أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

أقرّ أمس بأنّ الملك له أي للمدّعي ، أو شهدت البيّنة باقراره أمس له ، أو أقرّ بأنّ هذا له أمس ، قضي به له ، وفي إطلاق الحكم بذلك إشكال (١) ، فأنت تراه قد ذكر صوراً متعدّدة ، ولعلّ الإشكال راجع إلى الصورة الأُولى وهي ما لو كان إقراره سابقاً ، خصوصاً ما لو كان المراد من السبق هو السبق على وضع [ اليد ] بأن أقرّ وبعد إقراره وضع اليد وادّعى الملكية ، وكذلك الحال فيما لو شهدت البيّنة باقراره أمس الذي [ هو ] الصورة الثانية ، دون الصورة الأخيرة التي مرجعها إلى إقراره بعد وضع يده بأنّ هذا له أمس ، سواء كان المراد من قوله هذا له أمس أنّه له قبل وضع يدي ، أو كان المراد أنّه له وهو تحت يدي ، لكنّي بعد مدّة من وضع يدي ملكته ، والسيّد قدس‌سره وإن قال : خصوصاً إذا كان الإقرار سابقاً أو شهدت البيّنة باقراره سابقاً ، إلاّ أنّ كلامه ظاهر في الإشكال في الصورة الثالثة أيضاً ، وقد عرفت أنّ الذي ينبغي هو الانقلاب في الصور الثلاث ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ ظاهر عبارة الكفاية أعني قوله : قضي به له (٢) ، هو ما عرفت من الانتزاع بمجرّد الاقرار ، بل هو ظاهر في أزيد من ذلك وهو الحكم بملكية المقرّ له ، لكنّه ليس كذلك ، بل الأولى هو ما عرفت من مجرّد الانتزاع وإن لم تسلّم إلى المقرّ له ، بل تبقى أمانة عند من يعيّنه الحاكم.

ثمّ إنّه ربما يتوهّم الإشكال على ما أفاده شيخنا قدس‌سره من لزوم التناقض بأنّه مبني على الاستصحاب ، وقد أشرنا إلى هذا التوهّم ، ولكنّه واضح الاندفاع ، لأنّ هذا المقرّ قد أخبر بأمرين متناقضين ، والتناقض وإن اندفع باختلاف الزمان ، إلاّ أنّ الإخبار القطعي بأنّه بالأمس ملك لزيد واليوم هو ملكي يتضمّن دعوى الانتقال

__________________

(١) العروة الوثقى ٦ : ٦٢٥.

(٢) كفاية الفقه ٢ : ٧٣٤.

١٨١

وارتفاع الملكية السابقة ، حتّى في مثل زيد قائم أمس وليس بقائم اليوم ، وحينئذ فإن ركن هذا المقرّ إلى دعوى الانتقال فقد تخلص من التناقض ، وإن لم يركن إلى دعوى الانتقال وانسلاخ الملكية السابقة كان تناقضاً.

والخلاصة : هي أنّ هذا التناقض جار حتّى في مورد علم الحاكم بملكية أمس ، فإنّ صاحب اليد لا يمكنه دعوى الملكية اليوم لأنّه في نظر الحاكم مناقض لما يعلمه من ملكية أمس ، إلاّبأن يضمّ المدّعي إلى دعوى الملكية اليوم دعوى التحوّل والانتقال وأنّه اشتراه مثلاً من مالكه بالأمس ، وحينئذ يكون في دعوى التحوّل والانتقال مدّعياً لكن يده الدالّة على الملكية الفعلية تدلّ بالالتزام على ذلك النقل والتحوّل ، وهي حجّة شرعية ، وبذلك يتسنّى للحاكم أن يرفع نظره عن علمه بالملكية السابقة ، وهذه الطريقة وإن جرت في صورة الاقرار ، إلاّ أنّه يمكن ادّعاء كون اليد ساقطة الحجّية لدى العقلاء في مورد الاقرار المذكور ، بخلاف مورد علم الحاكم ونحوه من قيام البيّنة على الملكية السابقة.

ولكن شيخنا قدس‌سره اعتمد في سقوط اليد على طريقة علمية ، وهي أنّ المقرّ مؤاخذ باقراره ، ويلزمه ترتيب آثار إقراره ، ومن آثار إقراره بقاء ملكية أمس إلى اليوم ، فيلزمه ترتيبه وذلك برفع يده عن الملك المزبور.

لا يقال : بناءً على ذلك لا تكون دعواه الملكية بالتحوّل والانتقال مسموعة ، لكونها على خلاف ما أقرّ به.

لأنّا نقول : إنّ الدعوى على خلاف الاقرار إنّما لا تكون مسموعة إذا كانت على خلاف ما أقرّ به ابتداءً ، بأن يقول وقع منّي البيع ، ثمّ يدّعي أنّه لم يبع ، أمّا إذا كان الشيء من آثار المقرّ به لو لم يكن في البين بعض الطوارئ ، فالمقرّ وإن كان ملزماً به إلاّ أنّه يمكنه ادّعاء ذلك الطارئ ، فبقاء الملكية اليوم وإن كان من آثار

١٨٢

ولوازم ملكية أمس ، إلاّ أنّها إنّما تكون كذلك لو لم يطرأ التحوّل والانتقال ، وحينئذ يمكنه ادّعاء هذا الطارئ ، غايته أنّه ينقلب من الانكار إلى الادّعاء المحتاج إلى الإثبات.

وإن شئت فقل : إنّا لا نسمع دعوى الملكية الفعلية التي هي مناقضة لما أقرّ به من الملكية السابقة ، وإنّما نسمع دعواه الشراء وإن كان هو علّة في ارتفاع الملكية السابقة وحدوث الملكية الجديدة ، وبعبارة أُخرى : أنّ الملكية الجديدة إنّما تكون مناقضة لما أقرّ به من الملكية السابقة إذا لم تكن دعواها منضمّة إلى دعوى الاشتراء ، وحينئذ تكون مسموعة ، بخلاف ما لو جرّدت عن هذه الضميمة فإنّها لا تكون مسموعة لكونها مناقضة لإقراره ، فتأمّل.

وعلى ذلك يتخرّج الانقلاب فيما لو اعترف زيد أنّه استقرض من عمرو ديناراً في أوّل الشهر ، ثمّ ادّعى أنّه اليوم ـ أعني اليوم الثالث ـ بريء الذمّة لأنّي وفيته في ثاني الشهر ، كلّ ذلك مؤاخذة باقراره وهو البقاء مشغول الذمّة ما لم يثبت الوفاء في اليوم الثاني.

ثمّ إنّ هذا الانقلاب إنّما يكون إذا كان الاقرار المذكور في مورد التخاصم ، وكان المقرّ له بالملكية السابقة هو المدّعي أو وارثه ، أمّا إذا لم يكن في البين تخاصم فلا يتأتّى الانقلاب المذكور ، لما عرفت من أنّ الانقلاب إنّما يكون لأحد أمرين : قصور الدليل على حجّية اليد على الملكية لصاحبها ، أو كون المقرّ ملزماً باقراره ، والأوّل ـ أعني القصور ـ لا يتأتّى في مثل ذلك ، إذ لا ريب في قيام سيرة المسلمين على معاملة مثل هذا المقرّ معاملة المالك ، فإنّ الكثير من ذوي الأيدي يعترفون بأنّ ما تحت أيديهم قد انتقل إليهم من أشخاص سابقين بالشراء ونحوه ، ومع [ ذلك ] يعاملهم المسلمون معاملة المالك بالشراء منه ونحو ذلك ، ولا يكون

١٨٣

ذلك الاقرار موجباً لسقوط يده عن الحجّية على الملكية. وأمّا الثاني فلوضوح أنّ المقرّ له غير مخاصم لصاحب اليد لا هو ولا وارثه.

ومن ذلك يظهر لك عدم الانقلاب لو كان في البين خصومة ، وكان هناك مدّع مخاصم لكنّه لم يكن هو المقرّ له ولا وارثه ، بل كان هو شخصاً ثالثاً ، كما لو أنّ زيداً وهب لعمرو كتابه الفلاني وسلّمه الكتاب وصار تحت يد عمرو ، ثمّ إنّ زيداً بعد مدّة باع جميع ما يملكه من بكر ، وبعد ذلك مات زيد فادّعى بكر بذلك الكتاب وأنّه داخل في جملة ما اشتراه من زيد ، وفي مقام التخاصم اعترف عمرو الذي هو صاحب اليد على الكتاب بأنّ هذا الكتاب كان لزيد ، لكنّه وهبنيه قبل أن يبيعك جميع أملاكه ، لم يكن الاقرار المذكور مسقطاً للحجّية ، لحجّية اليد على الملكية ، فلا يكون موجباً للانقلاب ، حيث إنّ الاقرار المذكور وإن كان في مقام التخاصم إلاّ أنّه لم يكن إقراراً بالملكية السابقة على يده للخصم ولا لمورّثه ، إذ ليس بكر المشتري جميع أملاك زيد هو نفس المقرّ له ولا هو وارثه ، فلا يكون دليل حجّيتها قاصراً ولا يكون المقرّ ملزماً باقراره للمدّعي ، وإنّما يكون ملزماً باقراره للمقرّ له أو وارثه ، والمفروض أنّه ـ أعني المقرّ له أو وارثه ـ غير مدّع ولا مخاصم ، وحينئذ فليس للمدّعي المذكور ـ أعني بكراً ـ إلاّ ادّعاء بقاء الكتاب على ملك زيد إلى أن اشترى منه جميع أملاكه ، ولا يكون ذلك إلاّبالاستصحاب ، ويد عمرو على الكتاب حاكمة على ذلك الاستصحاب.

ومن ذلك يتّضح لك عدم الانقلاب في قضية فدك ، حيث إنّ المسلمين لو صحّ ما لفّقوه لم يكونوا هم ورثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأقصى ما في البين أن يكون حالهم في متروكاته حال المشتري المذكور أو حال الموصى له أو حال الموقوف عليه. وعلى أي حال ، لا يكون حالهم حال وارثه صلى‌الله‌عليه‌وآله في كون الاقرار بالملكية السابقة

١٨٤

إقراراً لهم ليكون موجباً لانقلاب الدعوى ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّا وإن قلنا بأنّ الانقلاب إنّما يكون لو كان الاقرار للمدّعي في مورد التخاصم ، لكن يمكننا القول بأنّه لو صدر الاقرار للمدّعي قبل وضع اليد أو صدر بعد وضع اليد ثمّ بعد ذلك ادّعى صاحب اليد أنّه ملكه ، ثمّ بعد ذلك وقع التخاصم يكون حال هاتين المسألتين لو ثبت صدور الاقرار منه فيما مضى حال ما لو أقرّ له بعد المخاصمة في كونه موجباً للانقلاب ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فما يظهر من بعض الكلمات من أنّ النسبة بينهما العموم من وجه ليس على ما ينبغي ... الخ (١).

المتحصّل للنظر القاصر بعد المراجعة في الجملة إلى الجواهر وبعض الكتب الفقهية ، هو أنّ بعضهم احتمل أو قال بتخلّف أحد التعريفين عن الآخر فيما لو اعترف المديون بالدين ولكنّه ادّعى الوفاء ، فإنّ مقتضى كون الضابط والمايز بين المدّعي والمنكر هو مطابقة الأصل ومخالفته ، يكون الدائن هو المنكر والمدّعي هو المديون ، ومقتضى كون الضابط هو ما لو تُرك لترك يكون الدائن هو المدّعي والمديون هو المنكر ، ومثله ما لو ادّعت الزوجة عدم الانفاق وادّعى الزوج الانفاق ، ومثله أيضاً ما نحن فيه ، فإنّه بناءً على الأوّل يكون المدّعي هو صاحب اليد والمنكر هو المقرّ له ، وبناءً على الثاني يكون الأمر بالعكس.

ولكن أشار السيّد قدس‌سره في قضاء العروة إلى ردّ هذا التوهّم بقوله : ( مسألة ١ ) عرّف المدّعي بتعاريف ، أحدها : أنّه من لو تَرك تُرك ، وبعبارة أُخرى من لو سكت يسكت عنه. والظاهر أنّ المراد تركه في تلك الدعوى لا مطلقاً ، فلو كان مديوناً وادّعى الوفاء أو كان عنده مال من غيره فادّعى الردّ ، يكون مدّعياً ، لأنّه لو

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦١٣.

١٨٥

ترك هذه الدعوى تُرك فيها ، فيكون الدين باقياً في ذمّته أو المال باقياً عنده ، ولا ينافي عدم تركه من هذه الحيثية. الثاني : أنّه من يدّعي خلاف الأصل. والظاهر أنّ المراد منه أعمّ من الأصل العملي والأمارات المعتبرة كاليد ونحوها ، وهذا بحسب المصاديق مساوق للأوّل الخ (١).

ولا يخفى أنّ المساوقة بين الضابطين إنّما هي من جهة ما أفاده أوّلاً بقوله : والظاهر أنّ المراد تركه في تلك الدعوى الخ ، وتطبيق ذلك فيما نحن فيه هو أن نقول : إنّ صاحب اليد بعد إقراره ودعواه الانتقال إليه لو ترك دعواه الانتقال لترك ، وإن كان في الحقيقة لا يترك ، بل ينتزع منه المال ، لكن ذلك أمر خارج عن الدعوى ، فإنّ المراد من أنّه لو تَرك لترك أنّه لو ترك دعواه الانتقال لم يطالب بشيء ممّا يدّعيه من الانتقال ، وإن طولب بشيء آخر هو غير مركز الدعوى.

ولا يخفى ما فيه من التكلّف والتجشّم ، والمسألة ـ أعني ضابط المدّعي والمنكر ـ غير منصوصة ، وإنّما ذلك مستفاد من الفحاوى ، والظاهر حينئذ أنّ الضابط الحقيقي هو ما عرفت من المطابقة للوظيفة الفعلية مع قطع النظر عن التخاصم ، فلا حاجة إلى تكلّف إرجاع الضابط الثاني إلى الضابط الأوّل.

(٢) لو تعدّدت الأيدي على شيء واحد ، فإمّا أن يقال بأنّها واحدة وأنّ المجموع بمنزلة يد واحدة على مجموع ذلك الشيء ، ويتّضح ذلك في صورة ما إذا كان ذلك الشيء محتاجاً في الاستيلاء عليه إلى اجتماع اليدين كالفرس الذي يقاد بشطنين (٣) لقوّة شكيمته.

__________________

(١) العروة الوثقى ٦ : ٤٦٢.

(٢) بسم الله الرحمن الرحيم ، وله الحمد ، رمضان المبارك سنة ١٣٧٤ [ منه قدس‌سره ].

(٣) الشَطَن : الحبل ، وقيل : الحبل الطويل ، وإنّما يُربط الفرس بشطنين لقوّته وشدّته. لسان العرب مادّة شطن.

١٨٦

وإمّا أن يقال : إنّ كلّ واحدة من اليدين مستقلّة ولكنّها على النصف لا على المجموع ، وحينئذ لا تدافع بينهما ، ويكون حالهما حال ما لو كانت إحدى اليدين على النصف الشرقي والأُخرى على النصف الغربي.

وإمّا أن يقال : بأنّ كلاً منهما مستقلّة ولكن ما تحت اليد هو المجموع لا النصف ، وحينئذ يكون كلّ يد قاضية بمالكية صاحبها للمجموع ، فإن صحّحنا تعدّد الملاّك مع وحدة المملوك فهو ، وإلاّ وقع التعارض بين اليدين كالتعارض بين البيّنتين ، وحينئذ يلزم الرجوع إلى قاعدة المال المردّد بأن نحكم فيه بالتنصيف بينهما. والذي اختاره السيّد قدس‌سره في كتاب القضاء الملحق بالعروة (١) هو الثاني ، واستشهد لإمكان تعدّد المالك مع وحدة المملوك بالزكاة والخمس ، ولتعدّده شخصاً بمسألة الوقف على شخصين أو بالوصية التمليكية لهما على نحو المصرف ، وبالخيار الواحد الموروث لمتعدّد ، وبولاية الأب والجد.

ولكن كلّ هذه الشواهد قابلة للتأمّل. أمّا الزكاة فهي بعد عزلها مثلاً إن قلنا بأنّها غير مملوكة وإنّما هي زكاة وإنّما يملكها شخص الفقير عند الدفع إليه ، فلا دخل لها بما نحن فيه ، وإن قلنا إنّها مملوكة لكلّي الفقير فهو وإن كان كلّياً إلاّ أنّه غير متعدّد ، غايته أنّه عند الدفع إلى الفقير المعيّن يملكها عند القبض. ومنه يظهر الحال في الخمس.

وأمّا وقف المصرف فكذلك ، لأنّه قبل الدفع لا يملكه هذا ولا ذاك ، وإنّما تتحقّق الملكية عند القبض لو قلنا إنّ المصرف يملك بالقبض ، وإلاّ لم تتحقّق الملكية وإن فنى المال في صرفه عليه ، ويكون المال خارجاً عن كونه مال الوقف [ بدفعه ] إلى البايع الذي يبيع الخبز مثلاً ، وحينئذ يكون الخبز عائداً إلى الوقف ،

__________________

(١) العروة الوثقى ٦ : ٥٨٩.

١٨٧

وهذا الآكل الذي هو المصرف يأكله ليس إلاّ ، لا أنّه يملكه.

وأمّا مسألة إرث الخيار ، فلو قلنا إنّه حقّ واحد لكلٍّ إعماله كان حاله حال المصرف المذكور ، بمعنى نفس الحقّ يبقى على ما هو عليه حقّاً للميّت ولكلّ من الورثة إعماله فسخاً فقط أو فسخاً وإمضاء ، على بحث محرّر في محلّه.

وأمّا مسألة ولاية الأب والجد فهي من الأحكام لا من الحقوق.

ثمّ إنّه بعد فرض تمامية ما أفاده من إمكان تعدّد الملاّك لمملوك واحد ، فهل يكون ما نحن فيه حال هذه الأُمور التي ذكرها من كون الملكية قائمة بالنوع مثلاً؟ لا أظن أنّه يقول بذلك فيما نحن فيه ، بل لابدّ من التوزيع ، وحينئذ يكون كلّ واحد منهما مالكاً للنصف ، إلاّ أن يقال كما قيل بأنّ الشركة الاشاعية هي عبارة عن كون كلّ منهما مالكاً لكنّها ملكية ضعيفة.

وعلى كلّ حال ، أنّ الذي ينبغي أن يقال : إنّ يد كلّ منهما وإن كانت على تمام العين ، إلاّ أنّ اليد على العين إنّما تكون حجّة على أنّ العين بتمامها مملوكة لصاحب اليد فيما لو كانت اليد وحدها ، أمّا لو انضمّت إليها أُخرى مثلها في كونها على تمام العين كان ذلك موجباً لقصر حجّيتها أو كشفها العقلائي وصرفه إلى النصف ، لا أنّ اليد تكون على النصف بل هي على الكل ، ولا أنّ حجّيتها في مالكية الكل معارضة أو مزاحمة باليد الأُخرى ليوجب ذلك التساقط بينهما ، والرجوع إلى التنصيف كما في البيّنة ، للفرق الواضح بين البيّنة وبين اليد ، وهو ما أشرنا إليه من أنّه مع وجود اليد الأُخرى لا تكون هذه اليد حاكمة بمالكية التمام ، بل هي عند العقلاء حاكمة بمالكية صاحبها للنصف ، بحيث لو قلنا إنّها أمارة لا تكون كاشفة وحاكية عند العقلاء عن مالكية التمام ، بل تكون حكايتها مقصورة على مالكية النصف ، فهي يد على التمام لكنّها لا تحكي إلاّمالكية النصف ،

١٨٨

بخلاف البيّنة فإنّها بوجود معارضها لا تخرج عن الحكاية عن مالكية التمام.

وإن شئت قلت : إنّ اليدين كاشفتان عن ملكية ما تحتهما لأربابهما ، لا أنّ كلّ واحدة منهما كاشفة عن مالكية صاحبها لما تحتها كما لو كانت وحدها ، فيكون نسبة كلّ من اليدين إلى الأُخرى من قبيل القرينة وذي القرينة ، بحيث يكون هذا الانضمام قرينة على أنّ ما تحكيه اليد التي هي على الجميع إنّما هو ملكية النصف. وينبغي مراجعة قضاء البلغة ص ٣٣٩ وص ٣٤٠ (١) ، فإنّ ظاهر ما أفاده هناك هو هذا الذي شرحناه هنا ، لكنّه قدس‌سره فيما نحن فيه ـ أعني قاعدة اليد ـ أفاد ما هذا نصّه : الرابع : لو اشترك اثنان أو أكثر فيما يصدق به اليد عرفاً ، فهل الثابت به يد واحدة لهما ، فلا يد لكلّ واحد منهما ، أو يثبت به يد لكلّ واحد منهما وتتعدّد الأيدي حينئذ ، وعليه فهل تختصّ اليد بالبعض نصفاً أو ثلثاً بحسب تعدّد الشركاء ، فيكون له اليد على النصف أو الثلث ، أو لكلٍّ يد على كلّ العين وجميعها وإن زوحم بمثلها عليه ، فعلى الأوّل لا تعارض بين اليدين لاختلاف متعلّقهما ، وعلى الثاني كان من تعارض اليدين لاتّحاد المتعلّق فيهما.

وتظهر الثمرة بينهما فيما لو غصب العين اثنان دفعة فتلفت عندهما ، رجع المالك عليهما معاً بالمناصفة أو بالمثالثة بحسب تعدّد الشركاء على الأوّل ، وله الرجوع على من شاء منهما أو عليهما بالتوزيع على التساوي أو على التفاضل على حدّ تعاقب الأيدي على الثاني (٢).

وهذا التفريع لا يخلو عن تأمّل ، فإنّ يد الضمان لا تقاس باليد المالكة ، ولو تمّ القياس لكان القول بتعارض اليدين في المالكية موجباً لتعارضهما في

__________________

(١) بلغة الفقيه ٣ : ٣٨٨ وما بعدها.

(٢) بلغة الفقيه ٣ : ٣٢١.

١٨٩

الضمان. وعلى كلّ حال ، أنّ اليد بمجرّد جعلها على تمام العين توجب ضمانها ، وإن انضمّت إليها مثلها كان كلّ منهما موجباً لضمان صاحبها تمام المال نظير تعاقب الأيدي ، وإن لم تكن طولية بين الضمانين كما في التعاقب ، بل كان كلّ منهما في عرض الآخر.

والفرق بينه وبين تعاقب الأيدي أنّه في تعاقب الأيدي لو أخذ المالك القيمة من السابق يرجع السابق على اللاحق وهكذا ، حتّى يستقرّ الضمان على الأخير الذي حصل التلف عنده ، وهذا المعنى لا يتأتّى فيما نحن فيه ، إذ لو رجع المالك على أحدهما لم يكن له الرجوع على صاحبه ، ويكون ذلك من قبيل الواجب الكفائي الذي لو قام به الواحد سقط عن الباقين ، غايته أنّ قيام هذا الواحد هنا كان قهرياً عليه لا باختياره ، وهذا ممّا يبعّد القول بأنّ كلّ واحد من الأيدي يكون على تمام المال ، بل يكون الجميع من باب الاشتراك في الغصب ، فينحصر الأمر حينئذ بالتوزيع ، فلاحظ. وهذا بخلاف اليد المالكة فإنّها وإن كانت على التمام ، إلاّ أنّها إنّما تكون حاكية وكاشفة وحاكمة وحجّة ـ ما شئت فعبّر ـ بمالكية التمام إذا لم تكن مقرونة بمثلها ، وإلاّ كان انضمام الأُخرى إليها موجباً لقصر حكايتها وتقليص حجّيتها من مالكية التمام إلى مالكية النصف.

وكيف كان ، فاليدان على الشيء يكون كلّ واحدة منهما على التمام لا على النصف ، ولكن لا يحكمان بمالكية صاحب كلّ يد للتمام ، بل إنّ انضمام كلّ منهما إلى الأُخرى وإن كانتا مستقلّتين لا متداعمتين كما في مثال الفرس القوي ، يكون موجباً لانقلاب تلك الحكاية من مالكية التمام إلى مالكية النصف ، فلو ادّعى صاحب إحداهما مالكية التمام وادّعى صاحب الأُخرى مالكية النصف ، كان الأوّل مدّعياً في النصف الآخر والثاني منكراً. ولو ادّعى كلّ منهما مالكية التمام

١٩٠

كانا متداعيين ، لا من جهة ادّعاء الاستقلالية كما يظهر من السيّد في البلغة (١) ، بل من جهة ما ذكرناه من وجود الأصل القاضي بملكية النصف في حقّ كلّ منهما ، فهو في دعواه الزائد يكون مدّعياً لكونه على خلاف مقتضى اليد المقرونة بغيرها ، وفي دعواه النصف يكون منكراً ، لما عرفت من أنّ يده على الكلّ المقرونة بمثلها قاضية بكونه مالكاً للنصف فقط ، فلو نفاه صاحبه كان هو منكراً ، فيكون كلّ منهما مدّعياً منكراً ، بل لا أثر لهذا الانكار ولا يجري عليهما إلاّحكم التداعي من التحالف.

ثمّ لا يخفى أنّ ما أفاده السيّد في البلغة كأنّه هو الذي أراده السيّد في قضاء العروة ، وهو مبني على صحّة تعدّد المالك مع وحدة المملوك كما في الاشاعة ، غايته أنّه مالك غير استقلالي ، فلاحظ ما أفاداه وتأمّل لتقدر على إرجاع كلّ منهما إلى هذا المطلب.

ثمّ إنّ الذي يظهر من الأُستاذ العراقي قدس‌سره في قضائه هو اختيار الوجه الأوّل أعني كونهما معاً يداً واحدة ، فقد قال : فلو كان المال في يدهما وأقام كلّ منهما البيّنة ، فمقتضى ما تلوناه لك هو الأخذ بالبيّنة في كلّ واحد من الطرفين بمقدار من مؤدّاها الذي كانت البيّنة بالاضافة إليه بيّنة خارج وهو النصف ، لما أسلفنا من أنّ يد الشخصين على تمام المال بمنزلة يد كلّ واحد على النصف كما هو المشهور المعروف (٢).

وقال قبل ذلك ولو تنازع اثنان فيما في يدهما فلهما بالسويّة ، وذلك لما عرفت من أنّ مرجع يديهما على تمام المال إلى استيلاء كلّ واحد منهما عليه

__________________

(١) بلغة الفقيه ٣ : ٣٢٣.

(٢) كتاب القضاء : ١٢٧.

١٩١

ضمناً لا مستقلاً ، ولازم كشف مثل هذا الاستيلاء القائم بهما على وجه يكون جميع ذرّات العين تحت ملكيتهما بلا ميز في متعلّق الملكية ، بل ولا في نفس الملكية أصلاً ، ومرجع مثل هذا الاعتبار إلى اعتبار كون كلّ منهما مالكاً للنصف المشاع (١).

والأصرح من الجميع هو ما ذكره في مسألة الكيس الواقع بين عشرة فقد قال : إنّ من الواضح كون يد كلّ واحد على تمام المال غير معقول ، لأنّ حقيقة اليد ليست إلاّعبارة عن الاستيلاء على المال خارجاً ، ومثل هذا المعنى لا يتصوّر بنحو الاستقلال بالنسبة إلى اثنين فضلاً عن الأكثر ، لأنّ استيلاء كلّ واحد مستقلاً ملازم مع قدرته على منع الغير عن التصرّف ، وهذا المعنى لا يجامع مع قدرة الغير كذلك ، فما هو معقول هو الاستيلاء القائم بكليهما بنحو يكون كلّ واحد مشمول هذا الاستيلاء ضمناً لا مستقلاً ، ومن المعلوم أنّ مرجع هذا الاستيلاء الضمني بحسب الاعتبار إلى استيلاء كلّ واحد على النصف (٢). والحجر الأساسي في مطلبه هو هذه الكلمة الأخيرة ، وهي عدم معقولية كون كلّ يد على تمام المال في قبال قول من قال إنّه لا يعقل كون النصف المشاع تحت اليد مع عدم كون اليد على الكلّ.

وعمدة الوجه في هذه الدعوى وهي عدم معقولية كون كلّ واحد من الأيدي المتعدّدة على تمام المال ، هو أنّ محصّل كون المال تحت اليد هو استيلاء صاحبها عليه استيلاءً تامّاً ، ولازم الاستيلاء التامّ هو منع الغير ، وهذا لا يجتمع مع التعدّد ، وحينئذ لابدّ أن نقول إنّ اليد التي هي عبارة عن الاستيلاء التامّ الذي قوامه

__________________

(١) كتاب القضاء : ١٢٧.

(٢) كتاب القضاء : ١١٦.

١٩٢

بمنع الغير إنّما هي لهما معاً ، فلا يكون في البين إلاّ استيلاء واحد قائم بهما ، وعن هذا الاستيلاء الواحد القائم بهما ينتزع الاستيلاء لكلّ منهما على النصف ، وفي الحقيقة أنّ لكلّ منهما نصف اليد ونصف الاستيلاء ونصف الملكية ، ولكن نصف اليد يكون عبارة عن اليد على نصف المال ، ونصف الاستيلاء يكون عبارة عن الاستيلاء على نصف المال ، ونصف الملكية يكون عبارة عن مالكية النصف من المال ، وكلّ هذه الجهات إنّما جاءت من اعتبار منع الغير في اليد وما تقتضيه من الاستيلاء ، وذلك ـ أعني القدرة على منع الغير ـ إنّما يعتبر في الملكية التامّة والاستيلاء التامّ ، أمّا نحن ومجرّد اليد وكشفها عن الملكية في حدّ نفسها فهي لا تقتضي الاستيلاء التامّ ولا القدرة على منع الغير.

ثمّ إنّ القدرة على منع الغير ليست عبارة عن المنع الفعلي ولا عبارة عن عدم وجود الغير فعلاً ، فلو وجدنا اثنين نائمين على بساط واحد أو في دار واحدة حكمنا بأنّ لكلّ منهما اليد ، ولو انتبها وادّعى كلّ منهما أنّه المالك وأراد طرد صاحبه لم يكن ذلك منافياً لكون كلّ منهما صاحب يد ، لا أنّه يكون كلّ منهما صاحب نصف اليد أو صاحب نصف الاستيلاء.

وعلى كلّ ، أنّ اليد والاستيلاء لا يعتبر فيهما القدرة على منع الغير ولا المنع الفعلي ولا عدم وجود الغير.

والخلاصة : هي أنّ الملاك عنده في عدم تحقّق اليد بالنسبة إلى يد زيد مثلاً على تمام المال هو أنّه لا يقدر على منع عمرو ، وعن هذا انتقلنا إلى أنّ المجموع يد واحدة على تمام المال ، وأنّ يد زيد واستيلاءه بالنسبة إلى تمام المال يد ضمنية واستيلاء ضمني ، ومرجع هذا الاستيلاء الضمني إلى استيلاء كلّ واحد منهما على النصف ، وهذا هو روح المطلب.

١٩٣

ولكن هلمّ في الاستيلاء على النصف ، وهل يقدر صاحبه على منع الغير مع كون صاحبه مدّعياً لتمام المال. فإن قلت إنّه قبل تشكيل الدعوى كان يقدر على منعه عن النصف. قلنا إنّه أيضاً كان يقدر على منعه عن الكلّ.

وإن شئت فقل : إنّ محلّ الكلام في اجتماع اليدين إنما فيما لم يحرز كون كلّ منهما مالكاً للنصف ، بل احتمل ذلك كما احتمل أيضاً كونه مملوكاً بالتمام لأحدهما دون الآخر ، أو أنّه ليس بمملوك لهما بل هو ملك الغير ، وحينئذ فلو فرضنا أنّ أحدهما المعيّن كان قادراً على منع الآخر من أيّ تصرّف في العين ، كان ذلك ملازماً لعدم مالكية الآخر ، وكانت الملكية منحصرة بذلك القادر ، كما أنّا لو فرضناه غير قادر على منع الآخر كان ذلك ملازماً لعدم [ كونه ] مالكاً له بالتمام. وعلى أي ، يكون الفرض خارجاً عمّا هو محلّ الكلام من اجتماع اليدين مع عدم العلم بكيفية الملكية ، وهل هي مشتركة بينهما أو أنّها بالتمام لهذا دون ذاك ، أو أنّ الأمر بالعكس ، أو أنّ ما تحت يدهما مملوك لغيرهما ، ولأجل ذلك قلنا بأنّ فرض تصرّف كلّ منهما بالنصف المشاع بأن يؤجره ويبيع ثمرته ونحو ذلك من التصرّفات النصفية أيضاً خارج عمّا هو محلّ الكلام.

وحينئذ لابدّ أن يكون مفروض الكلام هو ما إذا لم يكن في البين إلاّمجرّد كون يدهما على تمام المال يداً استقلالية ، مع عدم الاطّلاع على قدرة أحدهما على منع الآخر أو عدم قدرته على ذلك ، بأن لم يكن بينهما إلاّ التصرّف الاستقلالي لكلّ منهما ، حتّى أنّهما لو اشتركا في التصرّف الواحد الواقع على التمام كان ذلك خارجاً عن الفرض ، ومنه ما لو آجراه أو باعا ثمرته ، بل منه ما لو افترشاه مثلاً ، فإنّ جميع ذلك لا يكون إلاّمن باب كون مجموع اليدين يداً واحدة. ومثله ما لو وجد في محلّهما ، كالكتاب الموجود في غرفة الشريكين في

١٩٤

الغرفة التي يسكنانها أو ضياء تلك الغرفة أو معلّقاتها ، بل ومثله الكيس المطروح بين جماعة فإنّ كون مجموع اليدين يداً واحدة قاضٍ بالاشاعة بينهما. نعم في جميع ذلك لو علم عدم الاشاعة كان داخلاً فيما نحن فيه.

ومن ذلك يظهر الحال فيما ذكرناه من أنّ ضمّ كلّ من اليدين الاستقلاليتين إلى الأُخرى يكون موجباً لرفع اليد عمّا تقتضيه يد كلّ واحد منهما من مالكيته للتمام ، وصرف ذلك إلى مالكية النصف ، فإنّ ذلك إنّما يمكن لو لم نعلم من الخارج بعدم الاشاعة ، أمّا إذا علمنا بذلك وانحصر الأمر باحتمال مالكية التمام لكلّ منهما واحتمال كون المالك غيرهما ، كان مقتضى القاعدة هو التعارض بين الأيدي والتساقط ، ومنه مسألة الكيس المطروح بين عشرة ، فإنّ ظاهر الفرض هو ما لو علم بعدم كونه على الاشاعة بينهم ، وحينئذ يكون الحكم بأنّه لمن ادّعاه منهم على حسب قاعدة اليد ، فإنّ نفي الباقين له يوجب سقوط أيديهم عن معارضة يد من ادّعاه ، وحينئذ تعمل يده عملها في اقتضائها مالكيته للتمام ، ولا يكون الحكم بأنّه له من باب الدعوى بلا معارض ، فلاحظ.

فصار الحاصل أنّه في اليدين اللتين تكون إحداهما منضمّة إلى الأُخرى إمّا للحاجة مثل شطني الفرس الواحد ، وإمّا لأنّ ذلك التصرّف الذي أخذنا اليد منه مشترك بينهما ، مثل ما عرفت من الاستضاءة بالسراج والاستظلال بالخيمة ووقوع الاجارة منهما ، بل ووقوع الكيس بينهما والكتاب في غرفتهما ، يكون المجموع يداً واحدة ويكون كلّ منهما صاحب النصف من تلك اليد ، ولازمه عرفاً أنّه صاحب النصف من ذلك المال ، وهكذا الحال فيما لو كانت يد كلّ منهما على النصف ، كما لو كان حالهما أنّ كلّ واحد منهما يؤجر نصفه ونحو ذلك من التصرّفات في النصف المشاع. ولو كانت اليد استقلالية لم يكن كلّ منهما صاحب

١٩٥

النصف من اليد بل كانت يد كلّ منهما استقلالية. نعم كان ضمّ إحدى اليدين إلى الأُخرى قرينة عرفية على أنّ صاحبها مالك للنصف لا للتمام ، وفي كلّ من الصورتين لابدّ من إمكان الاشاعة بينهما ، أمّا إذا انسدّ باب الاشاعة تعيّن كونه من تعارض اليدين والحكم بسقوطهما والرجوع إلى ما تقتضيه القواعد من التنصيف أو القرعة ، فلاحظ وتأمّل.

وإن شئت فعبّر عن النحو الأوّل بالتصرّفات الاشتراكية على الكل ، وعن النحو الثاني بالتصرّفات الانفرادية في الجزء ، وعن النحو الثالث بالتصرّفات الانفرادية في الكل.

قال المرحوم العلاّمة الأصفهاني قدس‌سره في رسالته ما محصّله : لا إشكال في كون الأيدي المتعدّدة أمارة على الملكية ، إلاّ أنّ الكلام في أنّ كلاً من اليدين على النصف المشاع فتوجب ملكيّة النصف ابتداءً ، أو أنّ كلاً منهما على الكل لكن مقتضى اليدين هو ملكية النصف ، نظراً إلى أنّ الاستيلاء على النصف المشاع لا يعقل إلاّبالاستيلاء على الكل.

ويندفع بأنّ الاستيلاء لو كان من المقولات كالجدة لتمّ ذلك ، إذ لا يعقل الاحاطة الخارجية على النصف المشاع إلاّبالاحاطة على الكل ، لكنّه خروج عن الفرض من قيام اليدين على المال ، إذ لا يعقل اجتماع فردين من هذه المقولة على موضوع واحد ، وأمّا إن كان الاستيلاء المراد من اليد ـ كما مرّ مراراً ـ أعمّ من الحقيقي والاعتباري المستكشف بالتصرّف ، فتعلّقه بالنصف المشاع فقط على حدّ تعلّق الملك الاعتباري الشرعي والعرفي بالنصف المشاع أمر معقول ، فكما أنّ تعلّق الملك بالنصف المشاع ليس بتبع تعلّقه بالكل فكذا تعلّق الاستيلاء الاعتباري بالنصف المشاع ليس بتبع تعلّقه بالكل. وأمّا التصرّف الخارجي فهو لا

١٩٦

محالة بالجزء المعيّن من كلّ من المتصرّفين ، إلاّ أنّ التصرّفات المتبادلة من الطرفين في العين مع تساوي النسبة وعدم تمكّن كلّ منهما من التصرّف على وجه يوجب حرمان الآخر من التصرّف تكشف عرفاً عن أنّ كلاً منهما مستول على النصف المشاع من العين ، وهو أمارة على ملكية النصف (١).

ولا يخلو من تأمّل ، فإنّ الاستيلاء المتعلّق بالنصف لابدّ له من كاشف ، وهو التصرّف بالنصف مثل إجارته وبيع ثمرته ، وحينئذ تكون اليد يداً على النصف ، وقد عرفت خروجها عمّا هو محلّ الكلام.

ومنه تعرف أنّ التصرّف الخارجي لا يلزمه أن يكون واقعاً على الجزء المعيّن مثل أن يجلس في جانب من الدار ، بل يمكن وقوعه على النصف كما عرفت من إجارة النصف ورهنه ، ويمكن وقوعه على الكل كما في إجارة التمام ورهنه ، بل يمكن وقوعه على الكلّ خارجاً مثل أن يسكن الدار وحده ، فإذا وقع ذلك على وجه التبادل منهما كان ذلك من اليدين الاستقلاليتين ، ولا حاجة فيه إلى التقييد بعدم إيجاب حرمان الآخر ، لأنّه لو لم يكن له قدرة على حرمان الآخر كان خارجاً عمّا هو محلّ الكلام ، كما عرفت (٢) فيما أفاده الأُستاذ العراقي في اعتباره عدم القدرة ، وأنّ اليد لابدّ أن لا تكون استقلالية ، لأنّ لازم الاستقلال هو القدرة ، وقد عرفت التأمّل في ذلك.

ثمّ بعد فرض تبادلهما في تلك التصرّفات الاستقلالية لا تخرج اليد بذلك عن كونها استقلالية ولا الاستيلاء المستكشف بها عن كونه استيلاء على الكل إلى الاستيلاء على النصف ، نعم إنّ هذه اليد الاستقلالية الكاشفة عن الاستيلاء على

__________________

(١) رسالة في قاعدة اليد ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : ٣٣٤.

(٢) في الصفحة : ١٩١.

١٩٧

الكل مع فرض انضمام مثلها إليها لا تكون كاشفة عن ملكية التمام ، بل تكون كاشفة عن ملكية النصف ، نعم يختصّ ذلك بما لو أمكن الاشتراك ، أمّا لو علمنا من الخارج أنّ تلك العين غير مشاعة بينهما ، لزمنا القول بتعارض اليدين أو تزاحمهما وتساقطهما والرجوع إلى قاعدة الانصاف أو القرعة ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ الجماعة ردّوا على القول بكون اليد على النصف المشاع بأنّه يستحيل وضع اليد على النصف المشاع من دون وضعها على الكل. وأُجيب عن ذلك بامكان كون النصف المشاع تحت اليد مع عدم كون الكل تحتها كما إذا كان يتصرف في النصف المشاع باجارة وبيع ثمره ورهن ونحو ذلك من التصرّفات الواردة على النصف المشاع من دون تصرّف في الكلّ.

ولكن لا يبعد أن يقال : إنّ هذا النحو من اليد المنحصرة بالنصف المشاع خارجة عن محلّ الكلام ، فإنّ محلّ الكلام هو تعدّد الأيدي على الكل ، وهل يكون تعدّدها موجباً لكون ما تحت كلّ منهما هو النصف المشاع ، وحينئذ لا يتمّ الجواب عن هذا الإشكال بإمكان وضع اليد على النصف دون الكل ، لما عرفت من خروج ذلك الفرض عن محلّ النزاع ، كما أنّه لا محصّل لأصل الإشكال على القول المذكور بأنّه لا يمكن وضع اليد على النصف المشاع من دون وضع يد على الكل ، بل الذي ينبغي أن يشكل عليه بأنّه بعد فرض كون محلّ الكلام هو تعدّد الأيدي على تمام المال ، كيف يصحّ أن نقول إنّ ما تحت يد كلّ واحد هو النصف المشاع إلاّبالنحو الذي ذكرناه من كون اليد على التمام المقرونة بمثلها تكون حجّة على مالكية النصف ، لا أنّها تكون موضوعة على النصف.

واعلم أنّ النتيجة على جميع الأقوال المزبورة هي مالكية النصف لكلّ واحد من الشخصين ، ولكن هناك ثمرات تترتّب على تلك الأقوال أو

١٩٨

الاحتمالات الخمسة ، أعني كون مجموع اليدين يداً واحدة ، وكون كلّ واحدة منهما على النصف ، وكون كلّ واحدة منهما على التمام مع التعارض والتساقط والرجوع إلى قاعدة الانصاف ، أو مع عدم التعارض بناءً على إمكان اجتماع الملكيتين على مملوك واحد كما قيل في الاشاعة ، أو كون كلّ واحدة منهما على التمام ، لكن اجتماعهما يكون من قبيل القرينة على مالكية النصف لا التمام ، منها : ما تقدّم نقله عن البلغة في اجتماع أيدي الضمان. ومنها : ما لو نفاه أحدهما. ومنها ما لو ادّعى أحدهما مالكية التمام والآخر مالكية النصف. ومنها : ما لو ادّعى كلّ منهما مالكية التمام.

أمّا الأوّل ، فقد تقدّم الكلام فيه. وأمّا الثاني ومنه مسألة الكيس الموجود بين عشرة إذا نفاه الجميع وادّعاه أحدهم ، فقد قيل إنّه من قبيل الدعوى بلا معارض. وأورد عليهم ابن إدريس (١) بوجود اليد من هذا المدّعي مع نفي الباقين. وأجاب عنه الشيخ قدس‌سره فيما حكاه المرحوم الآشتياني قدس‌سره في قضائه ص ٣٥١ (٢) بأنّ اليد للمجموع إنّما تثبت لوجوده فيما بينهم ، أمّا لو نفاه الأغلب أو تمام التسعة ولم يبق إلاّواحد لم يكن بصاحب يد عليه ، لأنّ يدهم إنّما تثبت باعتبار كونه فيما بينهم وهم محيطون به كالحلقة ، أمّا لو ذهب الجميع وبقي واحد لم يكن هو صاحب يد ، لعدم دخوله في حيطته لبعده عنه. وفيه : أنّه من قبيل المناقشة في الصغرى ، وإلاّ كان من الممكن أن يكون صاحب يد باعتبار كون المحل محلاً للجميع.

وناقش فيه الأُستاذ العراقي قدس‌سره في قضائه ص ١١٦ بما عرفت من كون

__________________

(١) السرائر ٢ : ١٩١.

(٢) كتاب القضاء ( للآشتياني ) ٢ : ٨٦٦ ـ ٨٦٩.

١٩٩

اليدين يداً واحدة ، فلا تكون إلاّعلى النصف أو العشر في المثال ، فهو فيما زاد أجنبي ، فمع نفي الباقين يكون ادّعاؤه للجميع من قبيل الدعوى بلا معارض.

لكن قال في ص ١١٧ : فالأولى أن يقال : إنّ نفي البقية صار موجباً لكشف خروج المال عن تحت يدهم وكون نسبتهم إليه كنسبة المشتري إلى متاع الدكّان ، بخلاف المدّعي فإنّ نفس إضافته حاكية عن يده مستقلاً ، فيكون ردّ المال إليه أجمع بمناط قول ذي اليد لا المدّعي بلا معارض (١). هذا مع قوله في ص ١١٦ إنّه لو فرض كون المال في يد العشرة فمجرّد إقرار البقية لا يلغي عنهم اليد موضوعاً وإنّما يلغي اعتبارها (٢). ومع فرض كون يده نصف يد كيف عادت يداً تامّة عند نفي الآخر ، فلاحظ وتأمّل.

والخلاصة : هي أنّ اجتماع اليدين يكون على أنحاء ثلاثة : الأوّل : أن يكونا من قبيل اليد الواحدة ، مثل الاستضاءة بالسراج ونحو ذلك من التصرّفات في الكلّ الواقعة منهما معاً دفعة واحدة. الثاني : أن يكون كلّ واحدة منهما على النصف المشاع ، مثل أنّ كلاً منهما يؤجر النصف المشاع أو يرهنه أو يبيع ثمرته. الثالث : أن يكون كلّ واحدة من اليدين مستقلّة وعلى الكل ولو على نحو التبادل ، كالدابّة التي يركبها هذا مرّة وذاك أُخرى ، والحكم في هذه الأقسام هو كون المال مشتركاً بينهما على الاشاعة ، لكن ذلك إنّما يتمّ حيث كان المورد محتملاً للاشاعة ، أمّا إذا لم تكن الاشاعة محتملة فالظاهر سقوط اليد عن الاعتبار للتزاحم أو التعارض والرجوع إلى قاعدة القرعة أو قاعدة الانصاف.

وعلى كلّ حال ، فإنّه على الأوّل ـ أعني ما لو لم يعلم عدم الاشتراك ، بل كان

__________________

(١) كتاب القضاء : ١١٧.

(٢) كتاب القضاء : ١١٦.

٢٠٠