أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

__________________

إلاّ أن يركن إلى أصالة الصحّة.

ولا يخفى أنّه كان الأنسب أن يتعرّض شيخنا قدس‌سره في حاشيته على هذا المقام من العروة للإشكال الذي أشار إليه هنا في جريان أصالة الصحّة.

وكيف كان ، فلو قلنا بأنّ أصالة الصحّة لا تجري في مثل هذا الشرط أشكل الحكم في الصورة الثانية من الفرع الأوّل ومن الفرع الثاني ، لأنّ المرجع حينئذ كما أشرنا إليه هو أصالة عدم ترتّب الأثر ، فيحكم بعدم الزوجية وبعدم الحرمة الأبدية ، وهذا الأصل ـ أعني استصحاب عدم الزوجية وعدم الحرمة الأبدية ـ من الأُصول الاحرازية التي لا يمكن الجمع فيها على رأي شيخنا قدس‌سره بين إحرازين يعلم بكذب أحدهما ، سواء كان هذا الأصل هنا أصلاً واحداً أعني عدم ترتّب الأثر من الطرفين ، أو كان عبارة عن أصلين أعني استصحاب عدم الزوجية الثابت قبل هذا العقد ، واستصحاب عدم حرمتها الأبدية الثابت أيضاً قبل هذا العقد ، فلو قلنا بما أفاده شيخنا قدس‌سره من سقوط الأصل الاحرازي في ذلك ، يكون المرجع في احتمال الحرمة الأبدية أصالة البراءة والحل ، وفي احتمال تحقّق الزوجية ترتيب آثار الزوجية الواجبة مثل الانفاق ونحوه لزوم الاحتياط وإن لم يجز له وطؤها [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، فلاحظ ].

وإن شئت فقل : يكون هذا المكلّف واقعاً في علم إجمالي مردّد بين الحرمة الأبدية ووجوب الانفاق ، فيكون منجّزاً بكلا طرفيه ، لأنّ كلاً منهما في حدّ نفسه مجرى لأصالة البراءة ، بل هو يعلم إجمالاً إمّا بحرمة وطئها أو وجوب الانفاق ، ولا مخلص له من مأزق هذا العلم الاجمالي إلاّ الطلاق الاحتياطي.

واعلم أنّ عين الفرع الثاني بصوره الثلاث متأت فيما لو كانت المرأة معتدة وقد عقد عليها ودخل بها وخرجت من العدة ، ولم يعلم المتقدّم منهما أعني العقد المصحوب بالدخول وخروجها من العدّة ، فإنّه يجري فيه الصور الثلاث ، فإن قلنا بأصالة الصحّة فهو ، وإلاّ كان المرجع هو ما عرفت من المرجع في الصور الثلاث في مسألة ما لو كان

٤٦١

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : وأمّا مسألة بيع الراهن المأذون من قبل المرتهن إذا كان كلّ منهما محقّقاً صدوره ولكن شكّ فيما هو المقدّم منهما ، فقد عورضت فيه أصالة الصحّة في البيع بأصالة الصحّة في الرجوع ، حيث إنّه لو كان واقعاً بعد البيع كان فاسداً.

والتحقيق : أنّ كلّ واحد من هذين الأصلين غير جار في نفسه ، أمّا أصالة الصحّة في البيع فلما تقدّم من أنّ الشكّ في مثل هذا لا يكون في ناحية السبب بل هو في ناحية المسبّب ، لوقوع الشكّ في أنّ هذا العاقد هل له أن يعقد أو لا ، كما أنّ الأمر في الرجوع أيضاً كذلك ، لوقوع الشكّ في أنّ هذا المرتهن هل له أن يرجع عن إذنه أم لا ، وحينئذ فلو كان البيع معلوم التاريخ استصحب عدم الرجوع وبقاء الإذن إلى حينه ، فيكون البيع بحكم الاستصحاب واقعاً ممّن له إيقاعه. ولو كان الأمر بالعكس بأن كان المعلوم التاريخ هو الرجوع استصحب عدم البيع إلى ما بعد الرجوع ، فيكون الرجوع بحكم الاستصحاب واقعاً ممّن له إيقاعه ، للحكم بعدم وقوع البيع قبله ، والنتيجة في الصورة الأُولى صحّة البيع ، وفي الثانية صحّة الرجوع. ولو كانا مجهولي التاريخ تعارض الأصلان المذكوران.

قلت : لا يخفى أنّا في الصورة الثانية وهي ما لو علم تاريخ الرجوع وجهل تاريخ البيع وإن حكمنا بصحّة الرجوع لإحراز عدم البيع قبله ، إلاّ أنّ ذلك بمجرّده لا يوجب الحكم ببطلان البيع إلاّعلى نحو الأصل المثبت. نعم يكون المرجع في البيع بعد فرض عدم جريان أصالة الصحّة فيه هو أصالة عدم النقل والانتقال.

ومنه يظهر الحال في مجهولي التاريخ ، فإنّ أصالة عدم الرجوع إلى ما بعد

__________________

محرماً وأحلّ من إحرامه وعقد ولم يعلم المتقدّم من العقد أو الخروج من الاحرام ، فلاحظ [ منه قدس‌سره ].

٤٦٢

البيع وإن أوجبت الحكم بصحّة البيع ، إلاّ أنّ أصالة عدم البيع إلى ما بعد الرجوع لا تكون حاكمة ببطلان البيع وإن حكمت بصحّة الرجوع ، فهي ـ أعني أصالة عدم البيع إلى ما بعد الرجوع ـ لا تكون معارضة لأصالة عدم الرجوع إلى ما بعد البيع بالنسبة إلى البيع نفسه ، لكن لمّا كان أحد الأصلين قاضياً بصحّة الرجوع وكان الآخر قاضياً بصحّة البيع كانا متعارضين من هذه الجهة ، وبعد التساقط يكون المرجع هو أصالة عدم ترتّب الأثر وعدم النقل والانتقال ، فتأمّل. ولو قيل بالتعارض بين هذين الأصلين كان المقام من قبيل التداعي.

وللسيّد قدس‌سره في قضاء العروة كلام استغربته ، أشكل به على التمسّك بأصالة الصحّة في الرجوع وحاصله : أنّه لا معنى لحمل فعل شخص على الصحّة وجعله حجّة على الطرف المقابل ، وفي المقامات التي يقدّم فيها قول مدّعي الصحّة إنّما يكون حمل فعله على الصحّة حجّة عليه للطرف المقابل ، وهذا واضح (١).

ونظير ذلك ما ذكره في الردّ على التمسّك بأصالة الصحّة في مورد بيع الراهن ورجوع المرتهن عن إذنه مع الشكّ في المقدّم منهما ، من أنّ ذلك إنّما هو فيما كان مدّعي الفساد طرفاً في المعاملة ليكون فعله حجّة على نفسه ، وفي المقام ليس مدّعي الفساد طرفاً في البيع بل هو شخص آخر ، فيلزم من حمله على الصحّة كون فعل شخص حجّة له على غيره (٢).

ويلزمه أن لا يكون الزوج منكراً فيما لو ادّعت الزوجة فساد الطلاق لكونه في أيّام الحيض ، ولا أظنّه يلتزم بذلك ، وليس كون صحّة عمل شخص حجّة على طرفه في باب المخاصمة بأعظم من كون أحدهما مجرى للبراءة في كونه حجّة على الآخر فيما لو ادّعى زيد على عمرو ديناً فأنكره عمرو هذا.

__________________

(١) العروة الوثقى ٦ : ٦٩٥.

(٢) العروة الوثقى ٦ : ٦٧٧ ـ ٦٧٨.

٤٦٣

مضافاً إلى أنّه لا دليل على الاختصاص المزبور ، اللهمّ إلاّ أن يدّعى قصور السيرة والإجماع عن الشمول لمثل ذلك ، هذا. مع أنّ ظاهر كلامه هو الاختصاص بخصوص باب الترافع ، أعني أنّ ما أفاده من أنّ حمل فعل الشخص على الصحّة لا يكون حجّة على الطرف المقابل إنّما يوجب سقوط أصالة الصحّة المذكورة في خصوص باب الترافع ، دون ما إذا لم يكن في البين ترافع ، ولعلّ المنشأ في هذه الدعوى هو ما أفاده ـ بعد أن استشكل من اجراء أصالة الصحّة في قبال الأُصول الموضوعية ـ بقوله : نعم ، يمكن أن يقال إنّ الوجه في تقديم قول مدّعي الصحّة أخذ مدّعي الفساد باعترافه بوقوع المعاملة الظاهرة في الصحيحة ، فيكون في دعوى ما يوجب الفساد مدّعياً ، فعليه إثباته كما في سائر موارد الإقرار إذا ادّعى بعده ما ينافيه ، وعليه ففي جميع الصور المذكورة يقدّم قول مدّعي الصحّة إلاّفي مورد لا ينفذ إقراره الخ (١) ، بتقريب أنّ إقراره بالمعاملة إنّما يكون إذا كان هو الموقع لها ، فإنّ إيقاعه لها يكون عبارة أُخرى عن إقراره بها ، وحينئذ لا يدخل في هذا الأصل إلاّمن كان هو الفاعل ، بحيث كان الفاعل هو المدّعي لفساد فعله ، دون ما لو كان المدّعي للفساد شخصاً آخر.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّه بناءً على كون المدرك في تقديم مدّعي الصحّة هو هذا الذي أفاده لا ينحصر الاقرار بالمعاملة بإيقاعها ، بل يمكن أن تقع ويعترف الشخص الآخر بوقوعها لكن يدّعي فسادها ، هذا.

مضافاً إلى فساد هذا المبنى من أصله ، لأنّ أصالة الصحّة إن كانت من الأُصول العقلائية التي يجري عليها العقلاء بحيث كانت حجّة شرعية ولو في غير المخاصمة ، كان ذلك كافياً في كون مدّعيها منكراً وكون مدّعي الفساد مدّعياً ، وإن لم تكن في حدّ نفسها مرجعاً في غير باب المخاصمة لم يكن اعتراف الشخص

__________________

(١) العروة الوثقى ٦ : ٦٧٣.

٤٦٤

بالمعاملة موجباً لتوجّه إثبات الفساد عليه ، لأنّ الفرض هو كونها قابلة للوقوع على نحو الفساد كما هي قابلة للوقوع على نحو الصحّة ، فمع قطع النظر عن أصالة عدم النقل والانتقال ينبغي أن يكون كلّ منهما مطالباً بإثبات ما يدّعيه ، وإن رجعنا إلى أصالة عدم النقل والانتقال كان المطالب هو مدّعي الصحّة لا مدّعي الفساد ، هذا كلّه.

مضافاً إلى أنّه لا يدفع الإشكال في تقدّمها على الأُصول الموضوعية ، فإنّا لو سلّمنا أنّ مدّعي الفساد يلزمه بعد أن أقرّ بالمعاملة أن يثبت مدّعاه الذي هو فسادها ، لقلنا إنّه يكفي لإثبات ذلك الأصل الموضوعي المقتضي للفساد ، فإنّ ذلك ليس من قبيل الانكار بعد الاقرار في مجلس القضاء كي لا يسمع أصلاً ، بل هو لم يخرج بذلك الاقرار السابق عن كونه أحد طرفي الخصومة ، والمفروض أنّ الأصل الموضوعي مطابق لقوله ، فيكون منكراً لا مدّعياً ، فتأمّل جيّداً.

ثمّ لا يخفى أنّ صحّة الرجوع فيما لو تردّد الطلاق بين البائن والرجعي ، وكذلك صحّة الفسخ فيما لو تردّد البيع بين كونه خيارياً أو كونه لازماً ليس على الظاهر من قبيل ما نحن فيه ، لأنّ ذلك ناشئ من التردّد في العقد السابق ، ولا يكون قول من يدّعي الرجعي أو الخياري على طبق الأصل فتأمّل ، وينبغي مراجعة ما حرّرناه في مباحث مجهول التاريخ (١).

قوله : ولا إشكال في جريان أصالة الصحّة عند الشكّ في صحّة الصلاة وفسادها من جهة الشكّ في قصد القربة ... الخ (٢).

هذا إن كان الشكّ في قصد القربة مع فرض إحراز أصل النيّة ، أمّا مع الشكّ

__________________

(١) وهي الحواشي المتقدّمة على التنبيه التاسع من تنبيهات الاستصحاب ، فراجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٥٨ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٦٤.

٤٦٥

في أصل النيّة بأن شككنا في أنّه هل قصد الصلاة ونواها أو أنّه لم يقصد إلاّصورة العمل ولو من جهة تعليم الغير مثلاً ، ففي جريان أصالة الصحّة في مثل ذلك تأمّل وإشكال ، إذ ليس هو [ إلاّ ] من قبيل ما لو رأيناه غمس الثوب مع احتمال عدم قصد تطهيره أو ارتمس في الماء مع احتمال أنّه لم يقصد الغسل من الجنابة. وهذا الإشكال بعينه جارٍ في قاعدة الفراغ والتجاوز. والذي يظهر من الجواهر (١) إجراؤهم قاعدة التجاوز.

ويمكن الفرق بين قاعدة التجاوز وبين قاعدة الفراغ وأصالة الصحّة ، فإنّه لو شكّ في النيّة وهو في أثناء القراءة مثلاً يصحّ في حقّه إجراء قاعدة التجاوز لكونه يرى نفسه فعلاً في الصلاة ، بخلاف قاعدة الفراغ وأصالة الصحّة لعدم إحراز الصلاة في مواردهما عند الشكّ في أصل النيّة ، اللهمّ إلاّ أن يكتفى بصورة الصلاة بحيث يدّعى أنّ تحقّق صورة الصلاة كاف في صدق أنّه قد صلّى صدقاً عرفياً ، بخلاف ما لو ارتمس ولم يعلم أنّه قصد الغسل من الجنابة ، فإنّ قوام الغسل من الجنابة بحسب النظر العرفي هو النية بخلاف الصلاة ، وفيه تأمّل.

قوله : وبالجملة يتوقّف جريان أصالة الصحّة على إحراز صدور العمل على الوجه والعنوان الذي يكون العمل به موضوع الأثر ومتعلّق الأمر ، سواء كان العنوان من العناوين التي لا يتوقّف حصولها على القصد كغسل الثوب ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ المائز بين رمس الثوب في الماء لأجل إزالة نجاسته وبين رمسه فيه لأجل إزاله الوسخ عنه ونحو ذلك من دواعي رمسه فيه إنّما هو بالقصد ،

__________________

(١) جواهر الكلام ١٢ : ٣٢٢ و ٣٢٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٦٤.

٤٦٦

وحينئذ فالغسل من العناوين القصدية ، غايته أنّه ربما أغنى عنه الرمس لا بقصد الغسل ، بل بقصد أمر آخر أو مجرّد وقوعه في الماء ولو باطارة الريح ، وذلك أمر آخر راجع إلى كونه توصّلياً يغني عنه ما يؤدّي مؤدّاه من إزالة النجاسة وإن لم يكن هو المأمور به على ما شرحناه في الفرق بين التعبّدي والتوصّلي (١).

وبالجملة : لمّا كان المأمور به هو الرمس بعنوان الغسل من النجاسة ، وكان جريان أصالة الصحّة موقوفاً على إحراز الاتيان به بذلك العنوان ، وكان الاتيان به بذلك العنوان متوقّفاً على الاتيان به بقصد إزالة النجاسة ، كان ذلك عبارة أُخرى عن كون ذلك العنوان من العناوين القصدية ، ولكن أيّ أثر يترتّب على قصد المأمور به في مثل ذلك ، وما معنى الشكّ في الصحّة في ذلك بعد فرض تحقّق الطهارة بمجرّد رمس الثوب في الماء وإن لم يكن بقصد تطهيره ، إلاّمن جهة أنّ مجرّد الرمس في الماء لا يوجب تحقّق الطهارة إلاّبأن يصل الماء إلى أعماق الثوب مثلاً وطيّاته ، فإن كان بعنوان التطهير أمكن الركون فيه إلى أصالة الصحّة ، ولو لم يكن بعنوان التطهير لم يكن فيه مورد لأصالة الصحّة ، فلاحظ.

قوله : وأمّا في العبادات فإذا حصل الوثوق من قوله يقبل قوله ، لأنّ الاقتصار في إثبات مثل هذه الموضوعات ... الخ (٢).

هذا من موارد قاعدة تصديق المدّعي فيما لا يُعلم إلاّمن قبله ، وقد ذكر في المسالك (٣) من مواردها ما يزيد على العشرين ، وعدّ ما نحن فيه من جملتها وإن استشكل في ذلك ، والظاهر من إطلاق جملة من الكلمات أنّه لا يعتبر الوثوق

__________________

(١) راجع المجلّد الأوّل من هذا الكتاب الصفحة : ٣٦٠ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٦٥.

(٣) لاحظ مسالك الافهام ١٣ : ٥٠١ ـ ٥٠٣.

٤٦٧

فضلاً عن العدالة ، وعلى الظاهر أنّ هذه القاعدة مسلّمة عندهم في الجملة وإن اختلفوا في جملة من فروعها ، وقد تعرّض لها الفقهاء في كتاب القضاء ، فراجع الجواهر في المسألة السادسة من المسائل الثمان التي عقدها في باب الحلف واليمين (١) ، وقضاء الحاج ملاّ علي كني في أوائل قضائه فيما حرّره في الدعاوي المسموعة (٢) ، وقضاء العروة في أُخرياته (٣) ، بل راجع العناوين (٤) وقواعد الشهيد قدس‌سره (٥).

قوله : أمّا في باب العقود والإيقاعات وما يلحق بها ، فالظاهر كفاية إخباره بذلك وإن لم يحصل الوثوق بقوله ، لاندراجه في قاعدة « من ملك شيئاً ملك الإقرار به » ... الخ (٦).

لا يخفى أنّ مورد قاعدة « من ملك » على تقدير القول بها إنّما هو الشكّ في أصل وقوع المعاملة ، أمّا مع إحراز وقوع صورة العقد منه والشكّ في قصده ، فالمرجع فيه هو أصالة الظهور في القصد ، حتّى أنّه لو أنكر القصد لا يسمع ذلك منه ، ومحلّ الكلام إنّما هو الشكّ في القصد بعد إحراز وقوع صورة العقد منه.

ومنه يظهر لك الحال في العبادات النيابية ، فإنّ مجرّد العسر والحرج أو اختلال النظام لا يوجب حجّية قول الأجير ، فإنّ هذه الأُمور لا تكون مشرّعة ، ففي

__________________

(١) جواهر الكلام ٤٠ : ٢٦٢ فما بعدها.

(٢) كتاب القضاء : ٩٩ وما بعدها.

(٣) العروة الوثقى ٦ : ٧١١.

(٤) العناوين ٢ : ٦١٥ ـ ٦١٦.

(٥) القواعد والفوائد ١ : ٢٢٩ ، و ٢ : ١٨٨.

(٦) فوائد الأُصول ٤ : ٦٦٥.

٤٦٨

مقام الشكّ في صدور أصل الفعل أو الشكّ في قصد النيابة به عن المنوب عنه إنّما يكون الاعتماد فيه على إخبار النائب من جهة عدالته ، أو من جهة حصول الوثوق بقوله وإن لم يكن عادلاً.

والحاصل : أنّه لابدّ في الحكم بفراغ ذمّة المنوب عنه من العلم أو ما يقوم مقامه من الوثوق أو الاطمئنان ، وهو حاصل بقول النائب العادل أو الوثوق بإخباره وإن لم يكن عادلاً ، والاعتماد على قوله إنّما هو لأجل كونه محصّلاً للعلم أو ما يقوم مقامه من الاطمئنان ، والسيرة وبناء العقلاء كافية في الحكم بكفاية ذلك المقدار من الاطمئنان ، نعم يمكن أن نجعل العسر والحرج المذكورين شاهداً على جريان السيرة المذكورة على كفاية الاطمئنان.

قوله : والإنصاف أنّ ما أفاده في هذا المقام ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، فإنه إن أحرز أنّ العامل قصد النيابة ـ إلى قوله ـ وإن لم يحرز أنّ العامل قصد النيابة في عمله فلا تجري في عمله أصالة الصحّة ... الخ (١).

الإنصاف : أنّ هذا هو عين ما أفاده الشيخ قدس‌سره بقوله : والصحّة من الحيثية الأُولى لا تثبت الصحّة من هذه الحيثية الثانية ، بل لابدّ من إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب الخ (٢) ، فإنّ ذلك عبارة أُخرى عن أنّه لابدّ من إحراز عنوان النيابة ، وأنّ صحّة نفس العمل من حيث الأجزاء والشرائط لا تنفع في إحراز النيابة.

نعم ، للشيخ قدس‌سره في هذا المقام عبارة لا يبعد أن تكون من سهو القلم ، وهي قوله : بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من الحيثيتين ، فيحكم باستحقاق الفاعل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٦٥ ـ ٦٦٦.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٣٦٩.

٤٦٩

الأُجرة ، وعدم براءة ذمّة المنوب عنه من الفعل الخ ، فإنّ ذلك ـ أعني البناء على صحّة العمل لأجل أصالة الصحّة ـ إن كان بعد إحراز الاتيان بالعمل بعنوان النيابة كان اللازم ترتّب كلا الأثرين ، أعني استحقاق الأُجرة وبراءة ذمّة المنوب عنه ، وإن لم يكن ما يحرز لنا عنوان النيابة انتفى كلّ من هذين الأثرين ، فلا يحكم باستحقاق الأُجرة ولا ببراءة ذمّة المنوب عنه ، بل لا معنى للرجوع إلى أصالة الصحّة في العمل في هذه الصورة ، إذ ليس غرض ولي الميّت مثلاً هو إجراء [ أصالة ] الصحّة في عمل النائب بما أنّه عمل للنائب نفسه ، بل غرضه إجراء أصالة الصحّة فيه بما أنّه عمل منسوب إلى الميّت المنوب عنه ، ومع عدم إحراز النيابة لا يكون موضوع لأصالة الصحّة في العمل المنسوب إلى المنوب عنه ، وهذا هو المراد لشيخنا قدس‌سره في اعتراضه على الشيخ قدس‌سره كما يظهر ذلك من التحريرات ومن التقرير المطبوع في صيدا (١) ، فراجع وتأمّل.

والخلاصة : هي أنّ لنا في المقام أُموراً ثلاثة : ذات العمل ، وكونه عن النائب وكونه عن المنوب عنه ، وأصالة الصحّة إن أجريناها في الأوّل لم تنفع في إحراز أحد الأخيرين ، إذ لو حصل القطع بصحّة نفس العمل من حيث جامعيته لتمام الأجزاء والشرائط ، لم يكن ذلك نافعاً في إحراز أحد الأمرين من كونه واقعاً بقصد أن يكون عن نفسه أو كونه عن الغير ، ومع التردّد بين هذين الأمرين لا يكون أصل الصحّة منتجاً لأحدهما ، لأنّ أيّاً منهما قصده كان صحيحاً. وعلى أيّ حال ، لم يتّضح لنا مفاد هذه الجملة ، وهي أنّ أصالة الصحّة من الجهة الأُولى ـ أعني كونه عن نفسه ـ لا تنفع في إحراز الجهة الثانية أعني كونه عن غيره ، إلاّ أن يراد ما ذكرناه من أنّ أصل الصحّة في ذات العمل لا ينفع في إحراز كونه عن الغير.

__________________

(١) أجوذ التقريرات ٤ : ٢٤٩.

٤٧٠

قوله : فعلى الأوّل يلزم الحكم بدخول المبيع في ملك المشتري من دون أن يدخل في ملك البائع ما يقابله من الثمن ، وهو كما ترى ... الخ (١).

الظاهر أنّه لا مانع من ذلك ، وهل ذلك إلاّمن قبيل التفكيك بين مقتضيات الأُصول ، فإنّ الشكّ في صحّة البيع في مورد تردّد الثمن بين كونه خمراً أو ديناراً معيّناً عبارة أُخرى عن الشكّ في أنّ نقل ذلك المبيع عن ملك البائع هل هو صحيح أو لا ، فإذا حكمنا بمقتضى أصالة الصحّة بأنّه كان صحيحاً ، كان ذلك هو عين الحكم بتحقّق انتقال المبيع إلى المشتري ، أمّا كون الثمن ديناراً لا خمراً فليس ذلك هو عين صحّة ذلك البيع ، بل هو من لوازمه العقلية في المقام ، إذ الصحّة منحصرة بكون الثمن هو الدينار ، لا أنّ صحّة البيع بنفسها هي عبارة عن كون الثمن هو الدينار لا الخمر ، وإذا لم يكن كون الدينار ثمناً من آثار الصحّة شرعاً ، كان المرجع فيه إلى أصالة عدم الانتقال ، فإنّ أصالة الصحّة عند الشكّ في كون الثمن ديناراً أو خمراً وإن كانت من الأُصول الاحرازية ، إلاّ أنّها إنّما يحرز بها مجرّد كون العقد واجداً للشرط وهو كون الثمن حلالاً مثلاً لا حراماً ، أمّا كون الثمن في هذا العقد هو الدينار لا الخمر فذلك لا يكون إلاّبالأصل المثبت باعتبار العلم الخارجي بأنّه لم يكن في البين ثمن حلال إلاّ الدينار ، فإذا أحرزنا بأصالة الصحّة كون العقد واجداً للشرط وهو حلّية الثمن لزمه أن يكون الثمن في الصورة المفروضة هو الدينار ، لا أنّ كون الثمن هو الدينار هو عين ما يحرزه الأصل المذكور.

نعم ، يمكن القول بتعارض هذين الأصلين باعتبار العلم الاجمالي بخطأ أحدهما مع كونهما إحرازيين ، فيسقطان معاً ويكون المرجع هو أصالة عدم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٦٦.

٤٧١

انتقال المبيع إلى المشتري وأصالة براءة ذمّته من وجوب دفع الدينار إلى البائع ، ومنه يعلم المعارضة بينهما في حقّ المشتري مع قطع النظر عن كونهما إحرازيين ، لأنّ جريانهما معاً في حقّه يوجب المخالفة القطعية للتكليف المعلوم وهو حرمة إمساكه الدينار أو حرمة إمساكه المبيع ، للعلم الاجمالي بأنّ أحد الأمرين خارج عن ملكه ، هذا كلّه في حكم المشتري أو ورثته لو كان جاهلاً.

أمّا البائع أو ورثته لو كان جاهلاً فأصالة الصحّة في البيع قاضية عليه بلزوم تسليم المبيع ، وأصالة عدم انتقال الدينار إليه قاضية عليه بعدم جواز أخذه الدينار إلاّ أن يقال بتعارضهما من جهة كونهما إحرازيين فيتساقطان حينئذ ، ويكون المرجع له في المبيع أصالة بقائه على ملكه وعدم وجوب تسليمه إلى طرف المشتري ، وأصالة الحرمة في أخذه الدينار بناءً على أصالة الحرمة في الأموال. ولو قلنا بأصالة البراءة من حرمة أخذه الدينار وقعت المعارضة بين الأصلين ، وحينئذ يلزمه الاحتياط لعدم الأصل المسوّغ لشيء من الطرفين. هذا كلّه في حكم المسألة مع قطع النظر عن المخاصمة والنزاع.

أمّا مع فرض المخاصمة ، فإن كان البائع يدّعي صحّة البيع ويطالب بالدينار والمشتري أو ورثته يدفعون ذلك بدعوى فساد البيع بأنّ الثمن كان خمراً لا ديناراً فالمدّعي هو البائع ، فإنّ قوله وإن كان موافقاً لأصالة الصحّة إلاّ أنّ النزاع لم يكن في الحقيقة على الصحّة ، وإنّما كان النزاع على استحقاقه الدينار ، وأصالة الصحّة لا تكون مثبتة لقوله في استحقاق الدينار كي يكون قوله على طبق الأصل. والحاصل : أنّ الصحّة في حدّ نفسها مع قطع النظر عن استتباعها استحقاق البائع للدينار ، لا معنى للمخاصمة فيها ، غايته أنّ أثرها المترتّب شرعاً عليها هو انتقال المبيع منه ، وهو ـ أعني البائع ـ معترف به وإن نفاه الورثة عنهم ، لكن ليس هذا

٤٧٢

ـ أعني انتقال المبيع منه إلى المشتري ـ هو مركز المخاصمة ، بل إنّهما بالقياس إلى هذا من قبيل المعترف بالحقّ لطرفه مع كون طرفه نافياً له عن نفسه ، وإنّما مركز المخاصمة هو دعوى استحقاق البائع الدينار ، وقد عرفت أنّ أصالة الصحّة لا يترتّب عليها هذا الأثر.

وبتقرير أوضح : أنّ ما يمكن أن نحكم به بمقتضى أصالة الصحّة ـ من صحّة العقد وانتقال المبيع إلى المشتري ـ ليس هو مركز المخاصمة كي يكون قول البائع مطابقاً للأصل ، لأنّ جميع هذه الآثار من تمامية العقد وانتقال المبيع إلى المشتري لا تضرّ بما يرومه المشتري من دفع البائع عن ذلك الدينار ، ولا يكون شيء منها مثبتاً ، لأنّ هذا الدينار يستحقّه البائع الذي هو عبارة عمّا يدّعيه البائع ، وحينئذ يكون المرجع في الدينار إلى أصالة عدم الانتقال ، فيكون الأصل مطابقاً لقول المشتري وهو أصالة عدم الانتقال ، فيكون هو المنكر.

ثمّ إنّ أصالة الصحّة بل اعتراف البائع وإن اقتضى انتقال المبيع إلى المشتري ، إلاّ أنّ دعوى المشتري الفساد يكون إقراراً منه بعدم انتقال المبيع إليه ، فلا يمكنه أخذه كي يكون جامعاً بين العوض والمعوّض مع العلم الاجمالي بخروج أحدهما عن ملكه.

ولو كان الأمر بالعكس بأن كان المشتري يقول بصحّة البيع وأنّ الثمن كان هو الدينار ، لكن البائع يدّعي الفساد وأنّ الثمن كان خمراً ، كان المنكر هو المشتري أيضاً فيما هو محلّ النزاع بينهما من استحقاقه المبيع ، لاتّفاقهما على وقوع النقل على ذلك المبيع والمشتري يدّعي صحّته والبائع يدّعي فساده ، أمّا قول المشتري بأنّ الثمن هو الدينار فذلك عبارة أُخرى عن الاعتراف منه للبائع بأنّه يستحقّ عليه ذلك الدينار مع كون البائع ينفيه عن نفسه ، فليس ذلك ـ أعني

٤٧٣

استحقاق البائع الدينار ـ مورد الخصومة كي يقال إنّ أصالة الصحّة لا تثبته فكيف يكون منكراً.

وهكذا الحال في كلّ ما كان من هذا القبيل ممّا كان فيه العوض مردّداً بين ما هو موجب الفساد وما هو موجب الصحّة كما في مسألة الاجارة ، ودعوى أحدهما وقوع العقد على السنة بثمن معلوم وهو الدينار وادّعى الآخر وقوع العقد عليها بثمن مجهول وهو هذه الصبرة من الطعام ، وكذلك الحال فيما لو ادّعى أحدهما أنّ الشراء صحيح لكونه قد وقع على هذه الصبرة التي هي معلومة المقدار ، وادّعى الآخر أنّه قد وقع على تلك التي هي مجهولة المقدار ، أمّا لو وقع النزاع في أنّ هذه الصبرة التي اتّفقا على وقوع البيع عليها هل هي مجهولة المقدار عند البيع أو هي معلومة ، فلا يكون ممّا نحن فيه ، ويكون القول فيها هو قول مدّعي الصحّة. ومن ذلك كلّه يظهر لك السرّ في الفرعين اللذين نقلهما عن القواعد فإنّهما داخلان في هذا الضابط الذي ذكرناه ، فتأمّل (١)

__________________

(١) مقدّمة لتوضيح المسألة التي هي محلّ الكلام : وهذه المقدّمة تتّضح بمثال ، وهو أنّه لو اتّفق البائع للثوب مع مشتريه على وقوع البيع وصحّته ، لكن ادّعى البائع أنّ الثمن كان ديناراً ، والمشتري يقول لا بل إنّ الثمن كان منّاً من الحنطة ، فقيل إنّهما متداعيان وعليهما التحالف وبعد التحالف يحكم بالتفاسخ.

لكن قد يقال : إنّ المدّعي هو البائع ، لتسالمهما على انتقال الثوب إلى المشتري ، والمشتري لا نزاع له مع البائع لأنّه يعترف للبائع بالمنّ من الحنطة والبائع ينفيه ، فلا خصومة بينهما من هذه الجهة ، وإنّما عمدة الخصومة في استحقاق الدينار ، فالبائع يدّعيه والمشتري ينكره ، فيكون القول قول المشتري وعلى البائع البيّنة.

إذا عرفت ذلك فنقول في الفرع الذي حرّره الشيخ قدس‌سره فيما لو كان الميّت قد اشترى

٤٧٤

__________________

الثوب ، وقد وقع النزاع بين البائع والورثة في أنّ الثمن هل كان ديناراً فتكون المعاملة صحيحة ، أو أنّه كان خمراً فتكون المعاملة فاسدة ، فهناك صورتان ، لأنّ مدّعي الفساد تارةً يكون هو البائع وأُخرى هو ورثة المشتري.

فإن كان مدّعي الفساد هو الورثة والبائع يدّعي الصحّة وأنّ الثمن كان ديناراً ، فمع قطع النظر عن إشكال كون شرط أصالة الصحّة أن لا يكون المورد من الأركان ، وأنّه عند الشكّ في كون الثمن خمراً أو كونه ديناراً لا مجرى لأصالة الصحّة ( ولنفرض في مقابل الدينار صبرة من الطعام مجهولة المقدار ) نقول بعونه تعالى : إنّ أصالة الصحّة المطابقة لقول البائع إن لم يترتّب عليها استحقاق البائع الدينار على ورثة المشتري كما يقوله الشيخ قدس‌سره فيما أفاده من قوله : فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، بل يحكم بصحّة الشراء وعدم انتقال شيء من تركته إلى البائع لأصالة عدمه [ فرائد الأُصول ٣ : ٣٧١ ] ، فأي أثر لاعتماد البائع عليها مع أنّه معترف بأنّ الثوب ملك للمشتري ، وإنّما يدّعي الدينار بازائه ، فإذا لم تكن أصالة الصحّة مثبتة له الدينار وكان المرجع فيه أصالة العدم ، فماذا رتّبه البائع على إجراء أصالة الصحّة وماذا رتّبه الحاكم باجرائها ، وحينئذ لا يظهر أثر لإجراء أصالة الصحّة فتسقط ، كما لو قلنا بأنّها لا تجري لعدم إحراز الركن ، وحينئذ يكون النزاع بينهما على استحقاق الدينار ، فالبائع يدّعي وورثة المشتري ينكرونه ، فعلى البائع الاثبات.

ولو كان البائع مدّعياً للفساد بدعوى كون الثمن خمراً ، وكان الورثة ينكرون ذلك ويدّعون أنّ الثمن كان ديناراً ، لو أجرينا أصالة الصحّة كانت نافعة لهم في استحقاق الثوب ، فتجري في حقّهم ويكون القول قولهم ، أمّا الدينار فلا خصومة فيه ، لأنّهم يعترفون به للبائع ولكنّ البائع ينفيه عن ملكه ، ولو قلنا بأنّ أصالة [ الصحّة ] لا تجري في حقّهم للشكّ في الركن كان الحال كذلك في الدينار لا خصومة فيه ، وإنّما الخصومة في الثوب ، فهم يدّعون أنّه لهم بالشراء الصحيح والبائع ينكر ذلك فيكون

٤٧٥

__________________

القول قول البائع وعليه اليمين ، وتكون البيّنة على الورثة ، فإن لم يكن لهم بيّنة وحلف البائع كانوا فيما بينهم وبين [ الله ] ملزمين بإيصال الدينار إليه لإقرارهم بأنّه له ، اللهمّ إلاّ أن يأخذوه قصاصاً إن جوّزنا القصاص مع اليمين.

أمّا الكلام في مقابلة أصالة الصحّة بالأصل فهو متوقّف على النظر في دليلها ، وليس هو إلاّ الإجماع والسيرة ، فإن لم يكن في البين معقد إجماع بطل الكلام في هذه المسألة ، إذ لو تمّ الإجماع فيها قدّمت أصالة الصحّة على الأصل الجاري فيها ، ولو لم يثبت الإجماع فيها كان المرجع هو الأصل الجاري ، فالعمدة إنّما هو بعد ثبوت معقد الإجماع ليكون بمنزلة النصّ العام ، وحينئذ نقول : مع قطع النظر عن كون المشكوك من الشرائط ركناً ، أو بعد الالتزام بأنّه لا فرق في جريانها بين كون المشكوك ركناً أو غير ركن ، لا يكون في قبالها إلاّ أصالة عدم النقل والانتقال ، أو أصالة عدم اعتبار المبيع فيما لو كان العوض صبرة من الطعام وقد حصل [ الشكّ ] في أنّهما اختبراها ووزناها ، أو أصالة عدم بلوغ العاقد ، وفي جميع ذلك يكون المرجع هو عموم « لا تنقض اليقين بالشكّ » في قبال إذا شككت في صحّة العقد مثلاً فابن على الصحّة ، والثاني أخصّ من الأوّل ، فيكون هو المقدم ، وهو معنى قولهم إذا قدّمنا الاستصحاب تكون أصالة [ الصحّة ] بلا مورد.

ولكن قد يقال : إنّ أصالة الصحّة حاكمة على أصالة عدم [ النقل و ] الانتقال ، لكون ذلك من قبيل الموضوع والحكم ، نظير حكومة أصالة الصحّة في الوضوء مثلاً على استصحاب الحدث ، فإنّ النقل والانتقال حكم لاحق لتمامية العقد ، وحينئذ يكون هذا المورد خارجاً موضوعاً خروجاً تنزيلياً عن عموم « لا تنقض اليقين بالشكّ » وتختصّ به أصالة الصحّة ، كما أنّ هذا العموم ـ أعني عموم « لا تنقض » ـ يختصّ بمثل استصحاب الحياة ونحوه ممّا لا مورد فيه لأصالة الصحّة ، ليكون بينهما عموم من وجه ، ويجتمعان في مثل مورد الشكّ في البلوغ ويتعارضان فيه.

٤٧٦

__________________

لكن التحقيق : أنّ تقديم أصالة الصحّة بطريق الحكومة على عموم « لا تنقض » لا يوجب خروجه عنه حقيقة كي يكون موجباً لانقلاب النسبة ، بل إنّ النسبة كما هي عموم من وجه وأنّ المقدّم هو الخاصّ ، غايته أنّ تقديمه في بعض الموارد بطريق الحكومة ، وهي تخصيص بحسب الواقع.

ولو أغضينا النظر عن ذلك والتزمنا بوقوع التعارض بين أصالة الصحّة والأصل الموضوعي الجاري في موردها ، نقول إنّها هي المقدّمة ، فإنّ أصالة عدم اختبارهما الصبرة لا يوجب إحراز كون ذلك العقد عقداً على المجهول ، فإنّ أصالة العدم بمفاد ليس التامّة لا تثبت نسبة ذلك العدم إلى العقد بمفاد ليس الناقصة ، كما أنّها لا تنفي نسبة ذلك الشرط ـ أعني العلم ـ إلى العقد بمفاد كان الناقصة.

والحاصل : أنّ أصالة عدم العلم بالثمن لا تنفي العقد الصحيح أعني العقد على المعلوم ، ولا تثبت العقد الفاسد أعني العقد على ما ليس بمعلوم ، وهكذا الحال في العدم بمفاد ليس الناقصة بالنسبة إلى العاقد ، بأن نقول بأنّه كان ليس ببالغ ، إذ لا يترتّب على ذلك إلاّ العقد من ناحية وكون العاقد غير بالغ من الناحية الأُخرى ، وذلك لا يوجب اتّصاف الأوّل بالثاني إلاّبالأصل المثبت.

وإن شئت قلت : إنّ الأصل النافي للشرط سواء كان مثل أصالة عدم تحقّق اعتبار المبيع بوزنه ، أو كان مثل استصحاب عدم بلوغ العاقد إلى أن صدر منه [ العقد ] ، لا يوجب كون العقد منعدم الشرط بمفاد ليس الناقصة ، أمّا الأصل الأوّل فواضح ، لأنّه من قبيل أصالة عدم القرشية ، وأمّا الثاني فلأنّ أقصى ما فيه أن يكون عقد بالوجدان وعدم بلوغ العاقد بالأصل ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب اتّصاف العقد بأنّه ليس من بالغ بمفاد ليس الناقصة.

ولو سلّمنا أنّه يثبت بذلك عنوان مفاد ليس الناقصة بالنسبة إلى العقد ، فذلك لا يطرد ما هو محلّ الأثر ـ أعني العقد الواجد للشرط بمفاد كان الناقصة ـ كي يكون ذلك

٤٧٧

قوله فيما حكاه عن العلاّمة قدس‌سره في القواعد : فإن قدّمنا قول المالك فالأقوى صحّة العقد في الشهر الأوّل (١) هنا ... الخ (٢) ـ (٣).

لا يخفى أنّه بعد البناء على بطلان الاجارة بقول مطلق فيما لو آجره الدار كلّ شهر بدرهم كما يظهر من العلاّمة قدس‌سره (٤) في المباحث السابقة على هذه العبارة ، نبقى نحن وقول المستأجر ، وحينئذ فإن قلنا كما قاله المحقّق الثاني (٥) بعدم جريان أصالة الصحّة فيما لو شكّ في تعيين المدّة لأنّ تعيينها ركن في باب الاجارة ، كان المرجع هو أصالة عدم ترتّب الأثر وعدم النقل والانتقال ، فيكون المقدّم هو قول المالك لموافقته لأصالة عدم ترتّب الأثر ، كما نقل في مفتاح الكرامة عن الإيضاح أنّه الأولى (٦) ، وعن الحواشي أنّه الأقوى ، وعن جامع المقاصد أنّه الأوجه ، لكن تقديمه إنّما هو لما عرفت من أنّه بعد فرض عدم جريان أصالة الصحّة في ناحية

__________________

موجباً لانتفاء السبب الذي هو العقد الواجد للشرط بمفاد كان الناقصة ، إذ ليس مفاد ليس الناقصة نقيضاً لمفاد كان الناقصة كي يكفي في ثبوته بالأصل كونه طارداً لأثر نقيضه ، بل هما ملحقان بالضدّين ، فلاحظ وتدبّر.

ولو أُغضي النظر عن ذلك كلّه ، لقلنا إنّ أصالة الصحّة مقدّمة ، لأنّها من قبيل الظهور الحاكم على ما في مورده من الأصل ٢٠ / ربيع ١ / ١٣٨١ [ منه قدس‌سره ].

(١) قواعد الأحكام ٢ : ٣١٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٦٧.

(٣) للشيخ قدس‌سره كلام في المكاسب [ ٤ : ٢٨٤ ] في أصالة الصحّة ينبغي مراجعته في أواخر اشتراط معلومية العوضين قبيل قوله : مسألة لابدّ من اختبار الطعم واللون والرائحة [ منه قدس‌سره ].

(٤) قواعد الأحكام ٢ : ٢٨٥.

(٥) جامع المقاصد ٧ : ٣٠٨.

(٦) مفتاح الكرامة ١٥ : ٤٠٠. إيضاح الفوائد ٢ : ٢٨٣.

٤٧٨

قول المستأجر وبعد فرض بطلان الاجارة لكلّ شهر درهم ، يكون الأصل هو عدم ترتّب الأثر ، لا لما في مفتاح الكرامة من أنّ المستأجر وإن كان مدّعياً للصحّة إلاّ أنّه مع ذلك مدّع أمراً زائداً وهو استيجار سنة بدينار والمالك ينكره ، فلا يقدّم قوله فيه لأنّ الأصل عدمه.

ومن ذلك يتّضح لك أنّه بعد فرض عدم جريان أصالة الصحّة وفرض بطلان الاجارة لكلّ شهر بدرهم ، وبعد فرض تقديم قول المالك ، يكون الحكم هو بطلان الاجارة بيمين المالك ، فلا وجه للقول بصحّة العقد في الشهر الأوّل ، وما أفاده المحقّق الثاني قدس‌سره في توجيهه من الاتّفاق منهما على أنّ أُجرة الشهر الأوّل هي الدرهم لا يكون نافعاً في الحكم بصحّة الاجارة في الشهر الأوّل بعد فرض بطلان الاجارة فيما لو آجره لكلّ شهر بدرهم بقول مطلق من دون استثناء الشهر الأوّل ، نعم لو قلنا في تلك المسألة بالصحّة في الشهر الأوّل كان لازمه هنا الصحّة فيه أيضاً ، لكن مفروض الكلام هو إطلاق البطلان في تلك ، فماذا تكون قيمة الاتّفاق بين المتعاقدين على أنّ أُجرة الشهر الأوّل هو الدرهم بعد الحكم بفساد المعاملة من رأس.

والإنصاف : أنّ عبارة العلاّمة قدس‌سره القائلة : فالأقوى صحّة العقد في الشهر الأوّل هنا ، لا يمكن توجيهها ، فراجع مفتاح الكرامة لترى ما تحمّله الجماعة الذين نقل عنهم توجيهها من التكلّف الظاهر.

ولا يخفى أنّا لو قلنا في مسألة ما لو آجره لكلّ شهر درهم بالصحّة بقول مطلق ، هل يكون النزاع المذكور من باب التداعي ، لأنّ كلاً منهما يدّعي العقد على خلاف ما يدّعيه الآخر ، أو أنّ المالك مدّع لأنّه يدّعي الخيار لنفسه على رأس كلّ شهر والمستأجر ينكره؟ محلّ تأمّل وإشكال.

٤٧٩

ولو قلنا بالصحّة في تلك المسألة في خصوص الشهر الأوّل ، فهل يكون المدّعي هو المستأجر والمنكر هو المالك ، لما في مفتاح الكرامة وعن جامع المقاصد من أنّ المستأجر يدّعي أمراً زائداً وهو استيجار تمام السنة والمالك ينكره ، أو أنّ الأمر بالعكس لأنّ المالك يدّعي بطلان الاجارة فيما زاد على الشهر الأوّل والمستأجر يدّعي صحّته ، فيكون قوله موافقاً لأصالة الصحّة بناءً على جريانها في صورة الشكّ في تعيين المدّة؟ أيضاً محلّ تأمّل وإشكال ، لكنّا في غنى عن ذلك كلّه بعد أن قلنا في صورة ما لو آجره لكلّ شهر درهم ببطلان الاجارة بقول مطلق ، أمّا بناءً على جريان أصالة الصحّة في صورة الشكّ في تعيين المدّة فلوضوح كون المدّعي هو المالك والمنكر هو المستأجر ، وأمّا بناءً على عدم جريانها فلوضوح كون الأمر بالعكس ، إذ بعد سقوط أصالة الصحّة في ناحية قول المستأجر يبقى عندنا أصالة عدم ترتّب الأثر وهي موافقة لقول المالك ، فتأمّل.

وخلاصة البحث : هو أنّ حاصل ما عند المستأجر هو اعترافه للمالك بالدينار لكونه بحسب دعواه عوضاً [ عن ] منفعة السنة ، والمالك ينفي الدينار عن نفسه ، فلا نزاع بينهما من هذه الناحية ، نعم إنّ المستأجر يطالب بمنفعة السنة استناداً إلى صحّة الاجارة والمالك ينكر ذلك ، فيكون المدّعي هو المستأجر والمنكر هو المالك ، وأصالة الصحّة لا تنفع في هذا الوادي ، لأنّها لا تثبت وقوع العقد على السنة كي يحكم باستحقاق المستأجر لها ، نعم لازم صحّة الاجارة هو وقوع العقد على السنة ، وحيث إنّ أصالة الصحّة لا تنفع في ذلك كان المرجع فيه هو أصالة عدم انتقال [ منفعة ] السنة إلى المستأجر ، فيكون القول في ذلك قول المالك ، هذا بناءً على بطلان الاجارة لكلّ شهر بدرهم بقول مطلق ، أمّا لو قلنا

٤٨٠