أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

ونفس مرور الزمان ، فيشكّ في أنّه هل يبقى إلى هذا الآن أم لا ، ومقابله الشكّ في الرافع وهو ما يكون الشكّ في بقائه في عمود الزمان مستنداً إلى حادث كوني غير مرور الزمان ، بحيث إنّه لو بقي الكون على حاله بلا أن يوجد معدوم أو ينعدم موجود لكان باقياً قطعاً ، وإنّما يشكّ في بقائه من جهة الشكّ في حادث كوني وهو انعدام موجود كما في انعدام التغيير أو وجود معدوم كما في مثل الحدث ، فإن كلّ واحد من هذين يكون رافعاً لما هو الموجود أعني النجاسة في الأوّل والطهارة في الثاني ، ومعنى كون الثاني رافعاً واضح وهو مطابق للرافع المذكور هنا ، ومعنى كون الأوّل رافعاً أنّ انعدام التغيير وإن لم يكن رافعاً حقيقة لعدم كونه رافعاً لأثر المقتضي لكونه في الحقيقة ارتفاع نفس المقتضي ، إلاّ أنّه لمّا كان بارتفاعه يرتفع الحكم سمّي رافعاً بهذا الاعتبار.

لا يقال : إنّ ارتفاع التغيّر يكون مثل خلاص الزيت ، لكون التغيّر علّة كما أنّ الزيت يكون بمنزلة العلّة لاشتعال السراج ، فكما أنّ الثاني يكون من قبيل المقتضي فكذلك الأوّل.

لأنّا نقول : فرق واضح بينهما ، فإنّ مثال ارتفاع التغيير يكون من قبيل الارتفاع ، ومثال خلاص الزيت يكون من قبيل الانقضاء ، والارتفاع في الأوّل يكون موجباً لرفع الأثر فيكون من قبيل الشكّ في الرافع ، وخلاص الزيت في الثاني يكون من قبيل الانتهاء ويكون موجباً لانقضاء الأثر ، فيكون من قبيل الشكّ في المقتضي. نعم لو احتملنا ارتفاع الزيت الموجود أو إراقة بعضه بعد الاشتعال ، لكان الشكّ في بقاء الاشتعال الناشئ عن الشكّ في إراقة بعض الزيت الموجود من قبيل الشكّ في الرافع. نعم لو قلنا بأنّ النجاسة دائرة مدار وجود التغيير ، واحتملنا زوال التغيير لأجل تردّده بين التغيير القوي الذي لا يزول إلاّبساعات أو

٦١

الضعيف الذي يزول بالدقائق ، لكان استصحاب النجاسة في مثل ذلك من قبيل [ الشكّ ] في المقتضي.

وقد مثّل هنا في التقريرات المطبوعة في صيدا (١) للشكّ في المقتضي بمسألة الشكّ في فورية الخيار ، والظاهر أنّه كذلك ، فإنّه بعد فرض عدم أخذ الزمان الأوّل قيداً في الحكم بالخيار يدور الأمر بين كون الخيار طويل العمر أو قصيره ، وهو من قبيل الشكّ في المقتضي. لكن قد يقال إنّه من قبيل الدوران في كون الحكم مغيّى بزمان خاصّ أو غير مغيّى ، فيدخل في الشكّ في الغاية وإن كانت هي نفس الزمان.

وربما يظهر من شيخنا قدس‌سره أنّ الشكّ في الغاية وإن كانت زماناً من قبيل الشكّ في الرافع ، وقد تقدّم الكلام في ذلك مفصّلاً عند الكلام على اختصاص الاستصحاب في الشكّ في الرافع ، فراجع (٢) وتأمّل.

وعلى كلّ حال ، فإنّ المقصود هنا هو أنّ المراد بالرافع الذي يقول الشيخ قدس‌سره (٣) إنّ الاستصحاب مختصّ بالشكّ في الرافع ، هو الأعمّ من الأمر الوجودي والعدمي كما عرفت من مثالي الحدث وزوال التغيير ، وهذا الرافع أعمّ من الرافع الذي يقول الشيخ قدس‌سره عنه إنّه لو كان الاتّحاد بين القضيتين عقلياً لكان الاستصحاب في باب الأحكام مختصّاً بالشكّ في الغاية والشكّ في الرافع (٤) لأنّ المراد به خصوص الأمر الوجودي ، فلا يتوجّه على الشيخ بأنّه بعد أن جعلت الاستصحاب

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٨٥.

(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد العاشر من هذا الكتاب الصفحة : ٢٩ وما بعدها.

(٣) فرائد الأُصول ٣ : ٥١ و ٧٨ و ١٥٩.

(٤) فرائد الأُصول ٣ : ٢٩٥.

٦٢

مختصّاً بالشكّ في الرافع دون الشكّ في المقتضي ينبغي لك أن تقول بأنّ اتّحاد القضيتين عقلي ، لأنّ جميع موارد الشكّ في الرافع لا يكون الاتّحاد فيها إلاّعقلياً ، وإنّما يتصوّر الاتّحاد غير العقلي في موارد اختلال بعض القيود اللاحقة للموضوع مثل مسألة نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره ونحوها ، وهذه الموارد ليست من قبيل الشكّ في الرافع ، بل هي من قبيل الشكّ في المقتضي للشكّ في قابلية النجاسة للبقاء بعد زوال التغيّر ، لاحتمال كون التغيّر قيداً في الموضوع ، فبعد انعدامه لا مقتضي للنجاسة.

والجواب : أنّ الرافع الذي يقول باختصاص الاستصحاب بالشكّ فيه يشمل انعدام التغيير ، فهو داخل فيما يكون الاستصحاب مختصّاً به على رأيه قدس‌سره ، ولا ريب في أنّ اتّحاد القضيتين فيه ليس بعقلي ، فيدخل حينئذ في محلّ هذا البحث من الاكتفاء بالاتّحاد العرفي أو بحسب لسان الدليل ، نعم لو كان المراد بالرافع في البحث السابق هو خصوص الأمر الوجودي لكان هذا البحث هنا ساقطاً بالمرّة ، لأنّ زوال التغيير ليس بأمر وجودي ، فيكون الاستصحاب فيه ممنوعاً بمقتضى البحث السابق ، فلا يبقى حينئذ موضوع لهذا البحث الذي نحن فيه.

ولكن يمكن أن يقال : بأنّه لا يكون هذا البحث ساقطاً حتّى لو كان المراد من الرافع في البحث السابق هو خصوص الأمر الوجودي ، فإنّه لو كان الأمر كذلك وإن خرجت مسألة النجاسة والتغيّر عن هذا البحث إلاّ أنّ هناك عكسها ، وهي ما لو كان الموضوع مقيّداً بقيد عدمي ، وبعد ذلك انتقض ذلك العدم وانوجد ذلك المعدوم ، فإنّ مثل هذا الفرض لا ريب في دخوله في مسألة الشكّ في الرافع بناءً على ما تقدّم ذكره من توسعة الرافع لكلّ حادث زماني ، مع أنّه موجب للخلل في

٦٣

ناحية الموضوع بواسطة ارتفاع قيده العدمي ، فلا يكون الاتّحاد فيه عقلياً ، وحينئذ لابدّ من إدخاله في هذا البحث من كون الاتّحاد هل هو عقلي فلا يجري فيه الاستصحاب ، أو أنّه لا يعتبر الاتّحاد العقلي فيجري الاستصحاب فيه.

ولو وسّعنا البحث في هذا المقام ، وقلنا إنّ الاعتماد على التسامح العرفي في اتّحاد القضيتين يشمل الاستصحابات الموضوعية كما هو واضح في مثل مسألة الكرّية ومسألة الزمان والتدريجيات والمختلفات بحسب الشدّة والضعف على ما عرفت سابقاً ، لكانت دائرة هذا البحث أوسع بكثير من البحث السابق ، ولعلّ أصل المناقشة مع الشيخ قدس‌سره كانت في خصوص مسألة النجاسة والتغيير ، فلأجل ذلك احتيج في الجواب عنها إلى ما عرفت من أعمّية الرافع هناك عن الرافع هنا ، فراجع وتأمّل.

قوله : ثانيهما الأمر الزماني الذي يمنع من تأثير المقتضي في اقتضائه لبقاء المقتضى ـ بالفتح ـ بعد تأثيره في الحدوث ، سواء كان الرافع وجودياً أو عدمياً ، فالرافع المقابل للمقتضي أعمّ من الرافع المقابل للمانع ، لأنّ الأوّل يعمّ الأمر الوجودي والعدمي ، والثاني يختصّ بالأمر الوجودي ... الخ (١).

يمكن المناقشة فيما أُفيد من هذا التنويع للرافع.

أمّا أوّلاً : فبأنّ هذين القسمين يشتركان في أنّ كلاً منهما يكون رافعاً لنفس المقتضى ـ بالفتح ـ بعد وجوده ، فلا وجه لجعل الأوّل منهما مقابلاً للمانع والثاني مقابلاً للمقتضي ، لما عرفت من أنّ كلاً منهما يكون رافعاً للمقتضى ـ بالفتح ـ بعد فرض وجوده.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٧٨.

٦٤

وأمّا ثانياً : فبأنّه لو سلّمنا كون العدم قابلاً لأن يكون رافعاً للمقتضى ـ بالفتح ـ يكون حاله حال الأمر الوجودي في أنّه لا دخل له في عالم الموضوع ، فلا يكون الشكّ فيه موجباً للشكّ في الموضوع كي لا تكون القضية المشكوكة متّحدة مع القضية المتيقّنة.

وأمّا ثالثاً : فبأنّ محصّل ذلك هو أنّ الشيخ قدس‌سره إنّما استثنى من إشكال وحدة القضيتين خصوص الشكّ في الرافع الوجودي ، وأنّ إشكال تعدّدهما إنّما هو فيما يكون الرافع عدمياً كما في مثال زوال التغيّر ، وقد عرفت أنّ الإشكال لا ينحصر في انعدام قيد وجودي من قيود الموضوع ، بل يجري في عكسه أيضاً.

فالأولى أن يقال : إنّ الذي هو سالم من إشكال عدم اتّحاد القضيتين هو ما يكون من قبيل رافع الحكم ، سواء كان الرافع له أمراً وجودياً أو كان أمراً عدمياً إن تصوّرنا كون العدمي رافعاً ، وأنّ الذي يتأتّى فيه الإشكال المذكور إنّما هو ما إذا كان الموضوع واجداً لأمر وجودي فينعدم ذلك القيد ، أو يكون الموضوع واجداً لأمر عدمي فينوجد ذلك الأمر ، ففي مثل ذلك لا يمكن جريان الاستصحاب لعدم اتّحاد الموضوع في القضيتين إلاّبطريقة التسامح العرفي ، بإخراج ذلك القيد الوجودي أو العدمي عن كونه قيداً وعنواناً وجعله ولو بقرينة مناسبة الحكم والموضوع من قبيل العلّة ، فلا يكون ارتفاعه من قبيل ارتفاع قيد الموضوع ، بل يكون من قبيل ارتفاع علّة الحكم ، وحيث إنّها يشكّ في كونها من قبيل المحدثة فقط أو من قبيل المحدثة المبقية ، يكون هذا الشكّ موجباً للشكّ في بقاء الحكم بعد ارتفاعها ، فيجري الاستصحاب على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (١).

__________________

(١) في الصفحة : ٨٨.

٦٥

ويكون حاصل ما أفاده الشيخ قدس‌سره في أوّل الاستصحاب (١) من انحصاره في الشكّ في الرافع دون الشكّ في المقتضي ، وما أفاده هنا (٢) من استثناء الشكّ في الرافع عن شبهة اختلاف الموضوع في القضيتين ، هو أنّ المستصحب إن كان منشأ الشكّ في بقائه هو الشكّ في نفس ذات ذلك المستصحب وأنّه هل له استعداد البقاء ، فالاستصحاب لا يجري ، وهذا ما يسمّيه الشكّ في المقتضي ، وإن كان منشأ الشكّ في بقائه هو الشكّ في أمر آخر غير ذات المستصحب من انوجاد معدوم أو انعدام موجود أوجب حدوثه الشكّ في بقاء ذلك المتيقّن ، فهذا ما يسمّيه الشكّ في الرافع ، سواء كان ذلك الانعدام أو ذلك الانوجاد رافعاً لنفس المستصحب ابتداءً أو كان رافعاً له بواسطة أنّه رافع لموضوعه ، أو كان رافعاً لعلّته أو كان غاية من غايات ذلك المستصحب ، فإنّ هذه جميعها تدخل فيما اصطلح عليه أنّه من قبيل الشكّ في الرافع ، لأنّ منشأ الشكّ في بقاء المتيقّن في جميع هذه يكون راجعاً إلى حدوث حادث أو انعدام موجود ، فلا يكون منشأ الشكّ في البقاء فيها هو نفس ذات ذلك المتيقّن السابق الذي اصطلح عليه بأنّه من قبيل الشكّ في المقتضي.

وحينئذ فيكون مراده من الرافع هناك هو كلّ حادث كوني وجودي أو عدمي يكون حدوثه موجباً لارتفاع ذلك المتيقّن ، فيكون شاملاً لما يكون رافعاً لنفس الحكم ابتداءً ، ولما يكون رافعاً لعلّته ، ولما يكون رافعاً لموضوعه ، بل يكون شاملاً لغايته أيضاً ، هذا حاصل مراده من الرافع هناك.

وأمّا مراده من الرافع هنا الذي استثناه من إشكال اتّحاد القضيتين ، فهو

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٥١ و ٧٨ و ١٥٩.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٢٩٥.

٦٦

خصوص ما يكون رافعاً للحكم ابتداءً ، مثل الفسخ ومثل الطلاق بالنسبة إلى الزوجية ، والفسخ بالنسبة إلى الملكية ، والحدث بالنسبة إلى الطهارة ونحو ذلك ، فإنّ الشكّ في أمثال ذلك سواء كان على نحو الشبهة الحكمية أو على نحو الشبهة الموضوعية لا يكون موجباً لعدم اتّحاد الموضوع في القضيتين ، ويلحق به ما يكون منشأ الشكّ في بقاء الحكم هو الشكّ في بقاء علّته أو الشكّ في كيفية علّته وهل هي دوامية بعد العلم بارتفاعها. وهذا بخلاف غيرها من موارد الشكّ في بقاء الحكم ، فإنّه ربما أوجب اختلاف الموضوع فيها ، لأنّ الشكّ في بقاء الحكم من غير جهة الشكّ فيما يرفعه ابتداءً ربما يكون من جهة ارتفاع قيد يحتمل أنّه من قيود موضوعه.

وتفصيل ذلك وتوضيحه هو أن يقال : إنّ الشكّ في بقاء الحكم تارةً يكون من جهة الشكّ في رافع نفس الحكم أو في رافعية الموجود ، سواء كانا على نحو الشبهة الحكمية أو على نحو الشبهة الموضوعية ، وأُخرى يكون الشكّ في بقاء الحكم من جهة الشكّ في أنّ مثل التغيّر الذي هو علّة للنجاسة هل زال أو أنّه باقٍ لم يزل ، فيكون الشكّ في بقاء الحكم من جهة الشكّ في بقاء علّته. وربما كان الشكّ في بقائه من جهة الشكّ في كيفية علّته ، وأنّه هل هو بنحو العلّة الدوامية أو هو بنحو العلّة التي يدوم معلولها وإن زالت هي بنفسها ، وحينئذ يكون زوالها موجباً للشكّ في بقاء معلولها الذي هو الحكم الشرعي أعني النجاسة. وثالثة يكون الشكّ في بقاء الحكم من جهة الشكّ في بقاء موضوعه وانعدامه بالمرّة ، أو من جهة الشكّ في ارتفاع قيده بعد إحراز كونه قيداً في الموضوع. ورابعة يكون الشكّ في بقاء الحكم من جهة تغيّر وقع على موضوعه بانعدام صفة كانت موجودة أو انوجاد صفة كانت معدومة ، على وجه يحتمل كون وجود ذلك

٦٧

الوصف الذي انعدم أو عدم ذلك الوصف الذي انوجد دخيلاً في الموضوع. وخامسة يكون الشكّ في بقاء الحكم ناشئاً عن كون الحادث الفلاني رافعاً لموضوعه.

وهذه كلّها لا مانع من استصحاب الحكم فيها من ناحية كونه شكّاً في الرافع بناءً على ما تقدّم (١) من كون المراد بالرافع هو مطلق الطارئ الذي يوجب انعدام الحكم ، سواء كان انعدام موجود أو كان انوجاد معدوم.

نعم ، في الصورة الثالثة والرابعة والخامسة إشكال آخر يرجع إلى محلّ البحث ، وهو اعتبار وحدة القضية المتيقّنة موضوعاً مع القضية المشكوكة ، وفي الصورة الثالثة لا مجال للاستصحاب الحكمي للشكّ في بقاء الموضوع ، نعم يجري استصحاب بقاء الموضوع.

وفي الصورة الرابعة لا مجال لاستصحاب الموضوع ، إذ مع الشكّ في مدخلية التغيّر في موضوع النجاسة لا مجال لاستصحاب الموضوع بعد العلم بارتفاع التغيّر ، كما أنّه لا مجال لاستصحاب الحكم فيها مع فرض احتمال مدخلية التغيّر ، إلاّبعد إحراز الاتّحاد بين الموضوعين بحسب الدقّة العقلية أو بحسب النظر العرفي أو بحسب لسان الدليل الذي دلّ على النجاسة عندما يتغيّر الماء بالنجاسة ، ومحلّ بحثنا في الخاتمة هو هذه الصورة الرابعة ، وأمّا الصورة الخامسة فالذي يجري فيها هو استصحاب الموضوع ، ولا يجري فيها استصحاب الحكم ، ولا تدخل في محلّ بحثنا في هذه الخاتمة ، إذ لا مجال للتسامح العرفي في الصورة المزبورة كما شرحناه فيما تقدّم (٢).

__________________

(١) في الصفحة : ٦٠.

(٢) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٥٧ ـ ٥٩.

٦٨

ومن ذلك كلّه تعرف أنّ الصورة الرابعة هي المنظور إليها في الخاتمة ، ويلحق بها باقي ما يحتاج إلى التسامح العرفي مثل كرّية هذا الماء ومثل الزمان والزمانيات التدريجية كالقراءة ، ومثل المختلفات بحسب المراتب بالشدّة والضعف مثلاً ، إلاّ أنّها ملحقات لأنّها راجعة إلى استصحاب الموضوع ، ومحلّ البحث في الخاتمة راجع إلى استصحاب الحكم.

وعلى كلّ حال ، أنّ دخول الصورة الرابعة في البحث المعقود في هذه الخاتمة لا ينافي مبنى الشيخ قدس‌سره على عدم جريان الاستصحاب في الشكّ في المقتضي وانحصاره في الشكّ في الرافع ، لما عرفت من كون الشكّ في بقاء الحكم الناشئ عن انعدام ما كان يحتمل مدخلية وجوده أو انوجاد ما كان يحتمل مدخلية عدمه في الموضوع ، فيكون الإشكال فيها هو اعتبار الوحدة بين الموضوعين.

قال الشيخ قدس‌سره : إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّه كثيراً ما يقع الشكّ في الحكم من جهة الشكّ في أنّ موضوعه ومحلّه هو الأمر الزائل ولو بزوال قيده المأخوذ في موضوعيته حتّى يكون الحكم مرتفعاً ، أو هو الأمر الباقي والزائل ليس موضوعاً ولا مأخوذاً فيه ، فلو فرض شكّ في الحكم كان من جهة أُخرى غير الموضوع ، كما يقال إنّ حكم النجاسة في الماء المتغيّر موضوعه نفس الماء والتغيّر علّة محدثة للحكم ، فيشكّ في علّيته للبقاء ، فلابدّ من ميزان يميّز به القيود المأخوذة في الموضوع عن غيرها وهو أحد أُمور الخ (١). وقوله : فلو فرض شكّ في الحكم ، تفريع على قوله : والزائل ليس موضوعاً ولا مأخوذاً فيه ، يعني أنّه بعد البناء على عدم مدخلية مثل التغيّر في موضوع النجاسة ، وأنّ الموضوع لها هو

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٢٩٤.

٦٩

الماء لا يبقى شكّ في بقاء النجاسة ، ولو بقي شكّ في بقائها لم يكن ذلك من قبيل الشكّ في وحدة الموضوعين كي يدخل في محلّ البحث من الخاتمة ، بل يكون الشكّ في بقاء الحكم من جهة الشكّ في كيفية علّية التغيّر لتنجّس الماء ، وهو الصورة الثانية من الصور المتقدّمة.

وأمّا ما قبل هذه العبارة فهو إشارة إلى الصورة الرابعة من الصور التي ذكرناها ، وأمّا قوله في الوجه الأوّل : فالاستصحاب في الحكم الشرعي لا يجري إلاّ في الشكّ من جهة الرافع ذاتاً أو وصفاً ، وكذلك قوله في الوجه الثاني : وعلى هذا فلا يجري الاستصحاب فيما كان الشكّ من غير جهة الرافع الخ ، فقد تقدّم شرحه (١) ، وأنّ المراد بالرافع هنا ما يكون رافعاً للحكم ابتداءً مثل رفع الطلاق للزوجية ، فلا ينطبق إلاّعلى الصورة الأُولى من الصور المذكورة دون باقي الصور ، ويكون مراده بالشكّ من غير جهة الرافع هو الصورة الرابعة من الصور التي ذكرناها.

والذي تلخّص : هو أنّ للشكّ في بقاء الحكم صوراً :

الأُولى : الشكّ في وجود رافع الحكم نفسه.

الثانية : الشكّ في بقاء علّة الحكم أو في كيفية أخذها دوامية أو غير دوامية بعد العلم بارتفاعها. وفي هاتين الصورتين يجري استصحاب الحكم ولا يتوقّف على ما في الخاتمة ، وكلاهما من قبيل الشكّ في الرافع باصطلاح الشيخ قدس‌سره.

الثالثة : الشكّ في بقاء الحكم لأجل الشكّ في بقاء موضوعه أو في بقاء قيده مع العلم بكونه قيداً في الموضوع.

الرابعة : الشكّ في بقاء الحكم لأجل الشكّ في وجود رافع موضوعه.

__________________

(١) في الصفحة : ٦٦.

٧٠

وهاتان الصورتان لا يجري فيهما استصحاب الحكم لعدم إحراز موضوعه ، ولا يصلحه ما في الخاتمة ، ولكنّهما مع ذلك يمكن إرجاعهما إلى الشكّ في الرافع بالنسبة إلى الحكم باصطلاح الشيخ قدس‌سره.

الخامسة : الشكّ في بقاء الحكم لأجل زوال صفة كانت في موضوعه ، أو لأجل حدوث صفة في موضوعه كانت معدومة ، مع احتمال كون الموضوع مقيّداً بوجود تلك الصفة التي انعدمت ، أو كونه مقيّداً بعدم تلك الصفة التي انوجدت.

ولا يجري الاستصحاب في هذه الصورة ، لا لأجل كونه شكّاً في المقتضي لإمكان إرجاعها إلى الشكّ في الرافع باصطلاح الشيخ قدس‌سره ، بل لأجل عدم إحراز الموضوع الموجب لعدم إحراز اتّحاد الموضوع في القضيتين اتّحاداً عقلياً ، وحينئذ تكون هذه الصورة داخلة في محلّ البحث في الخاتمة.

والشيخ قدس‌سره وإن قال في الوجه الأوّل : فالاستصحاب في الحكم الشرعي لا يجري إلاّفي الشكّ من جهة الرافع ذاتاً أو وصفاً ، وقال في الوجه الثاني : وعلى هذا فلا يجري الاستصحاب فيما كان الشكّ من غير جهة الرافع ، فليس مراده بالرافع إلاّما هو رافع الحكم ابتداءً ، فهو شامل للصورة الأُولى والثانية ، ولا غبار عليه من هذه الجهة ، كما أنّه غير شامل للصورة الثالثة والرابعة ، لأنّ المانع من الاستصحاب فيهما ليس من جهة كونه شكّاً في المقتضي ، لامكان إرجاع الشكّ فيهما إلى الشكّ في الرافع ، لكنّه لا يكون رافعاً له ابتداءً ، بل لأجل عدم إحراز الموضوع فيهما ، ولا يصلحه ما في الخاتمة.

وهكذا الحال في الصورة الخامسة ، غايته أنّه يصلحه ما في الخاتمة من التسامح ، وبعد ذلك التسامح العرفي يكون الشكّ فيها شكّاً في رافع الحكم ابتداءً ، لرجوع هذه الصورة الخامسة بعد ذلك التسامح إلى الصورة الثانية ،

٧١

وحينئذ يصحّ للشيخ قدس‌سره أن يقول إنّا لو سددنا باب التسامح العرفي المذكور في الخاتمة والتزمنا بلزوم الاتّحاد بين الموضوعين بالدقّة العقلية ، ينحصر الاستصحاب في الأحكام الشرعية بصورة الشكّ في وجود ما هو رافع الحكم ابتداءً كما في الصورة الأُولى ، ويلحق بها الصورة الثانية ، ولا يجري في باقي الصور لعدم كون الشكّ فيها فيما هو رافع للحكم ابتداءً ، وحينئذ لا حاجة في توجيه كلامه قدس‌سره إلى دعوى أنّ مراده بالرافع هنا ما يختصّ بالأمر الوجودي بخلاف الرافع الذي ذكره في أوائل الاستصحاب ، لما عرفت من إمكان الجمع في كلامه بحمل الرافع هنا على ما يكون رافعاً للحكم ابتداءً ، بخلاف الرافع هناك فإنّه أوسع من ذلك.

ويمكن أن يقال : إنّه لا يحتاج إلى هذا المقدار من الاختلاف ، بل إنّ الرافع هنا هو الرافع هناك ، وليس هو في استصحاب الأحكام إلاّما يكون رافعاً للحكم سواء ذكر في هذا المقام أو ذكر في ذلك المقام ، لكن لمّا كان من الواضح أنّ الشكّ في الرافع إنّما يكون بعد إحراز الاتّحاد بين الموضوعين في القضيتين ، وإلاّ لم يكن الشكّ في الرافع ، بل كان الشكّ في البقاء من جهة عدم الاتّحاد أو من جهة عدم إحراز الاتّحاد ، لما هو واضح من أنّ عدم سراية الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ليس من قبيل ارتفاع الحكم ، وإن صحّ لنا بنحو من العناية أن نقول إنّ الحكم يرتفع بارتفاع موضوعه ، إلاّ أنّ الحقيقة إنّما هي مجرّد عدم معقولية بقاء الحكم بعد ارتفاع موضوعه.

فإن أبقينا هذا الاختلاف بحاله بأن قلنا باعتبار الاتّحاد بالدقّة العقلية ، لم يكن الاستصحاب في هذه الصورة جارياً لعدم كون الشكّ فيها شكّاً في الرافع ، لما عرفت من عدم صدق الشكّ في الرافع مع اختلاف الموضوعين ، وانحصر

٧٢

الاستصحاب بغيرها ممّا يكون الشكّ فيه ممحّضاً للشكّ في الرافع ، فلابدّ حينئذ من التسامح العرفي ليندفع إشكال اختلاف الموضوع ، وبعد هذا التسامح العرفي تدخل المسألة في الشكّ في الرافع حينئذ ، إذ مع فرض وحدة الموضوع والمحمول ولو بحسب التسامح العرفي القائل إنّ مثل التغيّر إنّما هو علّة الحكم على موضوعه لا أنّه جزء موضوعه ، لا يكون الشكّ في بقاء الحكم إلاّمن جهة الشكّ في الرافع ، لدخوله حينئذ في الشكّ في كيفية العلّية وأنّها دوامية أم لا ، بعد العلم بارتفاعها ، وقد عرفت أنّ الشكّ في ذلك يوجب الشكّ في أنّ ارتفاع تلك العلّة هل يوجب ارتفاع الحكم عن موضوعه الذي هو ذات الماء ، فتدخل المسألة الخامسة في المسألة الثانية ، هذا.

ولكن المتعيّن في تفسير كلام الشيخ قدس‌سره هو ما عرفت من أنّ مراده بالرافع هو خصوص ما يكون رافعاً للحكم ابتداءً ، وحينئذ يكون المتحصّل هو أنّا لو قلنا باعتبار الاتّحاد العقلي كان لازمه انحصار الاستصحاب بما يكون من قبيل الشكّ في رافع الحكم ابتداءً ، ولا يجري فيما يكون من قبيل انتفاء بعض القيود المحتمل مدخليتها ممّا لا يكون الشكّ في بقاء الحكم فيه من جهة الشكّ في رافع الحكم ابتداءً ، بل من جهة الشكّ في مدخلية ذلك القيد ، وإن صحّ إطلاق الرافع عليه باعتبار أنّ رفع الموضوع أو بعض قيوده يكون رفعاً للحكم. ولكن يتوجّه النقض بمسألة العلّة كما في الصورة الثانية حيث إنّ الاتّحاد فيها بالدقّة وليس من قبيل رافع الحكم ابتداءً ، فتأمّل.

ثمّ إنّي فعلاً لم أستحضر مثالاً لما يكون الموضوع حين ورود الحكم الشرعي واجداً لقيد عدمي ثمّ انتقض ذلك العدم وتبدّل بالوجود ، ليكون عكس مثال التغيّر والنجاسة ، ولا يمكن أن يمثّل لذلك بقبول شهادة العادل الذي هو

٧٣

تارك الكبيرة ولكنّه حين ورود الحكم عليه كان تاركاً للصغيرة أيضاً ، ثمّ تبدّل ذلك العدم والترك إلى أنّه قد ارتكب الصغيرة ، فنحن وإن احتملنا مدخلية ذلك العدم فيما هو موضوع الحكم ، إلاّ أنّا نعلم أنّ موضوع الحكم هو مفهوم العدالة ، وإنّما كان حقيقة شكّنا راجعة إلى الشكّ في مفهوم هذا العنوان أعني عنوان العدالة ، ولعلّه لأجل ذلك ينسدّ فيه باب التسامح العرفي باخراج عدم الصغيرة عن الموضوعية إلى العلّية ، إذ لا يتصوّر علّية ترك الصغيرة في الحكم الذي هو قبول شهادته ، وأنّ مدخليته لو كانت فإنّما هي في كونه جزء مفهوم العدالة ، هذا.

مضافاً إلى أنّ عدم الشيء لا يعقل كونه علّة في الحكم ، وهذا الأخير يوجب انسداد باب التسامح في القيود العدمية ، بمعنى أنّا لا يمكننا دعوى التسامح باخراجه عن القيدية إلى العلّية ، لأنّ العدم لا يكون علّة. وأمّا التسامح بجعله حالة لا قيداً في الموضوع ، فهو ممّا لم أتوفّق لفهمه فعلاً ، لأنّ ذلك التسامح العرفي لو تمّ كان موجباً لعدم الشكّ في البقاء.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما قال من أنّ العنبية بحسب الفهم العرفي حالة لا قيد في الموضوع ، فإنّه لو تمّ ذلك الفهم العرفي لأوجب ارتفاع الشكّ في بقاء الحكم ، والقول بأنّه وإن كان بحسب لسان الدليل موضوعاً إلاّ أنّه لمّا كان مورداً للتسامح المذكور صحّ لنا الاستصحاب ، فلا يخلو من التهافت ، لأنّه لو كان بحسب لسان الدليل موضوعاً كان ممّا يقطع بزوال الحكم عند زواله ، فلا يبقى شكّ في الارتفاع كي تصل النوبة إلى التسامح العرفي في صدق البقاء.

ومن ذلك يظهر لك الإشكال في الظرف الذي أشار إليه الشيخ قدس‌سره في الأمر الأوّل بقوله : نعم لو شكّ بسبب تغيّر الزمان المجعول ظرفاً للحكم كالخيار ، لم يقدح في جريان الاستصحاب ، لأنّ الاستصحاب مبني على إلغاء خصوصية

٧٤

الزمان الأوّل (١) حيث إنّ الظرف لو أخرجناه عن القيدية كان الشكّ في البقاء شكّاً في المقتضي وإلاّ فلا يبقى الشكّ في البقاء ، فلاحظ.

وأمّا دعوى أنّ الرجوع إلى العرف والتسامح بجعل المفقود علّة أو حالة أو ظرفاً ، فإنّما هو بعد العجز عن استفادة شيء من دليل الحكم ، بل ليس هناك إلاّ التردّد بين مدخلية المفقود وعدمها ، وحينئذ لا مانع من دفع شبهة عدم إحراز الموضوع بالرجوع إلى التسامح العرفي بجعلهم الفاقد متّحداً مع الواجد كتسامحهم في دعوى اتّحاد هذا الموجود من الماء مع الموجود سابقاً على وجه يصحّ لهم القول بأنّ هذا الماء كان كرّاً ، فكذلك الحال فيما نحن فيه من التبدّل من العنبية إلى الزبيبية ، فيقال إنّ هذا الموجود كان محكوماً عليه بالحرمة مثلاً عند الغليان ، فالآن كما كان ، بعد إلغائهم الامتياز بينهما بالعنبية والزبيبية ، وأنّهما بنظرهم شيء واحد.

ففي هذه الدعوى ما لا يخفى ، فإنّ هذه الدعوى إنّما تتمّ في الموضوع الخارجي مثل هذا الماء الذي كان كرّاً ثمّ شكّ في بقائه على الكرّية لما طرأه من النقص ، فإنّه لا يكون لنا حكم على موضوع كلّي نشكّ في مدخلية القيد المفقود فيه ، دون ما نحن بصدده من الحكم الوارد على الموضوع الكلّي ، أعني العنب مع الشكّ في مدخلية العنبية في ذلك الموضوع ، فإنّه حينئذ ينسدّ الاستصحاب ، لعدم إحراز الموضوع ، ولو ادّعى العرف أنّ هذا الزبيب متّحد مع العنب بحيث إنّه يصحّ عندهم أن يشيروا إلى هذا الزبيب الموجود ويقولوا إنّ هذا كان حراماً ، كان ذلك عبارة أُخرى عن اتّحادهما في نظر العرف ، وأنّه لا خصوصية للعنبية في انطباق الحرمة على هذا الجسم حينما كان عنباً ، فيكون الموضوع هو القدر

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٢٩٤.

٧٥

الجامع بينهما ، وبذلك يستغنى عن الاستصحاب ، وسيأتي إن شاء الله توضيحه في حاشية ص ٢١٦ (١).

لا يقال : إنّ هذا الموجود يصدق عليه أنّه كان عنباً ، ولازمه بالضرورة أنّه يصدق عليه أنّه كان حراماً ، فيجري الاستصحاب لاتّحاد الموضوع عقلاً من دون حاجة إلى التسامح العرفي فيما يستفاد من دليل الحكم.

لأنّا نقول : إنّ هذا الموجود وإن صدق عليه أنّه كان عنباً ، إلاّ أنّ دعوى الضرورة على الملازمة بين صدق أنّه كان عنباً وصدق أنّه كان حراماً ممّا لا شاهد عليها ، لأنّا لو فرضنا اختصاص الحرمة بالعنبية لم يصحّ لنا أن نقول إنّه كان حراماً ، لأنّ هذا الموجود لم يكن حراماً ، لفرض كون المركب الذي حملت عليه الحرمة سابقاً ليس هو الزبيب بقيد الزبيبية ، ولا نفس الذات التي هي قدر جامع بين العنبية والزبيبية.

وبالجملة : أنّ هذا الموجود بعد فرض أنّ مركب الحرمة هو العنب لا يصدق عليه أنّه كان حراماً إلاّبنحو من التسامح الذي تقدّم تفصيله ، أمّا صدق أنّه كان عنباً فلأنّ العنبية كانت لاحقة لنفس الذات التي هي القدر الجامع ، لكن الحرمة حسب الفرض لم تكن منطبقة ومحمولة على نفس تلك الذات بل عليها بعنوان كونه عنباً ، ومن الواضح أنّ المحمول على المحمول على الشيء لا يلزمه أن يكون محمولاً على نفس ذلك الشيء ، فإنّ ذلك وإن تألّف منه الشكل الأوّل فيقال هذا كان عنباً وكلّ ما كان عنباً كان حراماً ، إلاّ أنّه لمّا كانت الحرمة مقصورة على عنوان العنبية لا تتعدّاها إلى الذات نفسها ، لم تصحّ الكبرى إلاّبمجرّد الحمل

__________________

(١) هذه الحاشية تأتي في الصفحة : ٨٦ وما بعدها. راجع أيضاً الحاشية الآتية في الصفحة : ٩٩ وما بعدها.

٧٦

العرضي بواسطة حمل الأوسط الذي هو العنب ، وإلاّ فلم يكن ذلك القدر الجامع مركز الحرمة.

والخلاصة : أنّ المغالطة في هذا الشكل ناشئة من أخذ المقيّد مطلقاً ، فإنّ الحرام المحمول في الكبرى لا يصحّ أخذه مطلقاً ، بل الصحيح هو أخذه مقيّداً فيقال : إنّ هذا كان عنباً وكلّ ما كان عنباً كان حراماً بحرمة واردة على العنب ، فلا تكون النتيجة إلاّ أنّ هذا كان حراماً بحرمة واردة على العنب ، وهذا غير نافع ، ولا يصحّ تجريد المحمول عن القيد المزبور إلاّ إذا كان الأوسط وهو العنب علّة للأكبر وحينئذ يخرج عن محلّ الكلام من فرض العنوانية أو احتمالها ، ففي فرض العنوانية لابدّ من تقييد المحمول في الكبرى ، وفي صورة احتمالها يكون المحمول في الكبرى مردّداً بين الاطلاق والتقييد ، وعلى أيّ لا تكون النتيجة نافعة فيما هو المطلوب من صدق قولنا إنّ هذا كان حراماً بقول مطلق ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فظهر أنّ الرجوع إلى العرف في الصدق غير الرجوع إليه في المصداق ، فإنّ مورد الرجوع إليه في المصداق إنّما هو بعد تبيّن المفهوم وتشخيص المعنى ، وهذا هو الممنوع عنه ، لأنّه لا عبرة بنظر العرف في المصداق ، بل لابدّ من إحراز ... الخ (١).

هذا الكلام من قوله وتوضيح إلى آخره ، مسوق لشرح ما ينقل عن الشيخ قدس‌سره من تقسيم الشبهة إلى مفهومية وصدقية ومصداقية (٢).

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٨١.

(٢) قال الشيخ قدس‌سره في أوائل كتاب الطهارة بعد أن شرح مفهوم الماء المطلق ما هذا لفظه :

٧٧

__________________

ثمّ لو شكّ في تحقّق الضابط المذكور للشكّ في الصدق أو المصداق عمل بالأُصول [ كتاب الطهارة ١ : ٦٧ ] ثمّ في الطرف الثاني في الماء المضاف جعل الميزان الصدق العرفي ، ثمّ قال ما هذا لفظه : وهو قد يكون واضحاً ، وقد يكون خفياً على العرف للشكّ في اندراج هذا الفرد تحت المطلق أو المضاف ، فيجب حينئذ الرجوع إلى الأُصول [ كتاب الطهارة ١ : ٢٩٢ ]. وأغرب من ذلك أنّه قدس‌سره فرض صورة يعلم فيها بعدم صدق الاسمين. قلت إذن ما هو ذلك الماء الذي يعلم أنّه ليس بمطلق ولا بمضاف.

قال قدس‌سره : ولو امتزج المطلق بالمضاف على وجه يعلم بعدم صدق الاسمين فالظاهر إجراء أحكام المضاف عليه ، لأنّ سلب اسم الماء عنه يكفي في عدم ترتّب آثاره.

وقد يتخيّل احتمال ترتّب آثار المطلق على أجزاء المطلق الموجودة فيه ، وترتّب آثار المضاف على أجزاء المضاف كذلك ، بناءً على عدم استهلاك أحدهما بالآخر ، فيصحّ ارتماس الجنب لانغماره بالأجزاء المائية الموجودة فيه بالفرض. وفيه : أنّ الأحكام منوطة بالماء العرفي ، وهو ما كان لأجزائه اتّصال لا كالأجزاء المتلاشية في المضاف.

ولو امتزج الماء بمائع غير مضاف كالدبس أو بجامد فشكّ في سلب الاطلاق ، فمقتضى الأصل بقاء الاطلاق. وقد يخدش فيه بأنّ ما نحن فيه من قبيل الشكّ في اندراج هذا الجزئي الحقيقي تحت العنوان ، وهذا لم يكن متيقّناً في الآن السابق ، وما كان مندرجاً في السابق تحت ذلك العنوان كان جزئياً حقيقياً آخر متشخّصاً بمشخّصات أُخر.

وفيه : أنّ الظاهر من كلمات العلماء في نظائر هذه المسألة جريان الاستصحاب ، وأنّ المرجع في تعيين الموضوع في الاستصحاب وبقائه في الآن اللاحق ليحمل عليه المستصحب هو العرف ، ولذا اتّفقوا على إجرائه فيما لو شكّ في بقائه على القلّة أو الكثرة بعد زيادة شيء من الماء عليه أو نقصانه عنه ونحو ذلك [ كتاب الطهارة ١ :

٧٨

أمّا المفهومية فهي واضحة لأنّها في مقام الشكّ في مفهوم اللفظ ، وكذلك المصداقية فإنّها بعد الفراغ عن عالم المفهوم وتنقيح المراد من اللفظ يقع الكلام في تحقّق ذلك المفهوم في زيد كما في مفهوم العادل ، فإنّه بعد أن عرفنا معناه وشخّصنا مفهومه يقع الكلام في أنّ زيداً هل هو واجد للعدالة أم لا ، وهذه الشبهة هي الشبهة المصداقية التي يكون منشأ الشكّ فيها هو عدم الاطّلاع على حال الشخص ، كما لو لم نعرف ما في هذه الآنية وأنّه هل هو خمر أو خل بعد معرفة مفهوم كلّ من الخمر والخل.

أمّا الشبهة الصدقية ، فالمتحصّل من مجموع هذا الكلام من قوله : وتوضيح ذلك إلى آخره ، هو أنّها إنّما تكون بعد معرفة المفهوم الكلّي معرفة ارتكازية مع فرض عدم السترة في المصداق ، بل يكون حاله معلوماً لدينا كما في الماء الذي

__________________

٢٩٣ ـ ٢٩٤ ].

وهذا الذي عبّر عنه قدس‌سره بقوله : وقد يتخيّل الخ هو ما احتمله في الجواهر بقوله : ويحتمل أن يقال : إنّه بهذا الامتزاج لم يخرج عن حقيقة كلّ منهما ، لعدم تداخل الأجسام [ جواهر الكلام ١ : ٣١٠ ]. وعنوان المسألة في الجواهر أنّه لو امتزج المطلق بالمضاف بحيث لا يصدق عليه اسم المطلق ولا اسم المضاف ولم يعلم استهلاك أحدهما بالآخر.

ولعلّ مرادهما قدس‌سرهما أنّه لو خلط الماء المطلق بمثل ماء الورد ، فانتفى عنه اسم الماء المطلق كما انتفى عنه اسم ماء الورد بل صار نوعاً ثالثاً غيرهما. لكن لا يخفى أنّه لم يخرج عن الاضافة ، غايته أنّه لا يسمّى ماء ورد ، ولعلّ ذلك هو المراد للشيخ قدس‌سره بقوله : فالظاهر إجراء أحكام المضاف عليه ، لأنّ سلب اسم الماء عنه يكفي في عدم ترتيب آثاره.

لكن الأولى أن يقال : يكفي في كونه مضافاً عدم صدق الماء المطلق عليه وإن لم يصدق عليه أنّه ماء ورد ، فتأمّل [ منه قدس‌سره ].

٧٩

أُلقي عليه مقدار قليل من التراب ، فإنّ حال هذا الشخص من الماء معلوم لدينا ، وليس هو من قبيل ما في هذه الآنية الذي لا يعلم حاله في كونه خمراً أو خلاً ، كما أنّ مفهوم الماء الكلّي معلوم لدينا أيضاً ولو في الجملة ، بأن يكون مفهومه ارتكازياً ، ومع ذلك نشكّ في صدقه على هذا الشخص من الماء ، فلا تكون الشبهة المذكورة مصداقية ، لما عرفت من العلم بحال هذا الشخص من الماء وأنّه ماء مخلوط بمقدار من التراب ، كما أنّها لا تكون مفهومية لمعرفة المفهوم من الماء لدينا ولو على نحو الارتكاز المعبّر عنه بالإجمال ، فليس المراد بالاجمال هو التردّد بين الأقل والأكثر ، بل المراد هو المعرفة الارتكازية التي تجتمع مع عدم التردّد بين الأقل والأكثر لعدم الالتفات إلى ذلك ، فإنّ عدم الالتفات إلى سعة المفهوم وضيقه هو المراد بالمعرفة الارتكازية ، وحينئذ لابدّ من القول بأنّ هذا النحو من الشبهة هو قسم ثالث نعبّر عنه بالشبهة الصدقية ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الشكّ في صدق مفهوم الماء على هذا الشخص مع فرض معرفة مفهومه تفصيلاً ومعرفة حال هذا الشخص غير معقول ، فلابدّ من تحليل هذا الشكّ وأنّه ليس براجع إلى عالم المصداق ، بل هو راجع إلى عالم المفهوم ، ويكون الشكّ في صدق المفهوم المذكور عليه شكّاً بدوياً زائلاً بالرجوع إلى ما ارتكز في أذهاننا من ذلك المفهوم ، فإن صحّ حمله عليه استكشفنا سعة ذلك المفهوم بحيث إنّه يشمل مثل هذا ، وإن رأينا بحسب وجداننا عدم صحّة حمله عليه استكشفنا عدم سعة ذلك المفهوم الارتكازي لذلك المصداق ، وحينئذ لا تكون الشبهة إلاّفي المفهوم لكنّها بدوية زائلة بالرجوع إلى المفهوم الارتكازي الحاصل لنا من لفظ الماء ، يعني أنّا ننظر نظراً تفصيلياً إلى ذلك المعنى الاجمالي المرتكز في أذهاننا ، وما هذه المسألة إلاّكمسألة صحّة السلب وعدم

٨٠