أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

صحّته في استكشاف كون اللفظ حقيقة فيما لا يصحّ سلبه عنه بما له من المفهوم الارتكازي ، وغير حقيقة فيما يصحّ سلبه عنه بما له من المفهوم الارتكازي ، فنحن إذا رجعنا إلى العرف في صدق مفهوم الماء على هذا الماء المخلوط بقليل من التراب فلم نرجع إليهم إلاّفي شبهة مفهومية ، وهم يعملون عين هذه العملية التي شرحناها من أنّهم يأخذون مفهوم الماء بما له من المعنى الارتكازي للماء غير منظور إليه بالتفصيل ، فإن وجدوا صحّة حمل ذلك المفهوم الارتكازي على ذلك المصداق حكموا بسعة ذلك المفهوم الارتكازي ، وأنّه شامل لمثل ذلك المصداق ، وإن وجدوا عدم صحّة حمله عليه حكموا بعدم سعة ذلك المفهوم الارتكازي ، وأنّه لا يشمل مثل ذلك المصداق ، وإن توقّفوا كان محصّل ذلك أنّهم متردّدون في مفهوم الماء بين الأقل والأكثر.

وأمّا الفائدة المترتّبة على تصوير الشبهة الصدقية ، فالذي يظهر من هذا التحرير (١) هو أنّ فائدة ذلك تترتّب على صدق النقض في موارد اختلال بعض قيود الموضوع ، بأن يقال : إنّا وإن لم نستفد من الدليل الدالّ على حرمة العنب مثلاً أنّ للعنبية خصوصية في الموضوعية ، وبقي شكّنا بحاله ، وهو موجب للشكّ في صدق النقض على رفع اليد عن تلك الحرمة عند تحوّله إلى الزبيبية وإن كان مفهوم النقض المنهي عنه واضحاً ، فيكون الشكّ في انطباق دليل الاستصحاب المانع عن النقض على رفع اليد عن تلك الحرمة السابقة من قبيل الشبهة الصدقية ، لكن العرف بعد دعواهم الاتّحاد بين العنبية والزبيبية على وجه يصحّ عندهم أن يقولوا إنّ هذا كان حراماً ، يكون اللازم علينا اتّباعهم في ذلك ، لعدم كون تصرّفهم المذكور راجعاً إلى فهمهم في تعيين المصداق ، بل هو كما عرفت

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٨٢ وما بعدها.

٨١

راجع إلى إزالة الشبهة في الصدق ، وبعد تمامية ذلك يكون رفع اليد عن الحرمة السابقة مصداقاً لحرمة النقض ، ويكون هذا العنوان وهو النقض المحرّم صادقاً على الرفع المذكور.

ولكنّه بعدُ مجال التأمّل ، فإنّ المنشأ في الشكّ في صدق عنوان النقض على الرفع المذكور هو الشكّ في شمول عنوان العنب لحالة اليبس المسمّاة بالزبيبية ، فإن بنى العرف على أنّ العنب لا يشمل تلك الحالة ، لم يكن رفع اليد عن حرمته فيما لو كان زبيباً من قبيل نقض اليقين بالشكّ ، وإن بنى العرف على أنّ عنوان العنب شامل للزبيب ، كان رفع اليد عن حرمته عندما يكون زبيباً نقضاً لحرمته المعلومة بلا مستند ، لا أنّه من قبيل نقض اليقين بالشكّ كي يكون مشمولاً لدليل الاستصحاب ، فإنّ العرف بعد أن وسّعوا دليل حرمة العنب إلى حالة الزبيبية فلا ريب في أنّ ذلك إنّما يكون بعد إلغائهم خصوصية العنبية ، وحينئذ يكون ذلك الدليل على الحرمة شاملاً للزبيب ، فلا حاجة في تسرية الحكم إليه إلى الاستصحاب ، وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى في الحاشية الآتية ص ٢١٥ وص ٢١٦ (١) فلاحظ.

ويمكن أن تظهر الفائدة في تصوير الشكّ في سراية الحرمة إلى حال الزبيبية مع فرض أنّهم فهموا من دليل الحرمة أنّ موضوعها هو العنب ، ولكنّهم مع ذلك يشكّون في صدق العنب عليه فيما لو طرأه اليبس وصار زبيباً ، نظير شكّهم في صدق الماء عليه فيما لو أُلقي عليه قليل من التراب ، ونظير شكّهم في صدق

__________________

(١) لا يخفى أنّ الحاشية على ص ٢١٥ هي نفس هذه الحاشية ، والحاشية على ص ٢١٦ تأتي في الصفحة : ٨٦ وما بعدها. لاحظ أيضاً الحاشية الآتية في الصفحة : ٩٩ وما بعدها.

٨٢

التمر عليه بعد اليبس ، ولكن هذا لو تمّ فلا ينفع أيضاً في تصحيح الاستصحاب ، لأنّه لو تمّ حجّية فهم العرف في هذا الصدق كان ذلك عبارة أُخرى عن كون موضوع الحرمة هو ما يشمل الزبيب ، فلاحظ.

ثمّ لا يخفى أنّ السرّ في تحكيم العرف في الشبهة الصدقية دون الشبهة المصداقية هو ما عرفت من رجوع الشبهة الصدقية إلى الشبهة المفهومية ، غايته أنّها شبهة بدوية زائلة بأقلّ تأمّل ، وينكشف ذلك في حمل المفهوم بما له من المعنى الارتكازي على مورد الشكّ ، وهو عين ما ذكروه في توجيه كون عدم صحّة السلب وصحّة الحمل من أمارات الحقيقة ، فإن زال ذلك الشكّ بهذه الطريقة البسيطة فهو ، وإلاّ بأن بقي العرف متردّداً في صحّة الحمل وعدمه ، كشف ذلك عن استقرار شكّهم وتردّدهم في ذلك المفهوم بين الأقل والأكثر.

وعلى كلّ حال ، أنّ الرجوع إليهم في الشبهة الصدقية إنّما هو رجوع إليهم في الشبهة المفهومية ، وهذا بخلاف الشبهة المصداقية ، ولأجل ذلك قال شيخنا قدس‌سره فيما حكاه عنه في هذا التحرير بقوله آخر ص ٢١٥ : وأمّا الرجوع إليه في الصدق فهو إنّما يكون في مورد إجمال المفهوم وعدم تشخيص المعنى ، ولابدّ من الرجوع إليه في ذلك ، فإنّ تشخيص المعنى من وظيفة العرف (١) وبذلك يجمع بين هذه الجملة وبين الجملة السابقة عليها أعني مثل قوله : ألا ترى أنّ مفهوم الماء مع أنّه من أوضح المفاهيم العرفية كثيراً ما يحصل الشكّ في صدقه على بعض الأفراد ، كالماء المخلوط بمقدار من التراب على وجه لا يلحقه اسم الطين (٢) فإنّ المراد من كون مفهوم الماء من أوضح المفاهيم هو وضوحه ارتكازاً

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٨١ ـ ٥٨٢.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٨١.

٨٣

لا تفصيلاً ، ولأجل وضوح مفهومه الارتكازي يزول الشكّ في صدقه على المخلوط المذكور بمجرّد صحّة حمله عليه ، فتأمّل.

وأمّا ما أفاده بقوله : وأمّا الجمل التركيبية فلابدّ فيها من اتّباع نظر العرف الخ (١) فهو حقّ لا شبهة فيه ، لكن ما فرّعه عليه بقوله : ومن جملة القضايا الشرعية الخ يمكن التأمّل في تفريعه عليه ، لأنّ منشأ الشكّ في صدق النهي المذكور في دليل حجّية الاستصحاب هو ما عرفت من الشكّ البدوي في صدق النقض على الرفع المذكور ، وهو معنى أفرادي وإن وقع في الجملة التركيبية ، إذ لا تنوجد المعاني الأفرادية إلاّداخلة في ضمن الجمل التركيبية ، والأمر في ذلك سهل ، لأنّه من قبيل المحافظة على قواعد الفن التي لا تغيّر أصل المطلب الواقعي.

نعم قوله : وهذا الاختلاف إنّما ينشأ من اختلاف الموضوعات والأحكام بحسب ما يراه العرف (٢) لا يخلو من عدم الانسجام ، فإنّ الاختلاف في المناسبات في دليل حرمة العنب لا دخل لها بدليل لا تنقض ، نعم إنّ الشكّ في صدق النقض مسبّب عن الشكّ في سعة مفهوم العنب ، لا أنّ الشكّ في صدق لا تنقض من جهة سعة مفهوم النقض ، فتأمّل.

ومن جميع ما حرّرناه يظهر لك أنّ الشبهة فيما نحن [ فيه ] مصداقية لا صدقية ، فإنّ منشأ الشكّ في صدق النقض على رفع اليد عن الحرمة عندما يتبدّل العنب إلى الزبيب إنّما هو الشكّ في كون موضوع الحرمة هو عنوان العنبية ، وحينئذ لا يكون رفع اليد عنها عند تحوّله إلى الزبيبية نقضاً لشيء ، وإنّما يكون

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٨٢.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٨٢.

٨٤

ارتفاعها بذلك لارتفاع موضوعها ، أو كون موضوع الحرمة هو ذات الثمرة المذكورة ، وأنّ العنبية من حالاتها ، وحينئذ يكون رفع اليد عنها عند التحوّل إلى الزبيبية نقضاً للحرمة المتيقّنة سابقاً ، وحيث إنّا غير مطّلعين على ما هو الواقع من هذين الوجهين ، كان محصّل ذلك هو أنّا لا نعلم حال هذا الرفع في الواقع ، وهل أنّه رفع ونقض للحرمة المتيقّنة سابقاً ، أو أنّه ليس بنقض لها ، فتكون المسألة من قبيل الشبهة المصداقية لا الصدقية ، ويكون التمسّك فيها بعموم « لا تنقض اليقين » من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، فلاحظ وتأمّل.

نعم ، إنّ هذه الشبهة المصداقية تختلف عن بقية الشبهات المصداقية باعتبار أنّ منشأ الشكّ في تلك هو اشتباه الأُمور الخارجية ، كمائع لا نعلم حاله أهو خمر أو خل ، ولا مدخل للعرف في ذلك أصلاً ، بخلاف الشبهة فيما نحن فيه من رفع اليد عن الحرمة السابقة وتردّدنا فيه بين كونه نقضاً للمتيقّن السابق وكونه غير نقض له ، فإنّه وإن كان من قبيل الشبهة المصداقية لعدم علمنا بحال هذا الرفع في الواقع ، إلاّ أنّ منشأ الشكّ وذلك التردّد في الرفع المذكور هو التردّد في موضوع الحرمة السابقة ، وهل هو الذات أو هو الذات بقيد العنبية ، وهذا الشكّ السببي يحلّه العرف ، فنحن نرجع إلى العرف في ذلك الشكّ السببي ، وبعد إزالتهم ذلك الشكّ السببي بحكمهم بأنّ موضوع تلك الحرمة هو الذات نفسها أو بأنّه هو الذات المقيّدة بالعنبية ، يزول عنّا الشكّ المسبّبي المتعلّق برفع اليد عن الحرمة السابقة عند حال الزبيبية.

نعم ، لو لم يحكم العرف بأحد الأمرين وبقي مردّداً بينهما ، يبقى الشكّ المسبّبي بحاله ، وحينئذ يكون التمسّك بعموم لا تنقض تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية ، فيسقط الاستصحاب ، ولا محصّل حينئذ للتسامح العرفي ،

٨٥

وأنّ العرف يرون أنّ هذا الموجود هو عين ذلك الذي كان متّصفاً بالحرمة ، فإنّ ذلك خلف لما فرضناه من تحيّر العرف في موضوع تلك الحرمة ، إذ مع تحيّرهم في مدخلية العنبية في موضوعية الحرمة كيف يمكنهم أن يقولوا إنّ هذا الموجود هو عين ذلك الذي كان موضوعاً للحرمة كما مرّ توضيحه في الحاشية السابقة ص ٢١٤ (١) وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحاشية الآتية ص ٢١٦ (٢).

ثمّ إنّ العرف بعد أن رجعنا إليهم وعزلوا العنبية عن موضوعية الحرمة ، فإن حكموا بأنّه أجنبي بالمرّة كنّا في غنى عن الاستصحاب ، وإن حكموا بكونه علّة مادامية امتنع الاستصحاب ، وإن احتملوا أو احتملنا العلّية المادامية مع احتمال العلّية المبقية أو مع احتمال الحالة الصرفة ، كان ذلك مورداً للاستصحاب ، لتطرّق الشكّ في البقاء حينئذ إلى تلك الحرمة المتيقّنة مع اتّحاد ما هو الموضوع في القضية المتيقّنة مع ما هو الموضوع في القضية المشكوكة.

قوله : فربّ عنوان يكون بنظر العرف مقوّماً للموضوع لمناسبة الحكم والموضوع ، فيدور الحكم مدار وجود العنوان ... الخ (٣).

كان شيخنا قدس‌سره كثيراً ما يستشهد في أمثال هذه المقامات بمسألة تخلّف المبيع الموجب لبطلان البيع وتخلّف الوصف الموجب للخيار ، ويقول إنّ تخلّف الوصف إنّما هو في الزائد على الذات مثل الكاتبية ، سواء أُخذت في لسان العقد عنواناً أو وصفاً أو شرطاً ، فلا فرق بين أن يقول بعتك الكاتب وهو هذا العبد ، أو

__________________

(١) وهي الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٦٤ وما بعدها.

(٢) وهي الحاشية اللاحقة. راجع أيضاً الحاشية الآتية في الصفحة : ٩٩ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٥٨٢.

٨٦

يقول بعتك هذا العبد الكاتب ، أو يقول بعتك هذا العبد بشرط كونه كاتباً ، فإنّ الكتابة لا تخرج بذلك عن كونها وصفاً زائداً على أصل المبيع ، فلا يكون تخلّفها إلاّ من قبيل تخلّف الوصف الذي لا يوجب إلاّ الخيار ، وهذا بخلاف تخلّف الذات فإنّه يوجب بطلان البيع سواء أُخذ عنواناً أو وصفاً أو شرطاً ، فلا فرق بين أن يقول : بعتك العبد وهو هذا ، أو يقول : بعتك هذا الشخص الذي هو العبد ، أو يقول بعتك هذا الشخص بشرط أن يكون عبداً ، فإنّه لو ظهر حماراً أو خروفاً كان من قبيل تخلّف المبيع على جميع التقادير.

ثمّ إنّه قدس‌سره يقيس مسألتنا هذه على تلك المسألة ويقول : إنّ قوله صلّ خلف العادل ، بقرينة مناسبة الحكم والموضوع يفهم منه أنّ العدالة قد أُخذت في الواقع عنواناً لهذا الحكم ، ويكون الحكم دائراً مدارها وجوداً وعدماً ، سواء وردت في لسان الدليل بصورة العنوان كما مثّلنا ، أو بصورة الوصف بأن يقول : صلّ خلف الإنسان العادل ، أو بصورة الشرط كأن يقول : صلّ خلف الشخص إذا كان عادلاً ، فإنّ هذا الأخير وإن كان في حدّ نفسه ظاهراً في الشرطية المساوقة لكون العدالة علّة في جواز الصلاة خلفه ، إلاّ أنّ تلك القرينة العرفية توجب التصرّف في ذلك الظهور ، وتلزمنا بحمله على العنوانية ، كما هو الشأن في كلّ قرينة تصرف اللفظ عمّا هو ظاهر فيه إلى مقتضاها ، وهذا بخلاف النجاسة وتغيّر الماء بها ، فإنّ القرينة المذكورة فيه على خلاف ذلك ، حيث إنّ العرف ولو بمناسبة الحكم والموضوع يفهمون أنّ التغيّر بالنجاسة علّة في الحكم بنجاسة الماء ، سواء كان لفظ الدليل بصورة أخذ التغيّر عنواناً كأن يقول : المتغيّر بالنجاسة نجس ، أو بصورة أخذه وصفاً كأن يقول : الماء المتغيّر بالنجاسة نجس ، أو بصورة أخذه شرطاً كأن يقول : الماء ينجس إذا تغيّر بالنجاسة.

٨٧

قلت : لا يخفى أنّ هذا المطلب أمر جوهري اجتهادي يستفيده المجتهد حسب اجتهاده ، ولا دخل له بباب الاستصحاب ، حتّى أنّ من ينكر حجّية الاستصحاب بالمرّة تارةً يجتهد ويستنبط ـ ولو بمراجعة العرف أو بمناسبة الحكم والموضوع أو بقرائن أُخرى حسبما يؤدّي إليه اجتهاده ـ أنّ هذا العارض هو عنوان الحكم يدور مداره وجوداً وعدماً ، وأُخرى يؤدّي اجتهاده إلى أنّ ذلك العارض علّة للحكم ، فيبقى عليه أنّه من قبيل العلّة المحدثة فقط ، بحيث يكون حدوث ذلك العارض علّة لحدوث الحكم ، ويحتاج في بقاء ذلك الحكم إلى بقاء تلك العلّة ، أو أنّها من قبيل العلّة المحدثة والمبقية ، بحيث يكون حدوث ذلك العارض علّة لحدوث الحكم وبقائه ، بحيث إنّ الحكم يكون باقياً بعد زوال ذلك العارض ، وإن تردّد في هذا الأخير رجع إلى ما تقتضيه الأُصول العملية بعد زوال ذلك العارض ، كما أنّ الأمر كذلك لو تردّد بين العلّية والعنوانية على تأمّل فيه ، فإنّ التردّد بين العلّية والعنوانية يوجب الشكّ في بقاء الموضوع.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّا بعد أن فرغنا من الدليل الاجتهادي الدالّ على نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة ، وحكمنا ولو بواسطة قرينية مناسبة الحكم والموضوع أنّ التغيّر علّة للنجاسة وأنّ موضوعها إنّما هو نفس الماء ، لو حصل الشكّ الأخير أعني بقاء النجاسة بعد زوال التغيير ، كان الاستصحاب جارياً بلا كلام ، وكانت القضية المتيقّنة عين المشكوكة ، وكان الموضوع فيهما واحداً وحدة عقلية ، فهذه الوحدة بعد الفراغ عن مفاد الدليل الاجتهادي ليست تسامحية ولا عرفية ولا بحسب لسان الدليل ، بل هي وحدة حقيقية عقلية بكلّ معنى الكلمة ، وأمّا ذلك الاستنباط والاجتهاد من الدليل الاجتهادي فهو على ما به أجنبي عن دليل الاستصحاب ، فليس في البين شبهة صدقية بالنسبة إلى عموم قوله : « لا

٨٨

تنقض اليقين بالشكّ » ولا شبهة مصداقية ، ولا شبهة مفهومية ، بل هو عموم منقّح المصداق بلا شبهة أصلاً.

قال شيخنا الأُستاذ قدس‌سره فيما حرّرته عنه ما حاصله : أنّه لو كان الدليل على الحكم لفظياً ، كان المرجع في تشخيص ما له الدخل في موضوع الحكم من القيود ممّا ليس له الدخل منها ممّا يكون علّة ، إلى ما يفهمه العرف من لسان الدليل ولو بمناسبة الحكم والموضوع ، فإن فهم العرف من لسان الدليل ولو بواسطة القرينة المذكورة كون القيد علّة في الحكم وأنّه واسطة في الثبوت ، جرى الاستصحاب لتحقّق مصداق « لا تنقض اليقين بالشكّ » وكان المقام من قبيل الشبهة المصداقية ، وتكون القرينة المذكورة ـ أعني مناسبة الحكم والموضوع ـ موجبة للتصرّف في دليل الحكم ، ولا ربط لها بدليل الاستصحاب ، وليس ذلك رجوعاً إلى فهم العرف في تحقّق المصداق لدليل الاستصحاب كي يقال إنّ العرف لا يرجع إليه في تحقّق المصداق ، لأنّ فهمه لا يكون حجّة في ذلك ، وإنّما يكون الفهم العرفي محكّماً في المفاهيم الكلّية التي علّق عليها الأحكام الشرعية ، بل إنّه رجوع إلى العرف فيما يفهمه من دليل الحكم ولو بواسطة القرينة المذكورة ، وليس الرجوع إلى القرينة المذكورة من باب الرجوع إلى العرف في تشخيص كون القيد علّة للحكم لا قيداً في موضوعه كي يقال إنّ العرف لا يكون مرجعاً في ذلك لعدم كونه مشرّعاً ، بل هو رجوع إلى نفس الدليل اللفظي ولكن بواسطة القرينة المذكورة ، فإنّ الدليل اللفظي بضمّ هذه القرينة يكون دالاً على كون القيد علّة للحكم لا أنّه قيد لموضوعه.

ولا يخفى أنّه قدس‌سره تكلّم في هذا المبحث في ضمن دروس متعدّدة ، ولكنّه في الدرس الأخير بفاصلة تعطيلية أفاد هذا الذي نقلناه ، وإلاّ فإنّه قدس‌سره في الدروس

٨٩

السابقة لم يصرّح بهذا التصريح الذي أفاده في هذا الدرس ، وأنّ ما ذكرناه سابقاً راجع إلى هذا الذي أفاده بل هو عينه ، وقد أشار في التقريرات المطبوعة في النجف إلى هذا الذي أفاده قدس‌سره بقوله : ومن هنا صحّ أن يقال لا وجه للمقابلة بين الدليل والعرف الخ (١).

وهذا هو الذي ينبغي الاعتماد عليه وتوضيحه : هو أنّ هذا التحرير الذي حرّره الشيخ قدس‌سره وتبعه عليه شيخنا قدس‌سره وغيره من أنّ الاتّحاد بين موضوع القضية المتيقّنة وموضوع القضية المشكوكة هل هو بحسب العقل أو لسان الدليل أو هو بحسب النظر العرفي ، إنّما يحسن ويتمّ بعد إحراز الموضوع في القضية المتيقّنة ، ثمّ بعد إحرازه يقال لابدّ من اتّحاده مع موضوع القضية المشكوكة ، ثمّ يتكلّم في كيفية ذلك الاتّحاد وهل هو بالدقّة العقلية أو هو بحسب ما يستفاد من نفس دليل الحكم أو هو بحسب النظر العرفي ، أمّا إذا فرضنا أنّ ما هو الموضوع في قضيتنا المتيقّنة غير معلوم لدينا ، وأنّه مردّد بين ذات الماء والتغيّر مثلاً علّة في الحكم ، أو أنّه هو الماء بعنوان المتغيّر ، فكيف نتكلّم حينئذ أنّ المدار في اتّحاد الموضوعين على العقل أو على لسان الدليل أو على العرف.

وحينئذ يكون المتعيّن علينا أوّلاً البحث عن أنّ الذي هو مركب النجاسة وموضوعها ما هو ، هل هو ذات الماء أو هو الماء بعنوان المتغيّر ، والمرجع في تعيين أحد هذين الوجهين ليس هو العقل ، إذ لا مسرح له في تعيين ما هو الموضوع لهذا الحكم الشرعي ، بل المرجع فيه هو ما يفهمه العرف ممّا لديه من الأدلّة أو الفهم العرفي أو القرائن ولو بحسب مناسبة الحكم والموضوع ، وبعد أن أعمل العرف كلّ جهده في استنتاج ما هو الموضوع بأن حكم بأنّه هو المتغيّر

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٨٦.

٩٠

بعنوان المتغيّر لم يبق شكّ في ارتفاع الحكم بعد ارتفاع التغيّر ، ومعه لا مجال حينئذ لأن يدّعي العرف علينا دعوى ثانية من جديد وأنّه يتسامح ويخرج التغيّر عن الموضوعية ، ولو صدر منه ذلك كان قد ناقض نفسه ، وإن اجتهد العرف بحسب ما لديه من قوّة وفهم عدم مدخلية التغيّر وأنّه لا يكون إلاّعلّة في النجاسة ، وحينئذ فينفتح لنا باب الشكّ في البقاء باعتبار التردّد في كيفية العلّية المذكورة ، أمّا إذا لم يفهم العرف شيئاً من الوجهين المزبورين ، بل بقي مردّداً بين كون مركب النجاسة وموضوعها هو الذات نفسها وكونه هو الذات بعنوان التغيّر ، سقط الاستصحاب بالمرّة ، ولا يصدر من العرف حكم بعد هذا التردّد والتحيّر بأنّ التغيّر علّة أو حالة لا جزء موضوع ، ولو صدر منه ذلك لم يقبل منه ولو تسامح بألف تسامح ، وقد تقدّم توضيح ذلك في الحاشية السابقة على ص ٢١٥ (١).

وبالجملة : لا محصّل للرجوع إلى العرف في هذا المقام إلاّ الرجوع إليهم فيما يفهمون من الدليل أو الجهات الأُخر في تعيّن ما هو موضوع ذلك الحكم الشرعي ، وهم بعد أن أعملوا غاية جهدهم في استنباط الموضوع لما هو الحكم الشرعي وفهموا بحسب ذوقهم الذي رزقهم الله تعالى إيّاه ، لا يبقى لهم تردّد آخر وحكومة واجتهاد آخر يجرون عمليته فوق تلك العملية الاجتهادية ، نقول كلّ ذلك مماشاة مع الاصطلاح الفنّي ، وإلاّ فأين العرف وما هي محكمته وأين محلّها ، إن ذلك كلّه إلاّفهم الفقيه نفسه واجتهاد شخصه الذي هو حجّة عليه وعلى من يرجع إليه.

وهذه العملية الاجتهادية كما تجري في موضوع الأحكام الشرعية الكلّية ، فكذلك تجري في تطبيق تلك الموضوعات على مصاديقها الخارجية ، كما في

__________________

(١) وهي الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٧٧ وما بعدها.

٩١

مثل صدق الكرّية وعدمها بعد النقص أو الزيادة والشكّ في بقائها أو حدوثها ، فإنّ دعوى أنّ هذا الماء الموجود هو ذلك الماء السابق الذي نقص منه أو زيد عليه وإن سمّيناها عرفية إلاّ أنّها اجتهادية صرفة موكولة إلى نظر الفقيه بما أنّه عرفي ، وكما أنّ تلك العملية راجعة إلى الاجتهاد في استنباط ما هو الموضوع لذلك الحكم الكلّي حسبما يراه المجتهد بما رزقه الله تعالى من الفهم العرفي ، فكذلك هذه العملية الراجعة إلى دعوى الاتّحاد بين الماءين ، غايته أنّها ليست في مقام استنباط الموضوع للحكم الكلّي ، وفي هذه المسألة تكون المقابلة بين الاتّحاد العقلي والاتّحاد العرفي صحيحة مع خروج الاتّحاد بحسب لسان الدليل ، إذ ليس في البين دليل كي يعمل المجتهد أو العرف قوّته في استنباط ما هو موضوع الحكم فيه ، بخلاف تلك المسألة فإنّ هناك حكماً كلّياً وارداً على موضوع كلّي ، وعلى المجتهد أو العرف إعمال القوّة في تشخيص ما هو موضوع الحكم ولو كان الدالّ عليه هو الإجماع ، ومع العجز عن تحصيل ذلك ينسدّ فيه باب الاستصحاب.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده المرحوم الأصفهاني قدس‌سره في حاشيته على الكفاية خصوصاً قوله : ومنها أنّ للعرف نظرين ، إلى قوله : دون غيره (١) ، فإنّه وإن جعل المركز هو موضوع الحكم الشرعي ، لكنّه أناط تشخيصه بأحد أُمور ثلاثة : العقل ، وما يفهمه العرف من لسان الدليل ، وما يفهمه العرف بصرف طباعهم مع قطع [ النظر ] عن حكم العقل وعن المستفاد من لسان الدليل ، وأفاد أنّه يشترط في هذا الأخير أن لا يكون من قبيل القرائن المتّصلة بل ولا القرائن المنفصلة ، ثمّ أشكل على هذا الأخير بما حاصله : أنّه بعد فرض كونه

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٢٣١ ـ ٢٣٣.

٩٢

مسامحياً لا يكون ما يتشخّص به من الموضوع إلاّموضوعاً لحكم مسامحي ، ثمّ أجاب عنه بما حاصله : أنّه وإن لم يكن له أثر في استكشاف الحكم الشرعي ولا في موضوعه ، إلاّ أنّ له أثراً في صدق لا تنقض اليقين ، فراجع.

ولا يخفى أنّ المرحلة إذا كانت مرحلة تشخيص موضوع الحكم الشرعي فلا مسرح فيها لحكم العقل ، وأنّه لا وجه للمقابلة بين ما يفهمه العرف من لسان الدليل وبين ما يفهمونه بحسب ذوقهم ، أمّا مجرّد الخيال غير الواصل إلى حدّ القرينة المتّصلة أو المنفصلة ، فذلك لا عبرة به في تشخيص الموضوع ، ولا يؤثّر في صدق النقض ، لأنّه إنّما يتحقّق النقض بعد الاتّحاد بين الموضوعين ، وذلك إنّما يكون بعد إحراز موضوع القضية المتيقّنة ، وينبغي التأمّل في قوله : فالشخص بما هو عاقل برهاني يقطع بثبوت الحكم لموضوع خاصّ واقعاً ، وبما هو من أهل فهم الكلام يقطع بثبوت الحكم لموضوع آخر متخصّص بخصوصية أُخرى ، وبما ارتكز من المناسبات في ذهنه وبطبعه يقطع بثبوت الحكم لموضوع ثالث مثلاً ، فيقع الكلام حينئذ في أنّ الخطاب المتكفّل لحكم الاستصحاب متوجّه إليه بما هو عاقل بالعقل النظري البرهاني ، أو بما هو من أهل المحاورة واستفادة مفاد الدليل ، أو بما هو لو خلّي وطبعه يرى الحكم ثابتاً لموضوع مخصوص ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تعيين الأخير الخ (١).

ولكن ينبغي الوقفة قبل الوصول إلى درجة تطبيق قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » ولننظر إلى حالنا أو حال ذلك العاقل البرهاني الذي حصل له القطع بأنّ موضوع الحكم الشرعي هو الخاصّ الخ ، فقد تثلّث موضوع ذلك الحكم الشرعي عنده ، وهو قاطع بكلّ من الثلاثة ، فهل بقي على هذا الحال من

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٢٣٣.

٩٣

التناقض ، أو أنّ ما أحاط بذلك العاقل من عقل برهاني وفهم لساني وذوق طبعي استحساني قد غلب بعضها على بعض ، أو أنّه لا تناقض بين هذه الاقطاع ، وليست لي قدرة على الجواب عن هذه الأسئلة.

فلنعد إلى ما كنّا فيه فنقول : إنّك قد عرفت ما أفاده شيخنا قدس‌سره فيما قدّمنا نقله عنه. ثمّ إنّه قدس‌سره أفاد بعد ذلك ما حاصله حسبما حرّرته عنه : أنّه لو كان الدليل لبّياً كالإجماع أو العقل كان الرجوع أيضاً إلى القرينة المذكورة ، ولكنّه ليس رجوعاً إليها في تحقّق مصداق « لا تنقض » ، بل يكون رجوعاً إليها في صدق « لا تنقض » ، بمعنى أنّ مفهوم النقض يشكّ في صدقه على هذا المورد ، وتكون تلك القرينة ـ أعني مناسبة الحكم والموضوع ـ موجبة للتصرّف في دليل الاستصحاب أعني « لا تنقض » ، وحاكمة بصدقه على المورد.

والحاصل : أنّه ليس الرجوع هنا إلى الفهم العرفي بواسطة هذه القرينة رجوعاً إلى الفهم العرفي من لسان الدليل ، إذ ليس في البين دليل لفظي ، ولا أنّ العرف يكون شارحاً لحال القيد وأنّه علّة في الحكم لا قيد في موضوعه ، لأنّه لا مسرح للعرف في ذلك ، بل هو رجوع إلى العرف في صدق « لا تنقض » على المورد ، وحينئذ يكون المقام من الشبهة الصدقية لا المصداقية ، انتهى ما حرّرته عنه قدس‌سره.

قلت : لا يخفى أنّ هذه القرينة ـ أعني مناسبة الحكم للموضوع ـ إن صحّ الاعتماد عليها في الأحكام الشرعية ، كانت حاكمة بأنّ الحكم الثابت بالدليل اللبّي يكون موضوعه عارياً من ذلك القيد ويكون القيد علّة للحكم ، كما أنّها حينئذ تكون حاكمة على الدليل اللفظي ومقدّمة عليه ، وحينئذ تكون الشبهة بالنسبة إلى عموم « لا تنقض » مصداقية ، بمعنى أنّ المورد يكون مصداقاً لعموم « لا تنقض »

٩٤

ويحكّم فيه العموم المذكور مطلقاً سواء كان دليل الحكم لفظياً أو كان لبّياً ، وتكون تلك القرينة محقّقة لمصداق « لا تنقض » ، غاية الأمر أنّه لو كان لنا دليل لفظي ظاهره هو القيدية ، كان بواسطة تلك القرينة محمولاً على خلاف ظاهره ، ولو لم يكن لنا دليل لفظي كانت تلك القرينة مبيّنة لأنّ القيد علّة للحكم لا أنّه قيد للموضوع ، وإن لم يصحّ الاعتماد على القرينة المذكورة لم يمكن تحكيمها على اللفظي كما لا يمكن إعمالها في مورد الدليل اللبّي.

وعلى أي حال ، فهذه القرينة لا يصحّ إعمالها في نفس « لا تنقض » ، بل إنّ « لا تنقض » من قبيل الكبرى يتوقّف تحقّق صغراها على إعمال هذه القرينة في نفس الموضوع والحكم والقيد ، غاية الأمر أنّه لو وجد دليل لفظي ظاهره خلافها كان اللازم صرفه إليها ، لكون القرينة مقدّمة على ذي القرينة ، ولو لم يوجد في قبالها دليل لفظي كانت هي الحاكمة بنفسها.

ثمّ إنّي قد حرّرت عن شيخنا قدس‌سره جملة أُخرى لا بأس بنقلها وحاصلها : هو أنّ الشيخ قدس‌سره ذكر في هذا الأمر فروعاً أعرضنا عنها إلاّفرعاً واحداً لا بأس بالتعرّض له ، وهو مسألة الاستحالة في النجاسات والمتنجّسات ، فنقول : إنّ التغيير الطارئ تارةً يكون موجباً لتبدّل الصورة العرضية فقط مع بقاء الصورة النوعية بحالها ، كما في مثل تبدّل الخمر خلاً ، ومثل هذا التغيير لا يكون موجباً لزوال حكم النجاسة إلاّفي مورد خاصّ وهو المثال المذكور ، فإنّه ثبت فيه زوال النجاسة بالنصّ (١).

وأمّا إذا كان التغيير الطارئ موجباً لزوال الصورة النوعية مع بقاء المادّة الهيولانية ، كما في صيرورة الكلب ملحاً ونحو ذلك ممّا تزول فيه الصورة

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة ٢٥ : ٣٧٠ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣١.

٩٥

النوعية ، فالمشهور فيه زوال النجاسة بالتغيّر المذكور ، والخلاف في ذلك ضعيف ، والسرّ في زوال النجاسة بذلك هو أنّ النجاسة طارئة على الصورة النوعية ، وبزوالها تزول النجاسة. وأمّا المادّة الهيولانية التي هي القدر المشترك بين الأصل ـ أعني ذات الكلب التي هي الصورة النوعية ـ وبين الفرع المستحال إليه أعني الملح ، فلا يعقل اتّصافها بالنجاسة ، لأنّها أمر عقلي محفوظ بين الصورتين ، ولو فرض معقولية اتّصافها بالنجاسة فإنّما هو بالتبع إلى ما حلّت فيه من الصورة النوعية أعني الكلب ، فبزوال تلك الصورة النوعية يزول الحكم التبعي المذكور ، أعني النجاسة اللاحقة للمادّة الهيولانية.

وأمّا تغيّر المتنجّس فهو محلّ الخلاف بين الافراط والتفريط ، فقيل بأنّ الانقلاب مطلقاً يكون موجباً لزوال الحكم المذكور ولو بتبدّل الصورة العرضية كما في صيرورة الحطب فحماً ، فضلاً عن تبدّل الصورة النوعية كما في صيرورة الحطب رماداً أو دخاناً. وقيل بأنّ الانقلاب مطلقاً لا يكون موجباً لزوال الحكم المذكور ولو كان بتبدّل الصورة النوعية فضلاً عن تبدّل الصورة العرضية.

والتحقيق : أنّه لا فرق بين النجس والمتنجّس فيما تقدّم ذكره من أنّ التبدّل للصورة العرضية لا يكون موجباً لزوال الحكم ، وتبدّل الصورة النوعية يكون موجباً لزواله.

أمّا الأوّل فلعين ما عرفت في تبدّل الصورة العرضية في النجس من أنّ الحكم لم يكن قائماً بالصورة العرضية ، وإنّما كان قائماً بالصورة النوعية أعني الذات ، وما دامت تلك الصورة النوعية محفوظة لم يكن الحكم مرتفعاً ، ولو فرض حصول الشكّ في بقاء الحكم مع تبدّل الصورة العرضية لكان الاستصحاب جارياً ، لما يراه العرف من قيام الحكم الذي هو النجاسة بالذات نفسها لا بصورتها

٩٦

العرضية ، انتهى.

قلت : لا يخفى أنّه قد تقدّم منه قدس‌سره في أوائل هذا البحث (١) أنّ الاستصحاب لا يجري في مثل ذلك ، لا الاستصحاب الحكمي ولا الموضوعي ، فراجع ما حرّرته عنه. وكذا ما حرّره عنه في التقريرات المطبوعة في النجف ص ٢١٠ (٢) وما أدري كيف حرّرت عنه في هذا المقام جواز الرجوع إلى الاستصحاب الحكمي ، ولعلّ الاشتباه من النظر القاصر عن فهم ما أراده قدس‌سره هنا. وعلى كلّ حال فلا بأس بزيادة التوضيح لما تقدّم منه قدس‌سره من عدم جريان الاستصحاب الحكمي في ذلك.

فنقول بعونه تعالى : إنّ الصورة العرضية ـ أعني حطبية الحطب ـ إن حكم العرف بأنّ لها المدخلية في موضوع النجاسة ، كان الحكم المذكور زائلاً بزوالها قطعاً ، وإن حكم بأنّها أجنبية عن موضوع الحكم المذكور ، كان الحكم باقياً قطعاً ، ولو فرض الشكّ في ذلك لم يكن الاستصحاب جارياً لعدم إحراز الموضوع ، ولا يمكن تصحيح الاستصحاب بدعوى كون العرف يرى النجاسة من عوارض الذات ، لأنّ ذلك خلاف الفرض.

والفرق بين ما نحن فيه وبين ما تقدّم من مثال الماء والتغيير ، أنّ ذلك المثال بعد فرض كون العرف يرى أنّ معروض النجاسة هو نفس الماء لا عنوان التغيّر يحصل لنا الشكّ في بقائها من جهة أنّ التغيير يكون حينئذ علّة في عروض النجاسة على نفس الماء ، ويشكّ في أنّها علّة محدثة فيزول الحكم بزوالها ، أو أنّها مع ذلك مبقية فلا يزول الحكم بزوالها ، وفيما نحن فيه لا يحتمل كون الحطبية علّة للحكم ، وإنّما حصل الشكّ في كونها قيداً للموضوع أو أنّها أجنبية

__________________

(١) في الصفحة : ٨.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٦٧.

٩٧

وأنّها من حالاته ، فإن كان حكم العرف متّبعاً وحكم بأنّها قيد للموضوع زال الحكم بزوالها ، وإن حكم بأنّها أجنبية عن الموضوع لم يزل الحكم بزوالها ، وإن شكّ في ذلك أو لم يكن حكمه متّبعاً كان الحكم مشكوك البقاء من جهة الشكّ في بقاء موضوعه ، ومع الشكّ في بقاء الموضوع لا يمكن جريان الاستصحاب.

وبالجملة : ففي موارد الشكّ في كون القيد الزائل قيداً للموضوع أو أنّه حالة من حالاته مع القطع بأنّه ليس بعلّة مبقية للحكم ، سواء احتمل كونه علّة محدثة أو لم يحتمل ذلك بل قطع بكونه حينئذ حالة ، لا يكون مورداً للاستصحاب ، وإنّما يجري الاستصحاب فيما إذا كان القيد الزائل على تقدير كونه غير دخيل في الموضوع ممّا يحتمل كونه علّة مبقية.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ الحطبيّة على تقدير كونها أجنبيّة عن الموضوع لا يحتمل العلّية فيها للحكم فضلاً عن كونها مبقية. وبالجملة : فمتى لم يكن في البين احتمال العلّية واحتمال أنّها على تقديرها تكون مبقية ، لا يكون الاستصحاب جارياً.

وأمّا الثاني أعني زوال النجاسة عن المتنجّس بزوال صورته النوعية ، فلعين ما تقدّم في النجس حرفاً بحرف. وأمّا ما أفاده في الكتاب (١) من قيام النجاسة في المتنجّسات بنفس الجسم ، وهو باق بعد تبدّل الصورة النوعية ، ففيه : أنّه إن أراد بالجسم الصورة النوعية فقد تبدّلت ، وإن أراد به المادّة الهيولانية فقد عرفت عدم كونها معروضة للنجاسة إلاّبالتبع للصورة النوعية.

قلت : وفيه تأمّل ، فإنّ معروض النجاسة في المتنجّسات هو عنوان الملاقي الصادق على الثوب والبدن والخشب والحديد ، وليست هذه إلاّمصاديق صرفة ،

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٢٩٧.

٩٨

وليس الموضوع إلاّعبارة عن الملاقي ، وهذا العنوان يكون باقياً بحاله لا يتغيّر ولا يتبدّل بانقلاب الخشب مثلاً رماداً ونحوه من التبدّلات.

والأولى أن يقال : إنّ موضوع النجاسة وإن لم يتبدّل إلاّ أنّه جرت السيرة على الطهارة بمقدار هذا التبدّل والتغيّر ، فيكون ذلك بمنزلة الدليل الدالّ على حصول الطهارة بسبب شرطي ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فتحصّل أنّ التعويل على العرف في بقاء الموضوع في باب الاستصحاب ليس من التعويل عليه في مسامحاته وخطئه في التطبيق ، بل الوظيفة في أمثال المقام هو التعويل على العرف ، لأنّ نظره هو المتبع ... الخ (١).

إنّما كانت الوظيفة في أمثال ذلك هي التعويل على العرف لما عرفت من رجوع المسألة إلى أنّ المستفاد من الدليل المتكفّل للحكم بنجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة هو كون التغيّر أجنبياً عن مركز الحكم بالنجاسة ، أعني مطروّها ومعروضها المعبّر عنه بموضوعها ، وأنّ التغيّر لا يكون في ذلك إلاّمن قبيل علّة الحكم ، هذا.

ولكن يشكل ذلك في مسألة الشكّ في بقاء الكرّية عند أخذ مقدار من الماء يشكّ معه في بقاء الكرّية ، فإنّ الرجوع إلى العرف في مثل ذلك لا يكون رجوعاً إليه فيما يستفاد من دليل الحكم ، لعدم ارتباط الشكّ في بقاء الكرّية بدليل أصل الحكم ، بل لا يكون الرجوع إلى العرف في ذلك إلاّمن قبيل الرجوع إليه في تنقيح الصغرى لقوله عليه‌السلام : « لا تنقض » كما أنّه ليس رجوعاً إليه فيما يستفاد من قوله : « لا تنقض » بحيث إنّه يوسّع مفهوم النقض على وجه يكون شاملاً للمورد المذكور ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٨٥.

٩٩

بل الظاهر أنّ العرف لا يوسّع مفهوم النقض ، وإنّما يدّعي صدقه على المورد بعد تسامحه وعدم اعتنائه بذلك القليل الذي نقص منه.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ النقض الممنوع عنه ليس هو النقض الواقعي بل هو النقض العرفي ، فيكون شاملاً للمورد بعد المسامحة المذكورة ، لكن ذلك جار في مسألة المقادير ، فإنّ من وجب عليه دفع الصاع من الطعام يمكننا أن نقول إنّ الصاع الواقعي وإن كان هو المحدود بالحدّ الكذائي ، لكن المراد به ما يسمّى في العرف صاعاً ، فلو دفع ما يقلّ عن الصاع بمقدار جزئي لكان ينبغي أن نحكم بكفايته ، وقد تقدّم منه قدس‌سره أنّ ذلك ممنوع أشدّ المنع ، وقد تقدّم البحث عن ذلك في حواشي ص ٢١٢ فراجع (١).

بقي الكلام في نحو آخر من التسامح ، وهو الذي يقال فيه إنّ القيد الفلاني لا يراه العرف قيداً بل يراه من الحالات ، وهو الذي نوّه عنه في الكفاية بقوله : مثلاً إذا ورد : العنب إذا غلى يحرم ، كان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفاً هو خصوص العنب ، ولكن العرف بحسب ما يرتكز في أذهانهم ويتخيّلونه من المناسبات بين الحكم وموضوعه ، يجعلون الموضوع للحرمة ما يعمّ الزبيب ويرون العنبية والزبيبية من حالاته المتبادلة ، بحيث لو لم يكن الزبيب محكوماً بما حكم به العنب كان عندهم من ارتفاع الحكم عن موضوعه ، ولو كان محكوماً به كان من بقائه ، ولا ضير في أن يكون الدليل بحسب فهمهم على خلاف ما ارتكز في أذهانهم بسبب ما تخيّلوه من الجهات والمناسبات فيما إذا لم تكن بمثابة تصلح قرينة على صرفه عمّا هو ظاهر فيه الخ (٢).

__________________

(١) الصفحة : ٥١ وما بعدها.

(٢) كفاية الأُصول : ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

١٠٠