أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

حين العقد ، وهذا يلزمه نفي اتّصافه به الذي هو مفاد كان الناقصة.

والخلاصة : أنّ استصحاب عدم الشيء بمفاد ليس الناقصة كاستصحاب عدم عدالة زيد لا يترتّب عليه إلاّ الأثر المترتّب على اتّصافه بعدم العدالة الذي هو مفاد ليس الناقصة ، أمّا إذا لم يكن لنا أثر مترتّب على نفس مفاد ليس الناقصة ، بل كان الأثر متّرتّباً على وجود العدالة بمفاد كان التامّة ، فلا يكون مصحّحاً لجريان استصحاب العدالة بمفاد ليس الناقصة ، بل إنّما يصحّح استصحاب العدم بمفاد ليس التامّة. وكذلك الحال لو كان الأثر مترتّباً على كون زيد عادلاً بمفاد كان الناقصة ، فإنّ هذا الأثر لا يصحّح جريان أصالة عدم عدالته بمفاد ليس الناقصة.

نعم لو تمّ إجراء أصالة العدم في نفس مفاد كان الناقصة لكان من قبيل جريان أصالة العدم لنفي أثر المعدوم ، وأين هذا من استصحاب العدم بمفاد ليس الناقصة فإنّ المعدوم في استصحاب العدم بمفاد ليس الناقصة ليس هو مفاد كان التامّة كي يكون من قبيل أصالة عدم الشيء لنفي أثر ذلك الشيء ، هذا.

مضافاً إلى أنّ مفاد كان الناقصة ليس هو موضوع النقل والانتقال ، بل موضوعه هو مفاد كان التامّة ، وإنّما حكمنا بالنقل ورتّبناه على مفاد كان الناقصة لأنّه محقّق لمفاد كان التامّة. ومنه يظهر لك أنّ استصحاب عدم البلوغ بمفاد كان الناقصة لا يجري في نفسه لعدم المصحّح له ، وحينئذ يكون الجاري هو أصالة الصحّة.

والخلاصة : هي أنّ مفاد ليس الناقصة ليس هو نقيض لمفاد كان الناقصة ليكون الفائدة من إجراء الأصل بمفاد ليس الناقصة هو نفي الأثر المترتّب على مفاد كان الناقصة ، بل هما ـ أعني مفاد ليس الناقصة ومفاد كان الناقصة ـ من قبيل الضدّين ، وإنّما نقيض مفاد كان الناقصة الذي هو عبارة عن كون العاقد متّصفاً

٥٠١

بالبلوغ هو عدم كون العاقد متّصفاً بالبلوغ ، وليس لنا أصل ينفي كون العاقد متّصفاً بالبلوغ ، إذ لا أصل في نفس مفاد كان الناقصة.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس‌سره في هذا التحرير بقوله : كما لا إشكال في أنّ الموضوع إن كان بمفاد كان الناقصة فنقيضه يكون بمفاد ليس الناقصة ، وإن كان بمفاد كان التامّة فنقيضه يكون بمفاد ليس التامّة ، فإنّه لا يعقل أن يكون نقيض مفاد كان الناقصة مفاد ليس التامّة وبالعكس ، لأنّ نقيض كلّ شيء رفعه الخ (١).

فقد ظهر لك أنّ مفاد ليس الناقصة ليس هو بنقيض لمفاد كان الناقصة ، وإنّما نقيض مفاد كان الناقصة هو رفعه ، ورفع مفاد كان الناقصة الذي هو عبارة عن كون العاقد بالغاً إنّما يكون برفع كون العاقد بالغاً لا باثبات كون العاقد غير بالغ الذي هو بمنزلة الموجبة المعدولة المحمول ، ولا بنفي البالغية عن هذا العاقد الذي هو السالبة البسيطة بمفاد ليس الناقصة ، فإنّ نفي البالغية عن هذا العاقد ليس هو رفع كون العاقد بالغاً ليكون نقيضاً لمفاد كان الناقصة.

نعم ، إنّ مفاد عدم البلوغ الذي هو مفاد ليس التامّة لا يكون نقيضاً لمفاد كان الناقصة ، لكن نقيض مفاد كان الناقصة هو نفي مفاد كان الناقصة ، وهو مفاد ليس التامّة أيضاً ، لكنّه ليس بمسلّط على نفس البلوغ ، بل هو مسلّط على كون العاقد بالغاً ، أعني أنّه عبارة عن عدم كون العاقد بالغاً ، وهو مفاد ليس التامّة المسلّط على كون العاقد بالغاً ، وليس هو عبارة عن مفاد ليس الناقصة الذي هو عبارة عن أنّ العاقد ليس ببالغ.

ولا يبعد أن يقال : إنّ هذا الذي جرى عليه شيخنا قدس‌سره في هذا المقام من كون

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٧٥ ـ ٦٧٦.

٥٠٢

مفاد ليس الناقصة نقيضاً لمفاد كان الناقصة مناف لما أفاده في مسألة استصحاب عدم القرشية (١) ، فإنّ عمدة ما يتمسّك به الجماعة هو أنّهما متناقضان ، وإذا لم يكن مفاد كان الناقصة حاصلاً قبل وجود المرأة كان الحاصل هو مفاد ليس الناقصة.

وحاصل جواب شيخنا قدس‌سره هناك هو أنّ التناقض بينهما إنّما [ هو ] في ظرف وجود المرأة ، أمّا قبل وجودها فلا يكون إلاّمن قبيل ارتفاعهما. وحاصل هذا الكلام هو أنّه لا تناقض بينهما ، وإنّما جلّ ما بينهما هو التقابل وعدم الاجتماع ، فهما من هذه الجهة من قبيل العدم والملكة أو من قبيل الضدّين ، وليس لازم ذلك رجوع السالبة البسيطة التي هي مفاد ليس الناقصة إلى الموجبة المعدولة المحمول ، فراجع ذلك المبحث وتأمّل. هذا كلّه في البلوغ ونحوه ممّا يكون الأصل الموضوعي فيه راجعاً إلى مفاد ليس الناقصة.

أمّا ما يكون مرجع الأصل الموضوعي إلى مفاد ليس التامّة مثل ذكر المهر في العقد المنقطع ، ومثل اختبار المبيع من حيث الكيل والوزن ممّا يكون المرجع فيه هو أصالة العدم بمفاد ليس التامّة ، فلا يتأتّى فيه ما تقدّم في مسألة الشكّ في بلوغ العاقد ، ولكن هل الأثر ـ وهو النقل والانتقال والزوجية ـ مترتّب على مجرّد وجود ذلك الشرط لتكون أصالة عدمه بمفاد ليس التامّة كافياً ، أو أنّه مترتّب على العقد المشتمل على ذلك الشرط لئلاّ ينفع فيه الأصل المذكور ، أو يكتفى في عدم ترتّب الأثر المذكور باحراز العقد وجداناً وعدم الشرط بالأصل المذكور ، كلّ ذلك محتاج إلى التأمّل. ويمكن أن يقال : إنّ الاختبار راجع إلى كون المشتري عالماً فيكون من قبيل بلوغ العاقد.

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ٢ : ٣٣٦ ، وراجع أيضاً المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٨١ وما بعدها.

٥٠٣

قوله : وإن كان لفظياً فالمتّبع ملاحظة مقدار إطلاق معقد الإجماع ، فإن استفيد منه كون أصالة الصحّة من الأُصول الموضوعية والحكمية ، بمعنى أنّها تجري في جميع موارد الشكّ في الصحّة والفساد ، سواء كان في مورد الشكّ أصل موضوعي ... الخ (١).

لا يخفى أنّه لو كان لنا إطلاق معقد إجماع أو إطلاق رواية أو آية يدلّ على الأخذ بأصالة الصحّة في موارد الشكّ فيها ، نقول : إنّ هذا الأصل ـ أعني الصحّة ـ إن كان بمعنى ترتّب الأثر أعني كونه أصلاً حكمياً غير إحرازي ، فإن كان في قباله مجرّد أصالة عدم ترتّب الأثر ، كان مقدّماً عليه ، إمّا لأجل أنّ دليل أصالة عدم ترتّب الأثر وهو قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » (٢) الذي هو دليل كلّي الاستصحاب أعمّ من دليل أصالة الصحّة ، إذ ما من مورد من موارد أصالة الصحّة إلاّ وهو مورد لقوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين » الخ ، فيكون مقدّماً عليه للتخصيص ، أو لأنّه لو لم يقدّم لبقي بلا مورد.

وإن كان المقابل لأصالة الصحّة هو الأصل الموضوعي كان حاكماً عليها ، لكونها حينئذ من الأُصول الحكمية ، ولا تنفع طريقة التخصيص في هذه الصورة ، فإنّ الحاكم يقدّم على المحكوم وإن كان أخصّ منه ، فإنّ المسألة حينئذ تكون دائرة بين حكومة ذلك الدليل العام على هذا الدليل الخاصّ ، أو كون هذا الدليل الخاصّ مخصّصاً لذلك الدليل العام ، والمتعيّن هو الأوّل ، لأنّ مرتبة الجمع الدلالي بعد مرتبة الحكومة. كما أنّ طريقة البقاء بلا مورد لا تكون نافعة ، لكفاية موارد المقابلة بمجرّد أصالة عدم النقل وعدم ترتّب الأثر.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٧٧.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

٥٠٤

والحاصل : أنّ المسألة تكون من قبيل ما لو كان لنا دليل عام وكان في قباله دليل أخصّ منه مطلقاً ، وكان ذلك الأخصّ في بعض موارده محكوماً للعام وفي البعض الآخر منافياً له ، فبالنسبة إلى مورد الحكومة يكون العام هو المقدّم ، لأنّ مرتبة الحكومة سابقة على الجمع الدلالي بطريقة التخصيص ، وبالنسبة إلى مورد المنافاة يكون المقدّم هو الدليل الخاصّ لأجل الجمع الدلالي.

وإن كان هذا الأصل ـ أعني أصالة الصحّة ـ بمعنى التمامية وجامعية الشرائط ليكون أصلاً موضوعياً إحرازياً ، فإن كان المقابل له هو مجرّد أصالة عدم ترتّب الأثر ، كان هو حاكماً عليه من دون حاجة إلى طريقة التخصيص أو طريقة البقاء بلا مورد ، وإن كان المقابل له أحد الأُصول الموضوعية النافية مثل أصالة عدم البلوغ ونحوها ، حصل التعارض بينهما ، لما تقرّر فيما تقدّم من عدم حكومة أصالة الصحّة ولو قلنا بكونها إحرازية على مثل أصالة عدم البلوغ ، كما أنّه لا تتأتى طريقة البقاء بلا مورد هنا أيضاً ، لكفاية موارد المقابلة بمجرّد أصالة عدم ترتّب الأثر ، فلم يبق لنا ما يمكن أن نستند إليه في توجيه تقديم أصالة الصحّة في هذه الصورة على أصالة عدم البلوغ إلاّدعوى كون دليل أصالة الصحّة أخصّ من دليل أصالة عدم البلوغ ، وهو لا تنقض اليقين الخ.

ولكن بعد أن قلنا إنّ دليل أصالة الصحّة حاكم على ذلك الدليل عند مقابلته بأصالة عدم ترتّب الأثر ، كان ذلك المورد خارجاً عن عموم « لا تنقض » خروجاً موضوعياً بالتعبّد ، فيكون من الموارد التي ينفرد فيها دليل أصالة الصحّة عن دليل الاستصحاب ، فتنقلب النسبة وتكون النسبة حينئذ عموماً من وجه ، فلا وجه حينئذ للتخصيص.

لا يقال : لا وجه لانقلاب النسبة بين الأدلّة سيّما في هذا المقام ممّا كان

٥٠٥

التقابل منحصراً في دليلين لا بين ثلاثة يكون الثاني مخصّصاً للأوّل وبه تنقلب النسبة بين الأوّل والثالث من العموم والخصوص المطلق إلى العموم من وجه. وبالجملة : أنّه لا وجه لملاحظة النسبة بين دليل أصالة الصحّة ودليل الاستصحاب بعد تحكيم الأوّل على الثاني في موارد أصالة عدم ترتّب الأثر ، بل اللازم هو ملاحظة النسبة بين دليل أصالة الصحّة والاستصحاب قبل تحكيمه عليه في مورد أصالة عدم ترتّب الأثر.

لأنّا نقول : إنّ الأمر وإن كان كذلك في صورة كون العملية الأُولى من سنخ الثانية وفي رتبتها ، أمّا ما نحن فيه فليس الأمر كذلك ، فإنّ عملية الحكومة مقدّمة رتبة على عملية الجمع الدلالي ، وإذا كان الخروج بطريق الحكومة هو المقدّم رتبة تعيّن في الثاني عدم الركون إلى طريقة التخصيص ، لما عرفت من انقلاب النسبة المانع من إعمال طريقة التخصيص ، فتأمّل.

ولازم ذلك انحصار مجاري أصالة الصحّة فيما لم يكن في البين أصل موضوعي ينفي بعض الشروط حتّى مثل شرائط العقد ممّا يجري فيه أصالة العدم مثل ذكر المهر في العقد المنقطع ، ومثل الموالاة بين الايجاب والقبول ، فلا تكون أصالة الصحّة جارية في مثل ذلك ، بل يكون المحكّم في أمثاله هو أصالة عدم ترتّب الأثر. والظاهر تسالمهم على جريان أصالة الصحّة في أمثال ذلك ممّا يرجع إلى شرائط العقد ، وإن وقع الخلاف فيما هو من قبيل شرائط العوضين أو شرائط المتعاقدين.

وممّا يزيد الطين بلّة باب أصالة الصحّة في عبادات الغير وأفعاله ممّا يترتّب فيه الأثر على غير الفاعل مثل عبادة النائب وتطهير الأجير الثوب ونحو ذلك ، فإنّ جميع هذه الموارد هي موارد تجري فيها أصالة عدم الاتيان بالجزء أو الشرط ،

٥٠٦

ومع ذلك يكون المحكّم عندهم فيها هو أصالة الصحّة ، وهذا ممّا يكشف عن أنّ الوجه في تقديم أصالة الصحّة على الأصل الموضوعي النافي للشرط والجزء هو أنّ أصالة الصحّة فوق الأُصول الاحرازية ، بواسطة كونها معتبرة من باب الظهور النوعي في أنّ الفاعل العاقل إذا أقدم على عمل مركّب من أجزاء وشرائط أنّه يأتي بجميع ما يعتبر فيه من الأجزاء والشرائط.

وهذا الظهور النوعي وإن كان موضوعه الشكّ في الاتيان بذلك الجزء أو الشرط ، كما أنّ الأصل الموضوعي النافي لذلك الجزء أو الشرط يكون موضوعه الشكّ في وجوده بعد اليقين بعدمه السابق ، إلاّ أنّ الأوّل لمّا كان مقتضياً للبناء على الاتيان بذلك الجزء أو ذلك الشرط من جهة الظهور العقلائي النوعي والثاني من باب التعبّد بالبقاء ، كانت المسألة من وادي معارضة الظاهر للأصل ، وبعد فرض كون ذلك الظهور النوعي حجّة يكون مقدّماً على الأصل العملي وإن كان إحرازياً.

ولعلّ هذا هو المراد ممّا أفاده الأُستاذ قدس‌سره فيما حرّرته عنه قدس‌سره في وجه التقديم ممّا هو غير راجع إلى التخصيص المنقول عنه في هذه التقريرات (١) ، ولا إلى دعوى تحقّق الإجماع العملي المنقول عنه في التقريرات المطبوعة في صيدا (٢) ، وهاك نصّ ما حرّرته عنه قدس‌سره بحذف بعض الزوائد وذلك قوله : إنّ هذا الأصل ( يعني أصالة الصحّة ) قد يكون جارياً في مقابل أصالة الفساد وعدم ترتّب الأثر ، فلا شبهة في حكومته على ذلك الأصل ـ ثمّ قال ـ وقد يكون جارياً في مقابل أصل موضوعي مثل أصالة عدم بلوغ العاقد ، فتقع المعارضة حينئذ بين الأصلين ، فإنّ مقتضى أصالة عدم البلوغ كون العاقد لذلك العقد غير بالغ ، فيكون

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٧٧.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٦٠.

٥٠٧

العقد فاسداً ، ومقتضى أصالة الصحّة كون ذلك العقد صادراً عن البالغ فيكون صحيحاً ، وليس أحد الأمرين مسبّباً عن الآخر لأنّها قضية واحدة ، إن نظر فيها إلى طرف العاقد كان مقتضاه أصالة عدم بلوغه ، وإن نظر إلى نفس العقد كان مقتضاه أصالة صحّته.

وبعبارة أُخرى : هذه القضية الواحدة تارةً يجعل موضوعها العاقد الذي أوقع ذلك العقد فيقال إنّه مشكوك البلوغ ، وأُخرى يجعل موضوعها العقد الذي وقع من هذا العاقد وأنّه هل وقع من البالغ فيكون صحيحاً أم وقع من غير البالغ فيكون فاسداً ، وحينئذ يكون محكوماً بالصحّة ، فيتعارض الأصلان مع عدم تقدّم لأحدهما على الآخر ، وحينئذ فالتعارض بين الأصلين باقٍ بحاله. ومنه يتّضح صحّة ما عليه الطبقة الوسطى من عدم جريان أصالة الصحّة في موارد الشكّ في شروط المتعاقدين ، أمّا فيما لا يرجع منها إلى مرتبة العقد كشروط القابلية فلما تقدّم مفصّلاً ، وأمّا فيما يرجع إلى مرتبة العقد كالبلوغ في الوكيل والفضولي ونحوهما فللمعارضة المذكورة.

ثمّ قال : إنّه إذا كان المقابل لأصالة الصحّة أصالة الفساد كانت أصالة الصحّة هي الحاكمة ، وإلاّ لم يبق لها مورد ، إذ ليس لنا مورد من الموارد لا يكون مجرى لأصالة الفساد. وإذا كان المقابل لها أصلاً موضوعياً مثل أصالة عدم بلوغ العاقد المالك ، فالظاهر منهم أنّهم لا يجرون أصالة الصحّة رأساً ويجرون أصالة عدم البلوغ ، لكون الشرط في مثل ذلك راجعاً إلى القابلية ، لا أنّهم يبنون على التعارض والتساقط والرجوع إلى أصالة الفساد.

نعم ، الظاهر منهم في مثل الشكّ في الاختبار ونحوه ممّا لا يرجع إلى القابلية أنّهم يجرون أصالة الصحّة ويحكّمونها على أصالة عدم اختبار المبيع ،

٥٠٨

ولعلّ السرّ فيه أنّ أصالة الصحّة وإن لم تكن عندهم من الأمارات ، إلاّ أنّ فيها نحو جهة أمارية ، فتكون مقدّمة على الأصل المذكور لأجل ذلك ، كما تقدّم توضيح ذلك في بيان حكومة قاعدة الفراغ على الاستصحاب ، من أنّه وإن لم يكن لنا في البين شكّان أحدهما مسبّب عن الآخر ، وكان لنا شكّ واحد لكنّه ذو جهتين مترتّبتين إحداهما مسبّبة عن الأُخرى ، فيكون الأصل الجاري في الجهة المسبّبة محكوماً للأصل الجاري في الجهة الأُخرى ، انتهى.

قلت : أمّا كون أصالة الصحّة مشتملة على جهة أمارية ، فقد عرفت المراد منه من كونها من باب الظهور النوعي ، ومعه تكون مقدّمة على الأُصول النافية الموضوعية الاحرازية. وأمّا ما أفاده من تعدّد الجهة للشكّ وأنّ إحدى الجهتين فيه مسبّبة عن الأُخرى فقد عرفت الكلام فيه مفصّلاً في باب قاعدة الفراغ ، فراجع (١).

ثمّ لا يخفى أنّه قدس‌سره قد تعرّض فيما حرّرته عنه لإجراء [ أصالة ] الصحّة في الاعتقاد وأنّه إذا كان إنكار ما هو ضروري الدين لاحتمال كون ذلك لشبهة عرضت للمنكر لا يحكم بكفره ، إلاّ إذا كان ذلك الضروري ممّا ورد النصّ بتكفير منكره الشامل باطلاقه لما إذا كان ذلك الانكار لشبهة ، مثل الصوم والصلاة والمعاد الجسماني ، أمّا إذا لم يكن ممّا ورد النصّ بتكفير منكره ، فإنّه لا يكفّر منكره إلاّ إذا رجع إلى تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فراجع ما حرّرته عنه (٢). والظاهر أنّ أصالة الصحّة في مثل ذلك إنّما هي من باب حمل [ فعل ] المسلم على الصحّة لا من باب

__________________

(١) راجع حواشيه قدس‌سره في أوّل بحث قاعدة الفراغ والتجاوز في الصفحة : ٢٤٥ وما بعدها.

(٢) مخطوط لم يطبع بعد.

٥٠٩

الحمل على الصحّة التي هي محلّ بحثنا.

قال في التقريرات المطبوعة في صيدا : ولكن التحقيق في المقام أن يقال : إنّ أصالة الصحّة إذا كان مدركها هو لزوم حمل فعل المسلم على الصحّة ، فلا ينبغي الريب في كونه من الأُصول الحكمية المحضة ، فتقدّم عليها الاستصحابات الموضوعية لا محالة ، لكنّك عرفت فيما تقدّم عدم كون المدرك ذلك (١).

قلت : لا يخفى أنّه إذا كان المدرك هو حمل فعل المسلم على الصحيح فلا أثر له إلاّ أنّه لم يقدم على مخالفة الحكم الشرعي ، وحينئذ فيتقدّم عليها كلّ أصل حتّى أصالة عدم النقل والانتقال. والذي يظهر من هذه العبارة أنّه إذا لم يكن المدرك لها هو حمل فعل المسلم على الصحيح تكون أصلاً موضوعياً ، وقد عرفت أنّها إنّما تكون أصلاً موضوعياً إذا كانت محرزة لوجود الشرط المشكوك دون ما لو قلنا بأنّها غير محرزة لذلك ، وأنّه لا محصّل لها إلاّمجرّد ترتّب الأثر ، فإنّها حينئذ لا تكون إلاّ أصلاً حكمياً.

ثمّ قال : كما أنّه إذا كان المدرك لها هو الإجماع القولي ، فلابدّ حينئذ من التمسّك باطلاق معقد الإجماع ، ولا ريب في شموله لموارد الاستصحابات الموضوعية فيما لا يرجع الشكّ إلى أهلية المتعاقدين أو قابلية العوضين ، فتكون أصالة الصحّة متقدّمة عليها كتقدّمها على الاستصحابات الحكمية (٢).

قلت : لا يخفى أنّ تقدّمها على الاستصحابات الحكمية التي هي أصالة عدم النقل والانتقال إنّما هو لحكومة أصالة الصحّة عليها ، لما عرفت من كون الصحّة بالقياس إلى هذا الأثر من قبيل الموضوع بالقياس إلى الحكم ، ومن الواضح أنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢٥٩.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٥٩.

٥١٠

ذلك ـ أعني طريقة الحكومة المذكورة ـ لا تأتي في تقدّمها على الأُصول الموضوعية فلابدّ من سلوك طريقة الجمع الدلالي ـ أعني طريقة التخصيص ـ التي أشار إليها في التقريرات المطبوعة في النجف (١) ، وقد عرفت عدم تمامية الطريقة المزبورة فيما تقدّم تفصيله ، كما أنّك قد عرفت أنّ الأُصول الموضوعية المقابلة لأصالة الصحّة ليست بمنحصرة في شرائط المتعاقدين وشرائط العوضين ، بل ربما كان لها مورد في شرائط نفس العقد إذا كان الشرط المشكوك من الحوادث القابلة لجريان أصالة العدم فيها ، كما في مثل ذكر المهر في باب النكاح المنقطع ونحو ذلك.

ثمّ قال : لكن الظاهر عدم ثبوت الإجماع القولي كما يظهر ذلك لمن راجع كلماتهم (٢).

قلت : هذا منافٍ لما في طليعة البحث في التقريرات المطبوعة في النجف (٣) من ثبوت معقد الإجماع وإطلاقه اللفظي ، بل هو منافٍ لما مرّ من هذا التقرير من قوله : لا أقول إنّ الإجماع دليل لبّي لا يمكن التمسّك به إلاّفي الموارد المتيقّنة ، فإنّه إنّما يتمّ في غير المقام ممّا لم يكن الإجماع على لفظ مطلق ، وإلاّ فلا مانع من التمسّك باطلاقه كما في الأدلّة اللفظية الخ (٤).

ثمّ قال : فينحصر المدرك في الإجماع العملي المستفاد من تمسّكهم بها في الموارد المتفرّقة ، ولا ريب أنّ القدر المتيقّن منه وإن كان عدم وجود أصل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٧٧.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٦٥٤.

(٤) أجود التقريرات ٤ : ٢٤٣.

٥١١

موضوعي مخالف لمقتضى أصالة الصحّة ، إلاّ أنّ من المظنون قوياً بمرتبة تطمئن بها النفس هو تحقّق الإجماع في موارد الأُصول الموضوعية أيضاً ، فينحصر مورد الخروج بما إذا كان الشكّ في الصحّة من جهة الشكّ في أهلية المتعاقدين أو قابلية العوضين ، وكلّما كان الشكّ من غير هاتين الجهتين يرجع فيه إلى أصالة الصحّة ، سواء كان الأصل المخالف لها من الأُصول الحكمية أو الموضوعية. نعم لو لم يكن تحقّق الإجماع في موارد الأُصول الموضوعية محرزاً لما كان مناص عن الرجوع إلى تلك الأُصول ، لعدم ثبوت حجّة أُخرى على خلافها (١).

قلت : فيكون المختار له أخيراً هو جريان أصالة الصحّة في موارد الأُصول الموضوعية النافية للشرط غير ما هو راجع إلى القابلية ، وبرهانه على ذلك قيام الإجماع على جريانها في الموارد المذكورة ، فيكون الموجب لسقوط الأُصول الموضوعية في تلك الموارد هو الإجماع على سقوطه ، لا أنّه محكوم لأصالة الصحّة ، أو أنّ دليل أصالة الصحّة أخصّ من أدلّة تلك الأُصول ، وهذا ممّا لا ينبغي الريب فيه ، لكن الشأن في ثبوت الإجماع العملي على ذلك.

قوله : هذا ولكن مع ذلك كلّه فالمسألة لا تخلو عن الإشكال ، فإنّ المدرك في أصالة الصحّة في العقود ليس إلاّ الإجماع ، وهو لا يخلو إمّا أن يكون ... الخ (٢).

قد يقال : إنّ الصحّة في أصالة الصحّة ليست هي إلاّعبارة عن التمامية أعني واجدية المعاملة لكلّ ما يعتبر في تأثيرها من الأجزاء والشرائط ، فعند الشكّ في اشتمال المعاملة على الشرط الكذائي المعتبر في تأثيرها للنقل والانتقال لا يكون

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢٦٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٧٧.

٥١٢

معنى أصالة الصحّة في تلك المعاملة إلاّ أصالة واجديتها لذلك الشرط المشكوك الوجود ، فهي على تقدير كونها من الأُصول الاحرازية لا يحرز بها إلاّواجديتها لذلك الشرط واشتمالها عليه ، لا أنّها يحرز بها وجود ذلك الشرط ، وحينئذ فلا يترتّب عليها آثار وجود ذلك الشرط ، وإنّما يترتّب عليها الآثار المترتّبة على واجدية تلك المعاملة لذلك الشرط.

وهذا المعنى ـ أعني أصالة واجدية المعاملة للشرط المشكوك ـ وإن كان بالنسبة إلى الأثر المترتّب على تلك المعاملة الذي هو النقل والانتقال من الأُصول الموضوعية ، بحيث إنّه يكون حاكماً على أصالة عدم النقل والانتقال ، لكون نسبته إلى ذلك الأصل من قبيل نسبة الأصل الموضوعي إلى الأصل الحكمي ، إلاّ أنّ ذلك الأصل ـ أعني أصالة الواجدية ـ يكون حكمياً بالنسبة إلى الأصل الجاري في وجود ذلك الشرط النافي للشرط المذكور ، وحينئذ فلا ينبغي الريب في حكومة الأصل الجاري في ناحية الشرط المفروض كونه نافياً له على أصالة الصحّة بمعنى واجدية المعاملة لذلك الشرط المشكوك الوجود ، لأنّ الشكّ في واجدية المعاملة لذلك الشرط وفي اشتمالها عليه مسبّب عن الشكّ في وجود ذلك الشرط ، فيكون الأصل النافي لذلك الشرط حاكماً على أصالة الصحّة الجارية في تلك المعاملة الحاكم بواجديتها للشرط المذكور واشتمالها ، هذا.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ الظاهر في أصالة الصحّة أنها تحرز وجود ذلك الشرط ، فإنّ أصالة واجديتها لذلك الشرط عبارة أُخرى عن الحكم بوجود ذلك الشرط ، وحينئذ يكون الأصل النافي لذلك الشرط معارضاً لأصالة الصحّة ، من دون فرق في تلك الأُصول النافية لذلك الشرط بين ما يكون جارياً في شروط العقد وما يكون جارياً في شروط العوضين أو شروط المتعاقدين ، وحينئذ ننقل

٥١٣

الكلام إلى دليل أصالة الصحّة الذي هو الإجماع ، فنقول :

إن كان في البين معقد إجماع وكان مطلقاً شاملاً لموارد الأُصول الموضوعية النافية للشرط المشكوك ، فلا علاج لذلك التعارض ، فلابدّ حينئذ من التساقط والرجوع إلى أصالة عدم ترتّب الأثر على تلك المعاملة ، للعموم من وجه بين دليل أصالة الصحّة وبين أدلّة تلك الأُصول النافية ، لكون الأوّل شاملاً للموارد التي لا توجد فيها تلك الأُصول النافية وللموارد التي توجد فيها تلك الأُصول النافية ، والثاني شاملاً لموارد أصالة الصحّة والموارد التي هي خارجة عن مورد أصالة الصحّة من سائر موارد الأُصول النافية ، فما أُفيد من كون أصالة الصحّة أخصّ من تلك الأُصول النافية فتكون مقدّمة عليها ممّا لم يظهر وجهه.

وما أُفيد في توجيهه ممّا ربما يظهر من قوله : فإن استفيد منه كون أصالة الصحّة من الأُصول الموضوعية والحكمية ، بمعنى أنّها تجري في جميع موارد الشكّ في الصحّة والفساد ـ إلى قوله ـ فلا محالة تكون أصالة الصحّة أخصّ مطلقاً من الاستصحاب ، فإنّه ليس في مورد من موارد أصالة الصحّة إلاّوالاستصحاب على خلافها ، فمقتضى صناعة الاطلاق والتقييد تخصيص الاستصحاب بما عدا الشكّ في صحّة العقد وفساده مطلقاً (١) ، ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، فإنّه قدس‌سره جعل دليل أصالة الصحّة في قبال دليل كلّي الاستصحاب ، فلابدّ حينئذ من القول بأنّ دليل أصالة الصحّة أخصّ مطلقاً من دليل الاستصحاب ، فإنّ جميع موارد دليل أصالة الصحّة لا تخلو من الاستصحاب ، ولا أقل من أصالة عدم ترتّب الأثر الذي هو النقل والانتقال.

ولكن ذلك محلّ تأمّل وإشكال ، وتوضيح هذا الإشكال يتوقّف على تمهيد

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٧٧ ـ ٦٧٨.

٥١٤

مقدّمة ، وهي أنّ حكومة أحد الدليلين على الآخر سابقة في الرتبة على الجمع الدلالي ولو بمثل العموم والخصوص والاطلاق والتقييد ، فإنّ الجمع الدلالي ولو كان بالتقييد أو التخصيص فرع التنافي في الجملة ، وإذا كان أحدهما حاكماً على الآخر لكونه رافعاً لموضوعه ولو تعبّداً يرتفع التنافي بينهما ، وحينئذ لا تصل النوبة إلى التنافي بينهما كي تتأتّى في ذلك طريقة التخصيص أو التقييد التي هي مرتبة الجمع الدلالي.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّا لو قلنا بأنّ أصالة الصحّة من الأُصول الاحرازية بمعنى أنّه عند الشكّ في تحقّق شرط المعاملة تكون أصالة الصحّة في تلك المعاملة محرزة لوجود ذلك الشرط ، فإنّ دليلها وإن كان أخصّ مطلقاً من دليل الاستصحاب لما عرفت ، إلاّ أنّها لمّا كانت حاكمة في بعض الموارد على دليل الاستصحاب الجاري في تلك الموارد أعني أصالة عدم ترتّب الأثر ، كانت تلك الموارد خارجة عن موضوع دليل الاستصحاب خروجاً تعبّدياً بواسطة الحكومة المذكورة ، وحينئذ فقهراً يكون موضوع دليل الاستصحاب منحصراً بما عدا تلك الموارد ممّا يكون موضوعه فيها مجتمعاً مع موضوع أصالة الصحّة ، وبتلك الحكومة تنقلب النسبة بين الدليلين إلى العموم من وجه ، لما عرفت من أنّ طريقة الحكومة سابقة في الرتبة على الجمع الدلالي ، ففي المرتبة الأُولى كانت موارد الشكّ في مثل العربية ونحوها ممّا لا تجري [ فيه ] الاستصحابات الموضوعية خارجة عن موارد كلّي الاستصحاب ، وتكون تلك الموارد من مختصّات أصالة الصحّة ، كما أنّ الموارد التي لا محل لأصالة الصحّة فيها ممّا هي مورد للاستصحاب تكون من مختصّات دليل الاستصحاب ، وتبقى موارد أصالة الصحّة التي هي مجرى للاستصحابات الموضوعية النافية للشرط مجمعاً للدليلين

٥١٥

ومورداً للمعارضة بينهما ، وحينئذ لابدّ في هذه الموارد من الالتزام بالتساقط والرجوع فيها إلى أصالة عدم ترتّب الأثر.

إلاّ أن ندّعي أنّ أصالة الصحّة من قبيل الظهور في الجامعية ، وحينئذ تكون حاكمة ومقدّمة على الأصل ، هذا كلّه على تقدير أن يكون لنا دليل لفظي يدلّ على أصالة الصحّة ، ولو كان ذلك الدليل اللفظي هو معقد الإجماع.

أمّا إذا لم يكن لنا مثل ذلك الدليل اللفظي كما هو الظاهر ، وبقينا نحن وبناء العقلاء وسيرة المسلمين والإجماع العملي ، فإن ثبت بناء العقلاء أو السيرة أو الإجماع على إجراء أصالة الصحّة في الموارد التي هي في حدّ نفسها مجرى للأُصول الموضوعية النافية للشرط المشكوك الوجود ، كان ذلك عبارة أُخرى عن قيام الدليل القطعي على سقوط تلك الاستصحابات في الموارد المذكورة ، وقهراً يكون دليل الاستصحاب مختصّاً بما عدا تلك الموارد.

وإن لم يثبت بناء العقلاء أو السيرة أو الإجماع على إجراء أصالة الصحّة في خصوص تلك الموارد ، وكان القدر المتيقّن هو جريانها فيما عداها ممّا لا يوجد فيه تلك الأُصول الموضوعية النافية للشرط المشكوك ، كان المتعيّن هو الرجوع في تلك الموارد إلى الأُصول الموضوعية النافية للموضوع ، من دون فرق في ذلك كلّه بين القول بأنّ أصالة الصحّة من الأُصول الاحرازية والقول بأنّها من الأُصول غير الاحرازية.

قوله : فإن استفيد منه كون أصالة الصحّة من الأُصول الموضوعية والحكمية ... الخ (١).

لا يخفى أنّ كون أصالة الصحّة أصلاً حكمياً أو موضوعياً إنّما يترتّب على

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٧٧.

٥١٦

كونها محرزة للشرط أو غير محرزة للشرط ، لا على أنّ الشرط المشكوك هو في حدّ نفسه مع قطع النظر عن أصالة الصحّة مجرى لأصالة العدم أو عدم كونها مجرى لها ، ولا على أنّ المقابل لأصالة الصحّة هو أصالة عدم الشرط أو أصالة عدم النقل ، فلاحظ وتأمّل.

٥١٧

[ تعارض الاستصحابين ]

(١) قوله : إذا كان الأصل السببي واجداً لشرطين ... الخ (٢).

تقدّم في مبحث استصحاب الكلّي أنّه بعد فرض كون المشكوك الثاني من الآثار الشرعية للمشكوك الأوّل الذي هو عبارة عن كون الشكّ الثاني مسبّباً شرعياً عن الشكّ الأوّل ، لا حاجة في الحكومة إلى ذكر الشرط الثاني ، بل يكون الشرط الأوّل مغنياً عن الشرط الثاني.

وأمّا مسألة حلّية أكل الحيوان وجواز الصلاة في المأخوذ منه ، فقد تقدّم أيضاً أنّ المانعية ليست مسبّبة عن الحرمة ، بل هما معاً مسبّبان عن أمر ثالث وهو المفسدة في ذلك الحيوان الموجبة لحرمة أكل لحمه ولعدم جواز الصلاة فيما يؤخذ منه ، فيكون كلّ من الحكمين في عرض الآخر ، وأنّه لو سلّمنا كون المانعية منتزعة ومسبّبة عن حرمة الأكل كما أنّ جواز الصلاة فيما يؤخذ منه مسبّبة عن حلّية الأكل ، فإن كان جواز الصلاة فيه تابعاً للحلّية ولو الحلّية الظاهرية الثابتة بقاعدة الحل ، كان لازمه عدم لزوم الاعادة عند تبيّن الخلاف ، وهكذا الحال في طهارة الماء التي هي شرط في الوضوء ، وإن كان الشرط تابعاً للحلّية الواقعية اللاحقة له بعنوانه الأوّلي ، لم تكن أصالة الحل ولا أصالة الطهارة نافعة في جواز

__________________

(١) بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد وعليه نتوكّل وبه نستعين والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين / الاثنين ٢٠ / محرّم سنة ١٣٦٠ [ منه قدس‌سره ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٨٢.

٥١٨

الاقدام ، إلاّ إذا قلنا بأنّ المستفاد من قاعدة الحل وقاعدة الطهارة هو التنزيل منزلة الحلال والطاهر الواقعي ، فراجع (١).

قوله : بداهة أنّ التعبّد بطهارة الماء المغسول به الثوب النجس بنفسه يقتضي التعبّد بطهارة الثوب ، إذ لا معنى لطهارة الماء إلاّكونه مزيلاً للحدث والخبث ... الخ (٢).

يمكن التأمّل في ذلك ، إذ ليس معنى طهارة الماء هو كونه مزيلاً للحدث والخبث ، بل إنّ ذلك ـ أعني كونه مزيلاً للحدث والخبث ـ من الأحكام الشرعية اللاحقة للماء الطاهر ، ويتفرّع على هذه الجهة انحصار الوجه في تقديم أصل الطهارة في الماء ـ سواء كان باستصحابها أو بقاعدتها ـ على استصحاب نجاسة المغسول به بأنّ ترتّب ارتفاع النجاسة عن المغسول به يكون شرعياً ، فيكون أصل الطهارة في الماء حاكماً على استصحاب النجاسة في المغسول به ، لكون الأوّل مزيلاً ورافعاً لموضوع الثاني الذي هو الشكّ في بقاء النجاسة ، بخلاف استصحاب النجاسة في ناحية المغسول فإنّه لا يترتّب عليه ارتفاع الشكّ في طهارة الماء إلاّبالأصل المثبت ، لأنّ ترتّب النجاسة في الماء على بقاء نجاسة المغسول ترتّب عقلي ناش عن الملازمة العقلية بين بقاء نجاسة المغسول وبين كون الماء نجساً ، وحينئذ لا تتأتّى الجهة المطلوبة من كون الأوّل مقدّماً على الثاني حتّى لو قلنا بحجّية الأصل المثبت بالتقريب الذي أفاده قدس‌سره من التأخّر الرتبي ، وذلك فإنّا لو قلنا بحجّية الأصل المثبت وعدم الفرق بين الآثار التي يكون ترتّبها

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢٧٩ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٨٣ ـ ٦٨٤.

٥١٩

شرعياً والآثار التي يكون ترتّبها عقلياً ، تكون نجاسة الماء فيما نحن فيه من الآثار اللاحقة لبقاء نجاسة المغسول فيه ، ويكون حاله حال ارتفاع نجاسة المغسول بالنسبة إلى طهارة الماء.

وبالجملة : يكون المستصحب في ناحية الماء هو طهارته ، ومن آثار الطهارة وأحكامها التي تترتّب على استصحابها هو ارتفاع نجاسة المغسول فيه ، والمستصحب في ناحية المغسول هو نجاسة المغسول ، ومن آثار نجاسته هو نجاسة الماء المغسول فيه ، وكما أنّ الأثر في الأوّل يكون رافعاً لموضوع الثاني ، فكذلك الأثر في الثاني يكون رافعاً لموضوع الأوّل.

نعم لو كان مجرى الاستصحاب في الأوّل رافعاً بنفسه لموضوع الثاني لا بأثره ، وكان مجرى الاستصحاب في الثاني غير رافع بنفسه لموضوع الأوّل بل إنّما كان يرفعه بواسطة الأثر المترتّب عليه ، لكان الأوّل مقدّماً على الثاني لكونه بنفسه رافعاً لموضوعه لا بأثره بخلاف الثاني ، وفي مثل ذلك يتحقّق التقدّم الرتبي الموجب لتقدّم الأوّل على الثاني ، كما لو كان المستصحب في ناحية الماء هو نفس كونه مزيلاً للخبث لا الطهارة التي يكون أثرها إزالة الخبث.

وحينئذ يكون استصحاب إزالة الماء للخبث رافعاً لموضوع استصحاب بقاء النجاسة في المغسول ، لكن لو كان الأمر كذلك لقلنا إنّ المقابل لاستصحاب إزالة الخبث في ناحية الماء هو استصحاب أثر نجاسة المغسول ، وذلك الأثر هو عدم إزالة ذلك [ الماء ] لخبث ذلك الثوب بناءً على كونه من آثار بقاء نجاسته ، فيقال إنّ هذا الثوب كان نجساً ومن آثار نجاسته إلى الآن كون ذلك الماء نجساً ، فهذا الأثر المزعوم لو قلنا بأنّه من آثار نجاسة الثوب لأجرينا فيه بنفسه الاستصحاب ، فيكون رافعاً لموضوع استصحاب كون ذلك الماء مزيلاً للنجاسة.

٥٢٠