أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

التقييد من الجهتين ، وكان لازمه حكومة استصحاب الملكية السابقة وعدم حدوث الملكية الجديدة على اليد كحكومة استصحاب الوقفية عليها ، إلاّ أنّا لو التزمنا بحكومة الاستصحاب في ناحية الملكية ـ أعني بذلك استصحاب عدم حدوث الملكية الجديدة ـ على اليد ، لم يبق لليد مورد أصلاً ، بخلاف تحكيم استصحاب الوقفية عليها فإنّه لا يترتّب عليه ذلك اللازم الفاسد ، فاستصحاب الملكية السابقة أو استصحاب عدم الملكية الجديدة وإن كان في حدّ نفسه حاكماً على اليد أو معارضاً لها ، إلاّ أنّ جعل اليد حجّة في مورده دليل قطعي على عدم اعتناء الشارع به في قبالها ، فتأمّل.

وخلاصة المبحث : هو أنّه لا ريب في أنّ مورد حجّية اليد هو ما لم يعلم حالها من حيث كونها أمانة أو غصباً أو مالكية ، وما لم يعلم حال ما تحتها من حيث كونه وقفاً مثلاً غير قابل للنقل ، بل ما لم يعلم أيضاً كون ما تحتها مملوكاً للغير ، لأنّ اليد في جميع هذه الموارد ـ ممّا علم أنّها يد غصب أو علم كون ما تحتها وقفاً غير قابل للنقل أو علم كونه مملوكاً للغير ـ لا يمكن أن تكون كاشفة عن الملكية ، ومقتضى ذلك هو حكومة الاستصحاب أو وروده عليها في الصورتين الأُوليين ، بل مقتضاه أيضاً حكومته في الصورة الأخيرة ، إلاّ أنّه لمّا علم من النصوص وعمل العقلاء الركون إلى اليد في مورد استصحاب الملكية السابقة أو استصحاب عدم ملكية صاحب اليد ، كان ذلك دليلاً قطعياً على إلغاء الاستصحاب في الصورة الأخيرة عند الشارع وبناء العقلاء ، مضافاً إلى أنّه لو قدّمنا الاستصحاب عليها في الصورة الأخيرة كما في الصورة الأُولى والثانية لبقيت اليد بلا مورد ، سواء قلنا بأنّ اليد من قبيل الأمارات أو من قبيل الأُصول العملية ، فتبقى الصورة الأُولى والثانية على ما تقتضيه القاعدة من تقدّم الاستصحاب

١٦١

عليها ، ولا يمكن العكس بأن نقول بسقوط اليد في الصورة الأخيرة وإعمالها في الأُوليين ، لكونهما نادرين بالنسبة إلى الصورة الأخيرة. مضافاً إلى ما عرفت من النصوص وعمل العقلاء من إعمالها في الصورة الأخيرة وعدم ثبوت إعمالها في الأُوليين.

ثمّ إنّ تقييد اليد بموارد عدم العلم في الصورة الأخيرة وإن كان منقوضاً بلزوم تقييد جميع الأمارات بموارد عدم العلم بخلاف مؤدّاها ، إلاّ أنّا يمكننا عدم الالتزام بذلك النقض ، للفرق بين اليد وسائر الأمارات ، بأنّ اليد في لسان بعض الأخبار المتضمّنة لإعمالها قد أُخذ فيها عدم البيّنة ، وهي مشعرة بأنّها مقيّدة بعدم العلم ، بل إنّ بعضها قد صرّح فيها بأخذ عدم العلم بخلاف ما تقتضيه ، كما تضمّنته رواية مسعدة بن صدقة من قوله عليه‌السلام ـ بعد تعداد أمثلة من جملتها ما هو مورد قاعدة اليد وهو الثوب والعبد (١) ومن جملتها ما هو مورد لأصل آخر ـ : « والأشياء كلّها على هذا حتّى تستبين أو تقوم به البيّنة » (٢) فجعل الحكم بالترخيص في تلك الأشياء التي منها ما هو مورد اليد مغيّى بالعلم بالخلاف ، فيكون موضوع الترخيص في جميع تلك الموارد ومنها ما هو مورد اليد مقيّداً بعدم العلم بالخلاف ، فيكون ذلك على حذو قوله : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام » (٣) أو « كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٤).

وهذا بخلاف باقي الأمارات فإنّه لم يقم دليل على تقييد موضوعها بعدم

__________________

(١) لا يبعد أن يكون مثالا الزوجية من باب اليد أيضاً [ منه قدس‌سره ].

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤ ( مع اختلاف يسير ).

(٣) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٧ و ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١ و ٤ ( باختلاف يسير ).

(٤) وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤ ( باختلاف يسير ).

١٦٢

العلم ، غايته أنّا نعلم علماً قطعياً أنّها لا تكون حجّة في مورد العلم بالخلاف ، وهذا لا يوجب تقييد موضوعها بذلك بحيث يكون موضوع حجّيتها هو عنوان عدم العلم ، كي يلزم منه ارتفاع هذا الحكم عند ارتفاع ذلك الموضوع في عالم التشريع بواسطة قيام الاستصحاب ، وإنّما أقصى ما في البين هو أنّ موردها منحصر بذلك ، ومجرّد ذلك لا يوجب كونه موضوعاً لها بالنحو الذي ذكرناه.

ثمّ إنّا لو تنزّلنا وقلنا إنّ ذلك راجع إلى التقييد لم يكن ذلك بعيداً ، وحينئذ يكون الوجه في عدم حكومة مثل الاستصحاب عليها وإن كان كلّ منهما مقيّداً بعدم العلم بالخلاف ، هو أنّ المجعول في باب الأمارات لمّا كان هو الاحراز وتتميم جهة الكشف ، والمجعول في باب الاستصحاب ونحوه من الأُصول الاحرازية هو الاحراز العملي الذي هو الجهة الثانية من جهات العلم الطريقي ، فكان المجعول في باب الأمارات زائداً على المجعول في الأُصول الاحرازية ، وكانت تلك الجهة الزائدة في المجعول في باب الأمارات غير زائلة بالاستصحاب ، كانت تلك الجهة الزائدة في باب الأمارات كافية في تحكيم الأمارات في مورد التدافع ، فيكون لازم ذلك هو سقوط الاحرازية في موارد الأمارات.

قوله : في كتاب القضاء من ملحقات العروة (١).

بل في كتاب الوقف مسألة ٦٤ ، لكنّه قدس‌سره لم يبرهن عليه بأزيد من قوله : لأنّه من تعارض اليد المتصرّفة فعلاً مع استصحاب الملكية أو اليد السابقتين ، وقد قرّر في محلّه تقدّم اليد الفعلية (٢)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٠٦.

(٢) العروة الوثقى ٦ : ٤٠١.

١٦٣

هذا مع اعترافه قدس‌سره في كتاب القضاء بتقدّم استصحاب الحال على اليد ، فإنّه قال : وتقديم الاستصحاب عليها في بعض الموارد إنّما هو من جهة كونه أصلاً موضوعياً يبيّن وجهها وكيفيتها ، كما إذا كانت في السابق بعنوان الأمانة أو الغصبية ، فإنّ مقتضى الاستصحاب كونها فعلاً أيضاً كذلك ، وهذا لا ينافي كونها دليلاً (١).

ولا يخفى أنّ ملاك تقدّم استصحاب الأمانية على اليد إنّما هو من جهة كون استصحاب الأمانية رافعاً لموضوع اليد الذي هو اليد التي لم يعلم حالها ، وهذا الملاك بعينه جارٍ في استصحاب الوقفية أو استصحاب عدم حصول مسوّغ البيع ، فإنّه أيضاً رافع لموضوع اليد ، فإنّها إنّما تكون أمارة على الملكية إذا كان ما تحتها قابلاً للتملّك والنقل ، وهذا الاستصحاب مخرج لتلك العين عن القابلية المذكورة ، وليس هذا الاستصحاب إلاّكأصالة عدم التذكية ، وقد اعترف بجريانه في الذبيحة التي تحت يد الكافر كما يظهر ممّا حرّره في مسألة ٦ من كتاب القضاء (٢).

ثمّ لا يخفى أنّه قدس‌سره في كتاب الوقف ذكر في المسألة السابقة المشار إليها ـ أعني مسألة ٦٤ ـ : أنّه لو أقرّ ذو اليد بأنّه كان وقفاً وأنّه اشتراه بعد حصول المسوّغ ، سقط حكم يده على ما بيّن في محلّه من أنّ ذا اليد إذا أقرّ بالمدّعى عليه يصير مدّعياً ولا يبقى حكم ليده ، إذ حينئذ يصير فيما نحن فيه مدّعياً من جهتين ، من جهة وجود المسوّغ ومن جهة الشراء المنفيين بالأصل.

ولا يخفى أنّ انقلابه مدّعياً من الجهة الأُولى هي عين ما أنكره في صدر

__________________

(١) العروة الوثقى ٦ : ٥٨٤.

(٢) العروة الوثقى ٦ : ٥٩٨.

١٦٤

المسألة من عدم تقدّم استصحاب الوقفية على اليد ، وأمّا انقلابه من الجهة الثانية فعلى الظاهر أنّه لا يحتاج إلى تصريح صاحب اليد بأنّه قد اشتراه ، بل إنّ إقراره بالوقفية السابقة مع دعواه الملكية فعلاً هو عين الانقلاب المتضمّن لدعوى الشراء والانتقال. نعم إنّه قدس‌سره يفرّق في مصبّ الدعوى كما صرّح به في كتاب القضاء (١) فراجع.

لكن الظاهر أنّه لا أثر في باب المدّعي والمنكر لمصبّ الدعوى ، بل المدار على واقع الدعوى لا خصوص مصبّها اللفظي.

ثمّ إنّه قال في كتاب الوقف في المسألة المشار إليها : لو ادّعى أنّ أباه أو جدّه شراه ، يمكن أن يقال بتقدّم قوله ، لأنّ يده وإن سقطت بالاقرار إلاّ أنّ حكم يد أبيه أو جدّه على فرض ثبوت ذلك يبقى ، إذ لم يصر أبوه أو جدّه مقرّاً باقراره ، فيحكم بملكية أبيه وانتقاله إليه بالارث (٢). وهذا غريب ، فإنّ إقراره إذا أسقط يده فقد أسقط تشبّثه بملكية أبيه وجدّه ، وأيّ أثر ليد أبيه أو جدّه بعد إقراره بما يوجب انتزاع العين من جدّه وأبيه.

قوله : فاستصحاب عدم طروّ ما يجوز معه بيع الوقف يقتضي سقوط اليد ، فإنّه بمدلوله المطابقي يرفع موضوع اليد ، فهو كاستصحاب حال اليد ... الخ (٣).

لو قلنا ببطلان الوقف عند طروّ أحد مسوّغات البيع ، كان استصحاب بقاء الوقفية كافياً في رفع موضوع اليد الذي هو اليد على ما يمكن تملّكه ، وإن قلنا

__________________

(١) العروة الوثقى ٦ : ٦٢٥.

(٢) العروة الوثقى ٦ : ٤٠١.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٦٠٧.

١٦٥

ببقاء الوقفية بحالها وعدم ارتفاعها إلاّبحدوث البيع ، كان استصحاب بقاء الوقفية غير كافٍ في رفع موضوع اليد ، واحتجنا حينئذ إلى استصحاب عدم حدوث أحد المسوّغات ، وحيث إنّ مختار شيخنا قدس‌سره هو الثاني كان المرجع عنده في هذه المسألة هو استصحاب عدم حدوث المسوّغ لا استصحاب الوقفية.

ومن ذلك يظهر لك أنّ قوله قبيل هذا في تقريب توهّم عدم حكومة الاستصحاب : بل احتمل أن تكون اليد حدثت بعد بطلان الوقف ، ليس بملائم لمسلكه قدس‌سره في مبحث بيع الوقف ، فلاحظ.

قوله : وتوهّم ـ إلى قوله ـ فاسد ، لما عرفت من أنّ قابلية المال للنقل والانتقال تكون بمنزلة الموضوع للنقل والانتقال لا من اللوازم والملزومات ـ إلى قوله ـ فلا تكون اليد أمارة على انقلاب الخمر خلاً ... الخ (١).

الذي ينبغي مراجعة تحرير السيّد سلّمه الله في هذا المقام (٢) ومراجعة ما حرّرته عنه قدس‌سره ، فإنّ هذه التقارير قد اختلفت في تقرير الوجه في حكومة الاستصحاب.

فالذي يستفاد من التقرير المطبوع في النجف هو ما عرفت من أنّ قابلية ما تحت اليد للنقل بمنزلة الموضوع لا من اللوازم ، كما يستفاد من جوابه عن الاعتراض القائل بأنّ القابلية من اللوازم واليد بعد فرض أماريتها تثبت اللوازم ، فإنّه أجاب عنه بقوله : إنّ قابلية المال للنقل والانتقال تكون بمنزلة الموضوع للنقل والانتقال لا من اللوازم والملزومات. ثمّ نظّر ما نحن [ فيه ] بالخمر المتوقّف

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٠٧ ـ ٦٠٨.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١٩٩ فما بعدها.

١٦٦

قابليته للنقل على انقلابه خلاً ، إلى أن قال : لا يمكن إثبات كونه خلاً بمجرّد كونه في اليد ـ إلى أن قال ـ وليس ذلك إلاّمن جهة كون المالية لا تكون من لوازم الملكية ، بل هي موضوع لها ، واليد لا تثبت الموضوع الخ (١).

ولا يخفى أنّه لو كانت القابلية موضوعاً لم يمكن تحكيم اليد إلاّبعد إحرازها ، فلو شكّ في الوقفية أو في الخمرية بالنسبة إلى ما تحت اليد مع فرض عدم العلم بالحالة السابقة ، كان لازم ذلك هو عدم إجراء اليد لعدم إحراز موضوعها ، ولا ينفعنا إحرازه بطريق أنّه لازم الملكية التي هي مدلول اليد ، لأنّ القابلية بعد فرض كونها موضوعاً لابدّ من إحرازها في الرتبة السابقة على إثبات الملكية باليد كما هو واضح.

الوجه الثاني : ما يستفاد من التقرير المطبوع في صيدا فإنّه أجاب عن الإشكال المشار إليه بقوله : قلت نعم إنّ دليل الحجّية على تقدير شموله للمقام لا ريب في صحّة التمسّك به لإثبات اللوازم والملزومات ، إلاّ أنّ الشأن في شموله له ـ إلى قوله ـ ضرورة أنّ احتمال الانقلاب إن كان لازماً غالبياً لموارد الشكّ في الملكية ، أمكن أن يقال إنّ دليل الحجّية ناظر إلى هذه الجهة أيضاً ، وأمّا إذا لم يكن الأمر كذلك بل كانت موارد الشكّ في الملكية غالباً غير مسبوقة بالعلم بعدم القابلية للمسير سابقاً ، فلا يمكن إثبات الحجّية في غير تلك الموارد مع عدم ثبوت إطلاق له من تلك الحيثية (٢).

وهذا التوجيه لا بأس به ، إلاّ أنّه يمكن المناقشة في دعوى عدم الاطلاق في دليل حجّية اليد ، مضافاً إلى أنّه لو أمكننا دعوى قصور الاطلاق عن ذلك فما

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٠٨.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٠٠.

١٦٧

ذكرناه في النقض أولى بقصور الاطلاق عنه ، وهو ما لو احتمل كون ما تحت اليد وقفاً أو خمراً مع عدم السبق باليقين بالوقفية أو الخمرية.

الوجه الثالث : ما حرّرته عنه قدس‌سره في ذلك ، وهو أنّ الاستصحاب يكون رافعاً بنفس مقتضاه المطابقي لموضوع اليد ، أعني أنّه بنفسه يكون مسقطاً لليد ، لأنّه بعد فرض جريان أصالة عدم حدوث المسوّغ للبيع والنقل ، تكون اليد يداً على الوقف الذي لا يسوغ نقله ، وبذلك تكون اليد ساقطة عن إفادة الملكية ، لأنّها يد على الوقف ، ومن الواضح أنّ اليد على الوقف الذي لا يسوغ تملّكه لا تكون كاشفة عن الملكية ، بخلاف جريان اليد فإنّها إنّما ترفع موضوع الاستصحاب بعد فرض جريانها وثبوت حكمها ليلزم من الحكم بكون صاحبها مالكاً الحكم بحدوث المسوّغ لانتقاله إليه بالبيع الموجب لارتفاع موضوع الاستصحاب ، فكان الاستصحاب بنفسه رافعاً لموضوع اليد ، واليد لا ترفع موضوعه إلاّبلازمها ، فيكون حاكماً عليها ، انتهى.

ولكن يتوجّه عليه النقض باستصحاب ملكية زيد ، فإنّه حاكم بأنّ اليد يد على ملك زيد ، وهي لا تكون كاشفة عن ملكية صاحب اليد ، وحينئذ نحتاج في التفرقة بينهما إلى أنّ المسبوقية بملك الغير لازم غالبي ، بخلاف المسبوقية بالوقف ، وهو ما تضمّنه الوجه الثاني.

اللهمّ إلاّ أنّ يفرّق بين استصحاب ملكية زيد واستصحاب عدم المسوّغ ، بأنّ استصحاب الملكية لزيد عبارة أُخرى عن أنّه لم ينتقل إلى صاحب اليد ، ولمّا كان مقتضى اليد هو ملكية صاحب اليد الذي هو عبارة أُخرى عن الانتقال إليه ، كانا متدافعين ، ووجب تقديم اليد لأنّها أمارة ، أو لأنّها لا مورد لها إلاّمثل ذلك ، أمّا استصحاب عدم المسوّغ فهو لا يدافع مدلول اليد الابتدائي ، بل إنّ اليد بدلالتها

١٦٨

على الملكية لصاحبها وإن كانت هي عين الحكم بالانتقال إليه ، إلاّ أنّ ذلك الحكم لمّا كان متوقّفاً على حدوث المسوّغ كانت حاكمة به بالدرجة الثانية ، فيكون الاستصحاب مقدّماً عليها.

والحاصل : أنّ استصحاب ملكية زيد في اقتضائه ملكية زيد وعدم الانتقال عنه واقع في درجة اقتضاء ملكية صاحبها وانتقال العين إليه من زيد ، وهذا بخلاف استصحاب عدم المسوّغ فإنّ اليد لا تدافعه إلاّبلازمها الواقع في الدرجة الثانية من حكمها بالملكية لصاحبها ، فتأمّل.

وإن شئت فقل : إنّ الوصول إلى درجة ملكية صاحب اليد يحتاج إلى فاءات ثلاث بأن نقول حصل المسوّغ فصار قابلاً للنقل فانتقل إلى صاحب اليد فملكه.

قوله : وهذا القسم هو المتيقّن من موارد اعتبار اليد وحكومتها على استصحاب بقاء الملك في ملك مالكه وعدم انتقاله إلى ذي اليد ، لأنّ استصحاب بقاء الملك لا يثبت كون اليد على ملك الغير إلاّبلازمه العقلي ـ إلى قوله ـ وأمارية اليد تقتضي عدم كون اليد في ملك الغير ـ إلى قوله ـ فاليد بمدلولها المطابقي تقتضي رفع موضوع الاستصحاب ، وهو بمدلوله الالتزامي يرفع موضوع اليد ... الخ (١).

الإنصاف أنّه لم يتّضح الفرق في مقتضى الاستصحاب واليد ، فإنّ استصحاب بقاء هذه العين على ملكية زيد المدّعي هو عين كون يد صاحب اليد عليها يداً على ملك الغير ، فإنّ وضع يده على هذا الملك محرز بالوجدان ، وكون هذا الملك ملك الغير بالاستصحاب ، ولو تمّ ما أُفيد من أنّ ذلك من اللوازم العقلية لكان الاستصحاب ساقطاً بنفسه لا بحكومة اليد عليه ، مع أنّ هذه الجهة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٠٩.

١٦٩

جارية بعينها في اقتضاء اليد عدم كونها في ملك الغير.

والحاصل : أنّه لا ينبغي الريب في التدافع والتعارض بين مقتضى اليد ومقتضى الاستصحاب ، من دون أن يكون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر ، وحينئذ لابدّ في توجيه تقدّم اليد عليه من سلوك ما أُفيد فيما سبق من كونها من الأمارات وهو من الأُصول ، أو كونها بلا مورد لو قدّم عليها.

اللهمّ إلاّ أن يكون المراد بقوله : لأنّ استصحاب بقاء الملك لا يثبت كون اليد على ملك الغير إلاّبلازمه العقلي الخ ، هو دفع توهّم أنّ استصحاب الملكية السابقة يتبيّن منه حال اليد وأنّها غير مالكة أو غاصبة ، فيكون حينئذ حاكماً على الأمارة المذكورة لكونه من قبيل استصحاب حال اليد ، وبيان الدفع هو أنّ استصحاب الملكية السابقة لا يثبت حال هذه اليد وأنّها غير مالكة أو غاصبة إلاّ بالأصل المثبت.

ثمّ لا يخفى أنّ المراد بالسبق في هذا المقام وفيما سيأتي هو الملكية السابقة على وضع اليد لا السبق على دعوى الملكية ، فإنّه لو ادّعى الملكية وكانت هذه الدعوى مسبوقة بملكية غيره ، وكان قد وضع يده في خلال تلك الملكية السابقة ، كان من استصحاب حال اليد ، فتسقط اليد لحكومة استصحاب حالها عليها ، وإنّما تكون اليد حاكمة بالملكية ومسقطة لاستصحاب الملكية السابقة فيما لو كان السبق على وضع اليد ، أو كان محتملاً بمعنى احتمال كون وضع اليد من أيّام تلك الملكية السابقة أو كونه قد وضعها بعد تلك الأيّام التي قد علمنا الملكية فيها ، ففي هاتين الصورتين تتقدّم اليد على استصحاب الملكية السابقة إمّا لكونها أمارة ، وإمّا لكونها أصلاً لكن لو قدّم الاستصحاب عليها لبقيت بلا مورد ، أو لا يبقى لها إلاّبعض الموارد النادرة التي لا تتناسب مع مثل قوله عليه‌السلام : « لولا ذلك

١٧٠

لما قام للمسلمين سوق » (١) وتلك الموارد النادرة هي موارد التملّك بالاستنتاج مثل ثمرة الأشجار المملوكة ونسل الحيوانات المملوكة ، فإنّها لا تكون مسبوقة بمالكية الغير ، فلا مورد فيها لاستصحاب مالكية الغير كما لا مورد فيها لاستصحاب عدم الملكية بالنسبة إلى صاحب اليد ، ولا بالنسبة إلى ما يكون تحت يده ممّا يحتمل كونه من نتاج مملوكه.

أمّا ما يملكه بالحيازة فالظاهر أنّه لا يخلو عن الاستصحاب ، فإنّ هذا الحطب الذي هو تحت يد زيد فعلاً محكوم بأنّه يملكه ويجري فيه استصحاب عدم ملكيته لهذا الحطب ، لأنّ الشكّ في ملكيته إن كان من جهة أنّه حازه فاليد قاضية بأنّه حازه بالوجدان ، وإن كان من جهة التردّد بين أنّ الحائز هو صاحب اليد أو الحائز غيره وهذا قد غصبه منه ، أمكن القول بأنّ نفس هذا الحطب كان غير مملوك لزيد والآن كما كان ، لاحتمال كون الحائز له هو غيره.

ثمّ لا يخفى أنّ اليد إنّما تكون أمارة على الملكية فيما إذا لم تكن مسبوقة بيد أُخرى ، مثلاً لو رأينا هذه العين بيد زيد ورأينا عمراً أخذها منه قهراً ، وبعد أن صارت بيده ادّعى الملكية ، واحتملنا أنّه كان مالكاً لها حينما كانت بيد زيد ، فهل تكون يد عمرو حجّة أو لا؟ ربما يقال بالثاني ، لأنّ يد زيد لا تزيد في كشفها عن مالكية زيد على العلم بمالكيته سابقاً ، وقد قلنا بأنّ اليد مقدّمة. وربما يقال بالأوّل ، لأنّ يد عمرو لمّا كانت حادثة ومتفرّعة عن يد زيد ، وكانت يد زيد في ظرفها حاكمة بأنّ زيداً مالك ، كانت مقدّمة على يد عمرو لأنّ يد زيد تحكم بأن أخذ عمرو منه قهراً من قبيل الأخذ القهري من المالك فلا أثر لها. والحاصل أنّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣ / أبواب كيفية الحكم ب ٢٥ ح ٢ ، ولفظالحديث « لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق ».

١٧١

يد عمرو طرأت في ظرف كون المال محكوماً بكونه لزيد ، فلا حكم لها ، وهذا هو المتعيّن ، فلاحظ.

هذا في مقام الثبوت والواقع ، واليد في مقام الاثبات لمّا أثبتت الملكية لصاحب اليد وكان لازمها حجّة تكشف كشفاً إنّياً عن طي تلك المراتب ، وحيث إنّ استصحاب عدم حصول المسوّغ رافع للمرتبة الأُولى ، فلا يمكن أن تكون اليد معه حجّة ، لارتفاع المرتبة الأُولى من مراتب كشفها ، فالاستصحاب لا يدع التدرّج في تلك المراتب لكي يتسنّى لنا الحكم بالمرتبة الأخيرة باليد أعني الملكية لنستكشف منها طي تلك المراتب ، وهذا بخلاف استصحاب ملكية زيد فإنّ مدلوله في عرض مدلول اليد.

ولا يخفى أنّ لازم هذا التوجيه هو عدم قبول بيّنة صاحب اليد التي تشهد بالملكية له فعلاً ، لما عرفت من توقّف ثبوت الملكية الفعلية على طي تلك المراتب التي عرفت أنّ الاستصحاب قائم بالمرصاد للمرتبة الأُولى منها ، فلا تقبل البيّنة إلاّ إذا شهدت بعروض المسوّغ للبيع ويكمل باقي المراتب باليد ، أو تشهد بباقي المراتب من الانتقال والملكية الفعلية ، فتأمّل لإمكان دعوى الفرق بين البيّنة واليد ، بكون البيّنة غير مقيّدة بقابلية الانتقال وإن كان ذلك هو موردها ، بخلاف اليد ، وحينئذ تكون البيّنة حاكمة على الاستصحاب بخلاف اليد فإنّها محكومة لاستصحاب عدم حصول المسوّغ للانتقال.

وأمّا تقدّم أصالة عدم التذكية على يد الكافر وكذلك استصحاب الخمرية ، فلأجل أنّ استصحاب عدم التذكية واستصحاب الخمرية يخرج ما تحت اليد عن كونه مالاً ، ولا ريب في أنّ موضوع اليد هو المال ، وقد تقدّم (١) البحث في أصالة

__________________

(١) في الصفحة : ١٣٤ وما بعدها.

١٧٢

عدم التذكية فيما تحت يد الكافر ، وأنّه لا مانع من الحكم بكونه مملوكاً للكافر بحيث إنّه يرثه منه وارثه الكافر الذي يرى ملكية الميتة ، ولا أقل من الحكم بالاختصاص.

ومنه يظهر الحال فيما يكون تحت يد المسلم ممّا يحتمل كونه خمراً مع عدم العلم بحالته السابقة ، فإنّه يحكم باختصاصه به وإن لم يحكم بملكيته له لعدم إحراز موضوع الملكية وهو المالية ، لكن قاعدة الطهارة بل وقاعدة الحل كافية في الحكم بكونه مالاً ، فتجري فيه اليد الحاكمة بكونه مملوكاً لذيها.

قوله : وأمّا على الأوّل وهو ما إذا أقرّ ذو اليد بأنّ المال كان في السابق ملكاً للمدّعي ـ إلى قوله ـ لأنّ باقراره تنقلب الدعوى ... الخ (١).

الإقرار بالملكية السابقة لابدّ أن يكون المراد به الملكية السابقة على وضع اليد كما هو مفروض العنوان بقوله في طليعة هذا البحث : وثبت كون المال كان ملكاً للمدّعي قبل استيلاء ذي اليد الخ ، وذلك ـ أعني الإقرار بالملكية السابقة على وضع اليد ـ يكون على نحوين : الأوّل : أن يقرّ في حال كون يده على المال بأنّ هذا المال قبل وضع يدي عليه كان ملكاً لزيد. النحو الثاني : أن يحصل منه الإقرار بالملكية قبل وضع يده ثمّ بعد ذلك الإقرار يضع يده عليه ويدّعي الملكية ، والظاهر أنّ كلاً منهما مشترك في الجهة التي أفادها من الرجوع إلى انقلاب الدعوى.

وأمّا لو كان قد أقرّ في حال وضع يده على المال بأنّ هذا المال فعلاً لزيد ثمّ بعد هذا الإقرار ادّعى الملكية مع بقاء يده بحالها ، فهذا فيه جهة أُخرى توجب سقوط يده غير انقلاب الدعوى ، وتلك الجهة هي استصحاب حال اليد ، فإنّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦١١.

١٧٣

إقراره بأنّ ما تحت يده فعلاً هو ملك زيد إقرار بأنّ يده فعلاً ليست مالكية ، فمع قطع النظر عن أنّ دعواه الملكية بعد ذلك الإقرار مستلزم لدعوى الانتقال إليه الذي هو انقلاب الدعوى ، يكون ذلك الإقرار مثبتاً لكون يده غير مالكية ، فيستصحب هذا الحال ، ويكون هذا الاستصحاب مقدّماً على يده ومسقطاً لها عن الحجّية على الملك ، وفي هذه الصورة تكون يده ساقطة حتّى لو لم يكن في مقابله من يدّعي الملكية ، فلا يمكن أن يعامل معه معاملة المالك ، فإنّ استصحاب حال اليد مانع من ترتيب آثار الملك عليه بحيث إنّه لا يجوز شراؤه منه.

ومن ذلك يظهر أنّ ما أُفيد في طليعة البحث بقوله : إن لم يكن في مقابل ذي اليد من يدّعي ملكية المال فلا إشكال في وجوب ترتيب آثار كون المال ملكاً لذي اليد والمعاملة معه معاملة المالك (١) ينبغي أن تخرج منه هذه الصورة.

نعم ، في الصورتين السابقتين إذا لم يكن في قباله من يدّعي الملكية يلزم ترتيب آثار الملك ، فإنّ إقراره وإن أوجب انقلابه مدّعياً إلاّ أنّه لمّا كان من قبيل الدعوى بلا معارض كان اللازم ترتيب آثار الملك عليه ، إذ ليس في البين استصحاب مقدّم على اليد المفروض كونها بلا معارض.

وفيه تأمّل وإشكال ، فإنّه بإقراره قد أسقط يده وأوجب إجراء أصالة عدم النقل في حقّه ، وذلك موجب لعدم جواز شرائه منه ، فإنّ الاعتماد في ذلك إن كان على اليد فقد عرفت حالها ، وإن كان على مجرّد كون الدعوى بلا معارض فهو أيضاً ، فإنّ السيد قد ذكرها في قضائه ، وذكر لها شروطاً من جملتها أن لا يكون قوله مخالفاً للأصل ، فقال : وكذا لا تجري ( يعني قاعدة الدعوى بلا معارض ) فيما

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦١٠.

١٧٤

إذا كان قول المدّعي مخالفاً للأصل (١).

ولا يخفى أنّ هذا الشرط موجب لسقوط القاعدة المذكورة بالمرّة ، لأنّ كلّ مدّع لابدّ أن يكون قوله مخالفاً للأصل ، إذ لو كان موافقاً للأصل الموجود في المسألة لكان منكراً ، وخرج عن قولهم مدّع بلا معارض.

نعم ، هناك جهات أُخر كعدم لزوم معارضته في تصرّفاته أو حمل فعله على الصحّة وغير ذلك من الجهات ممّا هو خارج عن مجرّد قاعدة الدعوى بلا معارض ، وترتيب آثار الملك ، وجواز الشراء منه بمجرّد الدعوى بلا معارض ، فإنّ هذه الجهة هي التي محلّ ما ذكرناه من الإشكال والتأمّل دون باقي الجهات ، اللهمّ إلاّ أن يدفع هذا الإشكال والتأمّل بدعوى أنّ إقرار صاحب اليد بأنّ ما في يده كان ملكاً للخصم أو مورّثه لا يكون مسقطاً لحجّية يده بتاتاً ، وإنّما يسقطها في مقابلة الخصم فقط دون من لم يكن مخاصماً له وكان أجنبياً عمّن أقرّ له بها ، فإنّ حجّية يده تكون باقية بالنسبة إلى ذلك الأجنبي بحالها كما سيتّضح ذلك في قضية فدك إن شاء الله تعالى ، لكن الآن والمسلّم من عدم سقوط اليد بالنسبة إلى الأجنبي إنّما هو بمعنى أنّه ليس له انتزاع العين من صاحب اليد ، لا أنّه يجوز له أن يعامله معاملة المالك بحيث إنّه يسوغ له شراؤها منه ، فتأمّل.

وظاهر قول السيّد سلّمه الله في تحريره : وأمّا إذا كان ثبوت الحالة السابقة بالإقرار فلا ريب في لحوقه أيضاً بالثبوت العلمي في غير مورد الترافع الخ (٢) أنّه يجوز الشراء منه وسائر المعاملات معه معاملة المالك ، لكنّه محتاج إلى تتبّع. والذي يظهر من الشيخ قدس‌سره أنّه من المسلّمات ، فراجع قوله قدس‌سره : ولذا لو لم يكن في

__________________

(١) العروة الوثقى ٦ : ٦١٢.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٠٣.

١٧٥

مقابله مدّع الخ (١).

قوله : من أنّ المدّعي هو الذي إذا ترك دعواه وأعرض عنها ترك وارتفعت الخصومة من بينهما ... الخ (٢).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : إنّ المنكر هو ما لو تُرك تَرك ، وبيان ذلك : أنّ المنكر هو من يكون قوله مطابقاً لما يكون هو المرجع في نفس المسألة لولا ما يدّعيه خصمه ، سواء كان ذلك المرجع أصلاً عملياً أو كان أمارة شرعية كاليد ونحوها ، فمرجع قول المدّعي إلى التمسّك بالاحتمال المخالف لما تقتضيه تلك الوظيفة الجارية في نفس تلك المسألة مع قطع النظر عن الترافع فيها ، ومرجع قول المنكر إلى الأخذ بما تقتضيه تلك الوظيفة ، ومرجع اليمين من المنكر إلى الحلف على نفي ذلك الاحتمال المخالف لما تقتضيه تلك الوظيفة ، ومرجع البيّنة من طرف المدّعي إلى إقامة الدليل على تحقّق ذلك الاحتمال المخالف لتلك الوظيفة.

قلت : وبذلك يتّضح لك وجه الحكمة في احتياج المدّعي إلى البيّنة ، وعدم الاحتياج إليها في طرف المنكر والاكتفاء منه باليمين.

قوله : فإنّ انقلاب الدعوى ليس من آثار الواقع ، بل من آثار نفس الإقرار ، حيث إنّ المرء مأخوذ بإقراره ... الخ (٣).

أفاد قدس‌سره فيما حرّرته عنه قدس‌سره : أنّ الإقرار قد يكون له أثر غير مرتّب على نفس ما أقرّ به ، بحيث إنّ ذلك الأثر لا يترتّب على نفس المقرّ به ، وإنّما يترتّب على

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٣٢٢.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦١٢ ـ ٦١٣.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٦١٣.

١٧٦

نفس الإقرار ، مثلاً فسق الشاهد أو الحاكم فيما لو حكم الحاكم لشخص لا يكون ذلك الشخص ملزماً به ولو كان عالماً بذلك ، ولكن لو أقرّ المحكوم له بذلك كان لإقراره أثر وهو صيرورته ملزماً بفساد ذلك الحكم ، بحيث إنّه ليس له أن يأخذ ما حكم له به استناداً إلى ذلك الحكم الذي أقرّ بفساده.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ ما ذهب إليه المشهور من انقلاب ذي اليد مدّعياً مبني على أنّه بإقراره بالملكية السابقة على يده يكون مدّعياً في الانتقال إليه ، وتكون يده ساقطة بذلك الإقرار وإن لم [ يكن ] نفس ما أقرّ به وهو الملكية السابقة موجباً لذلك ، لما ذكرناه من أنّه كثيراً ما يترتّب على الإقرار ما لم يكن مترتّباً على نفس ما أقرّ به ، فالإقرار لا يحتاج في إسقاط اليد إلى الاستصحاب كي يقال إنّ اليد حاكمة عليه ، ليكون حال الإقرار حال ثبوت الملكية السابقة بالبيّنة أو بعلم الحاكم ، بل إنّ الإقرار بنفسه يسقط اليد ، ويكون صاحبها محتاجاً إلى إقامة البيّنة على الانتقال.

والحاصل : أنّ السرّ في انقلاب الدعوى بهذا الإقرار هو ما ذكرناه من أنّ الإقرار له أثر وهو إلزام المقرّ بما أقرّ به في مقام الخصومة ، وإن لم يكن الالزام المذكور مترتّباً على نفس ما أقرّ به كما إذا ثبت بعلم الحاكم أو بقيام البيّنة ، فإنّ صاحب اليد بعد إقراره في مقام المرافعة بأنّ ما تحت يده كان ملكاً للمدّعي أو لورثته ، إن أضاف إلى هذا الإقرار ما حاصله أنّه اشتراه منه أو من مورّثه ، كان عليه إقامة البيّنة على ذلك ، وإن اقتصر على مجرّد هذا الإقرار أُلزم به ، لأنّ إقراره بملكية المدّعي أو مورّثه يكون ملزماً له بدفع ما تحت يده إليه ، لما ذكرناه.

ثمّ إنّه قدس‌سره أفاد فيما حرّرته عنه ما حاصله : أنّ هذا كلّه في حكم الإقرار في مقام الخصومة ، أمّا لو قامت بيّنة على إقرار سابق فقد يقال إنّ حكمها حكم الإقرار

١٧٧

في قلب الدعوى وتوجّه البيّنة على صاحب اليد. ولكن لا يخفى فساده ، لأنّ هذا الأثر إنّما يكون مترتّباً على الإقرار الواقع في مقام المخاصمة ، أمّا الاقرار السابق الثابت بالبيّنة فلا يزيد حكمه على نفس ما أقرّ به ، فلا يكون صاحب اليد ملزماً به ليكون موجباً لقلب الدعوى ، بل لابدّ من ضمّ الاستصحاب إلى ذلك الذي أقرّ به بحكم البيّنة ، فلو كان الثابت بالبيّنة هو الاقرار بالملكية السابقة لم يكن له أثر ، لكون الاستصحاب محكوماً باليد ، وإن كان هو الاقرار بحال اليد سابقاً أو بحال متعلّقها من كونه وقفاً ، كان الاستصحاب فيه حاكماً على اليد ، انتهى ما حرّرته عنه قدس‌سره.

وفي هذا الأخير تأمّل ، لأنّ إسقاط الاقرار السابق إن كان من جهة كونه غير واقع في مجلس التحاكم والترافع لم يكن له أثر أصلاً حتّى في إثبات مضمونه ، فلا يمكن إجراء الاستصحاب فيما أقرّ به ، وإن كان للاقرار المذكور أثر في ثبوت متعلّقه كان ملزماً لمن أقرّ به ، سواء كنّا قد سمعناه منه أو قامت به البيّنة ، وإلاّ كانت سجلات الأقارير والشهادة عليها لاغية بالمرّة ، والمسألة محتاجة إلى التتبّع ، وقد عرفت فيما تقدّم نقله (١) عن الكفاية وكشف اللثام والجواهر وغيرها أنّ الظاهر مساواة البيّنة على الاقرار لسماع الاقرار ، فراجع وتتبّع وتأمّل.

قال في الجواهر في ذيل مسألة دعوى أبي الزوجة أنّه أعارها ما تحت يدها قبيل قوله : المقصد الثالث في دعوى المواريث ، ما هذا لفظه : نعم لو فرض كون الدعوى بين الأب وبين الوارث أو بينه وبين البنت ، بدعوى التمليك عليه ، كان القول قوله حينئذ ، لأنّه منكر حينئذ لا مدّع الخ (٢) ، فإنّ المنشأ في كون القول قوله هو

__________________

(١) في الصفحة : ١٥٦.

(٢) جواهر الكلام ٤٠ : ٥٠٣.

١٧٨

انقلاب صاحب اليد مدّعياً بدعوى الوارث أو البنت أنّ الأب قد ملّك بنته ، وأصرح من ذلك ما ذكره في شرح المسألة الخامسة ، فراجعه وراجع ما نقله عن الأعلام في ذلك (١).

ولا يخفى أنّ قوله : فالأقوى وفاقاً للمحكي عن المشهور انتزاع المال عن ذي اليد وتسليمه إلى المدّعي لأنّ باقراره تنقلب الدعوى الخ (٢) ظاهره وجوب الانتزاع بمجرّد الاقرار ، ثمّ بعد فرض انقلابه مدّعياً فعليه إقامة البيّنة ، فإن أقامها استرجع المال ، وإلاّ حلف المدّعي الذي انقلب منكراً وأُبقيت العين في يده.

وربما يقال إنّ أخذ العين من يده وتسليمها إلى المقرّ له نحو من القضاء ، وهو لا يصحّ إلاّبعد ضمّ الدعوى بموازين البيّنة واليمين.

ويمكن الجواب : أنّه تبعيض في القضاء ، فإنّه بمقدار الانقلاب يكون مقضياً عليه بمقدار رفع يده ، وإن لم يحكم بمالكية المقرّ له.

والأولى أن يقال : إنّها تنتزع من يده وتبقى أمانة تحت يد الحاكم إلى أن تكمل الدعوى. وفيه تأمّل ، وينبغي التتبّع ، وظاهر ما تقدّم نقله هو الحكم بالانتزاع وظاهره التسليم إلى المقرّ له. وعبارة تحرير السيّد سلّمه الله وهي قوله : فلابدّ له من إثبات الانتقال أو تسليم المال الخ (٣) ، ظاهرة في عدم وجوب التسليم فعلاً فلاحظ ، فإنّه بعد أن سقطت يده لا وجه لإبقاء المال تحت يده إلى أن يقيم البيّنة خصوصاً إذا طلب المقرّ له الانتزاع ولو بالتسليم إلى أمين إلى أن تنخصم الدعوى الجديدة.

__________________

(١) جواهر الكلام ٤٠ : ٤٥٢.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦١١.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ٢٠٤.

١٧٩

قوله : فإن لم يضمّ إلى إقراره دعوى الانتقال يكون إقراره مكذباً لدعواه الملكية الفعلية ... الخ (١).

الظاهر أنّ سقوط يده لا يحتاج إلى تكلّف هذا التناقض الذي ربما تطرّق المنع إليه ، بل يكفي في سقوط يده مجرّد الإقرار بالملكية السابقة ، فإنّه يلزم به حتّى يقيم البيّنة على التخلّص منه ، لكن في قضاء العروة بعد نقل عبارة للكفاية تتضمّن الإشكال في الانقلاب في كلّي هذه المسألة أيّد الإشكال المزبور بما حاصله : أنّ الانقلاب ينحصر بدعوى الانتقال ، دون ما لو قال : هذا كان له سابقاً والآن هو لي ، ولم يذكر أنّي اشتريته أو انتقل إليّ ، بأن كان مصبّ الدعوى كونه له أو ليس له ، فلا يكون مدّعياً ، نعم يكون مدّعياً للملكية وحجّته على ذلك يده الفعلية (٢).

ومقتضاه أنّه لا يحتاج إلى إقامة البيّنة ، بل يكون منكراً لموافقة قوله حجّية اليد ، لكن لا يبعد أن يكون المنشأ في ذلك هو ما أشار إليه من أنّ الميزان في تشخيص المدّعي والمنكر هو مصبّ الدعوى ، وحيث قد تحقّق أنّ المدار على الواقع وعلى ما يلزم به أحدهما الآخر ، فلا تخرج المسألة عن الانقلاب بمجرّد الاقرار المذكور ، وإلاّ لجرى ذلك في قول المديون كنت مديوناً والآن أنا بريء الذمّة ، ونحو ذلك ، نظراً إلى أنّ مصبّ الدعوى هو أنّ المدّعي على الطرف يدّعي انشغال ذمّته ، والطرف يجيبه بأنّي ليست ذمّتي فعلاً مشغولة لك.

ولعلّ الإشكال الذي أشار إليه في الكفاية راجع إلى بعض صور المسألة. فإنّ نصّ عبارته التي نقلها السيّد هي قوله : وفي كلامهم القطع بأنّ صاحب اليد لو

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦١١.

(٢) العروة الوثقى ٦ : ٦٢٥.

١٨٠