أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

نفسه شيء ، بمعنى أنّ تعلّق الشكّ به عبارة أُخرى عن أنّ الشاكّ لاحظه شيئاً في قبال المركّب ، كما أنّه لو تعلّق الشكّ بالمركّب لم يكن ذلك الجزء شيئاً ، بل كان عدماً ومندكّاً في المركّب ، وهذان الشكّان داخلان معاً في عرض واحد تحت قولك : إذا شككت في شيء ، ولا يتوقّف دخول الأوّل مع فرض دخول الثاني على تنزيل وإعمال عناية من الشارع ولا من الشاكّ. أمّا الشارع فلما عرفت ، وأمّا الشاكّ فلما عرفت من أن محصّل كون الجزء مشكوك الوجود عنده أنّه في حال تعلّق شكّه به قد لاحظه استقلالاً ، وإن كان هو واقعاً في ضمن الغير.

لكن قال السيّد سلّمه الله : فهي ( يعني الأدلّة الخاصّة مثل قوله : « شكّ في الأذان وقد دخل في الاقامة » إلى آخر صحيحة زرارة ) دالّة بالحكومة على لحاظ الجزء سابقاً على لحاظ التركيب أمراً مستقلاً بنفسه ، ثمّ قال ما محصّله : أنّ القاعدة لا تشمل شيئاً من موارد الشكّ بعد تجاوز محلّ الجزء المشكوك فيه ، لكن الروايات الخاصّة حكمت على تلك الأدلّة بإدخال أجزاء الصلاة في موضوعها بعد ما لم تكن ، ثمّ قال : فإن قلت : سلّمنا أنّ دخول أجزاء الصلاة في عموم قوله عليه‌السلام : « إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه » إنّما هو بالحكومة ، لكنّه مع ذلك لا يمكن شمول العموم المذكور لها في مقام الاثبات (١).

وهذه الكلمات كلّها تدلّ على أنّ المسألة من باب التوسعة والحكومة ، وأنّ المقام من قبيل وجوب الوضوء للصلاة وقوله عليه‌السلام « الطواف بالبيت صلاة » (٢) والذي ينبغي حينئذ هو عود الإشكال في مقام الثبوت كما عرفت ، ولا يختصّ بمقام الاثبات ، ولكنّه مع ذلك أجاب عن قوله : « إن قلت » المذكورة بما عرفت

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١٦ ـ ٢١٨.

(٢) مستدرك الوسائل ٩ : ٤١٠ / كتاب الحجّ ب ٣٨ ح ٢.

٢٨١

الاشارة إليه من التعلّق بالقضية الحقيقية ، وأنّ الإشكال إنّما يتمّ في القضية الخارجية ، أمّا القضية الحقيقية فلا يتوجّه فيها الإشكال المزبور ، لأنّ الحكم في الكبرى الكلّية إنّما هو على عنوان الشيء المشكوك ، والجزء في حدّ نفسه وإن لم يكن شيئاً ، لكن الأدلّة الخاصّة جعلته شيئاً ، قال : إذ حكومة الأدلّة الخاصّة إنّما تقع في مرحلة الانطباق وجعل ما ليس بفرد للعام في حدّ نفسه فرداً له بالتعبّد والتنزيل ، فيكون لقاعدة الفراغ فرد تكويني خارجي وهو الشكّ في صحّة العمل بعد الفراغ عنه حقيقة ، وفرد جعلي تنزيلي وهو الشكّ في وجود الجزء بعد التجاوز عن محلّه الخ (١).

ولا يخفى أنّه يعود الإشكال السابق ، وهو أنّ هذه التوسعة توجب كون ما هو الموضوع في مقام الثبوت هو الجامع بين الكلّ وبين الجزء ، والمفروض أنّه لا جامع بينهما.

ثمّ قال : ولكن التحقيق أنّ تصوير الجامع بين القاعدتين غير محتاج إليه أصلاً ، بل غير ممكن ، لما ذكرناه من أنّ جعل القاعدة الكلّية إنّما هو من باب جعل الحكم في القضايا الحقيقية التي لا نظر فيها إلى خصوصية الأفراد الخارجية ، فلو لم يكن هناك دليل التنزيل كانت القاعدة مختصّة بموارد قاعدة الفراغ ، إلاّ أنّ ورود الأدلّة الخاصّة وتطبيق القاعدة على موارد الشكّ في الأجزاء أيضاً أوجب جريان القاعدة فيها بالحكومة ، فالحكومة إنّما هي في مقام التطبيق وتحقّق الصغرى ، ومعه كيف يمكن تصوير الجامع في مقام الجعل الخ (٢) ، وقد عرفت أنّ الحكومة في المقام عبارة أُخرى عن كون الموضوع في مقام الجعل والثبوت هو الأعمّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١٨ ـ ٢١٩.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٢٠.

٢٨٢

والقدر الجامع بين الموردين ، فلاحظ.

وبالجملة : الأمر في هذه الأدلّة الخاصّة يدور بين كونها من باب جعل المماثل فلا ترجع القاعدتان إلى قاعدة واحدة ، أو من باب التنزيل والحكومة الموجبة للتوسعة في موضوع الدليل الأوّل فيعود محذور القدر الجامع ، ولا مخلص منه إلاّبالالتزام بامكانه كما عرفت ، ومعه لا حاجة إلى ذلك الدليل ولا إلى ذلك التنزيل ، مضافاً إلى ما سيأتي إن شاء الله من إباء تلك الأخبار عن إفادة التنزيل ، نعم هنا موانع أُخر من جعل القاعدتين قاعدة واحدة سيأتي إن شاء الله إيضاحها.

ثمّ إنّ العلاّمة الأصفهاني قدس‌سره في رسالته نقل هذا الوجه عن شيخنا قدس‌سره وأورد عليه بما حاصله : أنّ الدليل المتكفّل لحال الأجزاء إمّا أن يكون من باب التنزيل وإعطاء حكم موضوع لموضوع آخر ، فلا محالة تتعدّد القاعدة ، وإمّا أن يكون من باب تحقيق الموضوع فلا تعبّد في التطبيق بل في إيجاد الفرد الاعتباري كما يوجد الملكية بالحيازة أو الارث ، فيلحقها الأحكام الشرعية المجعولة للملك ، والثاني باطل لعدم إمكان الجعل فيما نحن فيه ، وإنّما يمكن ذلك في الأُمور الاعتبارية القابلة للانجعال بجعل الشارع كالملكية ، فينحصر الأمر بالأوّل وهو قاض بتعدّد القاعدة.

قلت : أمّا الثاني فلا يريده شيخنا قدس‌سره ، وأمّا الأوّل فقد عرفت أنّه إنّما يكون موجباً لتعدّد القاعدة إذا قلنا برجوع التنزيل إلى جعل المماثل ، لكنّه خلاف مسلك شيخنا قدس‌سره من جعل هذا النحو من التنزيل من قبيل الحكومة الواقعية الكاشفة عن التوسعة في الموضوع ، وكون ما هو موضوع الحكم واقعاً هو القدر الجامع ، وحينئذ يتّجه عليه قدس‌سره ما أشرنا إليه من عود محذور الجامع.

٢٨٣

ثمّ قال : مع أنّ اعتبار الجزء كلاً بلا موجب الخ (١) ، وكأنّه من تتمّة الإشكال على الوجه الثاني ، وقد عرفت أنّ شيخنا قدس‌سره لا يريده. وعلى كلّ حال ، أنّ شيخنا قدس‌سره لم يقل بتنزيل الجزء منزلة الكل أو بجعل الجزء كلاً ، بل كلّ ما أفاده إنّما هو إلحاق الجزء المندكّ في الكل الذي لا ينطبق عليه أنّه شيء بالشيء ، ليدخل في قوله : « كلّ شيء شككت فيه » وأين هذا من تنزيله منزلة الكلّ أو جعله كلاً.

ولا يخفى أنّه قدس‌سره قرّب أصل الإشكال في رسالته بما هذا لفظه : ومنها أنّ الجزء له لحاظان ، لحاظ بعين لحاظ الكل ، وفي هذا اللحاظ لا يقبل الحكم به وعليه ، ولحاظ استقلالي وهو بهذا اللحاظ سابق رتبة على لحاظ الكل ، ولا يعقل الجمع بين ملحوظين طوليين في إطلاق واحد مبني على لحاظهما في عرض واحد ، وهو اشتباه بيّن عند أهله ، لأنّ معرفة الكل وإن كانت متوقّفة على معرفة أجزائه ، إلاّ أنّه بعد معرفة الكل بأجزائه لا يتوقّف دائماً تصوّر الكلّ على تصوّر سابق لأجزائه ، بل يتصوّر الأجزاء بعين تصوّر الكل عند العارف ، فلا مانع من ملاحظة الجزء مستقلاً في عرض الكلّ ، مع أنّ المدّعى تصوّر الجامع بين الكلّ والجزء وترتيب الحكم عليه ، لا لحاظ الجزء ولحاظ الكلّ في إطلاق واحد ، فإنّ محذوره الجمع بين اللحاظين في إطلاق واحد لا الجمع بين أمرين طوليين في اللحاظ وقد مرّ كيفية ملاحظة الجزء والكل بملاحظة الجامع بنحو اللاّ بشرط القسمي (٢)

__________________

(١) رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : ٢٩٧.

(٢) رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : ٢٩٧.

٢٨٤

والإنصاف : أنّ تقريب الإشكال بالتقدّم الرتبي وأنّه لا يمكن الجمع بين ملحوظين طوليين ، هو الظاهر من تحرير السيّد ( سلّمه الله تعالى ) ولعلّ تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي قريب من ذلك. ويمكنني القول إنّ حاصل ما أفاده شيخنا قدس‌سره من الإشكال ليس مبنياً على الطولية بين اللحاظين ، بل هو مبني على المنافاة بين لحاظ الجزء ولحاظ الكل بالاستقلال والاندكاك ، فقولنا : إذا شككت في شيء ، لا يمكن أن يكون المراد من الشيء فيه هو الجامع بين الجزء الملحوظ استقلالاً والكل ، لأنّ تعلّق الشكّ بالجزء يوجب كونه ملحوظاً مستقلاً ، وتعلّق الشكّ بالكلّ يوجب كونه ـ أعني الجزء ـ ملحوظاً مندكّاً في الكلّ ، وحينئذ لا يمكن أن [ يكون ] الشيء الذي وقع متعلّقاً للشكّ في الرواية الشريفة شاملاً للجزء وشاملاً للكلّ ، لأنّه على الأوّل يكون الجزء ملحوظاً مستقلاً ، وعلى الثاني يكون الجزء ملحوظاً في ضمن الكلّ لحاظاً اندكاكياً.

وهاك نصّ ما حرّرته عنه وهو : الثاني أنّ مبنى قاعدة التجاوز على لحاظ الأجزاء كلّ واحد منها بلحاظ نفسه وقبل التركيب ، فيكون كلّ واحد منها شيئاً مستقلاً شكّ فيه بعد تجاوز محلّه ، ومبنى قاعدة الفراغ على لحاظ المجموع المركّب شيئاً واحداً ، فلا تلاحظ فيه الأجزاء إلاّمنضمّاً بعضها إلى بعض ، فلا تكون ملحوظة على حالها وبنفسها ليكون كلّ واحد منها في هذه المرحلة ـ أعني مرحلة التركيب ـ شيئاً مستقلاً بحياله ليصدق عليه ما أُخذ في قاعدة التجاوز من قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء شككت فيه وقد جزته إلى غيره » (١) وإنّما يلاحظ المجموع شيئاً واحداً شكّ فيه بعد الفراغ منه ، ومن الواضح أنّه لا يمكن الجمع بين

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٣١٧ ـ ٣١٨ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٤ ، وفيه « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ... ».

٢٨٥

اللحاظين ، انتهى.

وأنت ترى أنّ المستفاد من هذه العبارة هو أنّ روح الإشكال إنّما هو في الجمع بين لحاظه استقلالاً ولحاظه مندكّاً ، فإنّها وإن اشتملت على لفظة ( قبل التركيب ) إلاّ أنّ المقصود منه هو اللحاظ الاستقلالي في قبال لحاظها الضمني الاندكاكي ، وتوصيفه بقبل التركيب ليس المراد منه هو التقدّم الرتبي ، بل المراد منه مجرّد لحاظه مستقلاً كأنّه غير داخل في المركّب ، في قبال لحاظه في ضمن المركّب عندما ينظر إلى الشكّ في المركّب.

وبالجملة : أنّ المحتاج إليه هو القدر الجامع بين الشكّين ، الشكّ المتعلّق بالجزء والشكّ المتعلّق بالكلّ ، لا الجامع بين الجزء والكل ، والمفروض أنّ الجزء في صورة كون الشكّ متعلّقاً بالجزء منظور وملاحظ بما أنّه مستقل ، وفي صورة تعلّق الشكّ بالكل يكون الجزء منظوراً وملاحظاً مندكّاً.

نعم ، يرد على هذا التقريب ما شرحناه من أنّ اللحاظ الاستقلالي للجزء واللحاظ الاندكاكي للجزء أيضاً إنّما يكون في نظر الشاكّ ، فإنّه إذا شكّ في نفس الجزء يكون قد لاحظ الجزء مستقلاً وإلاّ لم يعقل أن يشكّ فيه ، وإذا شكّ في الكلّ يكون قد لاحظ الجزء مندكّاً ، أمّا في عالم الحكاية مثل قولك : الشكّ في الشيء ، فلا مانع من شموله للقدر الجامع بين الشكّين ، لأنّ المقابلة إنّما هي بين الشكّين ، فلا مانع من جعل الشكّ بالشيء شاملاً للشكّ في الجزء والشكّ في الكلّ وحاكياً عن القدر الجامع بينهما ، وفي الحقيقة يكون الشيء شاملاً للجزء والكل ، ويكون حكم الشكّ المتعلّق بذلك الشيء هو عدم الاعتناء ، هذا.

ولكنّه بعدُ محلّ تأمّل ، لأنّ عالم الحكاية لا يقلّ عن عالم وقوع الشكّ خارجاً ، فالحاكي بقوله : الشكّ في الشيء حكمه كذا ، لو أخذ الشيء قدراً جامعاً

٢٨٦

بين الجزء والكل كان لابدّ له من لحاظ الجزء ولحاظ الكل ، وحينئذ يعود محذور أنّ لحاظ الجزء استقلالي ولحاظ الكل يوجب لحاظه مندكّاً فيه ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الملحوظ للحاكي ليس إلاّعنوان الشيء ، وأمّا كونه جزءاً في الواقع أو كونه كلاً فلا يكون ملحوظاً للحاكي ، فإنّه إنّما يحكيه بعنوان الشيئية وبمقدار ما فيه من ذلك العنوان ، نظير قولك : كلّ إنسان حكمه كذا ، لا يكون منظور الحاكي وملحوظه إلاّعنوان الإنسان ، دون ما هو زائد على الإنسان من كونه أبيض أو أسود.

ولا يخفى أنّه ليس المراد من لحاظ الجزء مندكّاً هو لحاظ الجزء الموجود في ضمن الكلّ ليقال إنّ الجزء الموجود في ضمن الكل يمكن لحاظه مستقلاً ، بل المراد أنّ لحاظ الجزء في ضمن لحاظ الكل لا يكون إلاّمندكّاً.

ثمّ إنّه قد ذكر قبل هذا إشكالات على الجامع بقوله : منها أنّ المشكوك في مورد قاعدة التجاوز هو الوجود المتعبّد به ، وفي مورد قاعدة الفراغ هي صحّة العمل الموجود المتعبّد بها ، وهما أمران متغايران لا يجمعهما جامع ، لا من حيث كون المشكوك في الأُولى لوحظ بنحو مفاد كان التامّة وفي الثانية بنحو مفاد كان الناقصة ، فإنّها بلا موجب لكفاية الشكّ في ثبوت صحّة العمل (١).

قوله : بلا موجب إلخ ، لا يخلو عن تأمّل ، لأنّ ظاهر كثير من أخبار قاعدة الفراغ هو مفاد كان الناقصة ، كما أنّ ظاهر أخبار قاعدة التجاوز هو مفاد كان التامّة. ثمّ إنّه ذكر مطلب الشيخ قدس‌سره الراجع إلى أنّ القدر الجامع هو الشكّ في وجود الصحيح ، وأورد عليه بأنّه غير معقول ، لأنّ ملاحظة العمل مهملاً واقعاً غير

__________________

(١) رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : ٢٩٦.

٢٨٧

معقول. وكأنّه يتخيّل أنّ مراد الشيخ قدس‌سره هو أنّ الجامع جامع بين واجد الصحّة وفاقدها ، فأورد عليه ما أورده ، ولكن مراد الشيخ قدس‌سره أنّ الجامع هو الشكّ في وجود الصحيح ، وهذا الشكّ تارةً ينشأ عن الشكّ في أصل وجود الشيء ، وأُخرى ينشأ عن الشكّ في صحّته بعد فرض وجوده ، فالشكّ في وجود الصحيح مسبّب عن أحدهما ، لا أنّه جامع بينهما.

نعم ، يرد عليه ما عرفت من أنّ ظاهر أخبار الفراغ هو مفاد كان الناقصة ، أعني الشكّ في صحّة الموجود ، لا الشكّ في أصل وجود الصحيح.

وأمّا ما أصلح به الإشكال المذكور بقوله : ويندفع أصل الإشكال بأنّ الصحّة لا يراد منها ترتّب الأثر حتّى لا يكون جامع للوجود ولترتّب الأثر على الموجود ، بل المراد من الصحّة استجماع العمل للأجزاء وللشرائط الخ (١) ، وهذا هو الذي أجاب به شيخنا قدس‌سره بقوله : أمّا الإشكال الأوّل ، ففيه أنّ المراد من الشكّ في الشيء الخ (٢) ، ولعلّه هو الظاهر ممّا أجاب به الأُستاذ العراقي قدس‌سره بقوله في مقالته : وأيضاً في التعبّد بتمامية الموجود أمكن إرادة الجامع بين التعبّد بالتمامية مقابل النقص الخ (٣).

وعلى كلّ حال أنّك قد عرفت أنّ هذا مجرّد تغيير عبارة ، لأنّ التمامية بمعنى واجدية الأجزاء والشرائط ، وهي صفة زائدة على أصل الوجود ، فلابدّ من

__________________

(١) رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : ٢٩٦.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٥.

(٣) مقالات الأُصول ٢ : ٤٤٩.

٢٨٨

إرجاع الجامع إلى الشكّ في وجود المركّب التامّ ، وهذا الشكّ تارةً ينشأ عن الشكّ في أصل وجوده في قبال عدمه بالمرّة ، وأُخرى ينشأ عن الشكّ في تماميته بعد إحراز أصل وجوده في الجملة ، وحينئذ يتوجّه إشكال أنّ مفاد الأخبار هو مفاد كان الناقصة.

ثمّ قال في الرسالة : بل المراد من الصحّة استجماع العمل للأجزاء والشرائط ، فمرجع الشكّ في الصحّة إلى وجود العمل بتمام أجزائه وشرائطه ، فالشكّ دائماً متعلّق بوجود العمل ، ومصداقه تارةً هو الجزء وأُخرى هو الكلّ ، واللاّ بشرطية من هذه الحيثية مجدية ، فإنّ مرجعها إلى عدم دخل الجزئية والكلّية في التعبّد بوجود العمل المشكوك الخ (١).

قلت : أمّا الشكّ في الكلّ بمعنى الشكّ في أصل وجوده في قبال عدمه بالمرّة ، فهذا غير داخل في قاعدة الفراغ ولا في قاعدة التجاوز ، إلاّ إذا كان شرطاً لعمل آخر مثل الشكّ في وجود صلاة الظهر بعد الشروع في العصر أو بعد الفراغ من العصر ، وحينئذ لابدّ أن يكون نسبة الشكّ إلى الكلّ بمعنى الشكّ في تماميته ، وهو وإن أمكن إرجاعه إلى مفاد كان التامّة ، لكنّه خلاف ظاهر الأخبار الواردة في الفراغ ، فإنّ ظاهرها هو مفاد كان الناقصة ، مضافاً إلى ما عرفت من أنّ مفاد كان التامّة يشمل الشكّ في أصل وجود المركّب ، وهو خارج عن القاعدتين وعن الجامع بينهما ، وأمّا الشكّ في الجزء فلا يكون الشكّ فيه متمحّضاً للشكّ في أصل الوجود ، بل ربما كان الشكّ فيه من جهة الشكّ في وجود شرط من شروط

__________________

(١) رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : ٢٩٦.

٢٨٩

ذلك الجزء ، فنحتاج حينئذ إلى الجامع بين مفاد كان التامّة إذا كان الشكّ في أصل وجوده ومفاد كان الناقصة إذا كان الشكّ في تماميته بتمامية شرائطه.

والحاصل : أنّا نريد جامعاً بين الشكّ في أصل وجود الجزء وبين الشكّ في تمامية الكلّ وفي تمامية الجزء لو شككنا في تحقّق شرطه بعد إحرازنا وجوده ، وإرجاع الشكّ في التمامية إلى الشكّ في أصل الوجود مع جعل متعلّق الشكّ مطلق العمل جزءاً كان أو كلاً ، ليس هو إلاّما أفاده الشيخ قدس‌سره من كون الجامع هو الشكّ في وجود الصحيح ، إذ ليس مراده من الصحيح هو ترتّب الأثر ولا ما هو منتزع من ترتّب الأثر ، بل ولا ما هو منتزع من التمامية ، بل ليس مراده به إلاّنفس التمامية ، فيكون ما أفاده بقوله : ويندفع أصل الإشكال الخ هو عين ما أفاده الشيخ قدس‌سره ، نعم إنّك قد عرفت أنّ الشيخ قدس‌سره لم يظهر منه في تلك العبارة أنّه بصدد الجامع بين القاعدتين ، وإنّما كان جلّ غرضه هو أنّ قاعدة التجاوز الجارية في الجزء شاملة لما إذا كان الشكّ في صحّته كما هي شاملة لما إذا كان الشكّ في أصل وجوده ، وهذا المقدار لا يرد عليه أنّه خلاف الظاهر من أخبار الفراغ. نعم أنّا قلنا إنّه لو تمّ هذا الجامع بين أصل الجزء وبين تماميته بتمامية شرائطه لكان جارياً في المركّب نفسه ، فيشمل موارد قاعدة الفراغ ، وحينئذ يتّجه عليه إشكال مخالفته لظاهر أخبار الفراغ.

وبالجملة : أنّ العمدة هو ملاحظة ما يستفاد من الأخبار ، والإنصاف أنّها ظاهرة في تعدّد القاعدتين ، وأنّ بعضها في مقام الشكّ في وجود الجزء بعد تجاوز محلّه ، وبعضها في مقام الشكّ في صحّة المركّب وتماميته بعد الفراغ عنه ، فلاحظ الأخبار وتأمّل.

٢٩٠

قوله : فيكون المراد من الشيء في قوله عليه‌السلام : « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » مطلق الشيء مركّباً كان أو غير مركّب ، ولا يشمل جزء المركّب بما هو جزء في عرض شموله للكل ، بل إنّما يشمله بعناية التعبّد بعد تنزيل الجزء منزلة الكل في كونه شيئاً بلحاظ المرتبة السابقة على التركيب ، فلم يستعمل الشيء في الجزء والكل في مرتبة واحدة حتّى يقال إنّه لا يصحّ إطلاق الشيء على الجزء في مرتبة إطلاقه على الكلّ ، فيرتفع الإشكال الثاني الذي هو العمدة ... الخ (١).

لا يخفى أنّ قوله عليه‌السلام : « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » إنّما وقع في ذيل رواية ابن أبي يعفور المشتملة على قوله عليه‌السلام : « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه » ومن الواضح أنّ « الشيء » فيها لا يشمل الجزء ولو بعناية التعبّد بتنزيل الجزء منزلة الكل ، وإلاّ كان اللازم هو ثبوت قاعدة التجاوز في الوضوء وعدم اختصاصها بباب الصلاة ، وحينئذ فلابدّ من القول بأنّ التعبّد في التنزيل المذكور لا يجري في هذه الرواية ، بل بما عرفت من كون الضمير في قوله « وقد دخلت في غيره » راجعاً إلى الوضوء ، تكون هذه الجملة ممحضة لقاعدة الفراغ ، وأنّ الشكّ في شيء من الوضوء إذا كان واقعاً بعد الفراغ منه لم يكن ذلك الشكّ بشيء ، وإنّما يكون الشكّ مؤثّراً ومعتنى به إذا كان واقعاً في أثناء العمل ، لا ما إذا كان بعد الفراغ منه.

ومن ذلك يظهر لك أنّه بعد ما عرفت ممّا حرّرناه من تعدّد القاعدتين صغرى وكبرى ، لا يكون لنا ما يدلّ على قاعدة الشكّ في المحل في قبال قاعدة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٥.

٢٩١

التجاوز إلاّ الركون إلى أصالة العدم ، لأنّ قوله عليه‌السلام : « إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه » بعد فرض رجوع [ الضمير ] في قوله « وقد دخلت في غيره » إلى الوضوء لا إلى الشيء ، لا يكون إلاّفي قبال قاعدة الفراغ ، ويكون محصّلها أنّك إن فرغت من العمل فلا تعتن بشكّك في تماميته ، وإنّما يعتنى بالشكّ في ذلك إذا كان واقعاً في أثناء العمل قبل الفراغ منه ، وحينئذ تكون قاعدة التجاوز حاكمة على هذه القاعدة ، لحكمها بالاتيان بالجزء المشكوك الموجب لرفع الشكّ في تمامية العمل الناشئ عن الشكّ في الاتيان بذلك الجزء ، كما هي حاكمة على قاعدة الفراغ وإن كانت موافقة لها ، لعين ما ذكرناه في وجه حكومتها على مقابلها ، ولا يبقى مورد لهذه القاعدة ولا لقاعدة الفراغ إلاّما لا تكون قاعدة التجاوز جارية فيه ، كما في الشرائط التي ليس لها محلّ مخصوص ، فهذا النحو من الشرائط لو وقع الشكّ فيه بعد الفراغ يكون مورداً لقاعدة الفراغ ، وإذا وقع الشكّ فيه في الأثناء يكون مورداً لقاعدة الشكّ في الأثناء إن قلنا بأنّها قاعدة مستقلّة غير أصالة العدم.

نعم ، لو قلنا إنّ الضمير في قوله عليه‌السلام « وقد دخلت في غيره » راجع إلى الشيء لا إلى الوضوء نفسه ، وحينئذ يكون مفاده جريان قاعدة التجاوز في الوضوء ، ويكون حينئذ قوله عليه‌السلام « إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه » مسوقاً لبيان قاعدة الشكّ في المحل في قبال قاعدة التجاوز ، غايته أنّ الصدر المتضمّن لقاعدة التجاوز في الوضوء يكون ساقطاً عن الحجّية بمعارضة رواية زرارة ، ويبقى الذيل بحاله من الدلالة على قاعدة الشكّ في المحل ، فإنّه حينئذ يتمّ لنا الدليل على قاعدة الشكّ في المحلّ في قبال قاعدة التجاوز.

لكن لا يخفى ما فيه من التكلّف ، مضافاً إلى أنّا لو سلّمنا ذلك كلّه لأمكننا أن نقول إنّ قوله عليه‌السلام : « إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه » ليس مسوقاً

٢٩٢

لتأسيس قاعدة جديدة ، وإنّما هو عبارة عن عدم إلغاء هذا الشكّ ، وأنّه يبقى على حاله مجرى لأصالة العدم غير محكوم لقاعدة التجاوز.

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه من حكومة قاعدة التجاوز على قاعدة الفراغ لا يفرق فيها بين كون مورد قاعدة الفراغ هو الشكّ في تمامية المركّب الناشئ عن الشكّ في نقصان جزء منه أو شرط كما هو المختار ، أو أنّ موردها هو الشكّ في وجود المركّب الناشئ عن الشكّ في نقصان جزء أو شرط كما يظهر من شيخنا قدس‌سره ، لأنّ قاعدة التجاوز لمّا كانت متعرّضة لوجود ذلك المحتمل نقصانه من جزء أو شرط كانت مزيلة لكلا الشكّين.

ثمّ لا يخفى أنّ قوله فيما تقدّم : يعني أنّ الشارع نزّل الشكّ في الجزء في باب الصلاة منزلة الشكّ في الكل في الحكم بعدم الالتفات إليه ـ إلى قوله في هذه العبارة ـ فيكون المراد من « الشيء » مطلق الشيء مركّباً كان أو غير مركّب الخ (١) ، لا يخلو عن اضطراب ، فإنّه إن كان مراده بالتنزيل المذكور هو أنّ الشارع نزّل الشكّ في الجزء منزلة الشكّ [ في الكلّ ] في الحكم عليه بعدم الالتفات إليه ليكون ذلك من قبيل قوله « الطواف بالبيت صلاة » (٢) بعد الحكم على الصلاة بأنّها يجب فيها الطهارة من الحدث ، فقد عرفت أنّ هذا التنزيل إن كان مرجعه إلى جعل المماثل فهو اعتراف بالتعدّد ، وإن كان مرجعه إلى الحكومة وتوسعة الموضوع السابق عاد محذور عدم معقولية الجامع.

وقد تنبّه في التقريرات المطبوعة في صيدا لهذا الإشكال ، فإنّه قال : فإن قلت : سلّمنا أنّ دخول أجزاء الصلاة في عموم قوله عليه‌السلام : « إنّما الشكّ إذا كنت في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٤ ـ ٦٢٥.

(٢) كما ورد في مستدرك الوسائل ٩ : ٤١٠ / كتاب الحجّ ب ٣٨ ح ٢.

٢٩٣

شيء لم تجزه » إلى أن قال : فلا يفرق في عدم إمكان فعلية الشمول لكلا الموردين بجعل واحد بين ما إذا كان دخول الأجزاء غير محتاج إلى ورود أدلّة خاصّة ، وبين ما إذا كان محتاجاً إليه. قلت : لو كان جعل الحكم في القاعدة من قبيل الجعل الثابت في موارد القضايا الخارجية التي يثبت الحكم فيها ابتداءً لنفس الأفراد الخارجية ، لكان للإشكال المزبور مجال واسع ـ ثمّ أطال الكلام في ذلك إلى أن قال ـ وبالجملة : إشكال الجمع بين اللحاظين إنّما يتوجّه إذا كان الجزء والمركّب ملحوظين في عرض واحد عند جعل القاعدة ، وهذا إنّما يكون مع كون القضية خارجية ، وأمّا إذا كانت حقيقية فالأفراد الخارجية لا تكون ملحوظة في جعل الحكم أصلاً ، فأين الجمع بين اللحاظين الخ (١).

ولا يخفى أنّه لا ريب في أنّ القضية القائلة « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو » إنّما هي قضية حقيقية لا خارجية ، ولكن لابدّ في دخول الفرد في القضية الحقيقية ولو بعد التنزيل والعناية المذكورة من كون الموضوع في تلك القضية شاملاً لذلك الفرد ، وإلاّ لم يكن داخلاً فيه ، وحينئذ نقول : إنّ الجزء المشكوك بعد تنزيل الشارع له منزلة مجموع العمل وصيرورته فرداً تنزيلياً له إن كان مشمولاً لقوله « كلّ شيء شككت فيه بعد مضيّه » كان قوله « كلّ شيء » شاملاً للجزء كشموله للكل ، فيلزم اجتماع اللحاظين ، وإن لم يكن مشمولاً له كان خارجاً عن عموم قوله « كلّ شيء شككت فيه » فلا تكون قاعدة الفراغ هي التي تجري في الشكّ في الأجزاء.

وما أفاده في أثناء كلامه بقوله : فقوله عليه‌السلام « إنّما الشكّ ... » الخ يثبت حكماً كلّياً على عنوان الشيء من دون نظر إلى أفراده حتّى يكون لازم لحاظ اندراج

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١٧ ـ ٢١٩.

٢٩٤

الجزء فيه في عرض اندراج الكل مستلزماً للجمع بين اللحاظين ، فالانطباق على الأفراد خارج عن جعل الحكم في القضية الكلّية الخ (١) ، لا يخفى ما فيه ، فإنّ مقام تحقّق المصداق الخارجي وإن كان لا دخل له بجعل الحكم على العنوان الكلّي ، وأنّ ذلك التصرّف الشرعي في ناحية الجزء إنّما كان في مرتبة تحقيق المصداق ، إلاّ أنّ تحقّق المصداق لا ينفع ما لم يكن ذلك المصداق مشمولاً لذلك العنوان الكلّي ولو بعد ذلك التصرّف الشرعي الراجع إلى عالم المصداق ، وحينئذ يكون الإشكال في شمول ذلك العنوان لكلّ من الجزء والكل بحاله ، ولا دافع له إلاّما ذكرناه من أنّ تعدّد اللحاظ يوجب المباينة وتعدّد المصداق ، فراجعه.

وأمّا دعوى كون المنظور إليه في القضايا الحقيقية إنّما هو العنوان الكلّي من دون نظر إلى أفراده ، فذلك يخرجها عن القضية الحقيقية إلى القضية الطبيعية ، فإنّ القضية الحقيقية لابدّ فيها من النظر إلى الأفراد ، غايته أنّه نظر إجمالي بتوسّط العنوان الكلّي الشامل لها ، لا نظر تفصيلي إلى كلّ مصداق خارجي كما في القضية الخارجية ، فتأمّل.

قوله : أمّا الإشكال الأوّل ، ففيه : أنّ المراد من الشكّ في الشيء إنّما هو الشكّ في وجود الشيء بمفاد كان التامّة ، والمشكوك فيه في قاعدة الفراغ أيضاً وجود الكل بمفاد كان التامّة ، غايته أنّ الشكّ في وجود الكل يكون مسبّباً عن الشكّ في وجود الجزء أو الشرط ، فلم يختلف متعلّق الشكّ في قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ (٢).

لا يخفى أنّ من جملة أدلّة القاعدة هو قوله عليه‌السلام في موثّقة سماعة (٣) « كلّ ما

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١٨ وفيه : « في عرض اندراج المركّب فيه مستلزماً ... ».

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٥ ـ ٦٢٦.

(٣) [ بل موثّقة محمّد بن مسلم ، كما تقدّم ذكر مصدرها في الصفحة : ٢٧٥ برقم ١ ].

٢٩٥

شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو » والشكّ في وجود الجزء وإن صحّح نسبة الشكّ إلى وجود الكل باعتبار رجوعه إلى الشكّ في وجود المجموع المركّب ولو من جهة الشكّ في وجود بعض أجزائه ، إلاّ أنّ نسبة الشكّ حينئذ إلى وجود المجموع لا تخلو من مسامحة ونحو من العناية ، بخلاف نسبة الشكّ إلى نفس وجود الجزء فإنّها عارية من هذه العناية ، وحينئذ فلو أردنا الجمع في مفاد هذه الرواية الشريفة بين مفاد قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ ، كان ذلك متوقّفاً على الجمع في نسبة الشكّ إلى الضمير في قوله « فيه » بين النسبة الحقيقية والنسبة المجازية ، فلا محيص حينئذ من أخذ الشكّ منسوباً إلى ذلك الشيء على نحو مفاد كان الناقصة بقرينة قوله « ممّا قد مضى » لما عرفت فيما تقدّم من أنّ ظاهر المضي هو مضي الشيء بنفسه ، فلابدّ أن يكون المراد من الشكّ فيه الشكّ فيه على نحو مفاد كان الناقصة ، ليكون محصّله هو الشكّ في صحّته أو تماميته بعد فرض أصل وجوده في الجملة.

وقد أبدل قدس‌سره عبارة الصحّة فيما نقله عن الشيخ قدس‌سره بالتمامية (١) ، والظاهر أنّه لا فرق بينهما ، فإنّ الصحّة هي التمامية ، ولا معنى للشكّ في المركّب التامّ إلاّ الشكّ في وجود الصحيح ، فإذا فرضنا أنّ الشكّ في وجود الصحيح عبارة عن الشكّ في صحّته ، كان الشكّ في وجود التامّ عبارة عن الشكّ في تماميته ، وهو محصّل مفاد كان الناقصة.

وبالجملة : أنّه لا يخفى على من راجع أخبار المسألة أنّه لم يتضمّن شيء منها تعلّق الشكّ بنفس المركّب على نحو مفاد كان التامّة ، فإنّ الشكّ في مثل قوله عليه‌السلام « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى » وإن كان مربوطاً بذلك الماضي ، إلاّ أنّه

__________________

(١) لعلّه قدس‌سره يشير بذلك إلى ما في تحريراته المخطوطة عن المحقّق النائيني قدس‌سره.

٢٩٦

لم يكن وجود ذلك الماضي مشكوكاً ، وإنّما كان المشكوك وجوده أمراً متعلّقاً بذلك الماضي من جزئه أو شرطه أو مانعه ، ولو صحّ لنا أن نقول إنّ المشكوك في هذه الكبرى هو نفس الماضي على نحو مفاد كان التامّة لم يحسن نسبة المضي إليه والفراغ منه ، فإنّ مضيّه والفراغ منه لا يجتمع مع الشكّ في وجوده وإن كان منشأ الشكّ في وجوده هو الشكّ في وجود جزئه ، إذ لم يكن الغرض إجراء القاعدة في الشكّ السببي وإلاّ لرجعت إلى قاعدة التجاوز ، وإنّما الغرض هو إجراؤها في الشكّ المسبّبي ، ليكون عبارة عن قاعدة الفراغ ، فلابدّ أن يكون الملحوظ هو الشكّ المسبّبي أعني وجود الكل ، ومع فرض كون الملحوظ هو الشكّ في وجود الكل لا يحسن أن ننسب الفراغ أو المضيّ إلى نفس ذلك الكل.

واعلم أنّ الموجود في تحرير السيّد ( سلّمه الله ) في بيان رجوع الشكّ في قاعدة التجاوز إلى مفاد كان التامّة ، هو أنّ الشكّ في صحّة العمل وفساده بعد الفراغ مسبّب عن الشكّ في تحقّق ما اعتبر فيه شرطاً أو جزءاً ، فما هو المشكوك بالأخرة هو الوجود بنحو مفاد كان التامّة ، من دون فرق بين موارد الشكّ في أثناء العمل وبين موارده بعد الفراغ ، الخ (١).

ولا يخفى أنّه لو تمّ ذلك لم يكن لنا إلاّقاعدة واحدة وهي قاعدة التجاوز غير الجارية فيما لو شكّ في صحّة العمل من ناحية أُخرى مثل الشكّ في زيادة ركوع أو عروض مبطل ونحو ذلك ، مضافاً إلى أنّ الشكّ في الصحّة وإن كان مسبّباً عن الشكّ في وجود الجزء إلاّ أنّ الحكم عليه بعدم الاعتناء إنّما هو وارد على الشكّ في الصحّة لا على سببه ، فلا وجه لإرجاع الحكم إلى قاعدة التجاوز.

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١٥ ـ ٢١٦.

٢٩٧

قوله : وأمّا الإشكال الثالث ... الخ (١).

لا يخفى أنّه لو بنينا على ما أُفيد من أنّ الشكّ في وجود الكل لا يتصوّر في أثناء العمل ، وأنّه إنّما يتصوّر بعد الفراغ من العمل ، لم يكن حينئذ قوله عليه‌السلام « إنّما الشكّ في شيء لم تجزه » نقيضاً لقاعدة الفراغ ، بل إنّما تكون نقيضاً لقاعدة التجاوز ، مع أنّ هذه الجملة إنّما وردت في ذيل قاعدة الفراغ بناءً على ما ذكروه من أنّ الضمير في قوله عليه‌السلام : « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره » (٢) راجع إلى الوضوء لا إلى الشيء.

وحينئذ نقول : إن بنينا على ما أفادوه من رجوع الضمير إلى الوضوء لابدّ أن نقول إنّ مجرى قاعدة الفراغ إنّما هو الشكّ في الجزء مثلاً بعد الفراغ من العمل ، فيكون مفهومها هو أنّه لو شكّ في الجزء وهو في أثناء العمل لم تجر قاعدة الفراغ وكان ذلك الشكّ معتنى به ، إمّا لأنّ قاعدة الشكّ في المحلّ قاعدة مستقلّة ، أو لأنّها عبارة عن الأخذ بالاستصحاب ، فلابدّ أن نقول إنّ هذا المفهوم إنّما هو مختصّ في مورده وهو الوضوء ، لأنّ قاعدة التجاوز لا تجري فيه ، أمّا في غير الوضوء فإنّ قاعدة التجاوز حاكمة على مقتضى هذا المفهوم ، أو لا أقل من أنّها مقدّمة عليه لو فرضنا المعارضة بينهما ، لأنّ أخبارها أقوى من هذا المفهوم سنداً ودلالة وشهرة ، أو نقول إنّ هذا المفهوم لمّا كان نقيضاً لقاعدة الفراغ يكون محصّله أنّك تعتني بهذا الشكّ إذا كنت في أثناء العمل المركّب ولم تفرغ منه ، وهذا شامل لما إذا كان قد تجاوز محلّ ذلك الجزء المشكوك إلى جزء آخر ، وما إذا كان الشكّ فيه وهو في محلّه ، وقاعدة التجاوز توجب اختصاص ذلك المفهوم بالقسم الثاني وهو

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٦.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٢.

٢٩٨

كون الشكّ في محلّ الجزء ، وتخرج منه ما إذا كان الشكّ في الجزء بعد تجاوزه إلى جزء آخر.

ولكن لا يخفى أنّ ذلك كلّه تكلّف دعانا إليه ما أفاده من رجوع الضمير إلى لفظ الوضوء ، ولو قلنا بأنّ الضمير راجع إلى الشيء لم يكن قوله عليه‌السلام « إنّما الشكّ » إلاّ نقيضاً لقاعدة التجاوز ، ونحن نلتزم بمقتضى ذلك المفهوم ، إمّا من باب أنّه قاعدة مستقلّة نعبّر عنها بقاعدة الشكّ في المحل ، أو لأنّه راجع إلى مقتضى الاستصحاب مع عدم الحاكم عليه من قاعدة التجاوز أو قاعدة الفراغ ، ولا يبقى إشكال في الرواية من هذه الجهة أعني جهة ذيلها.

نعم ، يبقى الإشكال في مفاد صدرها وهو جريان قاعدة التجاوز في الوضوء الذي لم يعملوا به ولو من جهة تقديم رواية زرارة عليه ، فأقصى ما في البين هو سقوط الصدر عن الحجّية ، وذلك لا ينافي العمل على مقتضى ذيلها ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وأمّا الإشكال الثالث ، ففيه : أنّ التناقض في المدلول مبني على صدق الشكّ في الكل عند الشكّ في الجزء في الأثناء بعد التجاوز عن محلّ الجزء ، وهو ممنوع ، فإنّ الشكّ في الكلّ إنّما يصدق بعد الفراغ عنه ... الخ (١).

لمّا أخذ الشكّ في الكل بمعنى الشكّ في وجوده بمفاد كان التامّة الناشئ عن الشكّ في وجود جزئه ، لم يكن هذا الشكّ صادقاً عنده إلاّبعد الفراغ عن الكلّ.

وفيه : أنّه يمكن أن يقال عند الشكّ في الجزء السابق قبل الفراغ من العمل أنّه شكّ في وجوده من هذه الناحية أعني ناحية جزئه السابق المشكوك ، وإن كان

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٦.

٢٩٩

بالقياس إلى ما بقي من الأجزاء لم يكن الكل موجوداً قطعاً ، ولو أُغضي النظر عن ذلك لقلنا إنّه يصدق عليه الشكّ في الكل بمفاد كان الناقصة ، سيّما إذا كان نقصان ذلك الجزء المشكوك موجباً لبطلان الصلاة ، إذ يصدق على من كان في حال السجود وقد شكّ في الركوع أنّه شاكّ في صحّة الصلاة ، أو في وجودها صحيحة ولو باعتبار ما مضى من أجزائها ، فيصدق عليه حينئذ أنّه قد شكّ في الصلاة مع كونه في أثنائها لم يجزها.

والأولى رفع التناقض بما تقدّم من حكومة قاعدة التجاوز على قاعدة الشكّ في المحل ، سواء كانت قاعدة التجاوز قاعدة مستقلّة أو كانت متّحدة مع قاعدة الفراغ بحسب الكبرى على ما تقدّم تفصيله.

وفي التقريرات المطبوعة في صيدا قرّب الحكومة بقوله : فإنّه بعد حكم الشارع في مقام الانطباق بأنّ هذا الشكّ شكّ في العمل بعد التجاوز ، كيف يمكن انطباق عكس القاعدة عليه المأخوذ في موضوعه عدم كون الشكّ بعد التجاوز الخ (١).

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ هذا التوجيه إنّما يتمّ لو أردنا أن نحكّم قاعدة الشكّ في المحل بالنسبة إلى نفس ذلك الجزء ، أمّا إذا كان المراد هو انطباق قاعدة الشكّ في المحل بالنسبة إلى المجموع المركّب فلا يتمّ التقريب المزبور ، لأنّ حكم الشارع على ذلك الجزء بأنّه قد مضى وأنّ الشكّ فيه كان بعد تجاوز المحل لا دخل له بتمام المركّب المفروض أنّه وقع الشكّ فيه مع عدم تجاوز محلّه ، فلابدّ في توجيه الحكومة من أن نقول إنّ الشكّ في تمامية ذلك المركّب لمّا كان ناشئاً

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١٩.

٣٠٠