أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ هذه المناسبة التي تخيّلها العرف إن كانت بحيث تكون موجبة لصرف الدليل وجعل الموضوع هو الأعمّ من العنب والزبيب لم نكن في حال الزبيبية في حاجة إلى الاستصحاب ، وإن لم تكن بهذه المثابة لم يكن لها أثر أصلاً ، ولا يمكن أن يتنزّل عليها أخبار المنع من النقض ، وهذا هو ما تقدّم من أنّ النظر العرفي يكون محقّقاً لمصداق « لا تنقض » مع الاعتراف بعدم كونه موجباً للتصرّف في الدليل على أصل الحكم ، ولا في مفهوم قوله : « لا تنقض » الخ.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ هذه المناسبة إنّما تنفع إذا كانت بحيث توجب صرف اللفظ عمّا هو ظاهر فيه من التقييد بالعنبية إلى أنّ المراد كونها من الحالات ، والمراد من الحالة هنا ما يلحق بالظرف ويكون أجنبياً عن قيود الموضوع ، بل يكون مرتبطاً بالحكم ، وحاصله : أنّ الحكم على هذه الذات بالحرمة يكون في حال العنبية ، ويكون القدر المتيقّن هو وجود الحكم في ذلك الحال ، أمّا بعد ذلك الحال وهو حال الزبيبية فيتمّ الحكم فيه بالاستصحاب ، ويكون الموضوع في كلتا القضيتين واحداً وحدة حقيقية على حذو ما ذكرناه من صرف القيد عن العنوانية إلى العلّية ، لكن حينئذ يلزمه انحصار مستند الشكّ في بقاء الحكم بالشكّ في المقتضي ، وقد تقدّم توضيح في الحاشية على ص ٢١٥ (١) فراجع.

وربما يقال كما في الكفاية (٢) وغيرها في مبحث عموم العام واستصحاب حكم المخصّص : إنّ الزمان إن أُخذ قيداً لم يجر الاستصحاب ، وإن أُخذ ظرفاً

__________________

(١) وهي الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٧٧ وما بعدها.

(٢) كفاية الأُصول : ٤٢٤.

١٠١

كان الاستصحاب جارياً ، وهذه الجمل وأمثالها لا تخلو من إجمال ، فإنّ مثل قولك يجب الإمساك في النهار ، إن جعلت النهار متعلّقاً بالإمساك كان موجباً لتنوّع الامساك ، فإمساك في النهار وإمساك في الليل ، ومن الواضح أنّه لا يصحّ جرّ الوجوب من الأوّل إلى الثاني ، سواء كان تعلّقه به على نحو القيدية أو كان على نحو الظرفية ، بل لا محصّل للظرفية هنا إلاّ القيدية والتنويع ، نعم لو جعلنا قولنا : ( في النهار ) متعلّقاً بقولنا : يجب ، كان ذلك موجباً لتجرّد الإمساك عن وقوعه في النهار ، لكنّه واقع فيه قهراً ، فإنّ وقوع وجوبه في النهار يوجب كونه واقعاً في النهار ، ولعلّ هذا هو المراد من الظرفية في قبال القيدية.

وعلى كلّ حال ، بعد فرض كون قولك : ( في النهار ) متعلّقاً بـ ( يجب ) ، يكون محصّله هو تحقّق الوجوب في النهار ، فإن استفدنا منه الحصر وأنّه لا وجوب إلاّفي النهار وأنّه لا وجوب في الليل ، كان ذلك دليلاً على انقطاع الوجوب بانتهاء النهار ، ولم نكن في شكّ في البقاء. نعم لو لم نستفد من قولنا : ( يجب في النهار ) إلاّمجرّد ثبوت الوجوب في النهار واحتملنا بقاء ذلك الوجوب في الليل أيضاً ، كان ذلك من أوضح موارد الاستصحاب ، إذ ليس يعتبر في الاستصحاب إلاّحدوث الشيء في الزمان والشكّ في بقائه في الزمان الثاني.

نعم ، ربما يشكل عليه بأنّه من قبيل الشكّ في المقتضي ، لكنّه إشكال آخر لا ربط له بما نحن فيه من اعتبار وحدة الموضوع ، ولعلّه يمكن دفعه بأنّ المراد من الشكّ في المقتضي هو ما لم يكن الشكّ في البقاء إلاّمن ناحية ذات الموجود ، وأنّه ينتهي بنفسه ولم يحدث حادث من الزمان والزماني ، مثل قضية مقدار النفط في السراج ، دون ما لو كان من قبيل الشكّ في الغاية الزمانية ، بل دون ما لو كان مغيّى بالزمان نفسه ، هذا شرح الحال في الحكم الواقع في الزمان.

١٠٢

أمّا ما بعده من الحالات فهو في قبال العموم أو الاطلاق الأحوالي الراجع إلى قولك مثلاً : يجب إكرام العالم في حال كونه قائماً ، فإنّك إن قلت : يجب إكرام العالم القائم ، كان القائم مركباً للحكم ، ولا يبقى الحكم مع عدمه ، أمّا لو قلت : يجب إكرام العالم قائماً ، بمعنى في حال قيامه ، كان ذلك بمنزلة الظرف الزماني المتعلّق بالوجوب ، وكان ذلك عبارة أُخرى عن قولك : إنّ إكرام العالم يجب في زمان قيامه ، فهو نظير قولك : يجب في النهار الامساك ، فإذا شككنا في بقاء الوجوب بعد انتهاء القيام كان مورداً للاستصحاب ، وكان من قبيل ثبوت الوجوب في زمان والشكّ في بقائه بعد ذلك الزمان.

فقد تلخّص لك : أنّ المسألة أجنبية عن التسامح العرفي ، سواء كان ذلك من قبيل العلّة أو كان من قبيل الحالة أو كان من قبيل نفس الزمان ، نعم على المجتهد أن يستفيد أحد هذه الأُمور من الدليل الاجتهادي حسبما لديه من قوّة ، وبعد تمامية الدليل على واحد منها لا ضير في الاستصحاب ، وتخرج المسألة عن الاختلاف في الموضوع ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : هذا ولكن لا يخفى عليك ما في هذا التقريب من الضعف ، فإنّ اليقين في القاعدة ليس فرداً مغايراً لليقين في باب الاستصحاب ، لأنّ تغاير أفراد اليقين إنّما يكون بتغاير متعلّقاته ـ إلى قوله ـ وعدم انحفاظ اليقين في القاعدة وانحفاظه في الاستصحاب لا يوجب أن يكون اليقين في أحدهما فرداً مغايراً لليقين في الآخر ، فإنّ الانحفاظ وعدمه من الطوارئ اللاحقة لليقين بعد وجوده ... الخ (١).

لم أتوفّق لمعرفة الوجه في أنّ الطوارئ على الشيء بعد وجوده لا توجب

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٨٨.

١٠٣

التعدّد فيه ، على وجه لا يكون اليقين المنهدم بما طرأه من الشكّ الساري فرداً آخر من اليقين مغايراً لما لم يطرأه الشكّ الساري بل إنّما طرأه الشكّ في بقاء ما كان قد تعلّق به ، وهو المعبّر عنه بالشكّ الطارئ الذي هو مورد الاستصحاب ، كما أنّي لم أتوفّق للوجه في انحصار ما يوجب التفرّد بما يكون الاختلاف فيه حال الوجود ، كما أنّي لم أتوفّق للوجه في العدول عن تقريب التوهّم المذكور بالتمسّك بالعموم الاستغراقي المستفاد من الألف واللام في اليقين إلى التمسّك بالاطلاق الأحوالي لليقين ليكون النهي عن نقضه شاملاً لحالتي بقاء اليقين وزواله.

نعم ، هنا مطلب آخر وهو أنّ اليقين المعرّف بالألف واللام هل هو يفيد العموم الاستغراقي أو أنّه ليس في البين إلاّ الاطلاق الأحوالي ، وهذا مطلب آخر لا دخل [ له ] بما يظهر من التحرير من امتناع العموم الأفرادي لامتناع التغاير والتفرّد بهذه الطوارئ ، فلاحظ وتأمّل.

ولعلّ الحجر الأساسي في هذه الجمل هو ما حقّقه قدس‌سره من أنّ إطلاق الشيء أو عمومه لا يشمل التقسيمات اللاحقة له بعد الوجود ، نظير العلم والجهل بالنسبة إلى الحكم ، لكن هذا الأساس لو جرى فيما نحن فيه لمنع من التمسّك بالاطلاق كما منع من التمسّك بعمومه ، فتأمّل.

قوله : أمّا من جهة اليقين فلأنّ اليقين في باب الاستصحاب إنّما يكون ملحوظاً من حيث كونه طريقاً وكاشفاً عن المتيقّن ، وفي القاعدة يكون ملحوظاً من حيث نفسه لبطلان كاشفيته بعد تبدّله إلى الشكّ ... الخ (١).

لا يخفى أنّ تبدّل اليقين في القاعدة إلى الشكّ كما يبطل كاشفيته فكذلك

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٨٩.

١٠٤

يبطل صفته. وبالجملة أنّ اليقين في باب القاعدة قد زال وجداناً ، فكما لا تبقى كاشفيته وطريقيته لا يكون أصله باقياً ، بل إنّ العلّة في بطلان كاشفيته وطريقيته هو بطلان نفسه وصفته القائمة بالنفس ، نعم يمكننا في باب القاعدة أن نلاحظ اليقين السابق الذي قد زال وجداناً ونحكم ببقاء أثره ، سواء أخذناه من حيث الطريقية كما هو الظاهر ، أو أخذناه من حيث الصفتية.

ومنه يظهر أنّ اليقين في باب القاعدة قابل للأخذ من حيث الطريقية وللأخذ من حيث الصفتية ، وليس حاله من هذه الجهة إلاّكحال اليقين في باب الاستصحاب من القابلية للأخذ من حيث الطريقية والأخذ من حيث الصفتية ، ولعلّ مرجع هذين الوجهين في كلّ من باب الاستصحاب وباب القاعدة هو ما يقال من أنّ الآثار المترتّبة هل هي آثار اليقين أو آثار المتيقّن ، وحيث إنّه لا إشكال في أنّ الآثار المراد ترتّبها بقاعدة [ اليقين ] وبالاستصحاب هي آثار الواقع لا آثار اليقين ، فلا جرم أن يكون اليقين في كلّ منهما طريقاً صرفاً. وينبغي ملاحظة ما حرّره عنه السيّد سلّمه الله (١) فإنّه يصرّح بأنّ اليقين إنّما أُخذ طريقياً في الموردين ، وأنّ التعبّد في قاعدة اليقين إنّما هو بآثار المتيقّن دون اليقين ، فلاحظ.

وكيف كان ، فالأولى في بيان اختلاف اليقين في باب الاستصحاب عن اليقين في باب القاعدة هو ما أفاده قدس‌سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام ، وهو أنّ اليقين في باب الاستصحاب مستعمل في معناه الحقيقي لكونه باقياً بحاله إلى حين الشكّ لم ينتقض أصلاً ، وإنّما وقع الشكّ في بقاء ذلك الذي تعلّق به اليقين ، أمّا القاعدة فلا يكون استعمال اليقين فيها استعمالاً حقيقياً لكونه منتقضاً بالشكّ ، فلو صحّ استعماله في مورد القاعدة لكان مجازاً باعتبار ما كان ، ولا ريب في أنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٩٠.

١٠٥

اليقين نظير أسماء الذوات مثل الإنسان والحجر التي تكون مأخوذة من المصادر الجعلية أعني الحجرية والإنسانية ، وقد تحقّق في محلّه أنّ العناوين المأخوذة من المصادر الجعلية لا يصحّ استعمالها بعد ارتفاع تلك المصادر ، بأن زالت إنسانية الإنسان وحجرية الحجر مثلاً وصار رماداً ، وإنّما وقع الخلاف في العناوين المأخوذة من المصادر الحقيقية مثل الضارب في كونها حقيقة بعد انقضاء المبدأ أو مجازاً ، أمّا العناوين المأخوذة من المصادر الجعلية فلا ريب في أنّ استعمالها بعد الانقضاء لا يكون حقيقة بل يكون غلطاً ، ولو فرض صحّة استعمالها حينئذ لكان بنحو من العناية البعيدة ، واليقين من هذا القبيل ، فلا يصحّ استعماله في المورد الذي ارتفعت عنه صفة اليقينية إلاّبنحو من التجوّز والعناية ، وكيف كان ففي مورد الاستصحاب تكون حقيقة اليقين باقية بحالها ، وفي مورد القاعدة تكون الصفة المذكورة مرتفعة ، ولا قدر جامع بين اليقين الحقيقي واليقين المجازي ، هذا.

ولكنّه لا يخلو عن تأمّل ، فإنّ اليقين في قاعدة اليقين وإن كان واقعاً قد زال بالشكّ الساري وفي الاستصحاب هو باقٍ واقعاً ، فاستعمال اليقين في مورد القاعدة محتاج إلى نحو من العناية المصحّحة لإطلاق اليقين على اليقين الزائل ، بخلاف اليقين في مورد الاستصحاب فإنّه لا يحتاج إلى العناية المذكورة ، لكن الظاهر أنّهما بالنظر إلى شمول مثل قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » سواء ، لأنّ هذه الجملة إنّما تجري فيما لو كان اليقين قد زال وانتقض وجداناً بالشكّ ، فيتوجّه النهي عن العمل على نقضه والأمر بلزوم البناء على بقائه تعبّداً ، وذلك لا يلتئم مع فرض كون اليقين باقياً وجداناً كما في مورد الاستصحاب ، فلابدّ حينئذ من إعمال العناية في شمولها للاستصحاب.

١٠٦

وحينئذ نقول : إنّه بعد فرض دخول الاستصحاب وكونه مشمولاً لهذه الجملة ، يكون اليقين فيه المشمول للجملة المذكورة مساوياً مع اليقين في مورد القاعدة في كون كلّ منهما منتقضاً وجداناً.

ولأجل ذلك نقول : إنّ هذه الجملة لو خليت ونفسها لكان مقتضاها الاقتصار على مورد القاعدة ، لأنّه هو الذي قد انتقض اليقين فيه وجداناً ، فكان صالحاً للتعبّد بعدم النقض ، بخلاف الاستصحاب فإنّ اليقين فيه لا يكون منتقضاً وجداناً بالشكّ إلاّبعد العناية وتجريد المورد عن الحدوث والبقاء ، وحيث قد تحقّقت تلك العناية ولو بواسطة تطبيق الإمام عليه‌السلام لها على مورد الاستصحاب ، كشف ذلك عن أنّ المراد بها هو اليقين الذي قد زال وجداناً ، لأنّه هو الذي يمكن جريان التعبّد فيه بالبقاء ، وحينئذ يكون اليقين في مورد الاستصحاب مساوياً له في مورد القاعدة في كون كلّ منهما قد زال وانتقض وجداناً ، فيكون دخول الاستصحاب في عموم « لا تنقض اليقين بالشكّ » من قبيل ما يكون دخوله وشمول العام له محتاجاً إلى إعمال عناية ، فلو خلّينا نحن وذلك العموم لا يحكم بكونه مشمولاً ، لكن بعد تطبيق ذلك العام عليه من جانب الشارع يحكم بدخوله فيه وإعمال تلك العناية التي كان شمول العام له متوقّفاً عليها.

ولكن هذا كلّه مبني على كون مفاد هذه الجملة هو النهي عن النقض تعبّداً مع تحقّقه وجداناً ، وأنّ مورد الاستصحاب بعد تجريده عن الزمان يكون اليقين فيه منتقضاً وجداناً بالشكّ. ويمكن المناقشة في كلّ من هاتين المقدّمتين كما مرّ مشروحاً في أوائل الاستصحاب (١) ، وستأتي الإشارة إليه هنا إن شاء الله تعالى. هذا كلّه فيما أُفيد من الفرق بينهما في ناحية اليقين.

__________________

(١) تقدّم في المجلّد التاسع من هذا الكتاب الصفحة : ٩١ وما بعدها.

١٠٧

وأمّا ما أُفيد من الفرق بينهما في ناحية المتيقّن وأنّه في الاستصحاب مجرّد عن الزمان وفي القاعدة مقيّد به.

فيمكن الجواب عنه أوّلاً : بأنّه في القاعدة مجرّد عن الزمان أيضاً ، إذ كما أنّه في الاستصحاب يكون المتيقّن هو حدوث العدالة والمشكوك هو بقاءها وجرّدناهما عن الزمان لأجل ضرورة صحّة كون الشكّ ناقضاً لليقين ليكون مشمولاً لقوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » فكذلك في القاعدة نقول إنّ المتيقّن في الواقع هو الموجود في الزمان الخاصّ ، ولكن نجرّده عن ذلك الزمان ليكون مشمولاً لقوله عليه‌السلام : « لا تنقض » الخ.

وثانياً وهو العمدة : أنّ هذا الفرق لا يمنع شمول اليقين لكلّ من اليقين في القاعدة واليقين في الاستصحاب ، فإنّه وإن أُخذ كناية وطريقاً إلى المتيقّن إلاّ أنّه لا مانع من شموله لكلّ منهما ، بل لو أبدلنا اليقين بلفظ المتيقّن لم يكن مانع من شمول المتيقّن لكلّ من المقيّد بالزمان والمجرّد عنه.

وأمّا ما أُفيد من الفرق بينهما في ناحية النقض فهو متفرّع على ما أُفيد في الأوّل من كون اليقين في القاعدة مأخوذاً على نحو الصفتية وفي الاستصحاب على نحو الطريقية ، وقد تقدّم الكلام فيه.

وأمّا ما أُفيد من الفرق بينهما في ناحية الحكم ، وأنّ الحكم في ناحية القاعدة هو البناء العملي على ثبوت المتيقّن في زمان اليقين ، وفي ناحية الاستصحاب هو البناء العملي على ثبوت المتيقّن في زمان الشكّ الخ ، فيمكن التأمّل فيه بأنّ الدليل اللفظي لم يتضمّن إلاّ النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، وهذه التعبيرات إنّما هي لوازم تطبيق هذه الكلّية على المورد ، فلا مانع من اختلاف اللوازم الناشئة عن اختلاف الموارد. مضافاً إلى أنّ الأثر المترتّب في القاعدة وإن

١٠٨

كان هو أثر المتيقّن اللاحق له في زمان اليقين ، إلاّ أنّ الحكم بترتّبه إنّما هو في زمان الشكّ ، كما أنّ الأثر في باب الاستصحاب يكون الحكم بترتّبه في زمان الشكّ. نعم الأثر في الاستصحاب إنّما هو أثر البقاء وهو متعلّق الشكّ ، وفي باب القاعدة هو أثر الحدوث لكنّه فعلاً متعلّق للشكّ أيضاً.

وبالجملة : أنّ ترتيب الأثر في كلّ منهما إنّما هو في زمان الشكّ ، وإنّما يختلفان في أنّ ذا الأثر في القاعدة إنّما هو نفس ما تعلّق به اليقين أعني عدالة زيد يوم الجمعة ، وفي الاستصحاب إنّما هو غير ما تعلّق به اليقين الذي هو عدالة زيد يوم الجمعة ، وذلك الغير هو عدالته يوم السبت ، مع أنّ الترتيب في تلك وفي هذا لا يكون إلاّفي يوم الشكّ الذي هو يوم السبت ، وهذا الخلل إنّما جاء من تعبير التحرير بقوله : فلأنّ الحكم المجعول في القاعدة إنّما هو البناء العملي على ثبوت المتيقّن في زمان اليقين ، وفي الاستصحاب هو البناء العملي على ثبوت المتيقّن في زمان الشكّ الخ (١) وظاهره جعل زمان اليقين ظرفاً للبناء العملي في القاعدة ، وجعل ظرفه في الاستصحاب زمان الشكّ ، مع أنّ الواقع هو أنّ ظرف البناء العملي في كلّ منهما إنّما هو الشكّ ، وإنّما يختلفان في أنّ في القاعدة يكون الأثر الذي حكم بالبناء العملي عليه هو أثر نفس المتيقّن السابق ، وفي الاستصحاب يكون ذلك الأثر هو بقاءه ، وحينئذ لا يتوجهّ عليه إلاّما ذكرناه من أنّ اختلافهما في الأثر لا ضير فيه ، لأنّ ذلك نتيجة شمول النهي عن النقض لكلّ منهما ، مع أنّه بعد التجريد عن الزمان في كلّ منهما لا يكون الأثر مختلفاً ، بل لا يكون لنا حينئذ إلاّ أثر واحد مترتّب على موضوع واحد ، وهو نفس العدالة التي وقعت متعلّقاً لكلّ من اليقين والشكّ في كلّ من مورد القاعدة ومورد الاستصحاب ، فلاحظ.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٩٠.

١٠٩

وقد حرّرنا في أوائل الاستصحاب (١) عند الكلام على الرواية الرابعة وهي قوله عليه‌السلام : « من كان على يقين فشكّ » الخ (٢) تحقيق الوجه في عدم شمول الروايات التي رواها زرارة لقاعدة اليقين والاستصحاب ، ولكن ما حرّرناه سابقاً لا يخلو عن تكلّف بل تعسّف وتطويل بلا طائل.

فالأولى في بيان كيفية عدم شمول الروايات الشريفة لقاعدة اليقين هو أن يقال : إنّ ظاهر القضية التي اشتملت عليها الروايات الشريفة هو اجتماع اليقين والشكّ وتعلّقهما بشيء واحد ، وهذا لا ينطبق على مورد القاعدة لعدم اجتماعهما فيها ، لكون الشكّ فيها هادماً لليقين ، أمّا مورد الاستصحاب فإنّه لو خلّي ونفسه باعتبار تعدّد متعلّق الشكّ واليقين فيه ولو باعتبار الحدوث والبقاء لم يدخل في القضية المذكورة ، لكن بعد تجريد المتعلّق فيه عن موجبات التعدّد والنظر فيه إلى نفس القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة يجتمع فيه اليقين والشكّ في زمان واحد ، لكن من دون كون أحدهما هادماً للآخر وجداناً ، غير أنّ المكلّف لابدّ له في ذلك الحال من الجري العملي على طبق أحدهما وأيّاً منهما أخذ به فقد نقض الآخر ، فالشارع أمره بالجري العملي على طبق اليقين ونقض الشكّ به فقال له : لا تنقض اليقين بالشكّ ، ولكن تنقض الشكّ باليقين ، هذا كلّه.

مضافاً إلى تطبيق الإمام عليه‌السلام هذه الجملة على مورد الاستصحاب ، القاضي بأنّه لابدّ في موردها من اجتماع اليقين والشكّ على متعلّق واحد ، وهذا لا يكون في مورد القاعدة.

ومن ذلك يظهر لك أنّ مورد الاستصحاب بعد تجريده عن الزمان أو

__________________

(١) تقدّم في المجلّد التاسع من هذا الكتاب الصفحة : ٩١ وما بعدها.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ٦.

١١٠

الاختلاف بالحدوث والبقاء لا يكون الشكّ فيه ناقضاً لليقين وجداناً ، وأنّ دعوى أنّه لابدّ في المورد الذي تجري فيه هذه الجملة من حصول الانتقاض الوجداني ممّا لا شاهد عليها. نعم لابدّ من تصوّر ما ينطبق عليه النقض ليكون ذلك منهياً عنه ، وهو حاصل في مورد الاستصحاب بما عرفت من أنّ المكلّف لو ترك جهة اليقين واعتمد على الشكّ بعد فرض اجتماعهما عنده كان ناقضاً ليقينه بشكّه ، وهذا هو المنهي عنه. وقد ألحقنا نحو هذا البيان بما كنّا حرّرناه هناك فراجع واختر لنفسك ما يحلو من الطريقتين.

ومن هذا الذي حرّرناه أخيراً يظهر لك التأمّل فيما أفاده الأُستاذ العراقي قدس‌سره في مقالته بقوله : إنّ قضية اختلاف متعلّق اليقين والشكّ دقّة في الاستصحاب يقتضي ارجاع ضمير الشكّ بما تعلّق به بنحو من المسامحة ، كما أنّ وحدة المتعلّقين في القاعدة تقتضي في مقام النظر في إرجاع الضمير المزبور إلى متعلّق اليقين أن يكون نحو دقّة في البين بلا مسامحة عرفية فيه ، ومن المعلوم أنّ الجمع بين هذين النظرين في إرجاع ضمير واحد غير معقول الخ (١) ، فإنّه مضافاً إلى أنّه ليس في البين ضمير في هذه الأخبار كي يتكلّم في كيفية إرجاعه ، وإنّما جاءت استفادة الوحدة من مادّة النقض ، أنّه لو أخذنا الرجوع في الضمير بالنظر الدقّي لم تنطبق الجملة الشريفة على قاعدة اليقين ، لما عرفت من أنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » وجودهما فعلاً وتعلّق النهي بنقض اليقين بالشكّ ، وهذا غير متحقّق في مورد القاعدة ، إذ لم يجتمع فيها اليقين مع الشكّ كي يتوجّه النهي عن نقض اليقين بالشكّ إلاّبنحو ما كان ، فتأمّل.

ولو أخذناه بالنظر المسامحي بحيث جعلنا الشكّ في البقاء منزّلاً منزلة

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣٠.

١١١

الشكّ بما تعلّق به اليقين الذي هو أصل الحدوث ، كان محصّل حكم الشارع بالغاء هذا الشكّ وترتيب آثار ذلك اليقين هو لزوم ترتيب آثار اليقين بالحدوث ، وليس ذلك هو المطلوب في باب الاستصحاب ، فإنّ المطلوب فيه هو ترتيب آثار البقاء ، فلابدّ من أن يكون مركز العناية ليس هو الشكّ في البقاء ، بل هو اليقين بالحدوث بجعله كناية عن اليقين بالبقاء ، أو بجعل الاعتناء بالشكّ في البقاء نقضاً لليقين بالحدوث بواسطة أنّ اليقين بالحدوث يستدعي اليقين بالبقاء على ما مرّ تفصيله فيما حرّرناه في أوائل الاستصحاب (١).

وحاصل الفرق بين ما أفاده الأُستاذ العراقي قدس‌سره وبين ما ذكرناه هناك ، هو أنّ كلاً من التوجيهين مبني على رعاية العناية ، لكنه قدس‌سره جعلها في ناحية الشكّ ، فجعل الشكّ في البقاء كناية عن الشكّ في الحدوث ، ونحن جعلناها في ناحية اليقين فجعلنا اليقين بالحدوث كناية عن اليقين بالبقاء ، فلاحظ وتأمّل.

قال (٢) شيخنا الأُستاذ العراقي في مقالته : ولئن دقّقت النظر ترى أنّ المسامحة في إرجاع الضمير المزبور في الرواية بقرينة موردها تصلح أيضاً أمر المسامحة في بقاء موضوع الاستصحاب ، إذ لا ينفكّ مثل تلك المسامحة ( يعني المسامحة في بقاء الموضوع ) أيضاً عن وحدة المتعلّقين بنحو من العناية الخ (٣).

تقدّم في آخر حاشية ص ٢١٩ (٤) عندما نقلنا عن الأُستاذ العراقي قدس‌سره بعض ما

__________________

(١) تقدّم في المجلّد التاسع من هذا الكتاب الصفحة : ٩١ وما بعدها.

(٢) [ لا يخفى أنّ هذه المطالب أوردها المصنّف قدس‌سره في أوراق منفصلة وأمر بالحاقهابذيل هذه الحاشية ].

(٣) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣١.

(٤) في الصفحة : ١١١.

١١٢

أفاده في المقالة أنّ المسامحة في مرجع الضمير بإرجاعه إلى أصل وجود الشكّ باعتبار بقائه لا يصلح انطباق القضية على مورد الاستصحاب دون قاعدة اليقين ما لم يكن في البين تسامح في ناحية اليقين ، ومع قطع النظر عن ذلك نقول : إنّ المسامحة في ناحية الضمير القاضية بانطباق القضية على مورد الاستصحاب لا دخل لها بالمسامحة في ناحية موضوع الحكم مثل قضية الماء المتغيّر ، فإنّ تلك مسامحة أُخرى تحتاج إلى عناية أُخرى ، نعم بعد تحقّق ذلك التسامح ولو باخراج عنوان التغيّر عن مركبية النجاسة وموضوعيته لها ، تكون الوحدة بين القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة وحدة حقيقية ، وما هو إلاّمن قبيل التسامح في جعل الرجل الشجاع أسداً ، وبعد ذلك الجعل التسامحي ينطبق عليه عنوان الأسد انطباقاً حقيقياً.

لكن هذه المسامحة الراجعة إلى التسامح في ناحية الموضوع تحتاج إلى دليل غير نفس قوله عليه‌السلام : « لا تنقض » ، كما أنّ تلك المسامحة التي كانت في ناحية الضمير محتاجة إلى الدليل أيضاً ، وكان تطبيق الإمام عليه‌السلام هذه القضية على مورد الاستصحاب هو القاضي بذلك التسامح ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه لم يكن في البين تطبيق منه عليه‌السلام هذه القضية على مثل الماء المتغيّر الذي زال تغيّره ، وإلاّ لقلنا بذلك من دون حاجة إلى ما ذكروه من الترديد في الاتّحاد بين كونه عقلياً أو دليلياً أو عرفياً.

نعم ، هنا طريقة أُخرى هي ما أشرنا إليه من أنّه لا محصّل لهذا الترديد ، بل لابدّ أوّلاً من النظر إلى دليل نفس الحكم المشكوك أعني مثل قوله « الماء المتغيّر نجس » وهل المستفاد منه بحسب النظر العرفي مدخلية التغيّر أو أنّه ـ أعني التغيّر ـ أجنبي عن الموضوع ، وأنّ الموضوع إنّما هو ذات الماء ، ولعلّه أشار إلى

١١٣

هذه الجهة بقوله : وحينئذ فيكون المقام من باب إيجاد المسامحة في نفس عنوان الحكم ( يعني عنوان الماء المتغيّر ) بلا مسامحة حينئذ في تطبيقه ( يعني تطبيق قوله عليه‌السلام : لا تنقض ) بل كان تطبيق مدلول الرواية على البقاءات المسامحية من التطبيقات الدقيقة العقلية ، نظير سائر العناوين الأُخر الواقعية في غير حكم وضعي أو تكليفي من مثل الأوزان والمقدار وغيرهما (١) ، بأن يكون التسامح واقعاً في ناحية الوزنة مثلاً التي جعلت محطّاً لحكم وضعي أو تكليفي ، وأنّ المراد بها هو الأعمّ ممّا يزيد أو ينقص عن المقدار المقرّر بقليل ، فإنّك ترى أنّ انطباق تلك الوزنة المأخوذة موضوعاً لذلك الحكم على الناقص بقليل والزائد كذلك انطباق حقيقي. ولكن لا يخفى أنّ هذا التسامح مع كونه محتاجاً إلى دليل لا دخل له بما نحن فيه من الاستصحاب.

وإن كان المنظور إليه هو التسامح في عنوان النقض على وجه يشمل رفع اليد عن نجاسة الماء بعد زوال تغيّره ، بأن يكون المراد من الحكم في قوله : وحينئذ فيكون المقام من باب إيجاد المسامحة في نفس عنوان الحكم ، هو عنوان النقض في قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين » الخ ، فذلك يحتاج إلى دليل ولو بمثل أن يطبّقه عليه‌السلام على المورد المذكور ، أعني الماء بعد زوال تغيّره ، فلاحظ.

ومن ذلك تعرف بقاء الإشكال وعدم اتّضاح المراد في قوله : وبعد هذا البيان لا يبقى مجال الإشكال في شرح اتّحاد القضيتين بكونه بنظر العرف أو بنحو من الدقّة أو بحسب دليل تلك الكبرى ، ثمّ قال : الإيراد لمثل هذا الإشكال مجال في فرض عدم قرينيته على تطبيق مورد الرواية على الاستصحاب ، كيف وبعد

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣١.

١١٤

التطبيق المزبور لا محيص من اعتبار المسامحة في وحدة المتعلّقين (١) ، الظاهر أنّ في العبارة غلطاً من الناسخ ، وأنّ الصحيح هو : نعم لإيراد مثل هذا الإشكال مجال ، وغرضه أنّ هذا الإشكال والتحيّر في أنّ الاتّحاد هل هو بنظر العرف أو بنحو من الدقّة الخ إنّما يتأتّى فيما إذا لم يكن في البين قرينة وهي تطبيق هذه القضية ـ أعني قوله عليه‌السلام : « لا تنقض » ـ على مورد الاستصحاب.

قلت : هذا مسلّم في ناحية التسامح الأوّل أعني ما يرجع إلى ناحية الضمير ، أمّا ما يرجع إلى التسامح الثاني أعني ما يرجع إلى الموضوع ، فالإشكال والترديد والتحيّر فيه باقٍ بحاله ، إذ لم يكن تطبيق منه عليه‌السلام لهذه القضية على مثل الماء بعد زوال تغيّره.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله : وبعد ذلك فكما تصلح تلك المسامحة أمر الاستصحاب تصلح أمر بقاء موضوعه ، لبداهة صدق الشكّ بما تعلّق به اليقين بضرب من العناية مع فرض المسامحة في بقاء موضوعه أوّلاً من دون احتياج بعد ذلك إلى تعيين ما سيق بهذا العنوان من كيفية الأنظار الخ (٢) وذلك لما عرفت من أنّ المسامحة من ناحية الضمير في قبال قاعدة اليقين لا دخل له بالمسامحة من ناحية الموضوع ، ولعلّ مراده مطلب آخر لم أتوفّق لفهمه ، فلاحظ عباراته ودقّق النظر فيها.

ولا يخفى أنّ بين قوله « في بقاء موضوعه » وبين قوله « من دون احتياج بعد ذلك » الخ بياض يشعر سقوط كلمة بينهما ، ولعلّ الكلمة الساقطة هي قوله

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣١.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣١ ـ ٤٣٢.

١١٥

« أوّلاً » وحينئذ يكون المتحصّل أنّه بعد المسامحة في بقاء الموضوع ولو بدعوى فهم العرف أنّ ما هو موضوع النجاسة هو ذات الماء ، يكون الموضوع في القضيتين واحداً دقّة ، من دون حاجة إلى التردّد في تلك الوحدة بين الجهات الثلاثة المذكورة.

قوله في المقالة : نعم ما أُفيد ( من كون الاتّحاد عرفياً أو دليلياً أو عقلياً ) إنّما يتمّ لو كان في البين لفظ بقاء ( بأن قال : ابق ما كان ) أو كلمة اتّحاد ( بأن قال : لا تنقض اليقين بالشكّ عند اتّحاد متعلّقهما ) كي يتوهّم اختلاف مصاديقهما بحسب الأنظار ـ إلى قوله ـ فلابدّ حينئذ من تعيين ما سيق له عنوان البقاء المأخوذ في القضية بأنّه بأيّ واحد من النظرين يكون مسوقاً ، ثمّ قال : كيف ومع انتهاء النوبة إلى تلك الجهة لا يبقى مجال دعوى سوقها بلحاظ الأنظار العرفية إلى آخره (١) وهذا أعني قوله : كيف الخ ، شروع في إبطال الرجوع إلى الأنظار العرفية حتّى لو كان البقاء موجوداً في دليل الاستصحاب ، وذلك لأنّ الشبهة ليست في مفهوم البقاء وإنّما هي في مصداقه ، فالعرف يرى أنّ بقاء الحرمة بعد زوال التغيّر بقاء والعقل لا يراها بقاء ، وليس شغل العرف تعيين المصاديق وإنّما شغله شرح المفاهيم. نعم يمكن الرجوع إلى العرف في تعيين المصاديق فيما لو قصر العقل عن تعيينها ، فإنّ مقتضى الحكمة وإخراجاً لكلام الحكيم عن اللغوية هو الإيكال إليهم في تعيينها ، نظير ما يقال إنّ المراد من قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) هو ما يكون بيعاً بالنظر العرفي ، وهذا إنّما يتبع فيما لو لم يعلم الخطأ بأن يقوم الدليل على تخطئة الشارع لهم في أخذهم المعاملة الفلانية بيعاً مثلاً ، وذلك خلاف ما

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣٢.

١١٦

هو المطلوب في المقام ، فإنّه بعد البناء على أنّ المتّبع في تعيين مصداق البقاء هو النظر العرفي دون النظر العقلي ، يكون اللازم هو اتّباعهم حتّى مع العلم بخطئهم ، فإنّ ذلك هو محصّل اتّباع النظر العرفي دون النظر العقلي.

قلت : لكنّك قد عرفت وستعرف إن شاء الله تعالى أنّه لا حاجة إلى إدخال لفظ البقاء أو الاتّحاد في دليل الاستصحاب ، بل يكفي الجماعة اشتمال الدليل على لفظ النقض وهو القاضي بالوحدة ، وأنّ الاشتباه ليس في المصداق المحض ، بل إنّما هو في الشبهة المفهومية التي سمّاها الشيخ قدس‌سره بالشبهة الصدقية ، وقد عرفت الحال في هذه الجهات مفصّلاً فلا حاجة لنا إلى إعادته ، والغرض هو بيان الفرق بين ما نحن فيه وبين أسماء المقادير ليكون جواباً عمّا أفاده بقوله : وعليه فما وجه الفرق بين لفظ البقاء الوارد في المقام ولفظ الأوزان والمقادير الواردة في مقامات أُخرى ، حيث ليس بناؤهم فيها على التطبيقات العرفية بل على الدقيقة العقلية الخ (١) وذلك لما عرفت من أنّ تصرّفهم في باب الموازين تصرّف في المصداق الصرف ، بخلاف تصرّفهم فيما نحن فيه فإنّه في المفهوم أو في الصدق ، على ما عرفت تفصيله وإبطاله بالطريق الذي ذكرناه فراجع.

قوله : وليس تلك الجهات إلاّناشئة عمّا أشرنا من خيال أخذ عنوان الاتّحاد والبقاء ... إلخ (٢).

قد عرفت أنّه لا حاجة في المسألة إلى ذلك ، بل يكفي عنوان النقض.

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣٣.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣٣.

١١٧

قوله : وإلاّ ـ إلى قوله ـ إذ حينئذ لا ترى بُدّاً في إرجاع الضمير في ظرف الشكّ فيه بلا مسامحة ـ إلى قوله ـ ومعه لا يبقى حينئذ مجال لمثل ذلك الترديد أبداً ... الخ (١).

قد عرفت أنّ المسامحة في ناحية الضمير القاضية باخراج قاعدة اليقين لا دخل لها بالمسامحة في الموضوع القاضية باجراء الاستصحاب في نجاسة الماء بعد زوال التغيّر ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : ثمّ إنّهم وقعوا في حيص وبيص من جهة أُخرى في بعض المقامات التي يكون لسان دليل الكبرى مشتملاً على خصوصية ( كالتغيّر ومع مدخلية هذه الخصوصية ) لا يرى العرف بقاء الموضوع في صورة فقد الخصوصية مع احتمال دخلها ... الخ (٢).

حاصله : هو أنّ ظاهر الدليل مدخلية التغيّر ، ولكن ارتكاز العرف على خلافه ، وذلك يوجب عدم جريان الاستصحاب عند فقد تلك الخصوصية ، لأنّهم إن احتملوا مدخليتها في الموضوع لم يجر الاستصحاب لعدم إحراز الاتّحاد ، وإن لم يحتملوا مدخليتها كان بقاء الحكم بعدها مستنداً إلى إطلاق الدليل لا إلى الاستصحاب.

وملخّص ما أجاب به عن الإشكال بقوله : ويمكن حلّ الإشكال إلخ ، أحد وجوه ثلاثة : الأوّل : صرف التغيّر عن كونه جهة تقييدية إلى الجهة التعليلية ، ولكن يكون الشكّ في بقاء الحكم بعدها ناشئاً عن احتمال قيام علّة أُخرى مقامها. لكن لا أدري لماذا عدل في تصوير الشكّ في البقاء عن كون العلّية على

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) نفس المصدر.

١١٨

وجهين كما ذكره شيخنا قدس‌سره وغيره ، فكأنّه يرى محالية العلّية المحدثة والمبقية وأنّها لا تكون إلاّدوامية ، وحينئذ ينحصر الأمر في احتمال البقاء بقيام علّة أُخرى ، ولكنّه يوجب التبدّل في الحكم قطعاً لتبدّل علّته ، فلا يمكن استصحابه عند الشكّ المزبور فلاحظ.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : وأُخرى بإمكان بقاء ظهور القضية الخ (١) وكأنّه مبني على اختلاف المراتب ، فيقال بأنّ الماء لمّا كان متغيّراً كان متنجّساً بمرتبة من النجاسة ، ثمّ لمّا زال تغيّره زالت تلك المرتبة قطعاً ، لكن نحتمل بقاء مرتبة أنزل قوامها وموضوعها نفس الماء ، ولكن لابدّ حينئذ من الالتزام بأنّ التغيّر موضوع لتلك المرتبة الزائلة وعلّة لهذه المرتبة الباقية ، وإلاّ فمن أين يحتمل عروض هذه المرتبة للذات كما أشار إليه بقوله : ومع ذلك يحتمل بقاء الحكم الثابت للذات عند فقد الخصوصية الخ.

الثالث : ما أشار إليه بقوله : وقد يجاب عن الشبهة المزبورة بوجه آخر إلخ ، وحاصل هذا هو ما تقدّم شرحه مراراً في كلمات الكفاية وغيرها (٢) : من أنّ للعرف نظرين : أحدهما ما يستفيدونه من لفظ الدليل ، والآخر ما هو مرتكز لهم في قضاياهم الفطرية ، والمدار في الاتّحاد المعتبر في الاستصحاب هو النظر الثاني. وقد أورد عليه بقوله : ولكن يمكن أن يقال الخ ، والظاهر أنّ المراد به ما تقدّم شرحه من إنكار النظرين ، وأنّ الثاني إن كان على وجه يكون قرينة للتصرّف في لفظ الدليل كان متّبعاً وإلاّ فلا عبرة به ، وقد عرفت الكلام في كونه من قبيل الشبهة

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣٤.

(٢) راجع من باب المثال الصفحة : ١٠٠ وما بعدها.

١١٩

المفهومية أو الشبهة الصدقية أو الشبهة المصداقية.

ثمّ إنّه قدس‌سره كأنّه أعرض عن الوجه الثاني ، فإنّه بعد أن أبطل الوجه الثالث حصر الجواب بالوجه الأوّل فقال : وعليه فلابدّ من جعل فهم العرف قرينة على التصرّف في ظهور القضايا الشرعية على فرض العنوانية والقيد ، بإرادة العلّية للحكم على وجه يكون المعروض نفس الذات إلخ (١) ، ثمّ أفاد ما حاصله : أنّ الاحتياج إلى هذا الوجه الأوّل إنّما هو على فرض عدم مساعدة مسامحاتهم في بقاء الموضوع مع إبقاء القضية على ظهورها ، وإلاّ فلا يحتاج إلى التصرّف فيها أصلاً ، نظراً إلى ما عرفت في وجه كون المناط على المسامحات في بقاء الموضوع في باب الاستصحاب إلخ ، وكأنّه يشير بذلك إلى ما تقدّم (٢) من المسامحة في كيفية إرجاع الضمير ، التي جعلها الأساس في عدم شمول القضية لقاعدة اليقين وفي شمولها لما هو محلّ الكلام من احتمال اختلاف الموضوع ، وقد عرفت ما فيه من التأمّل ، فلاحظ.

اللهمّ إلاّ أن يكون المراد ممّا تقدّم هو ما عرفت الاشارة إليه ، وحاصله : هو أنّ التسامح في بقاء الموضوع مع بقاء القضية على ظهورها هو عبارة عن التسامح في نفس الموضوع ، بدعوى كون الموضوع هو ذات الماء مثلاً ، وبعد هذه المسامحة يكون الموضوع باقياً ، ويكون الموضوع في القضيتين واحداً دقّة على نحو ما تقدّم من التسامح في مرجع الضمير. لكن لا يخفى أنّ هذا التسامح لا يجتمع مع إبقاء القضية على ظهورها من دون تصرّف فيها أصلاً ،

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣٥.

(٢) في الصفحة : ١١٣.

١٢٠