أنيس المجتهدين - ج ١

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ١

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0281-3
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٨٤
الجزء ١ الجزء ٢

النوع الثاني : الخاصّ والعامّ مطلقا ، كالإنسان والحيوان. ويجري فيه الصنف الأوّل بالشقّ الثاني ، أي التلازم بين الوجوديّين طردا فقط ، فيصدق : كلّ ما كان إنسانا كان حيوانا ، دون العكس. ويجري فيه الصنف الثاني عكسا ، فيصدق : كلّ ما لم يكن حيوانا لم يكن إنسانا ، ففيه يلزم من استثناء عين الملزوم عين اللازم ، ونقيض اللازم نقيض الملزوم ، فيلزمه نتيجتان ، فالتلازم في الصنف الأوّل يثبت بطرده ، ويتقوّى بعكس الصنف الثاني. ولا يجري فيه الصنفان الآخران ؛ لمنافاتهما للعموم والخصوص.

النوع الثالث : المتنافيان طردا وعكسا ، أي إثباتا ونفيا ، كالزوجيّة والفرديّة ؛ فإنّهما لا تجتمعان ولا ترتفعان. ويجري فيه الصنفان الآخران بالشقّ الأوّل ـ أي تلازم الوجوديّ والعدميّ وبالعكس ـ طردا وعكسا ، فيصدق : لو كان زوجا لم يكن فردا ، ولو كان فردا لم يكن زوجا ، ولو لم يكن زوجا كان فردا ، ولو لم يكن فردا كان زوجا ، وفيه تنافيان ، وفي كلّ منهما لازمان (١) ، فيلزم باعتبار التنافي إثباتا أن يكون وجود كلّ منهما مستلزما لعدم الآخر ، فيلزم من استثناء كلّ واحد منهما نقيض الآخر. وباعتبار التنافي نفيا أن يكون عدم كلّ منهما مستلزما لوجود الآخر ، فيلزم من استثناء نقيض كلّ منهما عين الآخر ، فيلزمه أربع نتائج ، فالتلازم في أحد الصنفين فيه يثبت بطرده ، ويتقوّى بعكسه ، وبالصنف الآخر طردا وعكسا. ولا يجري فيه الصنفان الأوّلان ، ووجهه ظاهر.

النوع الرابع : المتنافيان طردا فقط ، أي إثباتا ، كالحيوان والجماد ؛ فإنّهما لا يجتمعان وقد يرتفعان ، كما في الشجر. ويجري فيه الصنف الثاني بالشقّ الأوّل ـ أي تلازم الوجوديّ والعدميّ ـ طردا وعكسا ، فيصدق : كلّما كان حيوانا لم يكن جمادا ، وكلّما كان جمادا لم يكن حيوانا. ولا يجري فيه الصنف الرابع ، فلا يصدق : كلّ ما لم يكن حيوانا كان جمادا ، وكلّ ما لم يكن جمادا كان حيوانا ، فيلزم من استثناء كلّ واحد منهما نقيض الآخر لا غير ، فيلزم نتيجتان ، فيثبت التلازم (٢) فيه بالطرد ، ويتقوّى بالعكس. وعدم جريان الصنفين الأوّلين فيه مطلقا ظاهر.

__________________

(١) في « ب » : « تلازمان ».

(٢) في « ب » : « اللازم ».

٤٢١

النوع الخامس : المتنافيان عكسا فقط ، أي نفيا ، كاللارجل واللاامرأة ؛ فإنّهما لا يرتفعان وقد يجتمعان ، كما في الشجر مثلا. ويجري فيه الصنف الرابع بالشقّ الأوّل ـ أي تلازم العدميّ والوجوديّ ـ طردا وعكسا ، فيصدق : كلّما لم يكن بلا رجل فهو لا امرأة ، وكلّما لم يكن بلا امرأة فهو لا رجل. ولا يجري فيه الصنف الثالث ، فلا يصدق : كلّ ما كان بلا رجل لم يكن بلا امرأة ، وكلّ ما كان بلا امرأة لم يكن بلا رجل ، فيلزم من استثناء نقيض كلّ منهما عين الآخر لا غير ، فيلزمه أيضا نتيجتان ، ويثبت التلازم فيه بالطرد ، ويتقوّى بالعكس. وعدم جريان الصنفين الأوّلين فيه أيضا ظاهر.

[ الأمر ] الرابع : لا يخفى في حجّيّة التلازم إذا علم ثبوته شرعا أو عقلا ، وعلم تحقّق الملزوم من نفي أو إثبات أيضا ، فمن ادّعى التلازم في حكمين ، وأثبت تحقّقه وتحقّق الملزوم بالشرع أو العقل ، فلا كلام معه ، وإلاّ فللمانع منعهما.

وفي التلازم شبهة مشهورة ، وهي أنّه إمّا معدوم في الخارج ، أو موجود فيه. والأوّل باطل ؛ لأنّه لا فرق بين التلازم العدميّ وعدم التلازم ؛ لعدم التمايز بين المعدومات. والثاني أيضا باطل ؛ لأنّه مغاير للطرفين ؛ لإمكان تعقّلهما بدونه ، ولكونه نسبة ، والنسبة مغايرة للطرفين ، وحينئذ لا يخلو إمّا أن يلزم ذلك التلازم لأحدهما ، أو كليهما ، أم لا.

فعلى الأوّل ينقل الكلام إلى التلازم الثاني ، ويلزم التسلسل في الملازمات الموجودة في الخارج.

وعلى الثاني يمكن ارتفاعه عن المتلازمين ، فيلزم جواز الانفكاك بينهما ، فيلزم انهدام اللزوم على فرض وجوده ، هذا خلف.

والجواب : اختيار كونه معدوما ، ومنع كون التمايز من خواصّ الموجودات الخارجيّة ؛ لأنّه يوجد في غيرها أيضا ، كما بين عدمي العلّة ومعلولها ، وبين عدمي الشرط والمشروط به.

فإن قيل من رأس : لو لم يكن التلازم موجودا في الخارج ، فإمّا أن يمتنع الانفكاك بين المتلازمين فيه ، أم لا ، فعلى الأوّل يلزم تحقّق وجود التلازم في الخارج على تقدير انتفائه فيه. وعلى الثاني ينهدم التلازم.

٤٢٢

قلنا : نختار امتناع الانفكاك بينهما في الخارج ، بمعنى كون الخارج ظرفا لنفسه لا لوجوده ، وحينئذ لا يلزم وجود التلازم في الخارج ، بمعنى كون الخارج ظرفا لوجوده ، ولا (١) نفيه فيه بالكلّية ؛ إذ لا يلزم من انتفاء مبدأ المحمول انتفاء الحمل الخارجي ؛ فإنّ العمى معدوم في الخارج ، مع أنّ الأعمى يحمل على موضوعه حملا خارجيّا.

ولا يخفى أنّ هذه الشبهة إمّا أن تستلزم رفع التلازم ، أو لا. فعلى الأوّل يثبت التلازم ، وعلى الثاني لا يعتدّ بها.

إذا عرفت ذلك ، فلنذكر من كلّ صنف مثالا من الأحكام الشرعيّة ليظهر كيفيّة التفريع :

فالأوّل كما يقال : من سافر أربعة فراسخ ناويا للرجوع في يومه يجب عليه الإفطار ؛ لوجوب القصر عليه. وثبوت الملازمة بينهما بالنصّ والاستقراء.

والنصّ قوله عليه‌السلام : « إذا قصّرت أفطرت ، وإذا أفطرت قصّرت » (٢). فبالنصّ يثبت الملازمة بالطرد ، ويتقوّى بالعكس ، ويعكس إذا عكست. ولا يتقوّى بالتلازم بين عدميهما طردا وعكسا ؛ لعدم تناول النصّ له.

والاستقراء هو أنّا تتبّعنا فوجدنا [ أنّ ](٣) كلّ موضع يجب فيه القصر يجب فيه الإفطار وبالعكس ، ووجدنا [ أنّ ](٤) كلّ موضع لا يجب فيه القصر ، لا يجب فيه الإفطار وبالعكس ، فبالاستقراء يثبت التلازم بالطرد ، ويتقوّى بالعكس وبالتلازم بين عدميهما طردا وعكسا.

وحاصله ثبوت الحكم بدوران وجوب القصر مع وجوب الإفطار وجودا وعدما.

وقد تقرّر بوجه آخر : وهو أنّه يثبت أحد الأثرين فيثبت المؤثّر ، وبثبوته يثبت الأثر الآخر. أو يقال : قد ثبت أحد الأمرين ، فيلزم ثبوت الآخر ؛ للزوم ثبوت المؤثّر للثابت واستلزامه للآخر ، ولمّا لم يغيّر (٥) المؤثّر لا ينتقل إلى قياس العلّة.

[ المثال ] الثاني : كما يقال : لا يصحّ هذا التيمّم لعدم اشتماله على النيّة ؛ لعدم صحّة الوضوء بدونها ، وثبوت الملازمة بينهما في الأحكام. أمّا الأوّل فظاهر. وأمّا الثاني

__________________

(١) عطف على وجود التلازم.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٤١٩.

(٣ و ٤) اضيف للضرورة.

(٥) في « ب » : « لم يعيّن ».

٤٢٣

فبالاستقراء ، وهو أنّا تتبّعنا فوجدنا [ أنّ ] كلّ ما لا يصحّ الوضوء بدونه ، لا يصحّ التيمّم بدونه وبالعكس. وكذا وجدنا التلازم بين صحّة الوضوء وصحّة التيمّم طردا وعكسا ، فيثبت المطلوب بالطرد ، ويتقوّى بعكسه وبالتلازم بين الصحّتين طردا وعكسا. ويرجع أيضا إلى الدوران. وقد تقرّر بأنّ انتفاء أحد الأثرين يوجب انتفاء المؤثّر فينتفي الأثر الآخر. أو يقال : قد انتفى أحد الأثرين ، فيلزم انتفاء الأثر الآخر ؛ للزوم انتفاء المؤثّر. وربّما يمنع التلازم هنا ؛ لعدم حجّيّة الاستقراء ، أو لعدم تماميّته هنا.

[ المثال ] الثالث : كالمباح وعدم الحرمة.

[ المثال ] الرابع : بالعكس. ويقرّر (١) التلازم فيهما بثبوت التنافي بين المباح والحرمة.

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ ثبوته فيهما بما ذا ، وتقوّيه بما ذا.

تذنيب

الدوران هو ترتّب الشيء على الشيء الذي له صلوح العلّيّة وجودا ، كترتّب الملك على الهبة (٢) ، أو عدما ، كجواز الصلاة بالنسبة إلى الطهارة (٣) ، أو معا ، كوجوب الرجم على الزنا. ويسمّى الأوّل دائرا ، والثاني مدارا.

وهو أخصّ مطلقا من الملازمة المطلقة ، أي الشاملة للكلّية والجزئيّة ، والواقعة بين الحكمين والمفردين ؛ لعدم انفكاك الدوران عن مطلق اللزوم ؛ لأنّ بين كلّ شيئين حتّى النقيضين ملازمة جزئيّة ، فضلا عن المتداورين ، وصدقها بدونه في استلزام وجود المعلول وجود علّته (٤).

وقد حكم جماعة بأنّ بينهما عموما وخصوصا من وجه ، وهم بين من خصّ الملازمة بالكلّيّة الحكميّة (٥) ، ومن خصّها بالكلّيّة حكميّة كانت أو لا (٦) ، ومن خصّها بالحكميّة كلّيّة

__________________

(١) في « ب » : « تقرّر التلازم ».

(٢) لأنّه عند انتفاء الهبة لا ينتفي الملك ؛ فلعلّه حصل لسبب آخر.

(٣) لأنّ عدم الصلاة وبطلانها يترتّب على عدم الطهارة ، وأمّا وجودها لا يترتّب على وجودها.

(٤) استلزام وجود المعلول لوجود العلّة يختصّ بمقام الإثبات والاستدلال الإنّي دون الثبوت.

(٥) قاله الأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ١٢٣. ونسبه أيضا إلى أصحاب الرأي.

(٦) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٣٣٠. ونسبه أيضا إلى المحقّقين وبعض الاصوليّين.

٤٢٤

كانت أو جزئيّة (١) ، فافتراقه عنها عند الأوّل في صورتين :

الاولى : أن يكون الدائر والمدار فيها مفردين.

والثانية : أن يكون ترتّب الدائر على المدار فيها أكثريّا لا كلّيّا دائميّا ، كالإسهال بالنسبة إلى شرب السقمونيا. وعند الثاني في الثانية. وعند الثالث في الاولى.

ومواضع اجتماعهما وافتراقها عنه على كلّ من التقادير الثلاثة ظاهرة.

وقد يأتي للدوران زيادة بيان في بحث القياس (٢).

فصل [٨]

وممّا عدّه بعضهم من النوع الثاني (٣) الاستقراء ، وهو الحكم على الطبيعة الكلّيّة بما وجد في جزئيّاتها (٤). وحاصله الاحتجاج بالجزئي على الكلّي.

وهو إمّا تامّ إن كان ما ثبت للكلّي حاصلا لجميع الجزئيّات ، وهو القياس المقسّم ، كقولنا : كلّ جسم إمّا حيوان أو نبات أو جماد ، وكلّ منها متحيّز ، فكلّ جسم متحيّز ، وهو يفيد اليقين.

أو غير تامّ إن لم يكن حاصلا لجميعها ، وهو لا يفيد اليقين ، بل إمّا يفيد الظنّ إن كان حاصلا لأكثرها ، كالحكم على كلّ زنجيّ بأنّه أسود ، وهذا الظنّ يتفاوت بتفاوت الأكثريّة ، فيتّصل أحد طرفيه باليقين والآخر بالشكّ ، أو لا يفيد الظنّ أيضا إن لم يكن حاصلا لأكثرها.

وإذا عرفت ذلك تعلم أنّ القسم الأوّل ينتهض حجّة ودليلا في الشرعيّات وغيرها ، إلاّ أنّ وجود مثله فيها نادر. والثالث لا يصلح للتأييد فضلا عن الحجّيّة فيهما ، وهو ظاهر. والثاني لا ينتهض دليلا قاطعا ؛ لجواز أن يخالف حال ما لم يوجد حال ما وجد ؛ إذ لا تعلّق بينهما ؛ ولاختلاف موارد الأحكام ، فلا يلزم من ثبوتها لبعض الأعيان ثبوتها في الباقي ، ولكن بعض موارده الذي يفيد غلبة الظنّ يصلح للحجّيّة ، وغيره يصلح للتأييد والتقوية.

__________________

(١) قاله العلاّمة في تهذيب الوصول : ٢٥٧.

(٢) يأتي في ص ٤٤٥.

(٣) أي ما يعتمد عليه وينتهض دليلا لإثباته وقد تقدّم في ص ٣٨٦.

(٤) قاله الأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٣٧٧.

٤٢٥

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ غلبة الظنّ في ذهن المجتهد ترجّح إرادة الشارع لتعميم الحكم ، فالمخالفة تؤدّي إلى ترجيح المرجوح ؛ على أنّ الإجماع منعقد على جواز عمل المجتهد بظنّه ، وقد سبق (١) أنّه لو لم يعمل به لزم تعطيل الأحكام ، وسدّ أبواب الحلال والحرام ، فالعمل به من باب الرخصة الناشئة عن الضرورة في زمن الغيبة ، وإلاّ فدين الله أجلّ من أن لا ينصب عليه قاطع يعرفه إمام عادل.

لا يقال : الظنّ الذي يجوز العمل به إنّما هو الحاصل عن أمارة شرعيّة دون غيره.

لأنّا نقول : لو سلّم هذا ، فما نحن فيه أيضا منه ، وهو ظاهر.

وأمّا الثاني فواضح بعد ما ذكر.

وكيفيّة التفريع : أنّه لو اختلف في الوتر فنقول : إنّه مندوب ؛ لأنّ ما وجدنا من أفراد الصلوات الواجبة لا يجوز أن يؤدّى على الراحلة ، فثبت منه أنّ كلّ صلاة واجبة كذلك ، والوتر يجوز أن يصلّى على الراحلة بالإجماع ، فلا يكون واجبا.

فصل [٩]

ومن النوع الثالث (٢) الاحتياط. وقد عرفت معناه والفرق بينه وبين التوقّف.

وقد اختلفوا في وجوب العمل به ، فالأخباريّون على وجوبه فيما لا نصّ فيه ، وفيما تعارض فيه النصّان بعد عدم الظفر بمرجّح (٣). والمجتهدون ـ لمّا قالوا بحجّيّة البراءة الأصليّة مع عدم الدلالة الناقلة ، وبالتخيير فيما تعارض فيه النصّان مع عدم المرجّح ـ ذهبوا إلى استحبابه فيهما (٤) ، وهو الحقّ.

وقيل بعدم مشروعيّته أصلا (٥).

وقيل بالوجوب مع العلم باشتغال الذمّة (٦) ، أي فيما يثبت وجوبه ، كالصلاة المنسيّة

__________________

(١) تقدّم في ص ٣٥٠.

(٢) أي ما لا يعتمد عليه وقد تقدّم في ص ٣٨٦.

(٣) قاله الاسترآبادي ، ونسبه أيضا إلى قدماء الأخباريّين في الفوائد المدنيّة : ١٠٤.

(٤) قاله الوحيد البهبهاني ، ونسبه أيضا إلى المجتهدين في الفوائد الحائريّة : ٤٤٦ ، الفائدة ٢١.

(٥) قاله المحقّق الحلّي في معارج الاصول : ٢١٦ ، وقال : « العمل بالاحتياط غير لازم ».

(٦) نسبه المحقّق الحلّي إلى جماعة في معارج الاصول : ٢١٦ ، وقاله أيضا الفاضل التوني في الوافية : ١٧٨.

٤٢٦

فيجب الخمس احتياطا ، أو كان ثبوته هو الأصل ، كصوم ثلاثين إذا غمّ الهلال ؛ إذ الأصل بقاء رمضان.

وغير خفيّ أنّه راجع إلى الاستصحاب الذي لا ريب في حجّيّته. والمجتهدون أيضا قالوا بالوجوب فيه ، لكنّهم لا يطلقون عليه اسم الاحتياط (١).

لنا : أمّا على عدم الوجوب ، فجميع الأدلّة المتقدّمة (٢) الدالّة على البراءة الأصليّة ، وقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ )(٣) ، وقوله : ( يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ )(٤) ، و ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(٥). وفتح باب الاحتياط ينافي اليسر والتخفيف ويؤدّي إلى الحرج.

وأمّا على استحبابه ، فاستفاضة الأخبار الواردة في موارد مختلفة بالأخذ به ، وهي دائرة بين دالّة على الأخذ بمطلقه (٦) ، ودالّة على الأخذ به فيما لا نصّ فيه (٧) ، ودالّة على الأخذ به فيما تعارض فيه النصّان (٨) ، ودالّة على الأخذ به عند الشبهة في الموضوع (٩) ، وقوله تعالى :

( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(١٠) ، و ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ )(١١) ، و ( جاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ )(١٢) ، و ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ )(١٣).

وقد تقدّم (١٤) أنّ أخبار الاحتياط لم تبلغ حدّا يقاوم أدلّة البراءة وتغلبها ـ وإن كانت

__________________

(١) قاله الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : ٤٤٥ ، الفائدة ٢١.

(٢) تقدّمت في ص ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

(٣) البقرة (٢) : ١٨٥.

(٤) النساء (٤) : ٢٨.

(٥) الحجّ (٢٢) : ٧٨.

(٦) الكافي ١ : ٦٦ ، باب اختلاف الحديث ، ح ٧.

(٧) تهذيب الأحكام ٥ : ٤٦٦ ، ح ١٦٣١.

(٨) الكافي ١ : ٦٨ ، باب اختلاف الحديث ، ح ١٠.

(٩) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٥٩ ، ح ١٠٣١.

(١٠) التغابن (٦٤) : ١٦.

(١١) آل عمران (٣) : ١٠٢.

(١٢) الحجّ (٢٢) : ٧٨.

(١٣) المؤمنون (٢٣) : ٦٠.

(١٤) تقدّم في ص ٣٩١.

٤٢٧

معاضدة بأخبار التوقّف ـ فيجب حملها على الاستحباب ؛ لئلاّ يلزم طرحها. وفي بعضها دلالة عليه (١). ومنه يظهر فساد القول الثالث.

ثمّ الاحتياط إمّا أن يكون فيما لا نصّ فيه ، أو فيما تعارض فيه النصّان. وكلّ منهما إمّا في نفس الحكم أو موضوعه. والحاصل أربعة. وكلّ منها إمّا أن يتحقّق بفعل واحد ، أو أفعال متعدّدة ، أو بالترك. فالأقسام اثنا عشر. وتعيين مواقع كلّ من الثلاثة الأخيرة مع أمثلة الكلّ واضح.

وممّا ينبغي أن ينبّه عليه أنّ الحكم إذا كان دائرا بين الحرمة وغيرها من الأحكام وإن كان وجوبا فالاحتياط فيه بالترك ؛ لدلالة بعض الأخبار عليه ، كرواية ابن حنظلة (٢) ، وموثّقة سماعة (٣).

والاستدلال عليه بأنّ دفع الضرّ أهمّ من جلب النفع (٤) ، يرد عليه أنّ الضرر يترتّب على ترك الواجب أيضا ، فالمناط ما ذكرناه.

هذا ، والذي يقوى في نفسي أنّ الاحتياط يستحبّ في مطلق ما لم يقطع به وإن صار راجحا بحسب الظنون الاجتهاديّة ، سواء كان في نفس الحكم ، أو موضوعه. وفيما تعارض فيه النصّان أو غيره ؛ لدلالة بعض العمومات والإطلاقات عليه ؛ ولأنّ وضع الأحكام الإلهيّة لأجل ترتّب المصالح والتأثيرات الواقعيّة عليها ، كما ذهب إليه العدليّة (٥) ، وهي إنّما تترتّب على الحكم الواقعي ، ولا ريب في حسن السعي في تحصيلها بتحصيل ما ترتّب عليه ، والقطع بتحصيله فيما لا طريق للعلم إليه إنّما هو بالاحتياط.

وإذا أحطت بما قصصنا عليك خبرا ، سهل عليك التفريع.

__________________

(١) تقدّم في ص ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

(٢) الكافي ١ : ٦٧ ، باب اختلاف الحديث ، ح ١٠.

(٣) المصدر : ٦٦ ، باب اختلاف الحديث ، ح ٧.

(٤) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٢٥٩.

(٥) راجع : معارج الاصول : ٢٢٢ ، وكشف المراد : ٣٣ ، الباب الحادي عشر : ٢٦ ، مفتاح الباب ١٥٢ في مبحث العدل. والمراد من العدليّة : المعتزلة والإماميّة.

٤٢٨

فصل [١٠]

ومن النوع الثالث (١) الاستحسان. وقد اختلف الباحثون عنه في حقيقته.

فقيل : دليل ينقدح في نفس المجتهد ويعسر عليه التعبير عنه (٢).

وقيل : العدول من حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس (٣).

وقيل : تخصيص قياس بدليل أقوى منه (٤).

وقيل : العدول عن قياس إلى قياس أقوى منه (٥).

وقيل : العدول إلى خلاف حكم النظير بدليل أقوى منه (٦).

قيل : على هذه التفاسير لا يتحقّق استحسان مختلف فيه ، لأنّ بعضها مقبولة وفاقا ، وبعضها مردّدة بين ما هو مقبول وفاقا وبين ما هو مردود كذلك.

والأوّلان من الثاني (٧).

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ الدليل المنقدح إن كان من الأدلّة المعتبرة في الشرع وكان المجتهد متحقّقا بثبوته ، فيجب عليه العمل به وفاقا ، وإلاّ فيجب عليه ردّه وفاقا.

وأمّا الثاني ؛ فلأنّ العادة إن كانت من العادات الجارية في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عصر الصحابة مع عدم إنكارهم ، فهي من السنّة ويجب قبولها وفاقا ، ومنها العدول عن مقتضى الإجارات في دخول الحمّام من غير تعيين مدّة المكث ومقدار الماء المسكوب والاجرة ، وشرب الماء من السقاء من غير تعيين الماء وعوضه.

وإن كانت من غيرها ، فإن دلّ على قبولها دليل ثبت حجّيّته ، فثبتت به ولا ريب حينئذ في قبولها ، وإلاّ فيجب ردّها اتّفاقا.

والبواقي من الأوّل.

__________________

(١) أي ما لا يعتمد عليه. وقد تقدّم في ص ٣٨٦.

(٢ ـ ٥) نسبه الآمدي إلى أصحاب أبي حنيفة في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٦) حكاه الآمدي عن الكرخي في المصدر : ١٦٤.

(٧) للمزيد راجع : المعتمد ٢ : ٢٩٦ ، وفواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى ٢ : ٣٢١ ، والإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٦٢ ـ ١٦٦ ، ومنتهى الوصول : ٢٠٨ ، ونهاية السؤل ٤ : ٣٨٥ ، والإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٦٢ و ١٦٣.

٤٢٩

أمّا الثاني (١) ، فظاهر. وكذا الثالث عند من يعمل بالقياس.

وأمّا الرابع ؛ فلأنّ العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لدليل أقوى ممّا لا ريب فيه ، ولذا اتّفق عليه الكلّ ، ومنه العدول عن حكم العموم والإطلاق للمخصّص والمقيّد.

فظهر أنّ الاستحسان بكلّ من هذه المعاني لا يقبل النزاع ، فإن أظهر الخصم استحسانا يصلح أن يكون محلاّ للنزاع ، يردّ بأنّه لا دليل عليه ، فليس بحجّة.

أقول : الاستحسان : استفعال من الحسن ، أي عدّ الشيء حسنا. ويطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني والأفعال.

والظاهر أنّ من قال بحجّيّته ـ وهم الحنفيّة (٢) والحنابلة (٣) ـ أرادوا منه إثبات الحكم بمجرّد كونه مستحسنا عند المجتهدين من غير دليل من قبل الشارع ، ولذا أنكره غيرهم من الخاصّة والعامّة ، حتّى قال الشافعي : « من استحسن فقد شرّع » (٤). وحينئذ يكون تعريفه الصحيح عندهم أحد الأوّلين ، ويكون مرادهم من الدليل المنقدح ما يختلج ببال المجتهد ويستحسنه وإن لم يكن من الأدلّة المعتبرة المعروفة ، ومن العادة ما لم يثبت من سنّة ، ولا من دليل آخر واستحسنه المجتهد بوجه آخر.

والتعريف الأوّل ناظر إلى ثاني المعنيين اللذين ذكرناهما ، ويعمّ جميع أفراد الاستحسان.

والثاني ناظر إلى أوّلهما ويخصّ بعض أفراده. والتعريفات الباقية صدرت هفوة ممّن لم يحصّل مرامهم.

وحمل النزاع على اللفظي ينافي طول التشاجر بينهم وبين سائر المسلمين في إثباته وتزييفه ، وإفراد الفريقين مبحثا خاصّا له في كتبهم ؛ مع أنّ إطلاق الاستحسان على ما هو مقبول شرعا لا يقبل النزاع ؛ لإطلاقه عليه في قوله تعالى : ( فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ )(٥) ، وقوله

__________________

(١) كذا في النسختين ، والظاهر تبديل « الثاني » و « الثالث » و « الرابع » بالثالث والرابع والخامس ؛ لأنّها المراد من البواقي.

(٢ و ٣) راجع : المعتمد ٢ : ٢٩٦ ، وفواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى ٢ : ٣٢١ ، ونهاية السؤل ٤ : ٣٩٨.

(٤) حكاه عنه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٦٢.

(٥) الزمر (٣٩) : ١٨.

٤٣٠

تعالى : ( وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها )(١) ؛ فالنزاع معنوي ، وتحريره ما حرّرناه. ولا استبعاد في صدور مثله عن مثلهم ؛ لأنّه ليس أوّل قارورة كسرت في الإسلام.

وما أوقعهم في ذلك الآيات الدالّة على لزوم الأخذ بالأحسن ، كالآيتين المذكورتين ، وقوله تعالى : ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ )(٢) ، حيث دلّت على ترك بعض واتّباع بعض بمجرّد كونه أحسن ، وهو معنى الاستحسان.

والجواب : أنّ المراد من الأحسن الأظهر والأولى ، أو الراجح عند التعارض.

وبقوله (٣) عليه‌السلام : « ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن » (٤) دلّ على أنّ ما يراه الناس بعقولهم وعاداتهم مستحسنا ، فهو حسن في الواقع.

والجواب : المسلمون صفة عموم ، فيدلّ على حسن ما يراه جميع المسلمين حسنا.

فصل [١١]

ومن النوع الثالث (٥) المصالح المرسلة.

اعلم أنّ المصلحة هي ما يوافق (٦) الإنسان لدنياه أو لآخرته أو لهما ، وحاصله جلب نفع أو دفع ضرّ.

ولها تقسيمات باعتبارات ربّما تأتي في بحث القياس ، وباعتبار شهادة الشرع لها بالاعتبار وعدمه ثلاثة أقسام : معتبرة ، وملغاة ، ومرسلة.

فالاولى : ما شهد الشرع باعتباره ، كحفظ الخمسة الضروريّة ، أي الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال ، وهو من المصالح المعتبرة في كلّ الشرائع والأديان ، ولذا حرّم في جميعها ما يؤدّي إلى فسادها ، واوجب ما يفضي إلى بقائها.

والثانية : ما شهد الشرع بإلغائه ، كما إذا قيل : الغنيّ يكفّر عن الوطء في نهار رمضان

__________________

(١) الأعراف (٧) : ١٤٥.

(٢) الزمر (٣٩) : ٥٥.

(٣) عطف على قوله : « بالأحسن » أي لزوم الأخذ بالأحسن وبقوله عليه‌السلام.

(٤) مسند أحمد ١ : ٦٢٦ ، ح ٣٥٨٩.

(٥) أي ما لا يعتمد عليه ، وقد تقدّم في ص ٣٨٦.

(٦) أي يوافقه الإنسان. وفي « ب » : « توافق ».

٤٣١

عمدا بصوم شهرين تحتّما ؛ لأنّ ذلك أزجر له عن المعاودة.

الثالثة : ما لم يشهد له الشرع بالاعتبار ولا الإلغاء. وهذه إن كانت لها مفسدة راجحة أو مساوية ، كانت ملغاة. وإن خلت عنها أو كانت راجحة ، فقد اختلف في حجّيّتها وصلاحيتها لإثبات حكم شرعي بها ، فذهب أصحابنا (١) والحنفيّة والشافعيّة إلى عدم حجّيّتها (٢) ، ونقل عن مالك القول بحجّيّتها حتّى قال : يضرب المتّهم بالسرقة محافظة على المال (٣). وأنكر أصحابه ذلك عنه (٤).

لنا : أنّا نرى أنّ الشرع ألغى بعض المصالح واعتبر بعضها ، والمرسلة متردّدة بينهما ، وإلحاقها بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيجب الوقف عنها ، ولا يصحّ الاحتجاج بها.

احتجّ الخصم بأنّ الشرعيّات مبنيّة على المصالح ؛ لأنّ الحكمة باعثة على رعايتها ، فإذا وجد في شيء مصلحة صافية أو راجحة ، يجب أن يكون مشروعا ؛ لتعلّق داعي الحكمة به.

وبأنّ عدم اعتبارها يؤدّي إلى خلق قضايا كثيرة عن الحكم ؛ لعدم مساعدة الأدلّة المعروفة في الكلّ (٥).

والجواب عن الأوّل : أنّ الحكمة باعثة على رعاية المصالح إذا قطع بخلوّها عن جميع المفاسد ، والمقدّر عدم القطع ؛ لما مرّ (٦). وظنّ الخلوّ لا يكفي ؛ لأنّه ليس من الظنّ المعتبر في الأحكام ، وهو الحاصل عن أمارة شرعيّة.

وعن الثاني ظاهر.

ثمّ اعلم أنّ الفعل إمّا أن يشتمل على مصلحة صافية ، أو مفسدة صافية ، أو عليهما (٧) معا ، وهذه إمّا أن تكون مصلحة راجحة على مفسدته ، أو بالعكس ، أو مساوية لها. أو لا يشتمل

__________________

(١) راجع معارج الاصول : ٢٢١ و ٢٢٢.

(٢) حكاه الآمدي عن فقهاء الحنفيّة والشافعيّة في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٦٧ ، والأسنوي في نهاية السؤل ٤ : ٢٨٦.

(٣) حكاه عنه المطيعي في سلّم الوصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٣٨٧.

(٤) حكاه الآمدي عن أصحاب مالك في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٦٧.

(٥) حكاه المحقّق الحلّي عن مالك في معارج الاصول : ٢٢٢.

(٦) مرّ آنفا.

(٧) أي على مجرّد المصلحة والمفسدة بدون قيد « صافية » وإلاّ يلزم التناقض.

٤٣٢

على شيء منهما. فالأقسام ستّة ، وكلّ منها يمكن أن يشتمل تركه بالترديد على الأقسام المذكورة ، فيصير الحاصل ستّة وثلاثين.

ثمّ المتحقّق في كلّ واحد منها ـ من المصلحة والمفسدة وجودا وعدما ـ إمّا قطعيّ أو ظنّيّ ، وعلى التقديرين إمّا كلّيّ أو جزئيّ ، وعلى التقادير إمّا أن يكون المصلحة ضروريّة ـ أي ليس لها بدل ـ أو لا ، فيرتقي الأقسام إلى حدّ لا يحصى كثرة. ولا ريب في حجّيّة مصلحة صافية قطعيّة ضروريّة ، كلّيّة كانت أو جزئيّة إذا لم يشتمل تركها قطعا على مصلحة مطلقا ، سواء اشتمل على مفسدة أو لا ؛ لأنّها تكون معتبرة ؛ لأنّ كلّ مصلحة صافية قطعيّة معتبرة عند الشرع والعقل. والمرسلة ما كانت متردّدة بين المعتبرة والملغاة إمّا لعدم القطع بكونها مصلحة في نفسها ، أو لأدائها إلى مفسدة. وغيرها من الأقسام ليس بحجّة. ووجهه ما تقدّم (١).

ولنذكر مسألة فرعيّة ليعرف كيفيّة التفريع ، مثلا إذا مرضت حامل وقطع بكون إخراج الدم ـ لا غير ـ شفاء لها ، وعلم عدم أدائه إلى فساد الحمل يجب فعله. وإن لم يقطع به أو قطع به وعلم بدله أو فساد الحمل ، لم يجب.

وقال بعضهم بحجّيّتها إذا كانت ضروريّة قطعيّة كلّيّة وإن أدّت إلى مفسدة اخرى ، قالوا : إذا تترّس الكفّار من أهل الحرب بالاسارى من المسلمين ، يجوز رميهم وإن أدّى إلى تلف الاسارى ؛ إذا علم أنّه إن (٢) لم يرموا ظهروا على الإسلام ، وهذه ضروريّة ؛ لأنّ دفعهم لا يمكن بدون الرمي ، وقطعيّة ؛ لأنّ الرمي بدفعهم قطعيّ ، وكلّية ؛ لأنّ الضرر يعمّ المسلمين (٣).

وهذا القول ظاهر الفساد ؛ لأنّ الشارع قد نهى عن المفسدة المترتّبة مطلقا ، فكيف يكلّف بما يؤدّي إليها؟! وجواز الرمي عند التترّس لو صحّ ـ كما قال به أصحابنا (٤) ـ فإنّما هو بدليل من خارج ، ولذا لم يجوّزوا قتل من قطع بأنّه لو لم يقتل صار سببا لقتل جماعة بالسعاية عند ظالم ، وعلى القول المذكور يلزم وجوب قتله.

__________________

(١) تقدّم في ص ٤٢٨.

(٢) في « ب » : « إذا ».

(٣) نسبه الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٦٧ ، إلى مالك في مبحث « المصالح الضروريّة الكلّيّة الحاصلة قطعا » وحكاه المحقّق الحلّي في معارج الاصول : ٢٢٣ ، وذهب إليه البيضاوي في منهاج الاصول المطبوع مع نهاية السؤل ٤ : ٣٨٧ ، واختاره الأسنوي ونسبه أيضا إلى إمام الحرمين في نهاية السؤل ٤ : ٣٨٧.

(٤) راجع رياض المسائل ٨ : ٧٣.

٤٣٣

الباب الخامس

في القياس

وفيه فصول :

فصل [١]

القياس لمّا كان عند من يعمل به من الأدلّة العقليّة ، فكان الأليق أن يذكر فيها ، إلاّ أنّ الاصوليّين يطلقون الاستدلال تارة على إقامة الدليل مطلقا ، سواء كان نصّا ، أو إجماعا ، أو قياسا أو غيرها ؛ وتارة يخصّونه بإقامة نوع خاصّ من الأدلّة ، وهي الأدلّة العقليّة المتقدّمة. وبهذا الاصطلاح وضعوا بابا خاصّا للاستدلال وذكروها فيه ، ووضعوا لكلّ واحد من الأدلّة الأخر عقليّا كان أو غيره بابا خاصّا آخر ، فنحن (١) أيضا تأسّينا بهم.

فصل [٢]

القياس لغة : التقدير والمساواة (٢). يقال : « قست الثوب بالذراع » أي قدّرته. و « زيد لا يقاس بعمرو » أي لا يساوى به.

وفي عرف أهل النظر : الاحتجاج بالكلّي على الجزئي وهو يفيد القطع (٣). وفي عرف الفقهاء : الاحتجاج بالجزئي على الجزئي (٤) ، وهو التمثيل عند أهل النظر (٥).

__________________

(١) « ب » : « ونحن ».

(٢) الصحاح ٣ : ٩٦٨ ، « ق ي س ».

(٣) قاله السيّد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ١٨٥ ، والشيخ في أصول الفقه ٢ : ٦٤٧ ، والبصري في المعتمد ٢ : ٤٤٣ ، والسرخسي في اصوله ٢ : ١١٨.

(٤ و ٥) قالهما الشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٥٧.

٤٣٤

وقيل : هو في الحقيقة مركّب من القياس المنطقي والاستقراء ؛ لأنّا إذا أثبتنا علّيّة وصف معيّن لحكم ، كالإسكار للتحريم باعتبار وجوده في الأصل ، كالخمر ، لزم منه صدق قولنا : « كلّ مسكر حرام » فيتألّف قياس اقتراني ، هكذا : « النبيذ مسكر » ، و « كلّ مسكر حرام » فينتج : « النبيذ حرام ». والصغرى يقينيّة ، والكبرى معلومة بالاستقراء (١).

وفيه : أنّه يجب أن يكون الأوسط في الكبرى علّة لوجود الأكبر ، ولا يكفي مجرّد كونه معه في كونه علّة له ما لم ينضمّ إليه ما يدلّ على العلّيّة ، كنصّ ، أو مناسبة ، أو غير ذلك. والمعلوم من الاستقراء ليس إلاّ مجرّد اقتران الوصف بالحكم من غير دلالته على العلّيّة ، فلا يستفاد الكبرى من الاستقراء.

وحاصل القياس الفقهي مساواة فرع لأصل لعلّة حكمه ، أو إجراء الأصل في الفرع بجامع ، أو تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لعلّة متّحدة فيهما ، أو حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما ، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما.

فعلى الأوّل يكون القياس شيئا ثابتا في نفسه. وعلى البواقي يكون فعلا من أفعال المجتهد. فإذا قلنا : الأرز ربوي ؛ لاشتراكه مع البرّ في علّة ربوبيّته وهو الكيل والوزن ، يكون القياس على الأوّل نفس الاشتراك في الواقع ، أو في نظر المجتهد ، وعلى البواقي الفعل المذكور.

والحقّ ، صحّة كلّ واحد من هذه الحدود من غير اختلال فيه طردا وعكسا.

وما اورد عليه (٢) ظاهر الاندفاع ، ولذا أعرضنا عنه. وله حدود أخر (٣) مزيّفة تركناها ؛ لعدم فائدة في ذكرها.

فصل [٣]

قد علمت من حدّ القياس أنّ أركانه أربعة : الأصل ، والفرع ، والعلّة ، والحكم. ولا كلام في أنّ العلّة هو الوصف الجامع ، والحكم هو حكم الأصل.

__________________

(١) نسبه الغزالي إلى الفلاسفة في المستصفى : ٢٨٠ ـ ٢٨١ ، ولكنّ القول للشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٥٧ كما يفهم من تمثيله.

(٢ و ٣) راجع : المستصفى : ٢٨٠ و ٢٨١ ، والإحكام في أصول الأحكام ٣ : ٢٠٦ ـ ٢٠٩ ، ونهاية السؤل ٤ : ٢ ـ ٤.

٤٣٥

وأمّا الأصل ، فهو عند الفقهاء المحلّ المشبّه به الذي ثبت به الحكم ، كالخمر (١). وعند جماعة حكمه ، كحرمته (٢). وعند المتكلّمين دليل الحكم ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حرّمت الخمر » (٣).

وضعّف الأوّل : بأنّه لو انتفى الحكم من المحلّ ، لم يتأتّ القياس عليه ، فلا يكون أصلا.

و [ ضعّف ] الثالث : بأنّه لو علم الحكم بالضرورة ، أمكن القياس عليه وإن لم يكن عليه دليل ، فبقي الأصل إمّا حكم (٤) محلّ الوفاق ، أو علّته (٥).

وفيه : أنّ الكلام على فرض ثبوت الحكم في المحلّ ووجود دليل عليه ، وحينئذ لا مانع في تسمية كلّ واحد منهما أصلا ؛ لأنّ الأصل ما يبتنى عليه الشيء ، والحكم في الفرع وإن ابتنى ابتداء على الحكم في الأصل إلاّ أنّه يبتنى على دليله ومحلّه وعلّته أيضا بالواسطة ؛ لابتنائه عليهما.

فالحقّ أنّه لا بأس بتسمية كلّ من الأربعة أصلا.

وأمّا الفرع ، فهو عند الفقهاء المحلّ المشبّه الذي يراد إثبات الحكم فيه (٦) ، وعند الاصوليّين حكمه (٧).

وربّما قيل بأولويّة الثاني ؛ لأنّ الأوّل ليس متفرّعا على الأصل ، بل هو أصل الحكم الذي هو فرع القياس ، فهو أصل فرع. ويقابل بأنّ الثاني ثمرة القياس وفائدته ، فيتأخّر عنه ، فلا يكون من أركانه (٨).

فالحقّ أنّ لكلّ واحد من الأقوال في الأصل والفرع وجها صحيحا.

وقيل : الحكم والعلّة يتعاكسان أصالة وفرعيّة في محلّ الوفاق والخلاف ، فالحكم أصل للعلّة وهي فرع له في الأوّل ؛ إذ تستنبط بعد ثبوته ، والعلّة أصل للحكم وهو فرع لها في الثاني ؛ إذ يعلم ثبوته بثبوتها (٩). وله أيضا وجه صحيح.

__________________

(١ و ٢) حكاهما عن الفقهاء البصري في المعتمد ٢ : ١٩٧ ، والفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٦.

(٣) كنز العمّال ٥ : ٤٩٨ ، ح ١٣٧٣٥.

(٤) منصوب بـ « كائنا » المقدّر قبل « إمّا ».

(٥) قاله الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٧.

(٦ ـ ٩) حكاهما البصري عن الفقهاء والمتكلّمين في المعتمد ٢ : ١٩٩. ولم يذكرا أقوال الاصوليّين ؛ لأنّ اصطلاحهم يبتني على اصطلاح الفقهاء ، كما أشار إليه المؤلّف ، والفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٨ و ١٩.

٤٣٦

ثمّ لا يخفى أنّ تحديد القياس على ما تقدّم (١) ، وعدّ أركانه أربعة بناء (٢) على ما استقرّ عليه آراء الاصوليّين من ابتناء بحثهم في كتبهم على اصطلاح الفقهاء في الأصل والفرع ، ولو بنينا على اصطلاح غيرهم ، تغيّرت الحدود وتناقضت الأركان ، فعلى اصطلاحهم أيضا يدور رحى البحث في كتابنا هذا.

فصل [٤]

اعلم أنّ للقياس تقسيمات باعتبارات في كتب القوم ، وبعضها يرد على أقسام بعض آخر ، فيدخل بعض الأقسام تحت بعض الأقسام الأخر. وربّما بقي تقسيم لم يرد على أقسام باقي التقسيمات ، فيبقى بعض الأقسام غير داخل تحت بعض الأقسام الأخر ، ولا مدخول عليه. وربّما اشتبه بعض الأقسام بغيره ولم يكن هو. وربّما كان بعضها عين بعض آخر عند التأمّل. وقد يرى المخالفة بينهم في تفسير بعضها ولا يعلم الصواب.

وربما سمّوا بعض الأقسام المختلفة باسم واحد ولم يتعرّضوا للتبيين والتمييز (٣). وقد يصرّحون بأنّ هذا القسم ممّا أثبت حجّيّته العامّة والخاصّة كلاّ أو بعضا ، وذاك القسم ممّا تفرّد بإثبات حجّيّته العامّة ، فربّما اشتبه حينئذ على غير الماهر أنّ غيرهما من الأقسام ـ كلاّ أو بعضا ـ هل يدخل في هذا أو ذاك ، أو لا يدخل في شيء منهما؟

وربّما كان ترتيب بحثهم على ما لا ينبغي ، واستدلالهم غير معلوم المحلّ ، فجاء بحث القياس في مصنّفاتهم مختلّ النظام ، غير مضبوطة الأقسام (٤).

فلتفصيل ما أجملوه وتبيين ما أهملوه لا بدّ لنا أوّلا من ضبط التقاسيم ، وحصر الأقسام وتعريفها ، والإشارة الإجماليّة إلى أنّ أيّا من الأقسام يدخل تحت أيّ منها ، وأيّا منها يبقى غير داخل ، ولا مدخول عليه.

__________________

(١) تقدّم في ص ٤٣٥.

(٢) خبر ومرفوع.

(٣) في « ب » : « للتبيّن والتميّز ».

(٤) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ١٩١ ـ ١٩٦ ، والمعتمد ٢ : ١٩٥ ـ ٢٠٠ ، والمحصول ٥ : ٥ ـ ٢٠ ، والإحكام في أصول الأحكام ٤ : ١٠٨ ـ ١١٠ ، ومعارج الاصول : ١٨٢ ، ونهاية السؤل ٤ : ٥٣ ـ ٥٩ ، والوافية : ٢٣٦ ـ ٢٣٩.

٤٣٧

ثمّ تفصيل البحث عن كلّ واحد وما يتبعه. ثمّ الإشارة إلى أنّ الأقسام المعتبرة منها عند الفريقين في الجملة ما هي؟ وما تفرّد باعتباره المخالفون ما ذا؟ وتحقيق الحقّ فيه.

ثمّ التذييل بما ينبغي من الشروط والافتراضات ، وغيرها على ما يقتضيه النظم الطبيعيّ في البحث.

فنقول : ينقسم القياس أوّلا إلى قياس طرد ، وهو ما يثبت فيه للفرع مثل حكم الأصل.

وإلى قياس عكس ، وهو ما يثبت فيه للفرع نقيض حكم الأصل. وهذا شقّان :

والشقّ الأوّل ينقسم إلى قياس علّة ، وقياس دلالة ، وقياس في معنى الأصل. وهذه ثلاثة أجناس :

[ الجنس ] الأوّل : ما صرّح فيه بجامع يكون هو العلّة للحكم ، كقياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار.

و [ الجنس ] الثاني : ما صرّح فيه بجامع لم يكن هو العلّة ، بل كان دليلها ، كقياس المكره على القتل على المكره عليه في وجوب القصاص بجامع الإثم ، وهو ليس علّة لوجوب القصاص ، بل يدلّ على أنّ قصد الشارع حفظ النفس الذي هو العلّة.

وكقياس النبيذ على الخمر في التحريم بجامع الرائحة الفائحة اللازمة للإسكار الذي هو العلّة.

وكقياس المسروق على المغصوب في وجوب الضمان بالتلف بجامع وجوب ردّه إذا كان باقيا ؛ فإنّ وجوب الردّ ليس علّة للضمان في صورة الغصب ، ولكنّه يدلّ على أنّ قصد الشارع حفظ المال الذي هو العلّة للضمان.

وكالجمع بين قطع أيدي جماعة بيد الواحد ، وقتل نفوس بالنفس الواحدة قصاصا بجامع الاشتراك في وجوب الدية عليهم على تقدير إيجابها. ووجوب الدية ليس علّة لوجوب القصاص ، بل هو أحد موجبي العلّة التي هي الجناية ، إلاّ أنّ وجوده يدلّ على وجود الموجب الآخر ، وهو وجوب القصاص ؛ لأنّهما متلازمان ؛ نظرا إلى اتّحاد علّتهما ـ وهي الجناية ـ وحكمتهما وهو الزجر.

وغير خفيّ أنّ حاصل جميع أمثلة قياس الدلالة يرجع إلى إثبات حكم في الفرع ، وهو

٤٣٨

وحكم آخر يوجبهما علّة واحدة ، والآخر متحقّق الوقوع في الفرع. فيقال : يثبت هذا الحكم في الفرع لثبوت الآخر فيه ، وهو ملازم له ، فيجمع بين الأصل والفرع في أحد موجبي العلّة ؛ لاجتماعهما في الموجب الآخر الملازم له ، ويؤول إلى الاستدلال بأحد الموجبين على العلّة ، وبها على الموجب الآخر ، ولكن يكتفى بذكر موجب العلّة عن التصريح بها.

و [ الجنس ] الثالث : ما لم يصرّح فيه بجامع أصلا ، وعلم الجمع بين الأصل والفرع في الحكم بنفي الفارق.

ثمّ الشقّ الثاني ـ وهو قياس العكس ـ : ينقسم أيضا إلى هذه الأجناس الثلاثة ؛ فإنّ إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع قد يكون لوجود نقيض علّته فيه ، كما يقول الحنفيّة : لمّا وجب الصوم في الاعتكاف بالنذر ، وجب بغير نذر ، كالصلاة ، فإنّها لمّا لم تجب بالنذر ، لم تجب بغير النذر (١) ، فالحكم في الأصل عدم الوجوب بغير نذر ، وفي الفرع الوجوب بغير نذر ، والعلّة في الأصل عدم الوجوب بالنذر ، وفي الفرع الوجوب بالنذر ، فلمّا كانت العلّتان متناقضتين ، فالحكمان أيضا كذلك (٢).

وقد يكون لوجود لازم نقيضها فيه.

وقد يكون لتناقضهما المستلزم لتناقض حكمهما وإن لم يصرّح بعلّة للحكم أصلا. ومثالهما ظاهر.

هذا ، والظاهر أنّ المراد من التصريح بالعلّة في الجنس الأوّل أن يعلّل ثبوت الحكم بعلّة مطلقا ، أي سواء عرفت بنصّ ، أو إيماء ، أو استنباط ، أو غيرها ؛ وليس المراد منه أن تكون العلّة مصرّحة في الأصل حتّى يختصّ (٣) بمنصوص العلّة.

وعلى هذا ، يكون المراد من الجنس الثالث ما لم يعلّل الحكم فيه بعلّة أصلا ، بل لتساوي الأصل والفرع في جميع ما يصلح أن يكون سببا لاختلاف الحكم يحكم بثبوت الحكم في

__________________

(١) وحاصله أنّ الصوم في الاعتكاف واجب ، سواء وجب الاعتكاف بالنذر أم لا والصلاة فيه غير واجبة فيه ولو كان الاعتكاف واجبا بالنذر.

(٢) قاله البصري في المعتمد ٢ : ١٩٦. وحكاه الفخر الرازي في المحصول ٥ : ١٤ بعنوان : « إن قيل ».

(٣) أي القياس.

٤٣٩

الفرع وإن لم يستند إلى علّة أصلا ، مثلا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يبولنّ أحدكم في الماء الراكد » (١) إذا قيس عليه البول في الكوز وصبّه في الراكد ، لم يكن الجمع بينهما بعلّة أصلا ؛ لعدم وجودها نصّا وإيماء ، بل للعلم بعدم الفرق بينهما بشيء يصلح لاختلاف الأحكام. وعلى هذا يلحق قياس العلّة قسمة باعتبار (٢) معرفة العلّة ، وذلك لأنّ معرفة كون الوصف الجامع علّة ليست ضروريّة ، فلا بدّ لها من طرق ، وتنحصر أوّلا (٣) في طريقين : الدلالة ، والاستنباط. ونحن نسمّي ـ لسهولة التفهّم (٤) ـ كلّ قياس مدلول العلّة براجح التأثير ، وكلّ قياس مستنبط العلّة بمرجوح التأثير.

ثمّ الطريق الأوّل إمّا النصّ ، ويسمّى القياس حينئذ منصوص العلّة ومثاله ظاهر.

وإمّا الإجماع ، ككون الصغر علّة لولاية المال ؛ فإنّه علّة لها بالإجماع ، ويقاس عليها النكاح.

وإمّا التنبيه والإيماء ، مثاله : ما قال الأعرابي : هلكت وأهلكت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما ذا صنعت؟ » فقال : واقعت أهلي في نهار رمضان ، فقال : « أعتق رقبة » (٥). وهذا يدلّ على أنّ الوقاع علّة للإعتاق. ويأتي تفصيل مراتب التنبيه والإيماء (٦).

وهذه ثلاثة أنواع ، كلّ واحد منها : إمّا أن يكون اقتضاء الجامع فيه للحكم في الأصل أولى منه في الفرع ، كاقتضاء الإسكار للتحريم في النبيذ ؛ لاقتضائه له في الخمر ، ولا خلاف في كونه قياسا. أو بالعكس ، ويسمّى القياس بالطريق الأولى ، كاقتضاء وجوب كفّ الأذى لتحريم الضرب ؛ لاقتضائه لتحريم التأفيف.

أو مساويا ، كاقتضاء عتق الشقص في الأمة لتقويم نصب الشريك على المعتق ؛ لاقتضائه له في العبد.

__________________

(١) كنز العمّال ٩ : ٣٥٤ ، ح ٢٦٤٢١.

(٢) متعلّق بـ « يلحق » وقوله : « قسمة » منصوب على التمييز ومفهوم الجملة : أنّ قياس العلّة على هذا يصير من أقسام تقسيم آخر غير التقسيم المذكور والتقسيم الآخر هو تقسيم القياس إلى كون العلّة معلومة أو مستنبطة.

(٣) يكون قوله : « ثمّ الطريق الأوّل » بمنزلة قوله : « وثانيا ».

(٤) في « ب » : « التفهيم ».

(٥) الفقيه ٢ : ١١٥ ـ ١١٦ ، ح ١٨٨٥ ، وكنز العمّال ٨ : ٥٩٨ ، ح ٢٤٣٢٢ باختلاف يسير في المصدرين.

(٦) يأتي في ص ٤٤٧.

٤٤٠