكن في

__________________

(١) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٨٧ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٢٤ و ٢٢٥ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٦٧ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٢٦٠ ـ ٢٦٢.

(٢) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٨٧.

(٣) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٢٤.

(٤) تقدّم آنفا.

٤٩٣

الأوصاف أيضا ؛ لأنّها أيضا ذوات مراتب مختلفة ، فكما أنّ المشقّة ذات مراتب ، فكذلك السفر ، وكما يمكن تعيين ما هو المناط منه ، فكذلك يمكن تعيين ما هو المناط منها ، ولو جاز التعليل بمطلق الوصف وإحالة المناط إلى الفهم العرفي ، لجاز ذلك في الحكمة أيضا.

وبالجملة ، لا فرق بين الوصف والحكمة ، فلو لم يجز التعليل بالحكمة ، لم يجز بالوصف المشتمل.

وعن الثاني : منع انتفاء اللازم ؛ لوجود التعليل بالحكمة في صور كثيرة ، كالتوسّط في إقامة الحدّ بين المهلك وغير الزاجر ، وكالفرق بين العمل اليسير والكثير.

وعن الثالث : أنّا لا نمنع اعتبار مظنّة الحكمة ، بل نقول : كما يجوز اعتبار المظنّة يجوز اعتبار الحكمة أيضا. وحينئذ نقول في المحالّ التي اعتبر الشرع فيها مظنّة الحكمة : لا يجب اطّرادها بمعنى إذا وجدت وجدت الحكمة ، ولا انعكاسها ، بمعنى إذا انتفت انتفت الحكمة ، كما يأتي (١).

وبما ذكر ظهر أنّه يجوز تعليل الحكم بالحكمة إذا كانت ظاهرة بنفسها ، منضبطة ؛ وبمرتبة معيّنة منها إذا كانت غير منضبطة ؛ لأنّا نعلم أنّها هي المقصودة واعتبر المظنّة لأجلها لمانع خفائها واضطرابها ، وبعد زوال المانع أو إزالتها يجوز اعتبارها قطعا ، فيجوز التعليل بها بالنصّ على قواعدنا ، وبها وبالاستنباط على قواعد العامّة.

ومنها : أن لا تكون مجرّد محلّ الحكم ولا جزءا منه. هذا ما ذهب إليه بإطلاقه بعضهم (٢). وقيل بجواز التعليل بهما مطلقا (٣).

والحقّ قول ثالث ، وهو ـ بعد التذكّر بأنّ العلّة إمّا متعدّية تتعدّى الأصل فتوجد في غيره ، أو قاصرة لا تتعدّاه ، وأنّ الجزء إمّا مختصّ أو محمول أعمّ وهو الذي يسمّيه المتكلّمون صفة نعتيّة ـ عدم جواز التعليل بالمحلّ ، وبالجزء المختصّ في المتعدّية. وجواز

__________________

(١) يأتي في ص ٥٠٦.

(٢) حكاه الآمدي عن الأكثر في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٢٣.

(٣) حكاه الآمدي في المصدر وقال فيه : « ذهب آخرون إلى جوازه ».

٤٩٤

التعليل بالمحمول الأعمّ فيها ، سواء كانت منصوصة ، أو مستنبطة إن صحّ التعليل بها. وعكس ذلك في القاصرة بناء على صحّة التعليل بها.

أمّا الأوّل ، فلاستحالة وجود خصوصيّة المحلّ وجزئه المختصّ في الفرع ، فلا يتصوّر تعدّيهما ، بخلاف جزئه الأعمّ ؛ فإنّ تعدية وجوده في الفرع جائزة.

وأمّا الثاني ، فلعدم المانع ؛ فإنّه لا مانع أن يقول الشارع : حرّمت الخمر لكونه خمرا ، ولا أن تعلّل حرمة الربا في النقدين بجوهريهما ، أي بكونهما ذهبا وفضّة ، وهو نفس المحلّ ، أو بجوهريّتهما ، أي كونهما جوهرين متعيّنين لثمنيّة الأشياء ، وهو لاختصاصه بهما وصف قاصر ، والجزء الأعمّ للزوم تعديته ووجوده في الفرع لا يجوز أن يكون علّة قاصرة.

لا يقال : لو كان المحلّ علّة لزم أن يكون الشيء الواحد فاعلا وقابلا.

لأنّا نقول : العلّة هنا ليست بمعنى الفاعل المؤثّر ، بل بمعنى المعرّف والباعث.

ولو سلّم ، فنقول : الحكم ليس حالاّ في المحلّ حقيقة بل متعلّق به.

تتمّة : اختلفوا في جواز التعليل بالقاصرة وعدمه بعد اتّفاقهم على جوازه إن كانت منصوصة أو مجمعا عليها (١).

والحقّ الجواز إذا صحّ التعليل بالمستنبطة ؛ وفاقا للأكثر ، وخلافا للحنفيّة (٢).

لنا : عدم المانع ـ كما اشير إليه (٣) ـ ووجود المقتضي ، وهو حصول الظنّ بأنّ الحكم لأجلها ، لأنّه المفروض ، وهو المعنيّ بالصحّة بدليل صحّة النصوص عليها ؛ لأنّه لا يفيد أزيد من الظنّ.

واستدلّ عليه أيضا بأنّ التعدية توقّفت على العلّيّة ، فلو توقّفت هي عليها لزم الدور (٤).

__________________

(١) راجع الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٣٨.

(٢) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣١٢ ، والآمدي عن أكثر الفقهاء والمتكلّمين في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٣٨.

(٣) تقدّم آنفا.

(٤) حكى الاستدلال والجواب الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٣٩ ، والفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣١٢ و ٣١٣.

٤٩٥

واجيب عنه بأنّ التعدية تطلق على وجود الوصف في غير الأصل ، ووجود الحكم به في غيره ، والموقوف على العلّيّة هو الثاني ، وما يتوقّف العلّة عليه هو الأوّل ، فلا دور. ولو سلّم ، فهو دور معيّة كما في المتضايفين ، لا دور تقدّم ؛ لأنّ حاصله أنّ العلّيّة والتعدية متلازمتان ، ولا ينفكّ إحداهما عن الاخرى ، لا أنّ إحداهما تثبت أوّلا ثمّ يترتّب عليها الاخرى.

احتجّ المانع بأنّ العلّة القاصرة لا يترتّب عليها فائدة ؛ لأنّ فائدة التعليل إثبات الحكم ، وهو غير متصوّر في القاصرة ؛ لأنّ ثبوت الحكم في الأصل بالنصّ أو الإجماع ؛ لأنّه الفرض ، ولا فرع بالفرض أيضا ، لتمكّن القياس ، ويتأتّى إثبات الحكم فيه (١).

والجواب بالنقض والحلّ. أمّا النقض ؛ فبالقاصرة إذا ثبت بنصّ أو إجماع ؛ فإنّ هذا الدليل يجري فيها بعينه مع جوازه وفاقا. وأمّا الحلّ ، فهو أنّ الفائدة الاطّلاع على الحكمة والباعث.

فظهر بما ذكر أنّ التعليل بالقاصرة جائز على قواعد الفريقين (٢) ، إلاّ أنّه يمتنع القياس حينئذ ، ولا يصحّ التعليل بها إذا كانت مستنبطة عندنا ، لا لكونها قاصرة ، بل لكونها مستنبطة.

ومنها (٣) : أن لا تكون عدميّة في الحكم الثبوتي ، كما ذهب إليه بعضهم (٤) ، والأكثر على خلافه.

والتفصيل هنا : أنّه لا خلاف في تعليل الحكم الوجودي بالوجودي ، كالتحريم بالإسكار ، والعدمي بالعدمي ، كعدم نفاذ التصرّف بعدم العقل. وأمّا تعليل الوجودي بالعدمي ، ففيه الخلاف ، والأكثر على جوازه (٥). وقيل بالمنع (٦).

وأمّا عكسه ـ أي تعليل العدمي بالوجودي ـ وهو التعليل بالمانع ، كعدم نفاذ التصرّف بالإسراف ، وعدم صحّة البيع بالجهل بالمبيع. ولا خلاف في جوازه أيضا إلاّ أنّه اختلف في

__________________

(١) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٤٠ ، والفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣١٣.

(٢) راجع : المحصول ٥ : ٣١٢ و ٣١٣ ، وتهذيب الوصول : ٢٦٠ ، ونهاية السؤل ٤ : ٢٧٦.

(٣) أي شروط العلّة.

(٤) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٢٨.

(٥) راجع المصادر المذكورة آنفا.

(٦) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٢٤.

٤٩٦

أنّه هل يتوقّف على وجود المقتضي ، أم لا؟ وقد وقع هذا الخلاف في تعليل العدمي بانتفاء الشرط أيضا ، كتعليل عدم صحّة البيع بعدم رؤية المبيع. فهنا مقامان :

[ المقام ] الأوّل : في تعليل الوجودي بالعدمي.

والحقّ فيه ما ذهب إليه الأكثر (١) ؛ لأنّا نرى أنّ العدميّات تكون مؤثّرة في بعض الأفعال الوجوديّة ؛ فإنّ عدم امتثال العبد أمر سيّده يكون باعثا على مؤاخذته.

والجواب بأنّ الباعث هو الكفّ عن الامتثال وهو أمر ثبوتي محقّق (٢) ، ضعيف ؛ فإنّ تأويل جميع الأعدام المقيّدة بالامور الثبوتيّة ممكن ، ففتح هذا الباب يؤدّي إلى رفع العدميّات رأسا.

احتجّ الخصم بأنّ العلّة يجب أن تتميّز ، والأعدام لا تتميّز.

وبأنّه لا يجب على المجتهد سبرها ، مع أنّه يجب عليه سبر كلّ وصف يصلح أن يكون علّة.

وبأنّ العلّيّة وجوديّة ؛ لأنّها نقيض اللاعلّيّة المحمولة على العدم ، فيمتنع اتّصاف المعدوم بها.

وبأنّه لم يسمع أحد يقول : العلّة كذا ، أو عدم كذا.

وبأنّ العدم لو كان علّة لحكم وجودي لكان مناسبا له ، أو مظنّة مناسب ؛ لأنّ العلّة بمعنى الباعث ، فهي إمّا نفس الباعث وهو المناسب ، أو ما يشتمل عليه وهو مظنّة. واللازم باطل ؛ لأنّ العدم المطلق لا يكون مناسبا ولا مظنّة ؛ لاستواء نسبته إلى الجميع ، والعدم المخصّص بأمر يضاف إليه هو كذلك ؛ لأنّ ثبوت الحكم مع وجود ذلك الأمر إن كان منشأ لمصلحة ، فعدمه لا يكون مناسبا له ولا مظنّة ؛ لاستلزامه فوات تلك المصلحة ، وإن كان منشأ لمفسدة ، فيكون هذا الأمر مانعا وعدمه عدم المانع ، وهو لا يصلح لأن يكون علّة بمعنى الباعث أو ما يشتمل عليه ، بل لا بدّ معه من مقتض (٣).

__________________

(١) تقدّم آنفا.

(٢) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٣١.

(٣) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٢٩٦ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٢٩٦.

٤٩٧

هذا إذا كان وجود هذا الأمر ـ إذا ترتّب عليه الحكم ـ منشأ لمصلحة أو لمفسدة حتّى يكون عدمه في بادئ الرأي مناسبا ، فيحتاج نفيه إلى البيان المذكور.

وإن لم يكن كذلك ، فإمّا أن يكون وجود هذا الأمر نقيضا للمناسب حتّى يلزم أن يكون عدمه مظنّة المناسب ، أي مستلزما لوجوده ، أو لا.

فعلى الأوّل لا يصحّ تسليم تحقّق اللازم المذكور ، أي جعل عدم نقيض المناسب مظنّة المناسب ؛ لأنّ المناسب إن كان ظاهرا تعيّن للعلّيّة بنفسه ، ولا يحتاج إلى مظنّة ، وإن كان خفيّا فنقيضه خفيّ ، فعدم النقيض خفيّ أيضا ، فلا يصلح أن يكون مظنّة ؛ لأنّ الخفيّ لا يعرّف الخفيّ.

وعلى الثاني كان وجود ذلك الأمر كعدمه بالنسبة إلى الحكم ، فالمناسب يحصل عند وجوده ، كما يحصل عند عدمه ، فيكون وجوده وعدمه سواء في تحصيل المصلحة ؛ لأنّ المفروض أنّ وجوده ليس منشأ لمصلحة ولا لمفسدة ، فلا يكون عدمه خاصّة (١) مظنّة للمصلحة ، فلا يصلح أن يكون علّة.

مثاله : إذا قيل في المرتدّ : يقتل لعدم إسلامه ، فذلك إمّا لأنّ قتله مع الإسلام يشتمل على مصلحة ، فعدمه يستلزم فواتها ، فلا يكون مناسبا. أو على مفسدة ، فغايته أنّ الإسلام مانع حينئذ للقتل ، فعدمه ليس باعثا له ، بل لا بدّ من وجود المقتضي له ، وإن لم يشتمل على شيء منهما ، فإمّا أن يكون الإسلام منافيا لمناسب القتل وهو الكفر مثلا ، أو لا.

فعلى الأوّل إن كان الكفر ظاهرا ، فهو العلّة بالحقيقة دون عدم الإسلام. وإن كان خفيّا ، فالإسلام كذلك فعدمه أيضا كذلك ، فلا يصلح أن يكون معرّفا للكفر.

وعلى الثاني لا يكون الكفر مناسبا ، بل المناسب أمر آخر يجتمع مع الإسلام وعدمه ، فهما سواء في تحصيل المصلحة ، فلا يكون عدمه علّة.

ولا يخفى أنّ هذا الدليل مذكور في كتب القوم بتقريرات مختلفة ، وما ذكرناه أبعدها عن الفساد ، ومع ذلك فاسد ؛ لأنّه ـ مع عدم تماميّة ورود ما يأتي عليه ـ مختلّ النظام ؛ لأنّه جعل وجود الأمر المذكور فيه منشأ مصلحة أو مفسدة ، أو منافيا لمناسب أو لا ، وهذه أربعة

__________________

(١) في « ب » : « خاصّيّة ».

٤٩٨

تقادير ، وبيّن استحالة كون عدمه مناسبا على الأوّلين ، ومظنّة للمناسب على الأخيرين من غير ظهور علّة للتخصيص ، مع أنّه كان اللازم أن يبيّن استحالة كونه مناسبا ومظنّة على التقادير الأربعة. وأيضا لا تقابل بين منشأ المفسدة والمنافي للمناسب ؛ فإنّه يمكن أن يشتمل القتل مع الإسلام على مفسدة ، مع كون الإسلام منافيا للكفر الذي هو المناسب. فلا يصحّ جعل أحدهما قسيما للآخر ، بل ربّما قيل : لا يظهر فائدة تقييد التقسيم إلى كون وجوده منافيا لمناسب أو لا (١) بما إذا لم يكن وجوده منشأ لمصلحة أو لمفسدة ، وجعله مقابلا له. ويمكن أن يقال : الفائدة في ذلك بيان استواء وجود ذلك الأمر وعدمه في تحصيل المصلحة على التقدير الآخر ، فتأمّل (٢). هذا.

والجواب عن الأوّل : أنّ الأعدام المخصّصة متميّزة ؛ فإنّ عدم اللازم متميّز عن عدم الملزوم.

و [ الجواب ] عن الثاني : منع عدم لزوم الفحص عن الأوصاف العدميّة على المجتهد. ولو سلّم ، فنقول : سقط عنه سبرها لتعذّره ؛ نظرا إلى عدم تناهيها.

و [ الجواب ] عن الثالث : النقض بالعدمي إذا علّل به عدميّ آخر ؛ فإنّه جائز وفاقا ، مع أنّه يقتضي عدم جوازه ، والمعارضة بأنّ العلّيّة لو كانت ثبوتيّة لكانت من عوارض العلّة ، فتكون ممكنة مفتقرة في ثبوتها للعلّة إلى علّة ، فعلّيّة العلّة لتلك العلّة أيضا لا بدّ لها من علّة وهكذا ، فيتسلسل.

و [ الجواب ] عن الرابع : أنّ التعبير عن العلل العدميّة بعبارات وجودية ، وعن العلل الوجوديّة بعبارات عدميّة واقع ؛ فإنّه لا فرق بين أن يقال : علّة قتل المرتدّ كفره أو عدم إسلامه ، وعلّة تصرّف الوليّ في مال مولاّه الجنون أو عدم العقل ، وعلّة الإجبار البكارة أو عدم الإصابة ، فعدم السماع من أحد يقول : العلّة كذا ، أو عدم كذا ممنوع.

و [ الجواب ] عن الخامس : أنّا نختار أنّ ذلك الأمر الذي يضاف إليه العدم ـ كالإسلام في

__________________

(١) متعلّق بـ « تقييده ».

(٢) لمزيد الاطّلاع راجع نهاية السؤل ٤ : ٢٦٥ ـ ٢٧٠.

٤٩٩

المثال ـ ينافي المناسب ، ولا يلزم ما ذكر من كون عدم نقيض المناسب ـ كعدم الإسلام ـ مظنّة المناسب ؛ لجواز كونه نفس المناسب بأن يتعلّق به القتل ، ويحصل بذلك المصلحة المقصودة وهو التزام الإسلام ، ثمّ نختار أنّ ذلك الأمر لا ينافي المناسب الوجودي بل يجامعه ، ولا يلزم ما ذكر من استواء وجوده وعدمه في تحصيل المصلحة ، بل ترتّب الحكم ، كالقتل على عدمه ـ أي عدم الإسلام ـ يستلزم المصلحة أي التزام الإسلام ، وعلى وجوده لا يستلزمها ، كما لا ينافيها.

وأيضا يجوز أن يكون الوجود منشأ لمصلحة والعدم منشأ لمصلحة أرجح ، فيكون مناسبا أو مظنّة ، وأن يكون أحد المتقابلين خفيّا دون الآخر. وإنّما يمتنع ذلك في التقابل ، وأن يشتمل عدم المانع على مصلحة فيكون علّة. وأنّ ظهور المناسب لا ينافي أن يكون عدم المنافي مظنّة ، غايته أنّه اجتماع العلّتين. هذا.

وعندنا لمّا كان الحجّة العلّة المنصوصة ، فكلّ ما نصّ عليه يصحّ أن يكون علّة ، سواء كان وصفا عدميّا أو ثبوتيّا.

تتمّة : الإضافات المخصوصة عدميّة ؛ لأنّها مركّبة من مطلق الإضافة ومن قيد الخصوصيّة ، وكلاهما عدميّان.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه لو كان ثبوتيا ، لزم التسلسل في الإضافات.

وأمّا الثاني ، فلأنّه صفة للإضافة ، فلو كان ثبوتيّا ، لزم قيام الموجود بالمعدوم. وإذا ثبت ذلك فمن منع التعليل بالامور العدميّة ، منع من التعليل بالامور الإضافيّة ، ومن سوّغ هناك ، سوّغ هنا.

المقام الثاني (١) : في أنّ تعليل الحكم العدميّ بوجود المانع أو انتفاء الشرط ، هل يتوقّف على وجود ما يقتضي ثبوت الحكم ، أم لا؟

__________________

(١) تقدّم المقام الأوّل في ص ٤٩٧.

٥٠٠