أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

مثاله : قول الحنفي في الصوم الواجب بنيّة النفل : أتى بما امر به فيصحّ ، كالحجّ الواجب ، وهو لا يقول بصحّة الحجّ الواجب بنيّة النفل ، بل الشافعي هو القائل به (١) ، فقياسه فاسد ؛ لأنّه بنى فرعه على ما هو معترف ببطلانه ، ولا يصلح ذلك إلزاما للخصم ؛ لجواز أن يقول : العلّة في الأصل عندي غير هذا الوصف ، أو لا بدّ لي من التزام الخطأ في الأصل أو الفرع ، ولا يتعيّن الخطأ في الفرع حتّى يحصل مطلوبك ، وربّما ألتزم الخطأ في الأصل ، ولا يضرّني ذلك في الفرع.

ومنها : أن يكون حكما شرعيّا إذا كان حكم الفرع شرعيّا ؛ لأنّ المطلوب حينئذ إثبات حكم شرعي للمساواة في علّته حتّى يكون القياس شرعيّا ، ولا يتصوّر ذلك إذا كان حكما عقليّا أو لغويّا ، كما لو قال : شراب مشتدّ فيوجب الحدّ ، كما يوجب الإسكار ، أو كما يسمّى خمرا. هذا ما ذكره الأكثر (٢).

واعترض عليه بأنّ ثبوت الحكم في الفرع يتوقّف على ثبوته في الأصل وعلى تعليله بوصف معيّن ووجوده في الفرع ، فلو استند الأوّل فقط إلى العقل أو اللغة لم يخرج القياس عن الشرعي ، إذا استند الأخيران إلى الشرع ؛ لأنّ إثبات حكم الفرع حينئذ بالشرع ؛ لأنّ المأخوذ من المقدّمات الشرعيّة شرعي (٣).

والتحقيق على قواعد الفريقين أنّه إذا علم الأخيران يجوز أن يثبت به الحكم في الفرع وإن لم يعلم ثبوت حكم الأصل أصلا ؛ فإنّه إذا علم أنّ الشدّة علّة الحدّ ، وأنّها وجدت في هذا الشراب ، فشربه يوجب الحدّ وإن لم يعلم أنّها توجب الإسكار ، إلاّ أنّ إثبات الحكم حينئذ ليس بالقياس ؛ لأنّه يتوقّف على مساواة الفرع للأصل في حكمه ، فلا بدّ من وجود أصل وتشبيه الفرع به في حكمه حتّى يتحقّق القياس ، ويجب أن يكون حكم الفرع مساويا لحكم الأصل إمّا في عينه أو في جنسه ـ كما يأتي (٤) ـ فحكم الأصل العقليّ إذا لم يكن

__________________

(١) راجع بداية المجتهد ٢ : ٢٩٣.

(٢) منهم : الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٣٩ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢١٥ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٦٤.

(٣) حكاه الفخر الرازي عن أكثر أصحابه وجمهور الحنفيّة في المحصول ٥ : ٣٣٩ ، وهو رأي المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٤٤ ، وحكاه الأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٤٤.

(٤) يأتي في ص ٥٤٧.

٥٤١

مساويا لحكم الفرع الشرعيّ المطلوب إثباته ـ كما هو الغالب ـ لم ينعقد منه القياس ، وإن كان مساويا له انعقد ، إلاّ أنّه يبقى النظر في موضعين :

أحدهما : هل هو حينئذ قياس عقلي لكون أحد مقدّماته عقليّا ، أو شرعيّ لكون بواقيها شرعيّة؟ والظاهر فيه الإلحاق بالغالب.

وثانيهما : أنّه إذا كان عقليّا فهل يكون حجّة كما إذا كان شرعيّا ، أم لا؟

وتحقيقه يتوقّف على بيان ما بقي الكلام فيه ، وهو صحّة كون حكم الأصل لغويّا أو عقليّا ، إذا كان المطلوب إثبات حكم لغوي أو عقلي حتّى يكون القياس لغويّا أو عقليّا. فنقول : قد مرّ أنّ القياس لا يجري في اللغة ، وأمّا جريانه في العقليّات من الصفات والأفعال فلم يجوّزه جماعة (١) ؛ لأنّه لا يفيد أزيد من الظنّ ، وهو غير معتبر في المباحث العقليّة. وجوّزه أكثر المتكلّمين ، وعدّوا منه إلحاق الغائب بالشاهد (٢) في بعض الصفات ، كقياس الواجب [ تعالى ] على غيره في كونه عالما بعلم. أو بعض الأفعال ، كقياسه عليه في كون فعله بالاختيار ، وقالوا : لا بدّ فيه من جامع عقليّ ، وهو إمّا علّة ، كالوجود في قول الأشعري : الواجب موجود فيكون مرئيّا ، كما في الشاهد ؛ فإنّ الجمع بينهما بالوجود وهو علّة الرؤية عندهم.

أو حدّ كما في قولنا : الواجب من ثبت له العلم ، فيكون عالما كغيره ؛ فإنّ الجمع بينهما بثبوت العلم له وهو حدّ لما يراد إثباته أي العالم.

أو شرط ، كقولنا : الواجب حيّ فيكون مدركا ، كما في الشاهد ؛ فإنّ الجامع هنا هو الحياة التي هي شرط الإدراك.

أو دليل ، كما في قولنا : التخصيص والأحكام يدلاّن على الإرادة والعلم في الشاهد ، فكذا في الغائب ؛ فإنّ الجامع هنا ـ أي التخصيص والأحكام ـ دليل على إثبات الحكم المطلوب. هذا.

__________________

(١) قاله البصري في المعتمد ٢ : ٣٢٧ ، والغزالي في المستصفى : ٣٢٨ ، ونسبه المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٢٢ إلى الجمهور وابن الهمام.

(٢) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٣٣ ونسبه أيضا إلى أكثر المتكلّمين ، والمطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٤٢ ونسبه أيضا إلى أكثر المتكلّمين ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٤٢.

٥٤٢

وما يقتضيه النظر أنّ الأقيسة العقليّة تختلف كما تختلف الأقيسة الشرعيّة ، فيفيد بعضها اليقين بالمطلوب ، وبعضها الظنّ به. والتفصيل لا يخفى على من أحاط بمباحث القياس وشرائطه.

ومنها (١) : أن لا يتناول دليله حكم الفرع ، وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح ، كما إذا قيل : الذّرة ربويّة كالبرّ بجامع الطعم ، فيقال : قوله عليه‌السلام : « لا تبيعوا الطعام بالطعام إلاّ يدا بيد سواء بسواء » (٢) يتناول ربويّة الذرة ، كما يتناول ربويّة البرّ ؛ لصدق الطعام عليها.

واعلم أنّ العلّة إن كانت منصوصة ، فدليل الحكم في الأصل هو دليل العلّة أي النصّ. وقد تقدّم (٣) اشتراط عدم تناول دليل العلّة بعمومه أو خصوصه لحكم الفرع ، مع ما فيه.

وإن كانت مستنبطة ، فدليله غير دليلها ؛ لأنّه دليله حينئذ هو عموم النصّ أو خصوصه ، ودليلها أحد مسالك الاستنباط. والمراد من دليله هنا ما يعمّ دليله في المنصوصة والمستنبطة. هذا.

والحقّ ، أنّ هذا الشرط غير لازم ؛ لما تقدّم (٤) من جواز إثبات حكم واحد بأدلّة متعدّدة ؛ لتقوية الظنّ من تعاضدها ، وقد كثر ذلك في كتب الفقه (٥) ، مع أنّه يجوز أن يكون دلالة الدليل على حكم الأصل الأقوى ، بأن يدلّ عليه بالمطابقة ، وعلى حكم الفرع بالتضمّن أو الالتزام.

ومنها : أن لا يكون معدولا به عن سنن القياس ، أي يكون بحيث يوجد مثل علّته في أصل آخر غير محلّه ، فلو علم انتفاء ذلك لم يصحّ القياس عليه ، ويقال له : إنّه معدول عن سنن القياس ، وهو إمّا أن لا يعقل معناه ، أو يعقل ولكن لا نظير له. والأوّل إمّا أن يكون مستثنى عن قاعدة كلّيّة مقرّرة ، كقبول شهادة خزيمة وحده ؛ فإنّه لا يعقل معناه وقد اخرج عن قاعدة الشهادة ، وعلم قطعا أنّه لم يخرج منها إلاّ هذا الفرد ، بل قطع بثبوت حكم خلافه

__________________

(١) أي شرائط حكم الأصل.

(٢) ذكره النووي في المجموع ١٠ : ٢٢.

(٣) تقدّم في ص ٥٠٣.

(٤) راجع ص ٥٣٦.

(٥) كشهادة خزيمة ، تقدير الركعات ، الحدود ، الكفّارات ، اليمين في القسامة وضرب الدية على العاقلة ، راجع جامع الاصول ١٠ : ١٩٥ ، و ١ : ٧٧.

٥٤٣

فيما عداه ، فلم يثبت مثل علّته المجهولة في أصل آخر ، ولذلك لا يصحّ القياس عليه وإن كان محلّ الفرع أعلى رتبة في المعنى المناسب من الصدق والتديّن من محلّه. أو لا يكون مستثنى عنها ، كأعداد الركعات ، ومقادير الحدود والكفّارات.

والثاني إمّا أن يكون له معنى ظاهر ، كترخّص المسافر ؛ فإنّ علّته السفر ؛ لما فيه من المشقّة ، ولكنّ هذا الوصف ـ وهو المعنى المقتضي للرخصة لما فيه من المشقّة ـ لم يوجد في محلّ آخر ممّا يشتمل على المشقّة وإن كانت فوق مشقّة السفر.

أو لا يكون له معنى ظاهر ، كالقسامة ؛ فإنّ علّتها التغليظ في حفظ الدماء ، لكنّه علم قطعا أنّه لم يوجد مثله في محلّ آخر. هكذا قيل (١).

ولا يخفى عليك أنّه إن كان المراد ـ على ما هو الظاهر من هذا الشرط ـ ثبوت مثل علّة حكم الأصل في محلّ آخر هو الأصل ، ففيه أنّ العلم بانتفاء ذلك لا يمنع من صحّة القياس عليه بعد وجود مثل علّته المنصوصة في محلّ الفرع ؛ لجواز انتفاء حكم وعلّته في سائر المحالّ بعنوان الأصالة ، وإمكان إتيانه في بعضها بالقياس.

وإن كان المراد ثبوت مثل علّته في محلّ آخر هو الفرع حتّى لو علم انتفاؤه في جميع ما عداه من الموارد ، لم يصحّ القياس ، ففيه أنّ ذلك مسلّم إلاّ أنّه ظهر من اشتراك كون العلّة وصفا جامعا مشتركا.

ومنها (٢) : أن لا يكون ذا قياس مركّب ، وهو أن يتّفق المتناظران على حكم الأصل من دون أن يكون منصوصا أو مجمعا عليه ، مع منع المعترض لعلّة الأصل ، أو لوجودها فيه. والأوّل مركّب الأصل ، والثاني مركّب الوصف.

مثال الأوّل : كما لو قال الشافعي في مسألة قتل الحرّ بالعبد : عبد فلا يقتل به الحرّ ، كالمكاتب ؛ فإنّ حكم الأصل ـ وهو عدم الاقتصاص من المكاتب ـ غير متّفق عليه بين الامّة ، وإنّما اتّفق عليه الشافعي والحنفي.

والحنفي يقول : علّة حكم الأصل عندي جهالة المستحقّ للقصاص من السيّد والورثة لا

__________________

(١) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢١٨.

(٢) أي شرائط حكم الأصل.

٥٤٤

العبوديّة ، وهذه العلّة لم توجد في العبد ، فإن صحّت بطل إلحاق العبد به في الحكم ؛ لعدم اشتراكه له في العلّة ، وإن بطلت أمنع حكم الأصل وأقول : يقتل الحرّ بالمكاتب ؛ لعدم المانع ، فهو لا ينفكّ عن عدم العلّة في الفرع إن كانت العلّة هي الجهالة ، أو منع حكم الأصل إن كانت العبوديّة ؛ لعدم صحّتها عنده (١).

ومثال الثاني : كما إذا قال الشافعي في تعليق الطلاق قبل النكاح : تعليق للطلاق فلا يصحّ قبل النكاح ، كما لو قال : « هذه التي أتزوّجها طالق » فيمنع الحنفي وجود التعليق في الأصل ويقول : إنّه تنجيز ، فإن صحّ منعه بطل الإلحاق ؛ لعدم الجامع ، وإلاّ منع الحكم في الأصل ، فلا ينفكّ عن منع علّة الأصل ، أو منع حكمه (٢). هذا.

وقيل : سمّي مركّبا ؛ لاختلاف الخصمين في تركّب الحكم على العلّة ؛ فإنّ المستدلّ يزعم أنّ العلّة مستنبطة من الحكم وفرع له ، والمعترض يزعم عكسه ، ولذا يمنع ثبوته عند انتفائها (٣).

وقيل : سمّي مركّبا ؛ لاختلافهما في علّة الحكم (٤).

واعترض عليه بأنّه يلزم حينئذ أن يكون كلّ قياس اختلف في علّة أصله مركّبا وإن كان منصوصا أو مجمعا عليه (٥).

واجيب عنه بأنّه لا يلزم اطّراد وجه التسمية (٦).

وقيل : سمّي مركّبا ؛ لأنّ كلّ واحد منهما يثبت الحكم بقياس ، فيجتمع قياسهما (٧). وهو أصحّ الوجوه ، إلاّ أنّه يرجع إلى سابقه ؛ لأنّ القياسين متّحدان في حكم الأصل ، واختلافهما إنّما هو باختلاف علّته.

بقي النظر في وجه تسمية الأوّل مركّب الأصل ، والثاني مركّب الوصف ، وهو ـ على ما قيل ـ كون النظر في الأوّل في علّة حكم الأصل ، وفي الثاني في وجود العلّة في الأصل ،

__________________

(١) لمزيد الاطّلاع على جميع الأقوال راجع بداية المجتهد ٢ : ٣٩٨ و ٣٩٩.

(٢) راجع المصدر ٢ : ٧٨.

(٣) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢١٩ و ٢٢٠.

(٤) حكاه الآمدي عن بعض الاصوليّين في الإحكام في أصول الأحكام : ٢١٩.

(٥) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢١٩.

(٦) قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٣٠٨.

(٧) قاله الأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٣٠٤.

٥٤٥

وهو نظر في نفس الوصف. وهو (١) كما ترى.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ عدم صحّة القياس المذكور عندنا ظاهر ؛ لكون علّته مستنبطة ، وكذا عند العامّة (٢) ؛ لأنّه لمّا استدلّ فيه باتّفاق الطرفين ، وفي الأوّل أظهر الخصم ما يختصّ بالأصل يدّعي أنّ ذلك هو العلّة عنده ، وهو وارد ولا سبيل للمستدلّ إلى دفعه ؛ لأنّه لا يمكنه إقامة الدليل على أنّ علّته هي العلّة عنده. وفي الثاني منع وجود العلّة ، وهو أيضا وارد ، فإذا طريق ثبوت المطلوب في الأوّل إنّما هو اعتراف الخصم بأنّها العلّة ، وفي الثاني اعترافه بأنّها موجودة ، أو إثبات المستدلّ وجودها في الأصل بدليل ينتهض حجّة.

وبما ذكر يظهر أنّ كلّ موضع يستدلّ فيه باتّفاق الخصمين يتأتّى فيه دعوى أنّه ذو قياس مركّب ؛ لأنّ الخصم لا يعجز عن بيان ما يختصّ بالأصل يدّعي أنّه هو العلّة عنده.

ثمّ ما ذكر كلّه إنّما يتأتّى إذا ثبت حكم الأصل بمجرّد اتّفاق الخصمين ، والعلّة بأحد مسالك الاستنباط ، وأمّا إذا ثبت كلاهما بالإجماع أو النصّ ، فالقياس صحيح عند الفريقين (٣) ، إلاّ أنّه ليس قياسا مركّبا. وكذا إن ثبت أحدهما بالإجماع والآخر بالنصّ ، أو الإيماء المعتبر ، أو ثبت أحدهما بأحدهما والآخر باتّفاق الخصمين.

مثال ما ثبت الحكم فيه بالنصّ ، والعلّة بالإيماء : ما يقال في اختلاف المتبايعين عند تلف المبيع : متبايعان تخالفا فيتحالفان ويبرءان ، كما لو كانت باقية ؛ لقوله عليه‌السلام : « إذا اختلف المتبايعان فليتحالفا وليبرآ » (٤) ؛ فإنّ الحكم فيه قد ثبت بالنصّ ، والعلّيّة بالإيماء. ولو ثبت الحكم بالنصّ والعلّة بطريق من طرق الاستنباط ، فالحقّ أنّ القياس يصحّ حينئذ على قواعد العامّة (٥) وإن لم يصحّ عندنا ؛ لصحّة إثبات الحكم بالنصّ والعلّيّة بالاستنباط عندهم.

__________________

(١) قاله المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٣٠٨.

(٢) راجع : الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢١٨ ـ ٢٢١ ، ونهاية السؤل ٤ : ٣٠٤ ـ ٣١١ ، وسلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٣٠٤ ـ ٣١١.

(٣) راجع : الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٧٧ ، وتهذيب الوصول : ٢٦٥.

(٤) ذكره الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٧٠ ولم نعثر عليه في كتب الحديث.

(٥) راجع : المحصول ٥ : ١٣٩ ، والإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٥٨.

٥٤٦

وقيل : لا بدّ في حكم الأصل من إجماع إمّا مطلقا أو بين الخصمين ، وإلاّ أمكن منعه وهو يوجب انتشار الكلام وتسلسل البحث ، فينتفي مقصود المناظرة (١).

وجوابه لو لم يقبل ، لم يقبل كلّ مقدّمة يقبل المنع وهو باطل.

ومنها (٢) : أن يكون معلّلا بجامع معيّن ؛ لأنّ ردّ الفرع إليه إنّما يصحّ بذلك ، وقد علم مرارا أنّ طريق التعليل عند كلّ من الفريقين ما ذا.

ومنها : أن لا يتأخّر عن حكم الفرع ، كقياس الوضوء على التيمّم في وجوب النيّة بجامع العبادة ، والتيمّم متأخّر عن الوضوء ؛ لأنّه ثبت بعد الهجرة ، كذا قيل (٣).

واستدلّ عليه بأنّ حكم الفرع إمّا أن يكون ثابتا قبل ثبوت حكم الأصل ـ إمّا بدليل ، فهو المثبت له دون القياس ؛ أو بدونه ؛ فيلزم ثبوت الحكم بدون دليل ، وهو باطل ـ أو لا ، فيكون ذلك كالنسخ (٤).

وفيه نظر ؛ لأنّ تجدّد ثبوت حكم الفرع بشرع حكم الأصل إنّما يرفع عدم ثبوته ، وهو حكم عقلي ورفعه ليس نسخا ؛ لأنّ النسخ رفع حكم ثابت شرعي بدليل شرعي. فالحقّ أنّ هذا الشرط غير لازم.

فصل [١٨]

وللفرع أيضا شرائط :

منها : أن يساوي علّته علّة الأصل فيما يقصد فيه المساواة من عينها ، كالشدّة المطربة في الخمر ، الموجودة بعينها في النبيذ. أو جنسها ، كالجناية المشتركة بين القطع والقتل في قياس الأطراف على النفس في القصاص. هذا.

__________________

(١) حكاه الفخر الرازي عن البشر المريسي في المحصول ٥ : ٣٦٨ ، والأسنوي عن الكرخي والبشر المريسي في نهاية السؤل ٤ : ٣٢٠.

(٢) أي شرائط حكم الأصل.

(٣) حكاه الفخر الرازي عن جماعة في المحصول ٥ : ٣٦١ ، وفيه : « قالوا : يجب ... » ، وقاله العلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٦٥.

(٤) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٦١.

٥٤٧

والمراد بالمساواة فيما يقصد فيه المساواة : المساواة في الحقيقة ، سواء كانت في تمام الحقيقة ، بحيث لا يكون اختلاف إلاّ بالعدد كما في الأوّل ، أو بعضها كما في الثاني ، فلا يلزم المساواة في القوّة والضعف ، والقطعيّة والظنّ ، فيجوز أن يكون الحكم في الفرع أقوى أو أضعف.

ثمّ لزوم اعتبار هذا الشرط على قواعد الفريقين ظاهر ؛ لأنّ المقصود تعدية حكم الأصل إلى الفرع ؛ للاشتراك في العلّة ، ولا يتحقّق الاشتراك بدون وجود حقيقة علّة الأصل بخصوصها أو عمومها في الفرع.

ومنها : أن يساوي حكمه حكم الأصل فيما يقصد فيه المساواة من عين الحكم ، كوجوب القصاص في النفس ، المشترك بعينه بين القتل بالمثقل والمحدّد. أو جنسه كإثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها ؛ قياسا على إثبات الولاية عليها في مالها ؛ فإنّ ولاية النكاح ليست عين ولاية المال ، ولكنّها تشاركها في الجنس ؛ لأنّ جنس الولاية يجمعهما ، ووجه اعتبار هذا الشرط ظاهر عندنا وعند العامّة (١).

ومنها : أن لا يكون منصوصا عليه عند جماعة (٢) ، والنصّ هنا أعمّ من نصّ حكم الأصل وغيره ، فلا تكرار ؛ لما سبق.

ووجه اعتباره أنّه لولاه لثبت الحكم بالنصّ وضاع القياس.

وفيه نظر ، لما عرفت (٣) من جواز توارد أدلّة متعدّدة على مدلول واحد. فالحقّ خلافه. هذا.

وقد شرط قوم القطع بوجود العلّة فيه ، والدليل على حكمه إجمالا (٤) ، كما يقال : قد ثبت الحدّ في الخمر من دون تعيّن عدد الجلدات ، فتعيّن بالقياس على القذف.

__________________

(١) راجع : المحصول ٥ : ٣٧١ و ٣٧٢ ، وتهذيب الوصول : ٢٦٦.

(٢) قاله الغزالي في المستصفى : ٣٢٨ ، والفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٧٢ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٧٦ ، والعلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٦٦ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٣٣٣.

(٣) تقدّم في ص ٥١٣.

(٤) حكاه الفخر الرازي عن أبي هاشم في المحصول ٥ : ٣٧٢ ، والآمدي عن قوم في الإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٧٦.

٥٤٨

وهما مردودان ؛ لأنّ الظنّ يحصل بدونهما ، وهو كاف.

فصل [١٩]

جوّز الشافعيّة جريان القياس في الحدود ، والكفّارات ، والرخص ، والتقديرات (١).

ومنعه الإماميّة والحنفيّة (٢).

مثال الأوّل : كما يقال : يجب قطع النبّاش ، كما يجب قطع السارق بجامع أخذ مال الغير خفية (٣).

ومثال الثاني : ما يقال : تجب الكفّارة على قاتل النفس عمدا ، كما يجب على قاتلها خطأ (٤) ؛ لأنّه هو المنصوص في الآية (٥).

ومثال الثالث : ما يقال : يجوز التداوي بغير بول الإبل من المحرّمات ؛ قياسا عليه بجامع حصول الصحّة (٦).

ومثال الرابع : ما يقال : يجزئ نزح دلو واحد تسع عشرين دلوا في الفأرة ؛ قياسا على العشرين (٧).

احتجّ الأوّلون بعموم أدلّة القياس. وبأنّ حجّيّة سائر الأقيسة لافادتها الظنّ ، وهو حاصل هاهنا.

وبعمل الصحابة ؛ حيث اتّفقوا على إقامة حدّ القاذف على شارب الخمر ؛ أخذا بقول عليّ عليه‌السلام : « إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، فاجلدوه حدّ المفتري » (٨)

__________________

(١) قاله البصري في المعتمد ٢ : ٢٦٤ ، وحكاه عنهم الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٤٩ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٦٤.

(٢) راجع : اصول السرخسي ٢ : ١٦٣ ، وفواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى ٢ : ٣١٧ ، وتهذيب الوصول : ٢٧٠.

(٣) راجع مختلف الشيعة ٩ : ٢٨٥ و ٢٨٦.

(٤) راجع بداية المجتهد ٢ : ٤٤٩.

(٥) النساء (٤) : ٩٢.

(٦) راجع مختلف الشيعة ٨ : ٣٥٣ ، المسألة ٥٣.

(٧) حكاه العلاّمة عن عليّ بن بابويه وابنه في مختلف الشيعة ١ : ٤٠ ، المسألة ١٨.

(٨) الكافي ٧ : ٢١٥ ، باب ما يجب فيه من الحدّ في الشراب ، ح ٧ ، وتهذيب الأحكام ١٠ : ٩٠ ، ح ٣٤٦.

٥٤٩

وهو عمل بالقياس ؛ لأنّه عليه‌السلام قاس السكر على القذف في وجوب ثمانين جلدة بجامع كونه مظنّة الافتراء (١).

واحتجّ الآخرون بأنّ فيها تقديرات لا يعقل معناها ، ولا يدركها العقل ، كأعداد الركعات ، ونصب الزكوات ، وأعداد الجلدات ، وغير ذلك. وبأنّ في القياس شبهة ؛ لاحتمال الخطأ فيه ، فيجب أن يدرأ به الحدود ، أي لا يثبت به ؛ لقوله عليه‌السلام : « ادرءوا الحدود بالشبهات (٢) » (٣).

واجيب عن الأوّل بأنّ المبحث ما يعقل معناه كالأمثلة المذكورة ؛ فإنّ العلّة والحكم فيها معلومتان (٤) ، وأمّا ما لا يعقل معناه ، فلا كلام في عدم جريان القياس فيه ، كغير الحدود والكفّارات ، ولا مدخليّة لتخصيص المنع بها.

وعن الثاني بالنقض بخبر الواحد والشهادة ؛ فإنّ احتمال الخطأ يجيء فيهما ، مع أنّ الحدود تثبت بهما (٥).

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الحقّ على اصول العامّة ما ذهب إليه الشافعيّة ؛ لقوّة أدلّتهم وضعف أدلّة الحنفيّة ، كما عرفت (٦) ، ولأنّ الحنفيّة أثبتوا كثيرا من الحدود والكفّارات والرخص والتقديرات بالقياس ، وكثرت أقيستهم فيها ، ولذا ناقضهم الشافعي بها ، وأجابوا عنه بتأويلات بعيدة (٧). وكذا على اصولنا لو لا الإجماع على خلافه ؛ لعدم تعقّل الفرق بينها وبين غيرها من الأقيسة ؛ نظرا إلى عموم الأدلّة وإن كان باقي أدلّة الشافعي غير صحيح عندنا إلاّ أنّ الظاهر وفاق الأصحاب على بطلان العمل به فيها مطلقا.

وممّا يتفرّع على جواز إثبات الرخص به عدم بطلان صلاة الخوف بضربات متوالية ، أو

__________________

(١) حكاه الآمدي عن الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر الناس في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٦٤ و ٦٥.

(٢) الجامع الصحيح ٤ : ٣٣ ، ح ١٤٢٤ ، وكنز العمّال ٥ : ٣٠٥ ، ح ١٢٩٥٧.

(٣) حكاه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ٣٥٢ ، والآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٦٥.

(٤) كذا في النسختين. ولكنّ تغليب المؤنّث على المذكّر غير معتاد.

(٥) المجيب هو الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٦٦.

(٦) آنفا.

(٧) راجع : الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٦٤ ، والمعتمد ٢ : ٢٦٤ ، وتهذيب الوصول : ٢٧٠.

٥٥٠

ركوب في أثنائها يحصل منهما فعل كثير ؛ قياسا على عدم بطلانها بالمشي في أثنائها ؛ لورود النصّ به خاصّة ، وجواز النيابة في الصلاة والاعتكاف عن الميّت مع أنّ الأصل امتناعها في الأفعال البدنيّة ؛ قياسا على جوازها في الصوم والحجّ والدعاء والصدقة.

فصل [٢٠]

الحقّ أنّه لا يصحّ القياس في الأسباب والشروط ، بأن يجعل وصف سببا أو شرطا لحكم قياسا على وصف آخر جعله الشارع سببا أو شرطا له ، خلافا لأكثر الشافعيّة (١). مثاله في الأسباب أن يقال : اللواط سبب للحدّ كالزنى ، والقتل بالمثقل سبب للقصاص كالقتل بالمحدّد.

لنا أنّ معنى قياس وصف الفرع على وصف الأصل في السببيّة أن يجعل سببا للحكم لتحصيل الحكمة المقصودة في الفرع كوصف الأصل ، وهو ـ أي وصف الفرع ـ لمّا اثبت بمجرّد قياسه على وصف آخر مغاير له ، اعتبره الشرع لتحصيل الحكمة ؛ إذ المفروض تغاير الوصفين من دون أن يعتبره الشرع سببا في محلّ معلّلا باشتماله على الحكمة ، فلا يشهد له أصل بالاعتبار ، فهو مناسب مرسل لا يعتبر.

ولنا أيضا : أنّه لا بدّ في وصف الأصل من وجود علّة لسببيّة ، وهي الحكمة المقصودة ، وهي إمّا توجد في وصف الفرع أو لا. فعلى الثاني لا يصحّ القياس ؛ لأنّه لا بدّ فيه من علّة جامعة ، والفرض أنّه لا علّة في الفرع.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون قدر الحكمة الذي يتضمّنه المقيس مساويا للقدر الذي يتضمّنه المقيس عليه ، أو لا. فعلى الثاني لا يصحّ الجمع بينهما في الحكم ، أي السببيّة ؛ لأنّه يتوقّف على الجمع بينهما في العلّة ، والفرض اختلاف العلّة فيهما.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون الحكمة المشتركة ظاهرة منضبطة ، أو لا.

فعلى الثاني إمّا أن يكون لها مظنّة أو وصف ظاهر منضبط يضبطها ، أو لا.

فإن كان ، فهو يستقلّ بإثبات الحكم المرتّب على الوصف ، فيتّحد الحكم والسبب ، ولا

__________________

(١) حكاه الآمدي عن الشافعيّة في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٦٧ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٥٠.

٥٥١

حاجة إلى وصفين آخرين يكون أحدهما سببا في الأصل ، والآخر سببا في الفرع.

وإن لم يكن ، فيكون قياسا خاليا عن الجامع ؛ لأنّ الحكمة المضطربة لا يصحّ أن تكون جامعة ؛ لاحتمال التفاوت فيها بين الأصل والفرع ، واحتمال التساوي إن كان كافيا فيكفي هذه الحكمة المضطربة ، ولا حاجة إلى الوصفين.

وعلى الأوّل إمّا أن يقال بصحّة جعل الحكمة المنضبطة مناطا للحكم وجواز التعليل بها ، أو لا. فعلى الثاني إمّا أن يكون لها مظنّة أو وصف ظاهر يضبطها ، أو لا ، فإن كان ، فهو المناط للحكم ، وإن لم يكن ، لم يصحّ التعليل والجمع بين الأصل والفرع بها.

وعلى الأوّل تكون الحكمة مستقلّة بإثبات الحكم ، وتكون هي الجامعة بينهما ، وصار القياس في الحكم المرتّب على الحكمة ، ولا حاجة إلى الوصفين ، فيتّحد الحكم والسبب أيضا. مثلا : إذا ثبت أنّ إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرّم شرعا يصلح سببا للحكم ، صار القياس في وجوب الجلد في اللواط كما في الزنى بجامع هذا الوصف ، فيكون هناك حكم واحد هو وجوب الجلد ، وسبب واحد هو الإيلاج المحرّم ، وكان المفروض أنّ هناك حكمين : الجلد والسببيّة ، وسببين : الزنى واللواط.

احتجّ الخصم بأنّه يثبت القياس في الأسباب كما في المثالين (١).

وجوابه : أنّ النزاع فيما يختلف السبب والحكمة في الأصل والفرع ، وليس الأمر فيهما (٢) وفي أمثالهما كذلك ؛ لأنّ كلاّ من السبب والحكمة فيهما في الأصل والفرع واحد ؛ فإنّ السبب في مثال الزنى واللواط في الأصل والفرع إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرّم شرعا واحد ، لا نفس الزنى واللواط ، والحكمة الزجر لحفظ النسب ، والحكم وجوب الحدّ. وفي مثال المثقل والمحدّد السبب القتل العدوان ، والحكمة الزجر لحفظ النفوس ، والحكم وجوب القصاص. هذا.

ويمكن جعل النزاع لفظيّا بأن يقال : مراد القائل بصحّة القياس في الأسباب ثبوت الحكم بالوصفين ؛ لما بينهما من الجامع ، ويرجع إلى ما ذكر من وحدة السبب والحكمة.

__________________

(١) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٦٧ و ٦٨.

(٢) أي في المثالين.

٥٥٢

تذنيب يشتمل على مسائل :

الاولى : قيل : لا يجري القياس في العادات كأقلّ الحيض والنفاس والحمل وأكثرها ؛ لأنّ لها أسبابا خفيّة لا بدّ في معرفتها من الرجوع إلى قول الشارع (١).

الثانية : الأكثر على أنّه لا يجري القياس في اصول العبادات ، كإثبات صحّة الصلاة بإيماء الحاجب بالقياس (٢) ؛ لأنّها توقيفيّة لا يصحّ إثباتها إلاّ بنصّ الشارع.

الثالثة : ذهب شاذّ إلى أنّ القياس يجري في جميع الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّها متماثلة فيجب تساويهما فيما يجوز عليها (٣).

وفساده ظاهر ؛ لأنّها قد تختلف بخصوصيّات نوعيّة أو صنفيّة أو شخصيّة ، فيجوز على بعضها ما يمتنع على الآخر.

وقد عرفت أنّه لا يجري فيما لا يعقل معناه ، كضرب الدية على العاقلة ، وفي الأسباب والشروط.

فصل [٢١]

قد جرت عادة القوم بذكر الاعتراضات الستّة والعشرين الواردة على القياس في آخر مباحثه ، بعضها يخصّه ، وبعضها يعمّه وغيره ، كما نشير إليه. سبعة منها هي مبطلات العلّة المتقدّمة (٤) ، فما يبقى منها تسعة عشر ، وكلّها ترجع إلى منع أو معارضة ، والمنع يعمّ التفصيلي والإجمالي وهو النقض ، وقد يقيّد بالإجمالي ، ويقال حينئذ للأوّل : النقض التفصيلي.

مثال الإجمالي : كما يقال : لو صحّت مقدّمات دليلك لثبت ما يقتضيه من الحكم في صورة كذا ؛ لأنّها جارية فيها مع أنّه لم يثبت فيها.

والمنع في مقدّمات دليله على المطلوب ، وفي مقدّمات دليله على إثبات مقدّمة

__________________

(١) حكاه الفخر الرازي عن أبي إسحاق الشيرازي في المحصول ٥ : ٣٥٣.

(٢) حكاه الفخر الرازي عن الجبائي والكرخي في المحصول ٥ : ٣٤٨.

(٣) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٦٩ ، ولعلّ المقصود من الشاذّ هو البيضاوي والأسنوي في منهاج الاصول وشرحه نهاية السؤل ٤ : ٣٥.

(٤) في ص ٥٠٦ إلى ٥٣٥. والصحيح : مبطلات العلّيّة المتقدّمة.

٥٥٣

ممنوعة ؛ فإنّ المقدّمة إذا منعت وانتهض المستدلّ بإقامة الدليل فللمعترض منع مقدّمات هذا الدليل ، ومعارضته.

وكذا المعارضة ـ وهي إقامة الدليل على نقيض المطلوب ـ تعمّ المعارضة لدليل المدّعى ودليل المقدّمة.

وما لا يرجع إليهما من المناقشات الجدليّة غير مسموعة ؛ لأنّ مطلوب المستدلّ الإلزام بإثبات مدّعاه بدليله ، وهو إنّما يكون بصحّة مقدّماته ليصلح للشهادة ، وسلامته عن المعارض لينفذ شهادته ، فإذا ثبتا (١) تمّ مطلوبه ، ولا يضرّه غير ذلك من المؤاخذات اللفظيّة. ومطلوب المعترض دفعه ، وهو إنّما يكون بهدم صلاحيته للشهادة ، أو نفوذ شهادته. والأوّل يكون بمنع مقدّمة من مقدّماته ، والثاني بالمعارضة ، وغيرهما لا ينفعه ولا يتعلّق بمطلوبه.

ثمّ الستّة والعشرون يضبطها سبعة أجناس ؛ لأنّ المستدلّ يلزمه في كلّ دليل يقيمه على مدّعاه ـ قياسا كان أو غيره ـ تفهيمه للخصم. وإذا اندفع إلى القياس ، فلا بدّ أن يتمكّن منه بعدم مانع من جريانه ، ثمّ يثبت مقدّماته ـ وهو (٢) حكم الأصل ، وعلّته ، وثبوتها في الفرع ـ ويثبت وجود الحكم في الفرع ، ويبيّن أنّ ذلك الحكم هو مطلوبه الذي ادّعاه أوّلا. فهذه سبعة مقامات يتوجّه على كلّ منها جنس من الاعتراض ، فيتحقّق سبعة أجناس يشتمل كلّ منها على أنواع إلاّ الجنس الأوّل والسابع ؛ فإنّ كلّ واحد منهما ينحصر في نوع واحد.

فيتوجّه على مقام التفهيم الجنس الأوّل ، وهو ينحصر في نوع واحد.

وعلى مقام التمكّن الجنس الثاني ، ويشتمل على نوعين.

وعلى مقام إثبات حكم الأصل الجنس الثالث ، ويندرج فيه نوعان.

وعلى مقام إثبات علّيّته الجنس الرابع ، وأنواعه ثلاثة عشر.

وعلى مقام ثبوتها في الفرع الجنس الخامس ، ويتضمّن خمسة أنواع.

وعلى مقام ثبوت الحكم في الفرع الجنس السادس ، ويشتمل على نوعين.

وعلى مقام كون ما ثبت هو المدّعى الجنس السابع ، وينحصر في نوع واحد.

__________________

(١) أي إثبات المدّعى بالدليل وسلامة الدليل عن المعارض.

(٢) أي إثبات المقدّمات.

٥٥٤

فيرتقي أنواع الاعتراضات على (١) ستّة وعشرين. وسنشير في موضعه إلى أنّ السبعة المتقدّمة تندرج تحت أيّ جنس من السبعة.

الجنس الأوّل ـ وهو ما يتعلّق بالتفهيم ـ : الاستفسار

وهو ينحصر في نوع واحد ؛ إذ لا يتصوّر ثمّة إلاّ طلب الإفهام ، وهو يرد على جميع الأدلّة وجميع المقدّمات ، وعلى المدّعى أيضا. وأصله طلب الفسر ، أي الوضوح. والمراد منه هنا السؤال عن معنى اللفظ ، وإنّما يسمع إذا كان في اللفظ إجمال أو غرابة ، ولذا قيل : ما يمكن فيه الاستبهام حسن فيه الاستفهام (٢) ، وبدونه لا يلتفت إليه وإلاّ تسلسل. وبيان الإجمال على المعترض بأن يبيّن صحّة إطلاقه على معنيين أو أكثر ، ولا يكلّف بيان التساوي ـ وإن لم يحصل الإجمال إلاّ به ـ لعسره.

نعم ، لو بيّنه تبرّعا ـ بأنّ التفاوت يستدعي ترجيحا بأمر والأصل عدم المرجّح ـ كان حسنا. وإنّما البيان عليه ؛ لأنّ المستدلّ يكفيه أنّه خلاف الأصل ، فإذا ادّعاه المعترض ، فهو مدّع والتنبيه عليه.

وجوابه (٣) بيان ظهوره إمّا باشتهاره عند أهل اللغة ، أو الشرع ، أو بالنقل عنهما ، أو بالعرف العامّ أو الخاصّ ، أو بالقرائن المنضمّة إليه ، أو يفسّره بما يحتمله اللغة أو الشرع ، وإلاّ كان من جنس اللعب. أو بأن يقول على رأي يلزم ظهوره في أحدهما ، وإلاّ لزم الإجمال ، وهو خلاف الأصل ، أو يلزم ظهوره فيما قصدت (٤) ؛ لعدم ظهوره في الآخر اتّفاقا ، فلو لم يكن ظاهرا فيما قصدت (٥) ، لزم الإجمال ، وهو خلاف الأصل. وأمثلة الجميع ظاهرة.

الجنس الثاني : ما يتعلّق بالتمكّن من القياس

وهو على نوعين :

[ النوع ] الأوّل : فساد الاعتبار ، وهو مخالفة القياس للنصّ ، بأن يدّعى أنّ القياس مطلقا

__________________

(١) كذا في النسختين. والأولى : « إلى ».

(٢) حكاه الآمدي عن القاضي أبي بكر في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٧٣.

(٣) أي جواب الاستفسار والجنس الأوّل.

(٤ و ٥) كذا في النسختين ، والأولى : « قصد ».

٥٥٥

لا يعتبر في هذه المسألة ، ولا يصحّ الاحتجاج به فيها ؛ لدلالة النصّ على خلافه ، والقياس فاسد الاعتبار في مقابلة النصّ.

وجوابه : الطعن في سند النصّ إن أمكن. أو منع ظهوره في مقصود المعترض. أو تسليم ظهوره وادّعاء التأويل ، وعدم كون ظاهره مرادا لتخصيص ، أو إضمار ، أو مجاز بدليل يرجّحه ، كما إذا قال الشافعي في ذبح تارك التسمية : ذبح من أهله في محلّه ، فيوجب الحلّ كذبح ناسي التسمية. فإن اعترض عليه بفساد اعتباره لمخالفته لقوله تعالى : ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ )(١) فنقول : هذا مأوّل بذبح عبدة الأوثان ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اسم الله على قلب المؤمن سمّى أو لم يسمّ » (٢).

أو (٣) القول بالموجب ، بأن يسلّم النصّ ويدّعي أنّ مدلوله لا ينافي القياس.

أو المعارضة بنصّ آخر حتّى يتساقط النصّان ، فيسلّم القياس.

أو بيان أنّ قياسه ممّا يجب ترجيحه على النصّ ببعض الوجوه المرجّحة ، كما إذا رجّح الشافعي قياسه على النصّ بعد الاعتراض المذكور ، بأنّ فرعه ـ وهو المتذكّر ـ مقيس على الناسي المخصّص عن هذا النصّ بالإجماع. فإن أبدأ المعترض فارقا بين الأصل والفرع ، كان سؤالا آخر ؛ لأنّه من قبيل المعارضة.

واعلم أنّ الأقيسة تختلف في القوّة والضعف. والنصوص أيضا تختلف فيهما لوجوه منها كثرة العدد وقلّته. وكذا الأقيسة تختلف في الحجّيّة وعدمها على قواعد الفريقين. فاللازم في صورة ادّعائه فساد الاعتبار ملاحظة القياس والنصّ ، والترجيح على ما يقتضيه مذهب المتناظرين ، مثلا في صورة الجواب بالمعارضة لو عارضه المعترض بنصّ آخر حتّى يعارض أحد نصّيه نصّه ، والآخر القياس ، يسمع منه ؛ لأنّ النصّ الواحد لا يكافئ النصّين إذا لم يكن له ترجيح من وجوه أخر. والقول بعدم سماعه ضعيف. هذا.

وفساد الاعتبار قد يرد في غير القياس أيضا ؛ لأنّه دعوى عدم اعتبار الدليل في مسألة ؛

__________________

(١) الأنعام (٦) : ١٢١.

(٢) الدرّ المنثور ٣ : ٣٤٩ ، ذيل الآية ١٢١ من الأنعام (٦) باختلاف يسير.

(٣) هذا وما بعده عطف على « الطعن ».

٥٥٦

فكلّ دليل لا يتمكّن المستدلّ من الاحتجاج به في مسألة باعتبار ، فيرد فيه هذا السؤال ، فإذا استدلّ على مسألة عقليّة بالإجماع ، فيمكن الاعتراض عليه بأنّه لا يعتبر في العقليّات. وقس عليه غيره.

النوع الثاني : فساد الوضع ، وهو إبطال وضع القياس المخصوص ، وتركيب مقدّماته في إثبات الحكم المخصوص ، بأن يدّعى أنّه وضع في هذه المسألة قياس لا يصحّ وضعه فيها ، فحاصله منع التمكّن من القياس المخصوص. وحاصل فساد الاعتبار منع التمكّن من القياس مطلقا ، فكلّ فاسد الوضع فاسد الاعتبار ، ولا عكس ؛ لأنّ القياس قد يكون صحيح الوضع وإن فسد اعتباره بأمر من خارج وهو أيضا قد يرد في غير القياس من الأدلّة. والتفصيل لا يخفى على المتدرّب.

ثمّ إبطال الوضع في القياس إنّما يكون بأربعة وجوه :

الأوّل : دعوى وقوعه فيما يمتنع فيه التعليل ، كالحدود ، والكفّارات ، وأمثالهما.

وجوابه : بيان صحّة التعليل فيه.

الثاني : دعوى وقوعه في مقابلة النصّ ، فيكون باطلا.

وجوابه : أحد الأجوبة المذكورة في فساد الاعتبار.

الثالث : دعوى كون الجامع مناسبا لنقيض الحكم ، كما لو قيل في مسألة النكاح بلفظ الهبة : ما ينعقد به غير النكاح لا ينعقد به النكاح ، كالإجارة ، فيعترض عليه بأنّ انعقاد غير النكاح به يناسب انعقاد النكاح به لا عدم انعقاده به.

وجوابه : القدح في مناسبة المعترض ، أو ترجيح مناسبة على مناسبة ، وإنّما يعتبر القدح في مناسبة الوصف إذا كان مناسبته للحكم ونقيضه من وجه واحد.

وأمّا إن اختلف الوجهان ، فلا يقدح فيها ؛ إذ قد يكون للوصف جهتان يناسب بإحداهما الحكم ، وبالاخرى نقيضه ، ككون المحلّ مشتهى يناسب إباحة النكاح لا راحة الخاطر ، والتحريم لقطع الطمع.

الرابع : دعوى كون الجامع قد ثبت اعتباره بنصّ ، أو إجماع في نقيض الحكم ، كما إذا قيل في التيمّم : مسح فيسنّ فيه التكرار ، كالاستطابة ، فيورد أنّ المسح قد ثبت اعتباره في

٥٥٧

كراهة التكرار على المسح على الخفّ إجماعا.

وجوابه : بيان وجود المانع في أصل المعترض ، فيقول في المثال : مانع التكرار في الخفّ تعرّضه للتلف.

واعلم أنّ فساد الوضع بالوجهين الأوّلين لا يشتبه بشيء من باقي الأسئلة (١). وأمّا بالوجهين الآخرين ، فربما اشتبه بالنقض ؛ من حيث إنّ فيه ثبوت نقيض الحكم مع الوصف ، أو بالقلب ؛ من حيث إنّه إثبات نقيض الحكم بوصف المستدلّ ، أو بالقدح ؛ من حيث إنّه يبقى مناسبة الوصف للحكم.

وينحلّ الاشتباه بأنّ حقيقة فساد الوضع بهذين الوجهين كون الوصف مثبتا للنقيض بأصل غير أصل المستدلّ ، فلا يشتبه بالنقض ؛ لأنّه يقنع فيه بثبوت نقيض الحكم مع الوصف من غير اشتراط كون الوصف هو المثبت للنقيض. ولا بالقلب ؛ لأنّه يثبت فيه النقيض بأصل المستدلّ ، ويثبت في فساد الوضع بأصل آخر. ولا بالقدح بالمناسبة ؛ لأنّه نفي المناسبة بلا أصل ، وفيه ينتفي المناسبة بأصل. هذا.

وما يفترق فيه الخاصّة عن العامّة في الوجوه المذكورة وأجوبتها وكيفيّة ذلك لا يخفى على من أحاط بما قدّمناه.

الجنس الثالث : ما يتعلّق بالمقدّمة الاولى من القياس

وهو حكم الأصل ، ويندرج فيه نوعان :

[ النوع ] الأوّل : منع ثبوت حكم الأصل ، كما إذا قيل : جلد الخنزير لا يقبل الدباغ ؛ للنجاسة الغليظة كالكلب ، فيقال : لا نسلّم أنّ جلد الكلب لا يقبل الدباغ. والحقّ أنّ هذا المنع يسمع ، والقول بعدم سماعه باطل ؛ إذ لا يقوم الحجّة على الخصم مع منع أصله.

وجوابه : إثباته بالدليل.

وما قيل : إنّه قطع للمستدلّ ، فلا يتمكّن من الدلالة على إثباته ؛ لكونه انتقالا (٢) ضعيف ؛

__________________

(١) في « ب » : « الأسولة ».

(٢) حكاه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٧٩.

٥٥٨

لأنّه إثبات مقدّمة ممنوعة من مقدّمات المطلوب ، وليس مثله انتقالا ممنوعا ، وإلاّ كان منع علّيّة العلّة ، أو وجودها في الأصل أو الفرع قطعا ، وليس به قطعا.

نعم ، لو رآه المستدلّ قطعا فهو قطع ؛ إلزاما له بمذهبه. وبه يظهر ضعف ما قيل أيضا : إنّه قطع لو كان ظاهرا ، وإلاّ فلا (١).

وقيل : يتبع في ذلك عرف المكان (٢) ؛ لأنّه أمر وضعيّ يختلف عند الطوائف. وهو أيضا كما ترى.

ثمّ المختار أنّ مجرّد الدلالة من المستدلّ على إثبات المقدّمة الممنوعة ليس قطعا للمعترض ، بل له أن يعترض ، ووجهه ظاهر.

النوع الثاني : التقسيم ، وهو كون اللفظ متردّدا بين أمرين : أحدهما ممنوع فيمنعه. والآخر مسلّم فيصرّح بتسليمه ؛ لعدم الضرر ، أو سكت عنه ؛ لعدم الضرورة. وحاصله أنّه منع بعد تقسيم. وهو لا يختصّ بحكم الأصل ، بل يجري في جميع المقدّمات القابلة للمنع. ولقبوله شرطان :

أحدهما : تساويهما بالنسبة إلى اللفظ ، فلو كان ظاهرا في أحدهما دون الآخر لم يكن للتقسيم معنى.

وثانيهما : أن يكون منعا لما يلزم المستدلّ بيانه. مثاله في الصحيح الحاضر إذا فقد الماء : وجد سبب التيمّم ـ وهو تعذّر الماء ـ فساغ التيمّم ، فيقول المعترض : السبب تعذّر الماء مطلقا ، أو تعذّر الماء في السفر أو المرض ، والأوّل ممنوع. وله السكوت بعد ذلك ، أو يضيف « وغيره مسلّم » ولكنّه لم يوجد في الفرع ، فلا يتمّ المطلوب.

ولو كان منعا لما لا يلزمه بيانه لم يكن مقبولا ، كما لو قال في القاتل العامد الملتجئ إلى الحرم : وجد سبب استيفاء القصاص ، فيجب استيفاؤه ، فيورد : متى هو سبب؟ مع مانع الالتجاء ، أو عدمه؟ والأوّل ممنوع. وإنّما لم يقتل ؛ لأنّ حاصله طلب عدم كون الالتجاء مانعا. والمستدلّ لا يلزمه بيانه ، بل يلزم على المعترض بيان كونه مانعا.

__________________

(١) نسبه الآمدي إلى أبي إسحاق الإسفرائيني في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٨٠.

(٢) نسبه الآمدي إلى الغزالي في المصدر.

٥٥٩

واعلم أنّ أحد الاحتمالين لو كان ممنوعا والآخر مسلّما ، ولم يوجد المسلّم في الفرع ، كما في المثالين ، فوروده ظاهر ، ولو وجد المسلّم فيه فقيل : لا يرد ؛ لأنّ إبطال أحد احتمالي كلام المستدلّ ليس إبطالا له ؛ إذ لعلّ الآخر مراده. وقيل : يرد ؛ إذ به يتعيّن مراده ، وله مدخل في هدم الدليل والتضيّق (١).

والحقّ : أنّه لو لم يكن فرق بينهما بوجه في إثبات الحكم بهما في الفرع ، لم يرد ، ولو ورد كان استفسارا ، ولو وجد بينهما فرق فيه بحيث لو منع أحدهما لم يمكنه تتميم الدليل بالآخر كان واردا ، ولو كانا مشتركين في المنع أو التسليم لم يرد التقسيم ، سواء كان الموجود في الفرع أحدهما ، أو كليهما ؛ لعدم الفائدة فيه.

والقول بوروده في صورة اشتراكهما في التسليم إذا اختلفا فيما يرد عليهما من القوادح ضعيف ؛ لأنّه لو ورد حينئذ لم يكن تقسيما.

واعلم أنّه على ما ذكر من كون التقسيم منعا بعد ترديد فهو مركّب من الاستفسار والمنع ، فيأتي فيه مجموع ما يأتي فيهما من الأبحاث وكيفيّة الجواب.

الجنس الرابع : ما يتعلّق بالمقدّمة الثانية من مقدّمات القياس

وهي العلّة. وأنواعه ثلاثة عشر :

[ النوع ] الأوّل : منع وجود العلّة في الأصل ، كما إذا قيل في الكلب : حيوان يغسل من ولوغه سبعا ، فلا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير ، فمنع وجوب الغسل سبعا من ولوغ الخنزير.

وجوابه : إثباتها فيه بما هو طريق إثباته (٢) من دليل شرعيّ إن كانت شرعيّة ، وعقليّ إن كانت عقليّة ، وحسّيّ إن كانت حسّية. ففي المثال لمّا كانت شرعيّة ، يلزم أن يثبت وجودها بدليل شرعيّ.

النوع الثاني : منع علّيّتها ، وهو سؤال المطالبة ؛ إذ حاصل المنع والمطالبة بالدليل واحد ؛ فإنّه لا فرق بين أن يقال : لا نسلّم أنّ الوصف الفلاني علّة ، أو لم قلت : إنّه علّة؟ وهو

__________________

(١) حكاهما الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٨٢ و ٨٣.

(٢) أي إثبات الأصل.

٥٦٠