أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

النوع الثالث : أن يجهل الحال في تقدّم الفعل وتأخّره ، وأصنافه أيضا أربعة :

[ الصنف ] الأوّل : أن لا يدلّ دليل على التكرار ولا على وجوب التأسّي ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث :

أن يكون القول خاصّا به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما إذا علم أنّه صام يوم الخميس ـ مثلا ـ ولم يعلم بالدليل التكرار ولا وجوب التأسّي به ، وعلم أنّه قال : « لا يجوز لي صوم يوم الخميس » ولم يعلم أنّ الفعل متقدّم أو القول ، ولا ريب أنّه لا يلزم على الأمّة العمل بشيء منهما ؛ لفرض عدم وجوب التأسّي عليهم وعدم تعلّق القول بهم.

وأمّا الحكم في حقّه بكون الفعل ناسخا للقول أو بالعكس ، فتحكّم ؛ لاستواء الاحتمالين عندنا ؛ فالحقّ التوقّف ، مع أنّه لا يتصوّر لهذا البحث فائدة لنا.

وأن يكون خاصّا بالامّة ، ولا تعارض حينئذ أصلا ، لا في حقّه ولا في حقّهم ؛ لاختصاص الفعل به والقول بهم.

وأن يعمّهما ، ولا تعارض في حقّ الامّة. وفي حقّه الحقّ التوقّف ، كما ذكر.

[ الصنف ] الثاني : أن يدلّ الدليل على التكرار ووجوب التأسّي ، وصوره الشخصيّة أيضا ثلاث (١) :

أن يكون خاصّا به ، والمثال كما ذكر ، إلاّ أنّه علم بالدليل التكرار ووجوب التأسّي ، ولا تعارض في حقّ الامّة ؛ لوجوب العمل بالفعل عليهم ، وعدم تعلّق القول بهم. وفي حقّه الحقّ التوقّف ، كما تقدّم (٢).

وأن يكون خاصّا بالامّة ، والمثال ظاهر ، ولا تعارض حينئذ في حقّه. وأمّا في حقّ الامّة ، ففي العمل بالفعل ـ أي وجوب الصوم مثلا ـ أو القول ـ أي تركه ـ أو التوقّف ، وعدم القطع بأحد الطرفين أقوال.

احتجّ العامل بالفعل بأنّه أقوى في الدلالة على مدلوله من القول ؛ لأنّه يصير بيانا له ، كما

__________________

(١) تأتي الصورة الثالثة في ص ٣٢٣.

(٢) آنفا.

٣٢١

صار صلاته بيانا لآية الصلاة (١) ، وحجّه بيانا لآية الحجّ (٢). وكخطوط الهندسة وغيرها من الإشارة تصير بيانا للقول في مقام التعليم إذا لم يف القول به ، فيستعان بالتخطيط والتشكيل والإشارات والحركات (٣).

ولا يخفى أنّ القول أيضا يصير بيانا ، بل البيان بالقول أكثر ، مع أنّ رجحان دلالة الفعل لا يدلّ على تأخّره عن القول.

والقول : بأنّ دلالته إذا كانت أقوى ينبغي الحكم بكونه متأخّرا ناسخا للقول حتّى يكون الأقوى رافعا للأضعف دون العكس على ما هو شأن الحكيم (٤) ، لا يخفى ضعفه ؛ لأنّ المفروض أنّ كلاّ منهما إن كان متأخّرا يصلح لكونه ناسخا وإن كان أضعف ، واحتمال التقدّم والتأخّر على السواء ، وكون أحدهما أقوى لا مدخليّة له بالتأخّر.

واحتجّ العامل بالقول بأنّ دلالته على مدلوله أقوى بوجوه (٥) :

منها : أنّ القول وضع لمدلوله ، فلا يتخلّف عنه. وأمّا الفعل ، فله محامل ، وإنّما يفهم منه في بعض الأحوال ذلك بقرينة ، فيقع فيه الخطأ كثيرا.

وردّ بأنّ الأفعال التي هي آثار السخاوة تدلّ عليها دلالة قطعيّة لا يتصوّر فيها تخلّف ، بخلاف الأقوال ؛ فإنّ دلالتها وضعيّة قد يتخلّف عنها مدلولها.

ومنها : أنّ القول يدلّ على الموجود والمعدوم ، والمعقول والمحسوس ، بخلاف الفعل ؛ فإنّه يختصّ بالموجود المحسوس.

وفيه : أنّ السخاوة ليست من المحسوسات مع دلالة الأفعال عليها ، بل لا يبعد القول بأنّها تدلّ على المعدوم أيضا ، كدلالة آثار السخاوة على عدم البخل.

ومنها : أنّ دلالة القول متّفق عليها ، ودلالة الفعل مختلف فيها ، والمتّفق عليه أولى بالاعتبار.

وضعفه ظاهر.

__________________

(١) والمراد بآية الصلاة قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) في مواضع من القرآن منها في البقرة (٢) : ٤٣.

(٢) المراد بآية الحجّ قوله تعالى : ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) ، آل عمران (٣) : ٩٧.

(٣ و ٤) راجع : شرح مختصر المنتهى ١ : ١٢١ ، ونهاية الوصول إلى علم الأصول ٢ : ٥٧٥.

(٥) للمزيد راجع شرح مختصر المنتهى ١ : ١٢١.

٣٢٢

والتحقيق : أنّه لا ريب في تخلّف المدلول عن الدالّ الوضعي في كلام النبيّ وغيره ، كتخلّفه عن الدالّ الفعلي أيضا. والحكم برجحان دلالة أحدهما بالوجوه المذكورة قد عرفت حاله (١).

والقول بأنّ فهم المقصود من دلالة اللفظ أظهر ، وإن جاز فيها تخلّف المدلول عن الدالّ في الخارج فيكون أقوى ، غير مسلّم ، ومع التسليم لا يصلح مرجّحا للعمل به دون الفعل ، فثبت أنّ الحكم برجحان دلالة أحدهما لا يخلو عن تعسّف ، مع أنّ ذلك لا يكفي للعمل به دون الآخر ، كما عرفت (٢).

فالحقّ حينئذ أن يتوقّف في كلّ موضع جهل التأريخ وحصل فيه التعارض بين الفعل والقول ، سواء كان في حقّه أو حقّ الامّة ، وكلّ موضع لم يحصل فيه التعارض في حقّ أحدهما أو كليهما ، فلا اشتباه ؛ لتعيّن العمل بأحدهما دون الآخر ، أو عدم لزوم العمل بشيء منهما. وهذا هو المعيار في معرفة أحكام الصور المندرجة تحت هذا النوع.

والفرق بين ما وقع فيه التعارض في حقّه وفي حقّ الامّة ـ بالحكم بالتوقّف في الأوّل ، والعمل بالقول في الثاني ؛ نظرا إلى أنّا متعبّدون بالعمل ، والتوقّف فيه إبطال للعمل ، ونفي للتعبّد به بخلاف الأوّل ؛ لعدم تعبّدنا بالعمل فيما هو حقّه عليه‌السلام (٣) ـ لا يخفى ضعفه.

وبما ذكر يعرف حكم الصورة الثالثة من هذا الصنف ، وهي أن يكون القول عامّا لهما ؛ فإنّه يتحقّق في حقّهما التعارض ، ويكون الحكم التوقّف.

[ الصنف ] الثالث : أن يدلّ الدليل على التكرار دون وجوب التأسّي. وصوره الثلاث الشخصيّة مع أحكامها ظاهرة.

[ الصنف ] الرابع : عكس الثالث. وحكم صورة الثلاث أيضا ظاهر ممّا تقدّم ، فلا نطيل الكلام بذكرها.

إذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع لا تخفى عليك. مثلا : نقل أنّه عليه‌السلام قام للجنازة وأمر به

__________________

(١ و ٢) تقدّم آنفا.

(٣) الفارق هو القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١٢١.

٣٢٣

ثمّ قعد (١). فنقول : هذا من الصورة الثالثة من الصنف الأوّل من النوع الثاني ، فيلزمه حكمها كما تقدّم (٢).

وروي أنّه عليه‌السلام نهى عن استقبال القبلة واستدبارها للبول والغائط ، وجلس لقضاء الحاجة في البيوت مستقبل بيت المقدس (٣).

وهذا يحتمل أن يكون كسابقه ؛ نظرا إلى كون النهي متناولا له ولامّته ، وعدم دليل على ثبوت التأسّي في فعله هذا.

ويحتمل اختصاص النهي بالامّة ؛ فيتغيّر الصورة ، وفهم ثبوت التأسّي من فعله ؛ فيتغيّر الصنف.

ثمّ الظاهر أنّ فعله هذا مخصّص لا ناسخ ؛ لأنّ دلالة قوله على حرمة الاستدبار له ولامّته في البيوت والصحاري ، أو لامّته فقط فيهما بالعموم ، وفعله يدلّ على إباحته في البيوت لكلّ أحد ، أو له خاصّة فيكون تخصيصا. وإن فرض أنّ فعله يدلّ على إباحته في البيوت والصحاري معا ، يكون تخصيصا أيضا ؛ نظرا إلى أنّ قوله يدلّ على الدوام بالعموم لا بالنصوصيّة.

ثمّ اللبيب يتفطّن ممّا ذكرنا أنّه في كلّ واحد من الصور المذكورة التي يتحقّق فيها التعارض بين القول والفعل ، يمكن أن يتحقّق التعارض من كلّ وجه بينهما حتّى يكون المتأخّر ناسخا ، ويمكن أن يتحقّق التعارض من وجه بالعموم والخصوص مطلقا ، أو من وجه حتّى يكون أحدهما مخصّصا للآخر ، فتصير الصور أكثر. وفي كلّ صورة من صور النوعين الأوّلين يمكن أن يتعقّب المتأخّر المتقدّم ، كما إذا قال : « الفعل الفلاني واجب عليّ في وقت كذا » وتلبّس بضدّه في ذلك الوقت ، وأن يتراخى عنه ، كما إذا قال : « الفعل الفلاني واجب عليّ أبدا » وبعد مضيّ زمان تركه ، ففي الأوّل لا يتحقّق النسخ على مذهب من لم يجوّزه قبل الفعل ، وفي الثاني يتحقّق مطلقا. وحينئذ تتضاعف صور النوعين الأوّلين.

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ٤٤١ ، ح ١٢٤٩.

(٢) في ص ٣١٩.

(٣) حكاه العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول ٢ : ٥٧٦.

٣٢٤

فائدة

تصرّف المعصوم تارة بالإمامة ، كالجهاد والتصرّف في بيت المال.

وتارة بالقضاء ، كفصل الخصومة بين المتخاصمين بالبيّنة ، أو اليمين ، أو الإقرار.

وتارة بالتبليغ ، وهو الفتوى.

والإمامة رئاسة عامّة في امور الدين والدنيا.

والقضاء ولاية في الحكم شرعا لمن له أهليّة الفتوى بجزئيّات القوانين الشرعيّة على أشخاص معيّنة من البريّة ، بإثبات الحقوق واستيفائها للمستحقّ. فالإمامة مبدأ القضاء وأعمّ منه ؛ لأنّه بعض أفرادها ، ولها أفراد أخر ، كما اشير إلى بعضها (١).

والحكم إلزام أحد المتداعيين فيما ينازعان بما يقتضيه المسائل الاجتهاديّة وغيرها. وعلى هذا فالقضاء مبدأ الحكم وهو مسبوق بالقضاء ، ولا يمكن تحقّقه بدونه ؛ لاستلزامه الولاية المذكورة ، ويمكن تحقّقها بدونه ؛ فإنّ من حصل له شرائط الاجتهاد حصل له الولاية المذكورة ، مع أنّه يمكن أن لا يصدر منه الإلزام المذكور أصلا.

وبالجملة ، القضاء هو الصفة النفسيّة. والحكم الفعل الخارجي المترتّب عليه. فالصادر من القاضي والواقع منه في الخارج ليس إلاّ الحكم.

وقد يطلق الحكم على الولاية المذكورة ، كما يقال : « فلان صاحب الحكم ».

وقد يطلق القضاء على نفس الإلزام ، وهذا هو المراد في جميع ما ينسب إليه من القضاء بعنوان الصدور.

هذا ، والفتوى ـ كما عرفت (٢) سابقا ـ مجرّد إخبار عن حكم الله في قضيّة خاصّة ، ومنه جميع تصرّفات المعصوم ، أو نائبه في العبادة.

والفرق بين الحكم والفتوى إمّا بالحقيقة ، أو بالخواصّ.

أمّا الأوّل فظاهر ؛ لأنّ الحكم إنشاء خاصّ ، والفتوى إخبار.

__________________

(١) يأتي في ص ٣٢٨.

(٢) في ص ٢٩١.

٣٢٥

وأمّا الثاني فبوجهين :

أحدهما : أنّ الحكم لمّا كان غايته قطع المنازعة لا يجوز نقضه لحاكم آخر ، بل يصير أصلا يجب أن ينفّذه غيره من الحكّام ما لم يخالف دليلا قطعيّا ، والفتوى يجوز نقضه لمفت آخر إذا خالف ما أدّى إليه اجتهاده ، وللمستفتين إذا لم يقلّدوه.

وثانيهما : أنّ حجّيّة كلّ حكم إنّما هي لمورده ، فلا تتعدّى إلى مثله وإن لم يتبدّل المتداعيان فيه ، بل لا بدّ فيه من حكم جديد من هذا الحاكم ، أو غيره.

والفتوى في مورد يعمّ حجّيّته لمثله وإن تبدّل المستفتي ، فكلّ فتوى يجوز أن يعمل به كلّ من بلغه إذا كان معتقدا للمفتي وإن لم يكن مستفتيا ، بل سمعه بواسطة أو بدونها ، ولا يتوقّف على فتوى جديد من هذا المفتي ، أو غيره.

والفرق الأخير يعمّ مطلق الحكم والفتوى ، سواء كانا من الإمام أو المجتهد. وأمّا الفرق الثاني (١) ، فيختصّ بالحكم والفتوى الصادرين عن المجتهد ؛ لأنّ فتوى الإمام لا يجوز نقضه كحكمه.

ويلخّص ممّا ذكر أنّ الحكم لا يجوز نقضه مطلقا (٢). ويشترط وجود حاكم لكلّ متداعيين في كلّ مورد ، ولا يكفي حكمه في مورد لمثله. والفتوى من الإمام في مورد لا يجوز نقضه ويجب العمل به على كلّ أحد في مثله ، ومن غيره في مورد يجوز نقضه والعمل به لمن سمعه في مثله بالشرط المذكور.

ثمّ إنّك قد عرفت (٣) أنّهما من مناصب الإمام ، إلاّ أنّ المجتهد لمّا كان نائبا عامّا من قبله فيتمكّن من التصرّف فيهما وفي كثير آخر من مناصبه ، كالتصرّف في أموال الأيتام والغائبين ، وغيره ممّا ضبط في كتب الفروع. وقد بقي بعض مناصبه مختصّا به لم يدخل تحت الإذن العامّ ، كالجهاد وغيره ، ويشترط فيه وجود الإمام ، أو إذنه الخاصّ ، ولا يجوز لنائبه العامّ التصرّف فيه.

__________________

(١) وهو أوّل الوجهين في الفرق بالخواصّ.

(٢) أي سواء كان من المعصوم أو غيره.

(٣) في ص ٣٢٥.

٣٢٦

وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ كلّ مورد علم كونه فتوى أو حكما أو منصبا خاصّا بالإمام فيلحقه خواصّه. وقد وقع الاشتباه في موارد ، فلا بدّ من الإشارة إلى بعضها ؛ ليقاس عليه أمثاله :

منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لامرأة أبي سفيان حين قالت له : إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني : « خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف » (١).

فقيل : هو فتوى وتبليغ ، فيجوز التقاصّ لكلّ مسلّط بإذن الحاكم وبدون إذنه (٢).

وقيل : حكم ، فلا يجوز له إلاّ بإذن الحاكم وحكمه (٣).

وقد رجّح الأوّل بأغلبيّة تصرّفه بالتبليغ ، والمظنون إلحاق المشكوك فيه بالغالب (٤).

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من قتل قتيلا فله سلبه » (٥).

فقيل : تبليغ فيعمّ (٦).

وقيل : تصرّف بالإمامة ، فيتوقّف (٧) على إذن الإمام (٨).

وهو الأقوى ؛ لظاهر قوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ )(٩) الآية ؛ فإنّه ظاهر في أنّ كلّ ما يصدق عليه الغنيمة [ فهو ](١٠) للغانمين ؛ ولأنّ كون السلب للقاتل ربما أدّى إلى اهتمامهم على قتل ذي السلب دون غيره ، فيختلّ نظام المجاهدة ؛ ولأنّه ربما أفسد القربة المقصودة من الجهاد. وكونه له باشتراط الإمام لا ينافيه ؛ لأنّه لأجل مصلحة. ولما ذكر ذهب الأكثر (١١)

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ : ٥٤٩ ، كتاب الأقضية ، ح ٧ ، وعوالي اللآلئ ١ : ٤٠٣ ، ح ٥٩.

(٢) المغني لابن قدامة ٩ : ٢٤٠ ؛ إرشاد الساري ٧ : ٢٦٣ ، الهامش.

(٣) جعله أحد وجهي أصحابه في إرشاد الساري ٧ : ٢٦٣ ، الهامش.

(٤) ذهب إلى هذا الترجيح الشهيد في القواعد والفوائد ١ : ٢١٦ ، القاعدة ٦٢ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٤٢ ، القاعدة ٨٩.

(٥) جامع الأصول ٢ : ٦٨٧ ، ح ١١٨٥.

(٦) حكاه العلاّمة عن ابن الجنيد في تحرير الأحكام ١ : ١٤٤.

(٧) في « ب » : « فتوقّف ».

(٨) قاله المحقّق الحلّي في شرائع الإسلام ١ : ٢٩٤ ، وابن قدامة في الشرح الكبير ـ ضمن المغني ـ ١٠ : ٤٥٢ و ٤٥٣.

(٩) الأنفال (٨) : ٤١.

(١٠) أضيف بمقتضى السياق. والمراد أنّ الغنيمة للغانمين لا للقاتل.

(١١) منهم الشهيد في القواعد والفوائد ١ : ٢١٧ ، القاعدة ٦٢ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٤٢ ، القاعدة ٨٩.

٣٢٧

إلى أنّ ما ذكر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله قضيّة خاصّة ببعض الحروب ، فيكون تصرّفا خاصّا بالإمام.

ومنها : قوله عليه‌السلام : « من أحيا أرضا ميتة فهي له » (١).

فقيل : تبليغ وإفتاء ، فيجوز لكلّ أحد الإحياء ، ومن أحياه بقصد التملّك يتملّكه ، ولا يتوقّف على إذن الإمام (٢).

وقيل : تصرّف بالإمامة ، فلا يجوز الإحياء إلاّ بإذنه (٣).

والأوّل أقوى ؛ لما ذكر من أغلبيّة تصرّفه بالتبليغ ، فيجوز لكلّ أحد الإحياء في زمان الغيبة ، ولا يتوقّف على إذن الإمام ، ولا على إذن نائبه العامّ. واشتراط إذنه عليه‌السلام في زمان حضوره ـ كما ذهب إليه الأكثر ـ لدليل من خارج.

ومنها : لو زوّج مجتهد امرأة بالمخالف المسلم مثلا ، أو بدون إذن الوليّ ، أو أذن لغيره في تزويجها كذلك ، فهو حكم ولا يجوز لمجتهد آخر نقضه.

وأمّا إذا قال بالإطلاق : « يجوز عندي التزويج بالمخالف المسلم » أو « بغير إذن الوليّ » من غير إلزام ، فهو فتوى يجوز نقضه ، وإذا سمعه مقلّده ففعله فهل يصير لازما ؛ نظرا إلى أنّه يجوز للمقلّد العمل بفتوى مجتهده ، أو لا ؛ لعدم صدور حكم ، وبدونه يجوز النقض لمجتهد آخر؟ والظاهر الثاني. وجواز عمل المقلّد بمجرّد التبليغ إنّما هو في أمر لا يكون للحكم مدخل فيه كالعبادات ، وما نحن فيه ليس كذلك.

ونظيره ما لو قال مجتهد : « في مال التجارة زكاة » أو « في الميراث خمس » ومجرّد قوله هذا لا يرفع الخلاف ، بل لغيره من المجتهدين أن يخالفه ؛ ولو سمعه مقلّده فأخذه عنفا ، لا يصير لازما.

نعم ، لو اتّصل به أخذ الحاكم ممّن حكم عليه بالوجوب ، يصير لازما ولا يجوز نقضه ؛ لأنّ أخذه للفقراء حكم باستحقاقهم فلا ينقض.

__________________

(١) جامع الاصول ١ : ٣٤٨ ، ح ١٣١.

(٢) القول للشافعي وأبي يوسف ، راجع الشرح الكبير ـ ضمن المغني ـ ٦ : ١٦٨.

(٣) راجع : المبسوط ٣ : ٢٧٠ و ٢٩٥ ، وشرائع الإسلام ٣ : ٢١٦ ، وقواعد الأحكام ١ : ٢١٩ ، وتحرير الأحكام ١ : ١٢٩.

٣٢٨

فصل [٢٦]

الحقّ أنّه قبل البعثة لم يكن متعبّدا بشرع أحد ممّن تقدّمه من الأنبياء ، بل كلّ ما تعبّد به حينئذ كان شرعا له ؛ لأنّه كان يوحى إليه حينئذ بأشياء تخصّه. وكذا بعد البعثة لم يكن متعبّدا بما لم ينسخ من شرع من تقدّمه.

ولم نعثر على مخالف من أصحابنا في المقامين إلاّ المرتضى (١) والعلاّمة في النهاية (٢) في المقام الأوّل ، فإنّهما توقّفا فيه.

وقد وقع الخلاف في المقامين بين الجمهور ، فبعضهم وافقنا فيهما (٣) ، وبعضهم خالفنا فيهما (٤) ، وبعضهم وافقنا في أحدهما دون الآخر (٥) ، وبعضهم توقّف (٦).

لنا : قوله تعالى : ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى )(٧).

وأنّه لو كان متعبّدا بشرع غيره للزم أفضليّته عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّ المتبوع أفضل من التابع ، وهو باطل إجماعا. ولقضت العادة بوقوع مخالطته لأهله ولو وقع لنقل. ولزم وجوب الفحص عليه عن ذلك الشرع ؛ ولو وجب عليه لفعله ، ولو فعله لاشتهر ؛ ولزم وجوب الفحص على الصحابة والتابعين والمجتهدين ، ووجب علينا تعلّم أحكام ذلك الشرع ، وكلّ ذلك باطل. ولافتخر أهله بذلك ، ولو افتخر وصل إلينا ولم يصل.

والقول بأنّ هذا يتمّ لو كان متعبّدا بشرع معيّن ، أمّا إذا كان متعبّدا بما ثبت أنّه شرع فلا يرد (٨) ، ضعيف جدّا ؛ لأنّ هذا لا يلائم طريقة أحد من الطوائف.

ولنا أيضا : ما روي أنّ عمر طالع ورقة من التوراة فغضب عليه‌السلام وقال : « لو كان أخي

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٥٩٥.

(٢) نهاية الوصول إلى علم الأصول ٢ : ٥٢٥.

(٣) حكاه البصري عن أكثر المتكلّمين من أهل العدل وأبي علي وأبي هاشم في المعتمد ٢ : ٣٣٦ ، والشيخ في العدّة في أصول الفقه ٢ : ٥٩٠.

(٤ و ٥) نسبهما البصري إلى قوم في المعتمد ٢ : ٣٣٧.

(٦) نسبه البصري إلى أبي هشام في المصدر.

(٧) النجم (٥٣) : ٣.

(٨) حكاه العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الأصول ٢ : ٥٢٦.

٣٢٩

موسى حيّا لما وسعه إلاّ اتّباعي » (١).

وما روى الجمهور أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا بعث معاذا قال له : « بم تحكم؟ » قال : بكتاب الله ، قال : « فإن لم تجد؟ » قال : بسنّة رسوله ، قال : « فإن لم تجد؟ » ، قال : أجتهد رأيي (٢). ولم يذكر رجوعه إلى كتب الأنبياء ، فأقرّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك ودعا له.

وأيضا لو كان متعبّدا بشريعة غيره لما توقّف في قضيّة ظهار (٣) ، والميراث (٤) ، والإفك (٥) وغيرها على نزول الوحي ؛ لأنّ لها أحكاما ظاهرة في الشرائع المتقدّمة.

وأكثر هذه الوجوه يجري في المقامين ، وبعضها يجري في المقام الثاني فقط.

هذا ، وقد أجاب بعض من خالفنا عن هذه الأدلّة بوجوه ضعيفة فسادها ظاهر لمن له أدنى تأمّل ، ولذلك لم نذكرها.

واحتجّوا على صحّة ما ذهبوا إليه بوجوه فاسدة هي بالإعراض عنها حقيق (٦). وما يمكن منها أن يدوّن في الكتاب ما احتجّوا به من رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وآله في معرفة الرجم في الزنى إلى التوراة (٧).

والجواب : أنّ رجوعه إليه لإقامة الحجّة على من أنكر وجوده فيه.

وقوله تعالى : ( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ )(٨) ، وشرعهم من هداهم ، فوجب عليه اتّباعه.

وجوابه : أنّه يتضمّن الأمر بالهدى (٩) المضاف إلى كلّهم ، فيجب أن يكون المراد منه ما اتّفقوا عليه من اصول العقائد دون شرعهم ؛ لأنّه مختلف ووقع فيه النسخ.

وقوله تعالى : ( ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً )(١٠).

__________________

(١) نقله ابن كثير في تفسير القرآن العظيم ١ : ٣٨٦.

(٢) سنن الدارمي ١ : ٧٠ ، وعون المعبود ٣ : ٣٣٠.

(٣) كذا في النسختين. والأولى : الظهار. انظر تفسير الطبري ٢٨ : ٤.

(٤) انظر ملخّص إبطال القياس : ٧.

(٥) انظر تفسير الطبري ١٨ : ٧١.

(٦) كذا.

(٧) انظر المعتمد ٢ : ٣٤١.

(٨) الأنعام (٦) : ٩٠.

(٩) أي الأمر بالاقتداء بالهدى.

(١٠) النحل (١٦) : ١٢٣.

٣٣٠

وجوابه : أنّ « الملّة » محمولة على اصول العقائد دون الشرعيّات. ويدلّ عليه قوله تعالى : ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ )(١) ، فلو أراد الشرعيّات ، لما جاز نسخ شيء منها.

وقوله : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً )(٢).

وجوابه : أنّ المراد من الدين العقائد الحقّة ، ولو كان المراد منه الشرعيّات ، لبحث عن شريعة نوح ، ولا خلاف في أنّه لم يبحث عنها أصلا. ويحتمل أن يكون وصايته به أمرا منه يقوله عند انتهاء أعقابهم إلى زمانه عليه‌السلام ، أو يكون معنى وصّى به اطّلعه (٣) عليه وأمره بحفظه.

وقوله : ( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ )(٤).

وجوابه : أنّ التشبيه في الوحي لا يستلزم التشبيه في الشرع.

وقوله : ( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ )(٥).

وجوابه : كما ذكر.

وقوله : ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ )(٦).

وجوابه : أنّ ظاهره غير مراد ؛ لأنّ جميع النبيّين لم يحكموا بها ؛ لتقدّم أكثرهم عليها ، فالمراد أنّهم يحكمون بصحّة ورودها عن الله ، وأنّ فيها نورا وهدى ، ولا يلزم منه أن يكونوا متعبّدين بالعمل بها.

وأنّه قبل البعثة كان يعتزل للعبادة ـ أي الصلاة ، والحجّ ، والعمرة ، والطواف بالبيت ـ وكان يذكّي اللحم ، ويجتنب الميتة.

وجوابه : أنّه يوحى إليه قبل البعثة أو يلهم بأشياء تخصّه ، وكان متعبّدا بما يوحى إليه ويلهم. وبعد البعثة أيضا يوحى إليه ببعض الأحكام الثابتة في الشرائع المتقدّمة. ولم يكن

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٣٠.

(٢) الشورى (٤٢) : ١٣.

(٣) كذا في النسختين. والأولى : « أطلعه ».

(٤) النساء (٤) : ١٦٣.

(٥) تكرار الآية باعتبار إضافة « والنبيّين ».

(٦) المائدة (٥) : ٤٤.

٣٣١

ذلك لأجل تعبّده بشرع غيره ، بل كان أصلا في شرعه ؛ فإنّه يمكن أن يتّفق الشرعان في بعض الأحكام بطريق الوحي ، ولا يكون المتأخّر حينئذ (١) تابعا للمتقدّم.

واتّفاق العلماء على الاستدلال بقوله تعالى : ( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ )(٢) على وجوب القصاص في ديننا ، ولو لا أنّه متعبّد بشرع من تقدّمه ، لما صحّ هذا الاستدلال.

وجوابه : أنّه لما علموا بدليل من خارج ؛ إذ (٣) ما تضمّنه ممّا اوحي إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وصار من شرعه وإن كان شرع غيره أيضا ، ولا يدلّ على تبعيّته أصلا ، كما عرفت (٤).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من نام عن صلاة أو نسيها ، فليصلّها إذا ذكرها » (٥) ثمّ تلاوته قوله تعالى :

( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي )(٦) ، وهو مقول لموسى ، وسياق كلامه يدلّ على الاستدلال ، وإلاّ لم يكن لتلاوته فائدة ، ولو لم يكن متعبّدا بشريعة موسى لما صحّ الاستدلال.

وجوابه كما علمت في سابقه. وأكثر الوجوه المذكورة يعمّ المقامين ، وبعضها يخصّ المقام الأوّل ، وبعضها الثاني.

وإذا عرفت ذلك فتعلم أنّ شرع من قبلنا ليس شرعا لنا ـ وإن لم يرد عليه ناسخ ـ ما لم يعلم ثبوته في ديننا ، وعلى قول من خالفنا يكون ما ثبت من شرعهم شرعا لنا وإن لم يعلم ثبوته من خارج في ديننا. ويتفرّع عليه فروع كثيرة :

منها : الاستدلال على أرجحيّة العبادة على التزويج إذا لم تتق النفس إليه ؛ نظرا إلى مدح الله يحيى بكونه ( سَيِّداً وَحَصُوراً )(٧).

وعلى ما اخترناه لا يخفى حقيقة الحال.

ومنها : الاحتجاج على صحّة كون عوض الجعالة مجهولا ، وعلى مشروعيّة أصل

__________________

(١) لم يرد في « ب » : « حينئذ ».

(٢) المائدة (٥) : ٤٥.

(٣) في « أ » : « أنّ ».

(٤) آنفا.

(٥) عوالي اللآلئ ١ : ٢٠١ ، ح ١٧.

(٦) طه (٢٠) : ١٤.

(٧) آل عمران (٣) : ٣٩.

٣٣٢

الجعالة ؛ استنادا إلى قوله تعالى : ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ )(١) مع أنّ حمل البعير مجهول ؛ لاختلافه بالزيادة والنقصان.

والاحتجاج على صحّة ضمان مال الجعالة قبل العمل بقوله تعالى : ( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ )(٢) أي ضامن للحمل. وقد وقع هذا الضمان قبل العمل.

وعلى ما اخترناه لا يصحّ هذا الاحتجاج.

ومنها : ما لو حلف ليضربنّ زيدا ـ مثلا ـ مائة خشبة ، يبرأ ذمّته بضربه العثكال ـ وهو الشماريخ القائمة على الساق الواحد ـ استنادا إلى قوله تعالى لأيّوب لمّا حلف ليضربنّ زوجته : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ )(٣) ، والضغث هو العثكال.

وعندنا لا يصحّ هذا (٤) الاحتجاج ؛ لما عرفت (٥).

نعم ، ما علم ثبوته في ديننا بدليل من خارج فهو طريق آخر ، ولا مدخليّة له بهذا الطريق ، كثبوت الحكم المذكور في بعض الموارد بشروط خاصّة ؛ فإنّه مرويّ عندنا (٦) ، وقس عليها أمثالها.

فصل [٢٧]

تقرير المعصوم حجّة ، فإذا فعل فعل بحضرته أو في عصره وعلم به فأقرّه عليه ولم ينكره ، دلّ على الجواز لفاعله ولغيره ؛ لأنّ حكمه على الواحد حكمه على الجماعة.

وكذا إذا ظهر له من مكلّف اعتقاده بوجوب شيء أو حرمته أو غيرهما من الأحكام الشرعيّة ، فأقرّه عليه ولم يمنعه منه ، دلّ على ثبوته في حقّه وفي حقّ غيره.

والدليل في الموضعين : أنّ التقرير على المحرّم محرّم عليه ، فالظاهر رضاه فيهما ، وإن

__________________

(١ و ٢) يوسف (١٢) : ٧٢.

(٣) ص (٣٨) : ٤٤.

(٤) في « أ » : « لهذا ».

(٥) في ص ٣٢٩.

(٦) مثل ما ورد في اليمين المرويّ في نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى : ١٧٢ ، ح ٤٤٩. وما ورد في الحدود المرويّ في تهذيب الأحكام ١٠ : ٣٢ ، ح ١٠٧ ـ ١٠٩.

٣٣٣

ضمّ بالتقرير الاستبشار ، صار حجّيّته أوضح.

ثمّ إنّ حجّيّته مشروطة بعدم تقيّة ، أو مصلحة اخرى ، وبعدم تقدّم الإنكار وبيان ثبوت نقيضه ، أو يتقدّمه لكن علم من شأن الفاعل أنّ إنكاره عليه‌السلام (١) ينفعه ، فمع ذلك إذا لم ينكر دلّ على صحّة ما فعل ، وكان ناسخا لما سبق.

وأمّا إذا تقدّم الإنكار وبيان ثبوت نقيضه ، وعلم أنّ الفاعل يعلمه وينكره وإنكاره عليه‌السلام (٢) لفعله لا ينفعه ، بل هو مصرّ عليه ، لم يكن تقريره وعدم إنكاره حجّة ، كما إذا مضى كافر إلى كنيسة فرآه فلم ينكر عليه.

هذا ، والأصل عدم المانع من حجّيّته حتّى يعلم خلافه.

وإذا عرفت ذلك ، فكيفيّة التفريع ظاهرة عليك.

وقد فرّع عليه الشافعي اعتبار القيافة في إثبات النسب ؛ لما نقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من الاستبشار وترك الإنكار بعد حكم مجزّز المدلجيّ بالقيافة في قضيّة زيد واسامة ؛ حيث قال ـ حين نظر إلى أقدامهما ـ : هذه الأقدام بعضها من بعض. وإنّما كان ذلك بعد ما طعن المنافقون في نسب زيد بسواد أحدهما وبياض الآخر ، وحكم الشرع بثبوته (٣).

واجيب عنه بأنّ ترك الإنكار إنّما هو لأجل أنّ المطلوب كان حقّا في الواقع ، موافقا لقول الشارع ، والطريق كان حقّا عندهم ؛ لأنّهم يعتقدون القيافة ، فكان ذلك إلزاما عليهم ، والإلزام لا يلزم أن يكون بمقدّمة حقّة (٤).

وفيه : أنّ موافقة الحقّ لا تمنع الإنكار إذا كان الطريق منكرا.

والحقّ أن يقال : إنّ عدم الإنكار لما سبق منه مكرّرا ولم يقبلوا منه ، وكانوا مصرّين على حقّيّة القيافة ، تعرف أنّهم لا يقبلون منه.

فائدة

ربما ظهر من بعض الأصحاب حجّيّة حكم المعصوم عليه‌السلام في الرؤيا قولا كان أو فعلا ؛ لما

__________________

(١ و ٢) أي إنكاره ثانيا.

(٣) حكاه القاضي عضد الدين في شرح مختصر المنتهى ١ : ١١٨.

(٤) المجيب هو القاضي عضد الدين في المصدر.

٣٣٤

روي أنّ الشيطان لا يتمثّل به ، وأنّ من رآه في الرؤيا فقد رآه (١).

وفيه : أنّ تحقّق تالي الشرطيّة يتوقّف على تحقّق مقدّمتها ، وهو يتوقّف على أن يعرف صورته في اليقظة حتّى تعرف في المنام أنّه هو.

وأيضا كثيرا ما يرى واحد منهم عليهم‌السلام في المنام بصورة عالم ، أو صالح ، ومعلوم أنّه ليس هو.

وربما قيل (٢) : الأخبار دلّت على أنّ من رآه في المنام ، فقد رآه وإن لم يعرف بصورته ، أو ظهر بصورة غيره ، كما ورد أنّ رجلا قال للرضا عليه‌السلام : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام ، فقال : « هو رسول الله ، من رآه فقد رآه » (٣) ولا ريب في أنّه لم يدرك زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يعرفه بصورته ، وظهوره بصورة غيره من أهل العلم والورع لاشتماله على فائدة هي إظهار جلالته مع عدم فساد فيه.

والحقّ : أنّ أمثال هذه الأخبار المتشابهة لا تنتهض حجّة لإثبات أصل ، مع أنّ ما يرى في المنام قد يكون مخالفا للأحكام الثابتة ؛ فالحقّ عدم الحجّيّة.

__________________

(١) نسبه المجلسي إلى العلاّمة في بحار الأنوار ٦١ : ٢٣٨.

(٢) نسبه المجلسي إلى المفيد في المصدر : ٢٠٩.

(٣) لم نعثر عليه ولكن في بحار الأنوار ٢٦ : ٢٥٦ أحاديث تبثّ بأنّ رؤيتهم حقّ.

٣٣٥

الباب الثالث

في الإجماع

وتنقيح الكلام هنا يتوقّف على تحديده ، والكلام فيه من حيث إنّه إجماع ، وهو المعتبر عند العامّة ، وبيان أحكامه ، ووقوعه ، وإمكان العلم به ، ومدرك حجّيّته عندنا ، وسائر ما يتعلّق به. وها هي نذكرها في فصول :

فصل [١]

الإجماع لغة : العزم والاتّفاق (١) ، واصطلاحا : هو اتّفاق خاصّ. والصحيح على قواعد العامّة أن يقال : هو اتّفاق المجتهدين ، أو أهل الحلّ والعقد من هذه الأمّة في عصر على أمر ديني.

فبالإضافة يخرج العامّي موافقته ومخالفته ؛ فإنّه لا يعتبر وفاقا.

والتقييد « بهذه الامّة » لإخراج إجماع سائر الامم ؛ فإنّه ليس حجّة على قواعد العامّة ؛ لتجويزهم خلوّ الزمان عن المعصوم عليه‌السلام ، فالعصمة عن الخطأ تختصّ عندهم بجميع هذه الامّة ؛ للأدلّة السمعيّة (٢) ، ويجوّزون طروّ الخطأ على جميع كلّ من سائر الامم ؛ لفقد الدلالة على عصمتهم من الخطأ.

وأمّا على قواعد الإماميّة فليس كذلك ، كما ستعلم (٣).

والمراد بقولنا : « في عصر » في زمان قلّ أو كثر. والافتقار إليه ظاهر ؛ فإنّه لو لم يكن ،

__________________

(١) المصباح المنير : ١٠٩ ، « ج م ع ».

(٢) منها : ما في تحف العقول : ٣٣٨ ، والاحتجاج ٢ : ٤٨٧ ، ح ٣٢٨ ، وكنز العمّال ١ : ١٨٠ ، ح ٩٠٩ ، و ٢٠٦ ، ح ١٠٢٩ ـ ١٠٣٢.

(٣) يأتي في ص ٣٣٩.

٣٣٦

أفاد (١) اشتراط الاتّفاق من لدن بعثته إلى يوم القيامة ، فيلزم أن لا يوجد إجماع أصلا.

وتقييد الأمر بالديني ؛ لإخراج الإجماع على ما ليس بديني ، كالإجماع على جوهريّة الجسم مثلا ، أو عرضيّة الألوان والطعوم ؛ فإنّه ليس من الإجماع المعرّف في كتب الاصول ؛ لأنّه من الأدلّة الشرعيّة ، وممّا يكفّر منكره ، ولا يخرج منه الإجماع على أمر عقلي يجب أن يعتقد ، كالإجماع على حدوث العالم ؛ لأنّ الديني يتناول الاعتقادي ، فتدخل الإجماعات الثابتة في علم الكلام المتعلّقة بالاعتقاد.

والمراد من المجتهد ما يتناول المجتهد في الاصول الكلاميّة أيضا.

وهذا على قواعد العامّة ظاهر ؛ لأنّ ما تمسّكوا به في إثبات حجّيّة الإجماع لا مدخل له بإثبات حجّيّة (٢) غير الأمر الديني. وأمّا على قواعد الإماميّة ، فتعرف (٣) كيفيّة الحال.

ثمّ إنّي لم أجد من علماء العامّة من يحدّه بمثل ما حدّ حتّى يتمّ ، بل كلّ منهم حدّه بما لا يخلو عن فساد.

فحدّه الغزالي بأنّه اتّفاق أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على أمر من الامور الدينية (٤).

ويلزم منه أن لا يوجد إجماع أصلا ، كما أشير (٥) إليه. وينتقض عكسه بالإجماع الذي خالف فيه العوامّ ، وبما انعقد بعد زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وطرده بتقدير اتّفاق الامّة مع عدم المجتهدين فيهم (٦).

وأورد عليه الحاجبي (٧) ، بأنّه لا ينعكس بتقدير اتّفاقهم على أمر عقلي أو عرفي.

وفيه : أنّ العقلي أو العرفي إن كان اعتقاديّا فيدخل في الديني ، وإن لم يكن اعتقاديّا فلا بدّ من إخراجه ؛ لما عرفت (٨).

__________________

(١) أي أفاد التعريف.

(٢) كذا في النسختين. والظاهر كلمة « حجّيّة » غير محتاج إليها.

(٣) يأتي في ص ٣٣٩ ، ذيل قوله : « ثمّ إنّ تقييد الأمر بالدينيّ ».

(٤) المستصفى : ١٣٧.

(٥) لعدم تقييده بقوله في عصر وزمان. راجع ص ٣٣٦.

(٦) ليس المراد مخالفة المجتهدين ؛ فإنّه لا يتحقّق حينئذ اتّفاق الامّة ، بل المراد عدم وجود المجتهد في الامّة وكون الامّة كلّهم عوامّ.

(٧) منتهى الوصول : ٥٢.

(٨) تقدّم آنفا.

٣٣٧

وحدّه بعضهم بزيادة أهل الحلّ والعقد عليه (١).

ويرد عليه الإيراد الأوّل (٢).

وحدّه الحاجبي بأنّه اتّفاق المجتهدين من هذه الامّة في عصر على أمر (٣).

وبعضهم بأنّه اتّفاق أهل الحلّ والعقد على أمر (٤).

وآخرون بأنّه اتّفاق المجتهدين على أمر (٥).

وينتقض الأوّل طردا بالإجماع على أمر ليس من الأحكام الشرعيّة ولا ممّا يجب أن يعتقد ، كالإجماعات الثابتة في علم الصرف ، والنحو ، والعروض ، والحكمة وغيرها. وقد علمت (٦) وجوب إخراجه من الحدّ.

والأخيران به ، وبإجماع غير هذه الامّة. وقد عرفت (٧) وجوب إخراجه على قواعدهم.

ثمّ إضافة ما يتمّ كلّ واحد من الحدود المذكورة ويصحّحه (٨) إليه ـ كما ارتكبه بعض (٩) ـ تخرجه عنه وتجعله حدّا آخر ؛ فإنّ تفاوت الحدود بزيادة شيء ونقصانه ، فلم يصحّح هذا الحدّ ، مع أنّ إضافة « ديني » على حدّ الحاجبي لا تلائم إيراده على الغزالي (١٠).

وحدّه النظّام بأنّه كلّ قول قامت حجّيّته (١١).

وينتقض طردا بكلام الله وكلام رسوله.

وأيضا التحديد إنّما يكون للماهيّة ، ولفظ « كلّ » موضوع للأفراد.

وأيضا الإجماع ليس بقول ، كما لا يخفى.

__________________

(١) عرّفه به الفخر الرازي في المحصول ٤ : ٢٠.

(٢) وهو عدم تحقّق الإجماع.

(٣) منتهى الوصول : ٥٢.

(٤) عرّفه به الفخر الرازي في المحصول ٤ : ٢٠.

(٥) راجع : تمهيد القواعد : ٢٥١ ، ونسبه الشوكاني في إرشاد الفحول ١ : ١٩٣ إلى أبي عليّ الفارسي.

(٦ و ٧) في ص ٣٣٧.

(٨) والمضاف هو كلمة « ديني » في تعريف الحاجبي ، وكلمتا « ديني » و « هذه الامّة » في التعريفين الأخيرين كليهما.

(٩) ارتكبه ابن الحاجب في منتهى الوصول : ٥٢.

(١٠) توضيحه : أنّ الحاجبي يرى الإجماع على أمر عقلي أو عرفي داخلا في المعرّف ، يعلم ذلك من قوله على الغزالي : « لا ينعكس بتقدير اتّفاقهم على أمر عقلي أو عرفي ». فإضافة كلمة « ديني » غير محتاج إليها.

(١١) حكاه عنه الغزالي في المستصفى : ١٣٧.

٣٣٨

فثبت أنّ الصحيح من الحدود على قواعد العامّة ما ذكر أوّلا (١).

وأمّا على قواعد الإماميّة ، فلمّا كان الإجماع المعتبر عندهم ما دخل فيه المعصوم ، فيلزم أن يحدّ عندهم بما يدلّ على ذلك ، ولا يفتقر إلى قيد « هذه الامّة » وما يساوقه ؛ لأنّ كلّ زمان لا يخلو عندهم عن معصوم عليه‌السلام ، وكلّ إجماع دخل فيه المعصوم فهو حجّة عندهم ، سواء كان من هذه الامّة أو غيرها.

فالصحيح من حدوده عندهم أن يقال :

إنّه اتّفاق رؤساء الدين ، أو أهل الحلّ والعقد في عصر على أمر ديني. وهذا إن اريد بأهل الحلّ والعقد من له دخل في الحكم إماما كان أو مجتهدا ، ولو اريد منهم المجتهدون أو ما هو أعمّ منهم ومن أهل الحلّ والعقد الدنيوي كأكابر العسكر ، لم يصحّ.

أو اتّفاق من يعتبر قوله في الأحكام الشرعيّة على أمر ديني.

أو اتّفاق جمع يعلم به أنّ المتّفق عليه صدر عن رئيس الامّة. وقس عليها ما شابهها.

والأخير وما شابهه أصحّ الحدود ؛ لأنّ حجّيّة الإجماع عندنا لكشفه عن قول المعصوم. فحقيقته اتّفاق يكشف عن دخول قول المعصوم ، لا اتّفاق المعصوم وغيره حتّى يكون موافقة المعصوم جزءا من الإجماع ، كما يلزم ذلك من غير الأخير ، إلاّ أنّه يمكن تصحيحه (٢) بأدنى عناية.

ثمّ إنّ تقييد الأمر بالدينيّ في بعض الحدود المذكورة بناء (٣) على أنّ بحث الاصوليّين عن الإجماع المتعلّق بالحكم الشرعي ، أو ما يجب أن يعتقد في نفسه ، وعدم تقييده به في بعضها لأجل أنّ كلّ ما صار مجمعا عليه فهو حقّ ، سواء كان من العقائد الدينيّة ، أو الفروع الشرعيّة ، أو غير ذلك ؛ لأنّه ممّا قال به المعصوم ، وكلّ ما قال به المعصوم يجب أن يعتقد ، ويصحّ الاحتجاج به على كلّ شيء إلاّ على ما يتوقّف العلم بوجوب وجود المعصوم عليه ؛ لاستلزامه الدور وهو الأصوب.

__________________

(١) راجع ص ٣٣٧.

(٢) أي غير الأخير.

(٣) مرفوع خبر لا مفعول له.

٣٣٩

فصل [٢]

لا خلاف بين الخاصّة والعامّة في حجّيّة أصل الإجماع إلاّ ممّن شذّ (١). وإنّما اختلف الفريقان في مدرك حجّيّته ، فالخاصّة على أنّه دخول المعصوم ، والعامّة على أنّه الأدلّة السمعيّة والعقليّة (٢). ومن العامّة من لم يتنبّه لموضع الخلاف ، ونسب إلينا القول بعدم الحجّيّة (٣) ، وهو فرية.

ثمّ صدق حجّيّة الإجماع عندنا ـ مع أنّ العبرة بقول المعصوم ـ وفائدة الخلاف في الحيثيّة يعلم بعد ذلك (٤). وكلامنا هنا مقصور على أنّ ما احتجّ به العامّة على حجّيّة الإجماع من حيث هو هل يثبت مطلوبهم أم لا؟

فنقول : إنّهم ذكروا لذلك وجوها :

منها : قوله تعالى : ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ )(٥) الآية. أوعد على اتّباع غير سبيل المؤمنين ، فيكون حراما ؛ فيجب اتّباع سبيلهم ؛ إذ لا واسطة بينهما ، والإجماع سبيلهم (٦).

واعترض عليه بوجوه كثيرة محرّرة في الاصول ، أكثرها ممّا يمكن دفعه بسهولة (٧) ، وذكره لا يجدي طائلا.

وما يصعب دفعه بل لا يمكن : أنّ المتبادر من « سبيل المؤمنين » ما صاروا به مؤمنين وهو الإيمان ، وغيره هو الكفر ؛ فإنّ المفهوم من قول القائل : « لا تتّبع غير سبيل الصالحين » هو المنع من متابعة غير سبيلهم فيما صاروا به صالحين ، لا في كلّ شيء حتّى الأكل

__________________

(١) نسبه البصري إلى النظّام في المعتمد ٢ : ٤ ، والغزالي في المستصفى : ١٣٧.

(٢) والمراد بها ما يأتي بعد هذا من الآيات والروايات والوجوه العقليّة. وذكر المحقّق الحلّي في معارج الاصول : ١٢٧ من الأدلّة العقليّة دليلين. معارج الاصول : ١٢٧.

(٣) منهم : الأنصاري في فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى ٢ : ٢١٣ ، والفخر الرازي في المحصول ٤ : ٣٥.

(٤) راجع ص ٣٤٣.

(٥) النساء (٤) : ١١٥.

(٦) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٦٠٧ ـ ٦٢٥ ، والمستصفى : ١٣٨ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٨٦ ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : ٥٣ و ٥٤ ، ونهاية السؤل ٣ : ٢٤٨.

(٧) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٦٠٧ ـ ٦٢٥ ، والمستصفى : ١٣٨ ، والإحكام في أصول الأحكام ١ : ٢٨٦ ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : ٥٣ و ٥٤ ، ونهاية السؤل ٣ : ٢٤٨.

٣٤٠