أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

الموالاة في الغسل وقد رأى نفسه في حال أُخرى غير الغسل وقد شكّ في الجزء الأخير ، يكون مصداقاً للمضي والفراغ عرفاً ، بمعنى أنّ أهل العرف يعدّون من كانت عادته على الموالاة في أجزاء الغسل أنّه قد فرغ وأنّ غسله قد مضى عند اشتغاله في أفعال أُخرى ، ولا يُنقض ذلك بما تقدّم من مسألة قضاء الحائض ونحوها ، لأنّ أيّام القضاء ليست أجزاء لمجموع ما يجب قضاؤه من الأيّام بحيث يكون لها أوّل وآخر كي يصدق عليها ولو بالنظر العرفي أنّها عمل واحد ينسب إلى مجموعه الفراغ والمضي ، إذ لا ترتيب في أيّام القضاء ولا ارتباطية ، وهذا بخلاف أجزاء الغسل فإنّها وإن لم يعتبر فيها الموالاة ، إلاّ أنّ اعتبار الترتيب فيها والارتباطية بين أجزائه مع جريان العادة على الموالاة كافٍ في صدق المضي والفراغ عرفاً.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا التفصيل الذي شرحناه في موارد الشكّ في الجزء الأخير لا يختصّ بمسلك شيخنا قدس‌سره من وحدة القاعدتين ، بل هو جارٍ حتّى بناءً على تعدّد القاعدتين ، فإنّ إعمال قاعدة الفراغ في موارد الشكّ في الجزء الأخير لا يكون إلاّبعد صدق المضي على المركّب ، وهو متوقّف في المقام ـ أعني مقام الشكّ في الجزء الأخير ـ على كون ما دخل فيه مترتّباً على المركّب ترتّباً عادياً ، سواء كان من مبطلات ذلك المركّب أو لم يكن ، وسواء كان ذلك المركّب من قبيل الصلاة أو كان غيرها من الواجبات المركّبة تركّباً ارتباطياً وكان الترتيب معتبراً بين أجزائها ، سواء اعتبر فيها الموالاة كالوضوء أو لم يعتبر فيها ذلك كالغسل الترتيبي ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول بتوقّف جريان قاعدة الفراغ فيما إذا لم يكن المشكوك هو الجزء الأخير (١) أو نقول بعدم توقّف جريانها عند

__________________

(١) كذا وردت العبارة في الأصل فلاحظ.

٣٢١

الشكّ في غير الجزء الأخير على ذلك ، بل يكفي فيه مجرّد الخروج من الجزء الأخير مع فرض حصول المعظم من الأجزاء ، فلاحظ.

هذا (١) ما كنّا حرّرناه سابقاً. ولكن لا يخفى أنّ الأخبار الواردة في المقام على طائفتين :

الأُولى : ما يكون ظاهره قاعدة التجاوز ، مثل رواية إسماعيل بن جابر وهي قوله عليه‌السلام : « إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (٢) ومثل رواية زرارة وهي قوله : « رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الاقامة ، قال عليه‌السلام : يمضي. قلت : رجل شكّ في الأذان والاقامة وقد كبّر ، قال عليه‌السلام : يمضي. قلت : رجل شكّ في التكبير وقد قرأ ، قال عليه‌السلام : يمضي. قلت : رجل شكّ في القراءة وقد ركع ، قال : يمضي. قلت : رجل شكّ في الركوع وقد سجد ، قال عليه‌السلام : يمضي في صلاته. ثمّ قال يازرارة : إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشككت فليس بشيء » (٣).

وهناك أخبار أُخر في التجاوز لا شاهد لنا فيها ، مثل رواية حمّاد قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أشكّ وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا ، قال عليه‌السلام : قد ركعت فأمضه » (٤) ونحوها غيرها.

__________________

(١) هذه المطالب إلى آخر الحاشية وجدناها هنا محرّرة في أوراق منفصلة عن الأصل.

(٢) وسائل الشيعة ٦ : ٣١٧ ـ ٣١٨ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٤.

(٣) وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٣ ح ١ وفيه : « فشكّك ليس بشيء ».

(٤) وسائل الشيعة ٦ : ٣١٧ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٢.

٣٢٢

والعمدة هو رواية إسماعيل ورواية زرارة ، لما اشتملت عليه من الكلّية التي يمكن ادّعاء كونها لكلا القاعدتين ، بدعوى أنّ مثل قوله : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره » شامل للشكّ في الجزء عند الدخول فيما بعده ، وللشكّ في الكلّ عند المجاوزة عنه بالفراغ منه. ولكن ذلك قابل للمنع ، فإنّ هذه الكلّية في هاتين الروايتين ظاهرة في أنّ هناك أشياء مترتّبة بعضها سابق على بعض ، وأنّه لو شكّ في السابق عند دخوله في اللاحق كان حكمه المضي وعدم الاعتناء.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ الشكّ في السابق عند دخوله في اللاحق كما يكون في أصل وجود السابق ، فكذلك يكون في تماميته لو كان الجزء السابق مشتملاً على شرط ، إلاّ أنّ ذلك لا دخل له بالشكّ في المركّب وكان قد فرغ منه ، إذ ليس في البين سابق ولاحق كي يكون الشكّ في السابق غير معتنى به إذا كان عند الدخول في اللاحق ، بل ليس في البين إلاّعبارة عن مجموعة أجزاء قد فرغ منها وحصل له الشكّ في بعض أجزائها أو في بعض شرائطها ، وأين هذا من الأُمور المترتّبة ، فسابق ولاحق وقد حصل الشكّ في السابق بعد الدخول في اللاحق كما هو ظاهر قوله عليه‌السلام في رواية إسماعيل : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض » وفي رواية زرارة : « إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشككت فليس بشيء » فإنّ الشكّ في المركّب بعد الفراغ منه غير مشمول لذلك ، إذ لم يكن الفراغ دخولاً في الغير ، ولو كان بعد فراغه من الصلاة قد دخل في عمل من الأعمال مثل التعقيب أو مثل الأعمال الأُخر مثل القيام عن محلّه والاشتغال بأعماله ، فإنّ ذلك العمل لا يتوقّف عليه قاعدة الفراغ. ولو قلنا بالتوقّف كما التزم به شيخنا قدس‌سره في الأمر الثالث كان خارجاً أيضاً عن مفاد تلك

٣٢٣

الكلّية في الروايتين ، فإنّ ظاهر تلك الكلّية هو الترتّب بين ما خرج منه وما دخل فيه على وجه يكون المجموع ملحوظاً شيئاً واحداً ، وذلك بقرينة الموارد التي فصّلت في الروايتين وطبّقت عليها الكلّية المزبورة.

وبالجملة : أنّ المنظور إليه في هذه الجملة هو أجزاء المركّب بالخروج من جزء والدخول فيما بعده ، ولا دخل لذلك بنفس المركّب ، وإن كان قد خرج عنه ودخل في غيره ، إلاّ إذا كان بينهما ترتّب مثل الشكّ في صلاة الظهر بعد دخوله في صلاة العصر بالنظر إلى كون الظهر شرطاً في صحّة العصر ، أمّا إذا لم يكن الأمر كذلك ، بل كان من مجرّد الفراغ عن الصلاة والدخول في فعل آخر ، فهو خارج عن مفاد هذه الكلّية ولو بقرينة تطبيقها على ما تقدّمها من التفاصيل. بل قلنا إنّ ورود هذه الكلّية في هذا النحو من التفاصيل من أجزاء الصلاة يكون قرينة على انحصار الكلّية بها ، فلا تشمل مثل أجزاء الغسل والوضوء والتيمّم لو شكّ في جزء منها بعد الدخول في الجزء الآخر.

ومع قطع النظر عمّا ذكرناه من دعوى كون الجملة ظاهرة في ترتّب اللاحق على السابق ، وأنّه يكون الشكّ في السابق بعد الدخول في اللاحق ، وذلك لا يتأتّى في قاعدة الفراغ ، فيكون المتعيّن هو كونها مسوقة لقاعدة التجاوز ، نقول : إنّ الجمع بينهما يتوقّف على أخذ المجاوزة بالمعنى الأعمّ من المجاوزة عن محلّ الشيء كما هو مورد قاعدة التجاوز ، والمجاوزة عن نفس الشيء كما هو مورد قاعدة الفراغ ، ولا جامع بينهما ، إذ نسبة المجاوزة إلى نفس الشيء مع أنّها ليست مجاوزة عن نفسه وإنّما هي مجاوزة عن محلّه لا تكون إلاّنسبة تجوزية ، بخلاف المجاوزة في مورد قاعدة الفراغ فإنّ نسبتها إلى نفس الشيء نسبة حقيقية لا تحتاج إلى التجوّز والعناية ، سواء جعلنا ذلك من قبيل المجاز في الاسناد أعني

٣٢٤

المجاز العقلي ، أو جعلناه من قبيل الكناية ، أو جعلناه من قبيل الاستعارة على مذهب السكاكي ، أو جعلناه من المجاز في الكلمة. وهكذا الحال في التعبير عن ذلك بالخروج بقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : « إذا خرجت من شيء » فيراد به الأعمّ من الخروج عن المحلّ والخروج عن نفس الشيء بالفراغ منه ، هذا.

مضافاً إلى أنّه لا جامع بين الشيء الذي هو نفس المركّب كما هو مورد قاعدة الفراغ ، والشيء الذي هو جزء ذلك المركّب كما هو مورد قاعدة التجاوز ، فإنّ الجزء في ضمن المركّب لا يكون شيئاً إلاّبالعناية والتنزيل الذي أفاده شيخنا قدس‌سره بقوله : وأمّا الشكّ في الجزء فهو إنّما يكون صغرى لها بعناية التعبّد والتنزيل ، يعني أنّ الشارع نزّل الشكّ في الجزء في باب الصلاة منزلة الشكّ في الكلّ في الحكم بعدم الالتفات إليه ، فيكون إطلاق الشيء على الجزء باللحاظ السابق على التركيب ، وصار من مصاديق الشيء تعبّداً وتنزيلاً الخ (١) ، وحينئذ فيكون ذلك من قبيل الجمع بين المعنى الحقيقي والمعنى التنزيلي.

ثمّ بعد هذا كلّه يكون اللازم في قاعدة الفراغ هو الدخول في الغير ، ولا يكفي مجرّد الفراغ عن الصلاة ، وقد التزم به شيخنا قدس‌سره في الأمر الثالث فراجع.

ويمكن القول بأنّه لو التزم في قاعدة الفراغ باعتبار الدخول في الغير يندفع عنه إشكال الجمع بين كون التجاوز تجاوزاً عن محلّ الشيء وكونه تجاوزاً عن نفسه ، لأنّ الجميع حينئذ يكون تجاوزاً عن المحل ، كما أنّه يمكن القول باندفاع الإشكال السابق ، وهو كون الشكّ في السابق بعد الدخول في اللاحق ، لحصول ذلك في قاعدة الفراغ أيضاً ، بل لا يكون لنا حينئذ إلاّقاعدة واحدة وهي قاعدة التجاوز. نعم يبقى الإشكال الأخير وهو إشكال الجمع في الشيء بين التنزيلي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٤ ـ ٦٢٥.

٣٢٥

والحقيقي.

ولو قرّبنا المطلب بأنّ المجعول أوّلاً هو مفاد قاعدة الفراغ ، وإجراؤها في الأجزاء يكون تنزيلاً ، ويعتبر في هذا التنزيل الدخول في الغير ، لم يكن ذلك عبارة عن رجوع الكبريين إلى كبرى واحدة ، بل هما كبريان إحداهما أصلية والأُخرى تنزيلية ، نظير ما يدلّ على وجوب الوضوء في الصلاة ، وقوله عليه‌السلام « الطواف بالبيت صلاة » فلاحظ وتدبّر ، هذا كلّه في الأخبار المسوقة لقاعدة التجاوز.

وأمّا الأخبار المسوقة لقاعدة الفراغ فهي طوائف :

الأُولى : ما كان مختصّاً بالفراغ وكان مورده الصلاة ، وذلك مثل صحيحة ابن مسلم « كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فأمض ولا تعد » (١) وكذلك الأُخرى عنه « في الرجل يشكّ بعد ما ينصرف من صلاته ، فقال عليه‌السلام : لا يعيد ولا شيء عليه » (٢) وهذان وأمثالهما لا يدخلان فيما نحن فيه من احتمال العموم لقاعدة التجاوز والفراغ.

الطائفة الثانية : ما يحتمل فيه التعميم المذكور ، وهما الموثّقة القائلة : « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو » (٣) ، ورواية ابن بكير عن محمّد بن مسلم قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّراً فأمضه ولا إعادة عليك » (٤)

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٧ ح ٢.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٧ ح ١.

(٣) وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٣ ح ٣.

(٤) وسائل الشيعة ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٦.

٣٢٦

وينبغي التكلّم في مفاد الأُولى ـ ومنه يعلم الكلام في مفاد الثانية ـ فنقول بعونه تعالى : إنّ لفظة « من » في قوله « ممّا قد مضى » إن كانت تبعيضية كان محصّلها أنّك إن شككت في بعض المركّب الذي قد مضى فأمضه كما هو ، وحينئذ تكون مختصّة بقاعدة الفراغ ، ولا دخل لها بقاعدة التجاوز.

وإن كانت لفظة « من » المذكورة بيانية ، كان محصّلها أنّ ما شككت فيه وهو قد مضى فأمضه كما هو ، وحينئذ نقول : إنّها لو كانت منطبقة على مفاد قاعدة التجاوز التي يكون موردها هو الشكّ في الجزء بعد الدخول فيما بعده من الأجزاء ، لابدّ أن نقول إنّ لفظة « فيه » للتعدية ، وأنّ المشكوك هو وجوده ، فلابدّ أن يكون معنى مضيّه مضي محلّه ، نظير نسبة التجاوز عن المحلّ إلى نفس الشيء الذي هو ذو المحل لو صحّت هذه النسبة في المضي كما صحّحناها في التجاوز.

وبعد ذلك لو أردنا إثبات شمولها لمورد قاعدة الفراغ ، بأن ندّعي أنّ الشكّ في وجود الشيء بمفاد كان التامّة يشمل الشكّ في وجوده بتمامه ، بحيث يكون وجود بعض أجزائه مع فقد الباقي من قبيل عدم الوجود لذلك المركّب ، لابدّ أن يكون المضي فيه عبارة عن الفراغ منه ، ولازم ذلك هو كون المراد بالمضي الأعمّ من مضي محلّ الشيء بالنظر إلى مورد قاعدة التجاوز ، ومن مضي نفسه بالنظر إلى مورد قاعدة الفراغ ، والأوّل تجوّز وبالعناية ، والثاني حقيقي ، ولا جامع بينهما.

وإن أخذنا لفظة « فيه » للظرفية ليكون شمول الجملة للمركّب باعتبار كون الشكّ واقعاً فيه ، كانت الشقّة بين مورد قاعدة الفراغ ومورد قاعدة التجاوز أبعد ، إذ لا جامع أيضاً بين كون لفظة « في » للتعدية وبين كونها للظرفية ، مضافاً إلى ما عرفت من كون المضي في الأوّل بمعنى مضي المحل وفي الثاني بمعنى مضيّه في نفسه.

٣٢٧

وحينئذ لابدّ أن نقول : إنّها مسوقة لأحد الموردين ، والظاهر أنّها مسوقة للثاني ، إذ لا أقل من استظهار ذلك من لفظ المضي الظاهر في مضيّه في نفسه ، لا أنّه كناية عن مضي محلّه ، ولابدّ حينئذ من أخذ لفظة « فيه » للظرفية ، إذ أخذها للتعدية مع كون الشكّ في الوجود لا يناسب التعبير بلفظ المضي ، فإنّه يعطي الوجود ، ويكون محصّل ذلك أنّك إن شككت في الصلاة بعد مضيّها والفراغ عنها ، بأن كان مشكوكك هو بعض أجزائها أو بعض شرائطها ، فأمضها كما هي ، ولا تعتن بالشكّ المزبور ، ويكون مفادها هو قاعدة الفراغ ليس إلاّ.

ومنه يظهر الحال في قوله عليه‌السلام في الرواية الثانية : « كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّراً فأمضه ولا إعادة عليك » بعد جعل قوله « فذكرته تذكّراً » كناية عن الشكّ ، وجعل لفظة « من » في قوله « من صلاتك وطهورك » بيانية ، فإنّه حينئذ يكون حاصلها هو أنّ الماضي من صلاتك وطهورك إذا شككت فيه يكون الحكم فيه هو إمضاءه كما هو وعدم وجوب إعادته ، وحينئذ يكون حالها حال الموثّقة ، ويجري فيها ما جرى فيه ممّا تقدّم ممّا تكون النتيجة فيه هي الاختصاص بقاعدة الفراغ.

وأمّا الطائفة الثالثة الواردة في الوضوء مثل رواية أبان ورواية ابن أبي يعفور ورواية زرارة (١) في موارد الحكم في هذه الروايات بعدم الاعتناء فجميعها ناظر إلى قاعدة الفراغ ، ولا دخل لشيء من ذلك بقاعدة التجاوز ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ بعد البناء على كون كلّ منهما قاعدة مستقلّة ، فالظاهر أنّ بينهما عموماً من وجه ، فتنفرد قاعدة التجاوز فيما لو كان الشكّ في الأثناء ، كما تنفرد قاعدة الفراغ فيما لو كان الشكّ بعد الفراغ ، وكان الشكّ في الصحّة من ناحية الشرط

__________________

(١) وقد تقدّمت في الصفحة : ٢٦٨.

٣٢٨

الذي لا محلّ له مخصوص ممّا لا تجري فيه قاعدة التجاوز ، ويجتمعان في الشكّ بعد الفراغ فيما لو كان المشكوك جزءاً ونحوه ممّا هو مورد لقاعدة التجاوز أيضاً ، فربما يقال بحكومة الأُولى على الثانية لكونها أمارة أو لكونها إحرازية ، بخلاف الثانية ، ولكن لو ادّعي التساوي بينهما من ناحية الأمارية أو من ناحية الاحرازية أو من ناحية عدم الاحرازية ، فلا مانع من الالتزام باجتماعهما ، لتوافقهما في اقتضاء الصحّة ، وهذا كلّه إجمال من مفصّلات يأتي كلّ منها في محلّه إن شاء الله تعالى.

قوله : نعم ، لو كان الشكّ في المسح قبل جفاف الأعضاء ، فلا إشكال في أنّه يجب المسح مع عدم تخلّل الفصل الطويل ، لأنّه يكون من ( قبيل ) الشكّ في المحل ، فلا يصدق عليه الانصراف والمضي ... الخ (١).

ينبغي أن يقيّد ذلك بما إذا لم يدخل في فعل آخر مترتّب عادة على تمامية الوضوء ، كالصلاة أو القيام من مقام الوضوء ونحو ذلك ممّا جرت عادته أو عادة النوع بأنّه لا يفعله ما دام لم يكمل وضوءه ، لما تقدّم من كفاية الترتّب العادي في صدق المضي ، ولا يعتبر فيه كونه مبطلاً من تفويت الموالاة ونحوها ، بل يمكن أن يقال باستفادة ذلك من رواية زرارة أعني قوله عليه‌السلام : « فإذا قمت عن الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أُخرى في الصلاة أو في غيرها ، فشككت في بعض ما سمّى الله ممّا أوجب عليك وضوءه ، لا شيء عليك فيه » (٢) فإنّ عدم الاعتناء بالشكّ فيها غير مقيّد بفوات الموالاة ، وهو شامل لمورد الشكّ في المسح وقوله عليه‌السلام : « ممّا أوجب عليك وضوءه » لا ينافي شموله للمسح ، لأنّ المراد به هو ما في قبال ما تضمّنه الصدر من موارد الشكّ في المحل بقوله : « فأعد عليهما

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٣٠ لا يخفى خلوّ النسخة الجديدة والقديمة من كلمة ( قبيل ).

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ١.

٣٢٩

وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى الله تعالى ما دمت في حال الوضوء » الخ.

قوله : المبحث الثالث : لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز ـ إلى قوله ـ وفي اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ إشكال ... الخ (١).

بناءً على تعدّد القاعدة لا إشكال في المقابلة المذكورة ، أمّا بناءً على وحدة الكبرى ، فلابدّ من أن يكون المراد من قاعدة التجاوز هو نفس الشكّ في الجزء بعد التجاوز عن محلّه إلى جزء آخر ، فهذا الشكّ لا يدخل في الكبريات التي تضمّنتها هذه الأخبار ، سواء كان هو ما في ذيل رواية زرارة وذيل رواية إسماعيل ابن جابر ، أو كان هو ما تضمّنته الروايات الأُخر ، إلاّبعد العناية والتنزيل من الجهتين ، أعني تنزيل الجزء منزلة الشيء ، وتنزيل التجاوز عن محلّه إلى الجزء الآخر منزلة مضيّه والفراغ منه ، وبعد هذا التنزيل يدخل في موضوع تلك الكبريات ، وهذه العملية أعني عملية التنزيل المذكور الموجبة لدخول الجزء المشكوك في موضوع تلك الكبريات يصطلح عليها شيخنا قدس‌سره بقاعدة التجاوز ، وإلاّ فبناءً على مسلكه قدس‌سره ليس لنا في تلك الكبريات ما هو كبرى قاعدة التجاوز.

وحيث قد اتّضح لك مراده من قاعدة التجاوز تعرف صحّة ما أفاده من أنّه لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز (٢) ، إذ لا إشكال في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٣١.

(٢) ومن ذلك أيضاً يتّضح لك صحّة ما أفاده في آخر المبحث من أنّ اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ إنّما هو بالتعبّد الناتج من حمل المطلق على المقيّد ، بخلافه في قاعدة التجاوز فإنّ اعتباره فيها إنّما هو لأجل أنّه يتوقّف صدق التجاوز عليه لا لمحض التعبّد [ منه قدس‌سره ].

٣٣٠

انحصار هذا التنزيل بما إذا كان الشكّ في الجزء بعد الدخول في غيره ، بل يتّضح أنّه لابدّ في كون ذلك الغير مترتّباً شرعياً وكونه جزءاً من ذلك المركّب ، بل كونه من الأجزاء المستقلّة بالتبويب ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز ، لعدم صدق التجاوز عن الجزء المشكوك فيه بدون الدخول في الجزء المترتّب عليه ... الخ (١).

أفاد قدس‌سره فيما حرّرته عنه : أنّه إنّما يحتاج في مورد قاعدة التجاوز إلى الدخول في أمر مرتّب على المشكوك ليكون ذلك محقّقاً للتجاوز والفراغ عن المشكوك بمعنى الفراغ عن محلّه ، فإنّ مرجع القاعدتين وإن كان إلى كبرى واحدة بناءً على المختار ، إلاّ أنّ الاختلاف بينهما إنّما يكون في المورد والصغرى ، فإنّ نفس تلك الكبرى إنّما تتحقّق صغراها في الأجزاء إذا دخل فيما هو مرتّب على المشكوك ، وفي جريانها في المركّب لا يحتاج تحقّق صغراها إلى كون ما دخل فيه أمراً مرتّباً شرعاً على المشكوك ، بل يكفي فيه كون المكلّف في حال مغايرة لفعل الصلاة ولو كان سكوتاً أو تعقيباً أو فعلاً منافياً لها ، بل يكفي مجرّد الفراغ وكونه في حال غير حال الصلاة.

قوله : وفي اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ إشكال ... الخ (٢).

يمكن أن يقال : إنّ هذا النزاع لا أثر له في باب الصلاة ، إذا لم يكن الشكّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٣١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٣١.

٣٣١

في الجزء الأخير الذي هو السلام ، وذلك لأنّه إذا فرغ من السلام وبعد فراغه منه شكّ في تمامية صلاته ، فهو بمجرّد فراغه من التسليم يكون في حال أُخرى غير الصلاة ، كما أفاده قدس‌سره فيما نقلناه عنه في الحاشية السابقة ، وذلك بالنظر إلى ما ورد من أنّ تحليلها التسليم ، فإنّه يدلّ على أنّ الحال بعده هي حال تحليل وهي مغايرة لحال الصلاة ، فلو قلنا بعدم كفاية مجرّد الفراغ في قاعدة الفراغ ، وأنّه لابدّ من الدخول في حال أُخرى ، كما تنطق به رواية زرارة الواردة في باب الوضوء « فإذا قمت عن الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أُخرى في الصلاة أو في غيرها » (١) لكان ذلك ـ أعني الدخول في حال أُخرى ـ متحقّقاً في الصلاة بمجرّد الفراغ من التسليم ، ولأنّه صار في حال التحليل ، ولأجل ذلك قالوا ـ كما في العروة (٢) : ـ إنّه لو نسي السجدة الأخيرة حتّى تشهد وسلّم قضاها وسجد للسهو ، ولو كان ذلك هو السجدتين بطلت صلاته ، فإنّ ذلك مؤيّد لما ذكرناه من أنّ الفراغ من السلام بمجرّده هو دخول في حال أُخرى وخروج عن الصلاة ، هذا كلّه في باب الصلاة عند كون المشكوك هو غير الجزء الأخير.

أمّا لو كان المشكوك هو نفس الجزء الأخير ، فالدخول بالغير وإن كان معتبراً فيه إلاّ أنّ ذلك من جهة أُخرى غير هذا المتنازع فيه ، وتلك الجهة الأُخرى هي ما تقدّم (٣) في المقام الثالث من مقامات الغير أعني ما يكون محقّقاً للمضي عرفاً ، ولا فرق من هذه الجهة بين الصلاة والوضوء ونحوه من المركّبات على ما مرّ تفصيل الكلام فيه.

__________________

(١) تقدّمت في الصفحة : ٣٢٩.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٢١٩.

(٣) في الصفحة : ٣١٩.

٣٣٢

نعم ، يبقى الكلام في غير الصلاة من الوضوء ونحوه ممّا كان المشكوك فيه هو غير الجزء الأخير ، وينبغي مراجعة ما حرّرناه (١) فيما حرّرناه على العروة في مباحث الخلل في الوضوء في ملاك قاعدة الفراغ ، وأنّ المدار في ذلك على عنوان الفراغ أو على عنوان المضي ، فيظهر الأثر في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ فيما إذا فرغ من الوضوء ولم يشرع في عمل آخر.

ولا يخفى أنّ جميع ما قدّمنا نقله من روايات قاعدة الفراغ هو خال عن اعتبار الدخول في الغير ، عدا موثّقة ابن أبي يعفور المشتملة على قوله عليه‌السلام : « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه » (٢) بناءً على رجوع الضمير في « غيره » إلى الوضوء لا إلى الشيء ، وعدا رواية زرارة الواردة في باب الوضوء المشتملة على قوله عليه‌السلام : « إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا ، فأعد عليهما ـ إلى قوله عليه‌السلام ـ ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت عن الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أُخرى في الصلاة أو في غيرها » الخ (٣).

فأمّا رواية زرارة فيمكن أن يقال عليها : إنّ المراد من قوله « إذا كنت قاعداً على وضوئك » هو كونه مشغولاً به ، كما يفيده قوله عليه‌السلام « ما دمت في حال الوضوء » ، وحينئذ فيكون المراد من قوله « فإذا قمت عن الوضوء » هو مجرّد الفراغ ، وكذلك قوله « وقد صرت في حال أُخرى » ليس من قبيل القيد الزائد ، بل هو عطف تفسير على قوله « قمت ... وفرغت » أو أنّه قيد توضيحي ، لأنّ المراد

__________________

(١) مخطوط لم يطبع بعدُ.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٢.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ١.

٣٣٣

من الحال الأُخرى هي المقابلة لحال الوضوء التي هي عبارة عن حال الاشتغال بالوضوء ، فلابدّ أن يكون المراد به هي حال غير حال الوضوء لا حال وفعل آخر غير الوضوء ، وليس قوله « في الصلاة أو في غيرها » قرينة على أنّ المقصود بها حال وجودية ، فإنّه لمجرّد التعميم لحال غير الوضوء ، وأنّه أيّ حال كان ممّا هو غير حال الوضوء.

ويؤيّد هذا المعنى : أنّه لو كان المراد بقوله عليه‌السلام « ما دمت في حال الوضوء » هو حال الاشتغال به ، وكان قوله عليه‌السلام « في حال أُخرى » هي عبارة عن حال وجودية في قبال الوضوء ، لكان عليه‌السلام قد أهمل صورة ثالثة وهي حال الفراغ من الوضوء من دون اشتغال بعمل آخر ، وهو بعيد من ظاهر الرواية أعني الحصر والاحاطة بشقوق المسألة ، اللهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ هذه الحالة هي حال وضوء بمعنى كونه قاعداً على وضوئه لم يقم منه وإن فرغ من جزئه الأخير.

ومنه يظهر الحال في الموثّقة أعني موثّقة ابن أبي يعفور ، فإنّها بقرينة مقابلتها بقوله « إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه » يعطي أنّ المراد بقوله « وقد دخلت في غيره » هو مجرّد الفراغ من الوضوء وعدم كونه فيه ولم يجزه ، سيّما بملاحظة صدرها الذي ذكره في السرائر (١) أعني قوله : « وإذا بدأت بيسارك قبل يمينك ومسحت رأسك ورجليك ثمّ استيقنت بعد ( يعني بعد ذلك ) أنّك بدأت بها غسلت يسارك ثمّ مسحت رأسك ورجليك ، وإذا شككت » الخ ، فإنّ هذا اليقين لمّا كان بعد الفراغ من مسح الرجلين ، كان الشكّ المذكور بقوله عليه‌السلام : « إذا شككت في شيء من الوضوء » هو الشكّ الواقع بعد مسح الرجلين ، وقد جعلت قوله عليه‌السلام « وقد دخلت في غيره » كناية عن ذلك ، وإلاّ لكانت صورة الفراغ عن

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٥٤.

٣٣٤

الوضوء مع عدم اشتغاله بفعل آخر خارجة عن كلا الشقّين ، وحيث إنّه لا ينبغي الريب في عدم دخولها في قوله « إنّما الشكّ » الخ ، فلا ينبغي [ الشكّ ] في دخولها في الشقّ الأوّل الذي حكم فيه بعدم الاعتناء.

ثمّ إنّ هذا كلّه على تقدير كون الضمير في « غيره » راجعاً إلى الوضوء ، أمّا لو قلنا بكونه راجعاً إلى الشيء لكانت أجنبية عن قاعدة الفراغ ، بل كانت عبارة عن قاعدة التجاوز ، غايته أنّها ساقطة لمعارضتها برواية زرارة من عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء ، وهي مقدّمة عليها لكونها صحيحة سنداً معمول بها عند الأصحاب ، فتأمّل.

ثمّ لو سلّم ظهور الروايتين في التقييد بالدخول بالغير ، فلا يمكن الخروج به عن مورده ، لأنّه لم يكن قيداً لكلّي قاعدة الفراغ ، وإنّما هو قيد لعدم الاعتناء بالشكّ بالوضوء بعد الدخول في غيره ، فيكون ذلك مختصّاً بباب الوضوء ، فلا وجه للتعدّي منه به إلى غيره من الأفعال المركّبة ، إذ لا بُعد في اختصاص الوضوء بذلك من بين سائر الأفعال ، كما قد اختصّ بعدم جريان قاعدة التجاوز فيه على ما حرّرناه من شمولها لكلّ فعل مركّب إلاّ الوضوء ، لكن هذا كلّه مبني على تعدّد القاعدتين ، وأنّ مثل رواية زرارة القائلة : « إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره » وكذلك رواية إسماعيل بن جابر القائلة : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره » (١) مختصّة بقاعدة التجاوز.

أمّا بناءً على مسلك شيخنا قدس‌سره من الوحدة ، وأنّ مثل هذه الكبرى المشتمل عليها الروايتان المذكورتان هي الكبرى الوحيدة المعبّر عنها بقاعدة الفراغ ، فلا يكون ما دلّ على اعتبار الدخول بالغير منحصراً بموثّقة ابن أبي يعفور ورواية

__________________

(١) تقدّمتا في الصفحة : ٣٠٦.

٣٣٥

زرارة الواردة في باب الوضوء كي يمكن الجواب عنهما بما ذكرناه من المناقشة في الدلالة أوّلاً ، وبكون ذلك مختصّاً بباب الوضوء ثانياً ، وذلك لعدم تأتّي هذين الجوابين في الروايتين السابقتين ـ أعني رواية إسماعيل بن جابر ورواية زرارة ـ في باب الصلاة.

نعم ، قد عرفت أنّ ذلك أعني اعتبار الدخول في الغير لا أثر له في موارد الشكّ في غير الجزء الأخير ، لأنّ ما بعد السلام غيرٌ لكونه حالة تحليل ، وإنّما يظهر أثره في غيرها من المركّبات مثل الوضوء والتيمّم والغسل ولو الارتماسي منه إذا شكّ في صحّته بعد الفراغ منه ولو من جهة الحاجب ونحوه ، فلا محيص من الالتزام باعتبار الدخول في الغير في أمثال هذه المركّبات بناءً على ما أُفيد من كون الكبرى الكلّية التي اشتملت عليها رواية زرارة وإسماعيل بن جابر هي الكبرى الوحيدة ، وأنّها شاملة لكلّ مركّب ، وأنّ ورودها في مورد الصلاة لا يوجب اختصاصها بها.

والذي تلخّص : هو أنّه لو كان الشكّ في غير الجزء الأخير كان جريان القاعدة متوقّفاً على الدخول في الغير سواء في ذلك الصلاة وغيرها ، غير أنّه في الصلاة يكون حاصلاً قهراً بمجرّد السلام ، بخلاف باقي المركّبات ، أمّا لو كان الشكّ في الجزء الأخير فلابدّ من الدخول في الغير أيضاً ، ولابدّ أن يكون مترتّباً عادياً.

قوله : المبحث الرابع : قد اختلفت كلمات الأعلام في الغير الذي يعتبر الدخول فيه في قاعدة التجاوز ، فقيل إنّه مطلق الغير سواء كان من الأجزاء أو من المقدّمات كالهوي والنهوض ... الخ (١).

قد عرفت أنّه بناءً على تعدّد القاعدتين يكون لنا عمومان ، أحدهما عموم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٣٣.

٣٣٦

الذيل في روايتي زرارة وإسماعيل بن جابر ، وهذا هو العموم المعبّر عنه بقاعدة التجاوز ، والعموم الآخر العموم الذي اشتملت عليه رواية ابن بكير القائلة : « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو » (١) ونحو ذلك من العمومات ، وهذا هو العموم المعبّر عنه بقاعدة الفراغ ، وحينئذ يتّجه النزاع في هذا البحث في أنّ هذا العموم الراجع إلى قاعدة التجاوز هل يشمل المقدّمات أو هل يشمل أجزاء الأجزاء ، وأيضاً تتّجه الكلمات الموجودة من أنّ المقدّمة الفلانية مثل النهوض إلى القيام داخلة في العموم لكن خروجها منه كان من قبيل التخصيص ، إلى غير ذلك من الكلمات الراجعة إلى دعوى تخصيص العام وخروج مثل النهوض إلى القيام عنه ، وإلى دعوى كون العام شاملاً لجزء الجزء أو للمقدّمة الفلانية ، فاخراجها منه محتاج إلى الدليل.

أمّا بناءً على وحدة القاعدة ، وأنّه ليس لنا إلاّعموم واحد هو مفاد قاعدة الفراغ حتّى العموم الذي اشتمل عليه ذيل الروايتين أعني رواية زرارة ورواية إسماعيل بن جابر ، فإنّه لا يكون مفاده حينئذ إلاّمفاد قاعدة الفراغ المنطبق على مفاد رواية ابن بكير ونحوها ، وأنّ محصّل قاعدة التجاوز هو ذلك التنزيل المدّعى كما شرحناه ، الذي لا يكون إلاّمن قبيل التصرّف في المورد وإدخاله بعد ذلك التصرّف في موضوع تلك العمومات المذكورة.

وحينئذ لا محصّل لدعوى تخصيص في ذلك العموم بالنسبة إلى ما هو محلّ النزاع من المقدّمات وأجزاء الأجزاء ، كما لا محصّل للتمسّك بذلك العموم في شموله للمقدّمة الفلانية أو للجزء الفلاني أو لجزء الجزء ، إلى غير ذلك.

وبالجملة : أنّ ذلك العموم بالنسبة إلى الأجزاء وأجزاء الأجزاء ومقدّمات

__________________

(١) تقدّمت في الصفحة : ٣٢٦.

٣٣٧

الأجزاء محترم المقام غير قابل للتخصيص بشيء من ذلك ، نعم هو قابل للتوسعة بالتنزيل المشار إليه ، كما أنّ ذلك العموم لا يكون نافعاً ومرجعاً عند الشكّ في أنّ الجزء الفلاني أو المقدّمة الفلانية مشمولة له أو غير مشمولة ، بل يكون المرجع هو ما يستفاد من دليل التنزيل.

ولا يخفى أنّ دليل التنزيل منحصر بما يستفاد من التعداد الذي اشتملت عليه الروايتان ـ أعني رواية زرارة ورواية إسماعيل بن جابر ـ ونحوهما ممّا ورد فيه الحكم في موارد خاصّة ، وحينئذ تتّضح شبهة عدم ثبوت التنزيل فيما هو خارج عن ذلك التعداد ، ولابدّ في التوسعة من دعوى عدم الفرق ونحو ذلك من الدعاوي ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : التزم صاحب هذا القول بأنّ رواية إسماعيل تكون مخصّصة لعموم « الغير » ، فيكون النهوض إلى القيام خارجاً عن العموم ... الخ (١).

رواية إسماعيل بن جابر هي المشتملة على قوله عليه‌السلام : « إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (٢). ولابدّ أن يكون الوجه في تخصيصها لعموم « الغير » فيها باخراج النهوض إلى القيام ـ وكذا الهوي إلى السجود ـ عن عموم « الغير » هو ما أُفيد أوّلاً من مفهوم التحديد ، بمعنى أنّ تحديده عليه‌السلام لعدم الالتفات إلى الشكّ في السجود بالدخول في القيام مع كون النهوض سابقاً عليه يعطي أنّ الشكّ في السجود عند النهوض إلى القيام لابدّ من الاعتناء به ، وذلك كلّه إنّما هو باقتضاء التحديد الدالّ على أنّ أقرب حالة يكون

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٣٤.

(٢) وسائل الشيعة ٦ : ٣١٧ ـ ٣١٨ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٤.

٣٣٨

الشكّ المذكور ملغى فيها هي حال الدخول في القيام.

فالأولى في الجواب عن هذه الطريقة أوّلاً : بأنّ مفهوم التحديد في رواية إسماعيل بن جابر إنّما يدلّ على إخراج صورة الشكّ في السجود عند النهوض إلى القيام وصورة الشكّ في الركوع في حال الهوي إلى السجود ، وحينئذ تبقى صورة الشكّ في القراءة في حال الهوي إلى الركوع وصورة الشكّ في التشهّد في حال النهوض داخلين تحت عموم « الغير ».

وثانياً : بما أفاده قدس‌سره في باب حجّية خبر الواحد في الايراد على جواب الشيخ (١) عن الإشكال على آية النبأ بمعارضة مفهوم الشرط فيها لعموم التعليل المستفاد من قوله تعالى : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً ) الخ (٢) ، فإنّ الشيخ قدس‌سره أجاب عن هذا الإشكال بأنّ المفهوم أخصّ من العموم المذكور ، وقد أورد شيخنا قدس‌سره على هذا الجواب بأنّ المفهوم الخاصّ إنّما يقدّم على العام فيما لو كانا منفصلين ، أمّا مع الاتّصال فلا يقدم المفهوم الخاصّ ، بل يقدّم عموم العام ، ويكون موجباً لسقوط المفهوم ، فراجع ذلك المبحث فيما حرّرناه في ص ٩٨ (٣) ، وفيما حرّره في هذه التقريرات ص ٦٠ (٤) وفيما حرّره في التقريرات المطبوعة في صيدا ص ١٠٥ (٥) وراجع ما علّقناه على مبحث تخصيص العام بمفهوم المخالفة (٦) ، فإنّا شرحنا

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٢٥٩.

(٢) الحجرات ٤٩ : ٦.

(٣) مخطوط لم يطبع بعد.

(٤) فوائد الأُصول ٣ : ١٧٠ وما بعدها.

(٥) أجود التقريرات ٣ : ١٨٣.

(٦) راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

٣٣٩

هناك أنّ بين المفهوم والعموم عموماً من وجه ، وأنّ المتعيّن هو تقدّم المفهوم ، إذ لو تقدّم العام لزم كون الشرط مردّداً بين الأقل والأكثر ، إلاّ أن يكون ذكر الدخول بالقيام لكونه الغالب.

وأمّا ما أُفيد من الجواب هنا بقوله : ولمّا كان الالتزام بالتخصيص في غاية الوهن والسقوط ، بداهة أنّ قوله عليه‌السلام في الرواية « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه » إنّما سيق لبيان الكبرى الكلّية ، فلابدّ وأن يكون قوله عليه‌السلام « شكّ في السجود بعد ما قام » من صغريات تلك الكبرى ، ولا يمكن إخراجه عنها الخ (١).

ففيه ما لا يخفى ، لأنّ من يدّعي التخصيص المزبور لم يدّع خروج الشكّ في السجود بعد القيام عن عموم « الغير » ، ليتوجّه عليه أنّ صغرى المورد لا يمكن إخراجه عن الكبرى ، وإنّما يدّعي خروج مفهوم التحديد في هذه الصغرى عن الكبرى المذكورة ، وذلك المفهوم هو الشكّ في السجود عند النهوض إلى القيام ، ومن الواضح أنّ هذا المورد لم يكن في كلام الإمام عليه‌السلام ما يدلّ على أنّه عليه‌السلام أخذه مورداً لتلك الكبرى ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وحينئذ لابدّ من الاقتصار على مورد التنزيل ، والمقدار الذي قام الدليل فيه على التنزيل هو الأجزاء المستقلّة بالتبويب الخ. وقوله : وبعد ما كان الظاهر من صدر الروايتين هو الأجزاء المستقلّة كالتكبيرة والقراءة والركوع والسجود ، فلا سبيل إلى دعوى عموم « الشيء » المذكور في الذيل للمقدّمات وأجزاء الأجزاء ، فإنّ الصدر يقتضي تضييق دائرة مصب عموم « الشيء » وإطلاق « الغير » المذكور في الذيل ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ هذا العموم الذي اشتمل عليه ذيل الروايتين لو كان هو عبارة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٣٤.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٣٥.

٣٤٠