أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

لذلك المقرّ له ، كي يكون حال هذا المال حال ما لا يد لأحد عليه ، لما عرفت من وجود اليد بالوجدان بالقياس إلى ذلك الأجنبي ، غايته أنّ هذا الثالث الذي بيده المال قد صرف الدعوى عن نفسه باقراره لأحدهما ، ولم يكن إقراره مؤثّراً إلاّفي صرف توجّه الدعوى عن نفسه ، وهو بجعل يده يد أمانة أو غصب عن المالك قد وجّه الدعوى وحوّلها عن نفسه إلى المالك مع بقاء اليد بحالها ، غايته أنّها اتّسعت إلى المالك المقرّ له.

وربما يقال : إنّ المقرّ له إذا استلمها من المقرّ كان صاحب يد بالوجدان ولا يحتاج كونه صاحب يد إلى هذا التكلّف ، ففيما صدّقه المقرّ له يكون بمنزلة تأمين جديد ولو لم يقبض المقرّ له.

لكن هذه الطريقة تحتاج إلى توسعة للشمول لمثل هذه اليد ، نظير ما لو كان المال مطروحاً في الطريق فسبق إليه أحد الناس وأخذه وادّعى أنّه له ، وهناك شخص آخر ادّعى أنّه له فوراً مقارناً لأخذ ذاك أو متأخّراً عنه في الجملة ، وحاصل ذلك أنّ اليد التي هي أمارة على الملكية هي التي لم يعلم حالها وكيف كان مبدؤها ، أمّا إذا علم مبدؤها وأنّه لم يكن في البين سوى التناول الخارجي ففي كونه مشمولاً لعمومات اليد تأمّل وإشكال.

واعلم أنّ مرجع هذا الذي ذكرناه لتوجيه ما عليه المعروف من كون المقرّ له صاحب يد إلى اتّساع اليد ، وحاصله بقاء اليد على ما هي عليه من كونها أمارة على نفي الغير ، غايته أنّها باقرار صاحبها اتّسعت إلى المقرّ له. ولا يخلو من تأمّل.

والذي يظهر من الأُستاذ العراقي في قضائه ـ وذلك قوله : ولو كان في يد ثالث فهي لمن صدّقه ، وللآخر إحلافه من جهة اقتضاء مجموع الاقرار النافي عن نفسه واليد النافي لغير المقرّ له كونه له ، فيكون المقرّ له بمنزلة ذي اليد يقدّم قوله

٢٢١

بيمينه (١) ، وبنحو ذلك صرّح في اقراره لهما وأنّ مقتضاه التنصيف ، فإنّه قال : وذلك أيضاً من جهة إلغاء اليد بالاقرار في النفي عن المقرّ له وفي الاثبات لنفسه مع بقائها على الأمارية على النفي بالنسبة إلى غيره الخ (٢) ـ يمكن توضيحه بأن يقال إنّ أمارية اليد لها جهة إثبات وهي مالكية صاحبها وجهة نفي وهي نفي مالكية الغير ، والإقرار إنّما يسقط الجهة الأُولى منها وهي مالكية صاحبها.

أمّا الجهة الثانية وهي نفي مالكية الغير فهي باقية بحالها ، بمعنى بقاء اليد على الأمارية في نفي ذلك الغير ، وحيث إنّه قامت الحجّة على نفيه كان هو المطالب بالبيّنة ، وأمّا المقرّ له فلم تكن حجّة على نفيه كي يطالب بضدّ تلك الحجّة أعني البيّنة ، وإنّما عليه تأييده ذلك النفي باليمين.

ولكن يمكن التأمّل فيه ، بأن نفي الغير بمعنى احتياجه إلى الاثبات لا كلام فيه حتّى لو لم يكن يد لأحد ، وإنّما الكلام في نفيه المولد من إثبات الطرف ، وهذا أعني إثبات الطرف بحيث يكون لنا في المقام ما يثبت مالكيته فهو أوّل الكلام ، ولا يمكننا ذلك إلاّبدعوى اتّساع اليد إليه.

أمّا ما في رسالة اليد للعلاّمة الأصفهاني قدس‌سره من توجيه ذلك أوّلاً : بأنّ الدعوى إذا تقوّى جانبها بحجّة كان المتقوّي بها منكراً ، والمفروض أنّ إخبار ذي اليد حجّة. وثانياً : أنّ الدعوى على الوكيل والأمين دعوى على المالك ، وإذا أخبر ذو اليد بأنّ يده يد أمانة ، فحيث إنّ إخباره حجّة كانت يده يد المالك شرعاً الخ (٣).

__________________

(١) كتاب القضاء : ١٢٠.

(٢) كتاب القضاء : ١٢١.

(٣) رسالة في قاعدة اليد ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : ٣٥٠ ( نُقل بتلخيص ).

٢٢٢

ففيه : أنّ كلا الوجهين مبنيان على حجّية قول ذي اليد فيما أخبر به ، وهو أوّل الكلام فلاحظ. ولو ثبت أنّ قوله حجّة كان كافياً في كون المقرّ له منكراً وإن لم يكن صاحب يد ، ولم نحتج إلى التقوّي ولا إلى إلحاق المسألة بأنّ يد الوكيل يد المالك.

ولكن لا يبعد أن يكون بناء العقلاء على حجّية قول ذي اليد ولو في تعيين مالك ما تحت يده ونحو ذلك ، حتّى لو تنازع البائع والمشتري في كون المبيع نجساً أو كونه معيباً أو كونه ناقص الوزن ، وكان المبيع تحت يد رجل آخر وهو وكيل البائع أو أمينه ، فاعترف ذلك الرجل بأنّه نجس أو معيب أو ناقص الوزن ونحو ذلك ، فلا يبعد أن يكون إخباره حجّة على البائع ، ويكون القول قول المشتري لكونه مطابقاً للحجّة الموجودة في البين وهي إخبار ذي اليد حتّى لو كان ذو اليد غاصباً ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا ما ذكره الآشتياني قدس‌سره في قضائه ، وذلك قوله : لصيرورته مدّعى عليه بعد الاقرار له من ذي اليد عرفاً ، مضافاً إلى قوله : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (١) ، فإنّه باقراره يجعله للمقرّ له ، فاقراره أمارة على كون المقرّ به ملكاً للمقرّ له ، هذا. وقد ذكر الأُستاذ العلاّمة : أنا في سابق الزمان كنت بانياً على جعل العلّة في صيرورته مدّعى عليه هو الوجه الأوّل ، وكنت متأمّلاً في الاستدلال بالوجه الثاني. وكيف كان ، لا إشكال في كونه مدّعى عليه من أي طريق كان (٢).

قلت : لعلّ الوجه في الوجه الأوّل الراجع إلى دعوى كونه بنظر العرف

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٣ : ١٨٤ / أبواب الإقرار ب ٣ ح ٢ ، مستدرك الوسائل ١٣ : ٣٦٩ ـ ٣٧٠ / أبواب بيع الحيوان ب ٣ ح ٣.

(٢) كتاب القضاء ( للآشتياني ) ٢ : ٨٩٤ ـ ٨٩٥.

٢٢٣

مدّعى عليه هو ما عرفت من اتّساع اليد ، وأمّا الوجه الثاني فلعلّه مبني على قاعدة من ملك ، وإلاّ فإنّ مجرّد جواز الاقرار على نفس المقرّ لا يوجب إثبات المقرّ به على وجه يكون حجة للمقرّ له على طرفه ، فلاحظ.

وربما يتوهّم توجيه الاستدلال بهذا الحديث على ما نحن فيه ، بل على مفاد قاعدة من ملك ، وذلك بأن يقال : إنّ الظرف متعلّق بقوله : « إقرار العقلاء » ، وحينئذ يبقى قوله : جائز أو نافذ على إطلاقه.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ هذا الظرف لو علّقناه بالاقرار لا يبقى قوله : نافذ أو جائز مطلقاً ، ليكون مفاده أنّ من أقرّ بشيء على نفسه يكون إقراره نافذاً على كلّ أحد ، إذ لا يمكن الأخذ بذلك الاطلاق ، لأنّه ممّا يكاد يحصل [ القطع ] بعدمه لمن مارس الأحكام الشرعية ، لا من جهة أنّ مفاد « على » هو الضرر ، فإنّ ذلك بمجرّده لا يمنع من الأخذ باطلاق قوله : نافذ ، إذ يجوز أن يقال : إنّ الاقرار الذي هو على النفس المضرّ بها يكون نافذاً على نفس المقرّ وعلى غيره ، وليس في البين ما يمنع سوى الذوق الفقهي الذي حاصله هو أنّ من مارس الأحكام الشرعية يحصل له القطع بعدم صدور مثل هذا الحكم من الشارع المقدّس ، ولعلّ هذا هو المراد للمرحوم العلاّمة الأصفهاني في قوله في رسالته : بل الحرف هنا للضرر سواء تعلّق بالاقرار أو بجائز ، ومن الواضح اتّحاد المفاد في الصورتين ، فإنّ الاقرار على النفس لا ينفذ إلاّفيما كان ضرراً على المقرّ دون غيره (١).

فإنّه مع قطع النظر عن هذا الحكم الذوقي لا داعي إلى الالتزام بأنّ الاقرار على النفس لا ينفذ إلاّفيما كان ضرراً على المقرّ دون غيره ، فإنّه لو أسقطنا قرينة الذوق المذكور لكان من الممكن صناعةً أن يقال : إنّ الاقرار على النفس الذي

__________________

(١) رسالة في قاعدة اليد ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : ٣٥١.

٢٢٤

يكون مضرّاً بها يكون نافذاً عليها وعلى غيرها ، ولا دافع له إلاّما عرفت من استهجان الذوق مثل هذا الحكم الشرعي القائل إنّ الاقرار على النفس يكون نافذاً وحجّة على الغير ، على وجه يكون الاقرار فيما نحن فيه بأنّ العين التي تحت يد المقرّ ليست له وأنّها ملك زيد نافذ أو حجّة على عمرو لا من جهة أنّه إخبار من ذي اليد بالنسبة إلى ما تحت يده ، بل من جهة أنّه إقرار على نفس المقرّ وأنّ إقراره وإضراره بنفسه يكون حجّة على غيره ، فلاحظ وتأمّل.

نعم ، يمكن أن يدّعى سيرة المسلمين بل سيرة العقلاء على العمل بقول ذي اليد في ذلك ، ومنه الاعتماد عليه في الوزن والكيل والصحّة والعيب ، فلا إشكال في أنّ قول ذي اليد حجّة فيما يخبر به عن طهارة ونجاسة ، ومنه وجوب الإعلام بنجاسة الدهن. ودعوى كون ذلك لأجل إخراج البائع عن التسبيب كما في الرسالة (١) قابلة للمنع ، فإنّه لو سكت لا يكون سبباً لشرب النجس إلاّفيما لو كان الاستناد في طهارته إلى يده كما في موارد أصالة عدم التذكية ، دون ما لو كان المستند هو قاعدة الطهارة ، فلاحظ.

__________________

(١) [ لم نعثر عليه ].

٢٢٥

[ قضيّة فدك ]

قوله : ربما يتوهّم المنافاة بين ما ذكرنا من انقلاب الدعوى في صورة إقرار ذي اليد بأنّ المال كان للمدّعي ، وبين ما ورد في محاجة أمير المؤمنين عليه‌السلام مع أبي بكر في قصّة فدك ... الخ (١).

لا يخفى أنّها عليها‌السلام طالبت بفدك بطريقين : النحلة والإرث ، ولا يبعد أن يكون الظاهر من جملة من العامّة هو تقدّم دعوى الارث ، كما رواه ابن أبي الحديد عن أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتابه في السقيفة وفدك ، قال : قال أبو بكر : وحدّثني محمّد بن زكريا ، قال : حدّثني ابن عائشة ، قال : حدّثني أبي عن عمّه ، قال : لمّا كلّمت فاطمة عليها‌السلام أبا بكر بكى ثمّ قال : يا ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والله ما ورّث أبوك ديناراً ولا درهماً ، وأنّه قال : إنّ الأنبياء لا يورّثون ، فقالت : إنّ فدك وهبها لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : فمن يشهد بذلك؟ فجاء علي بن أبي طالب عليه‌السلام فشهد وجاءت أُمّ أيمن فشهدت أيضاً الخ (٢) ، ثمّ نقل عن قاضي القضاة قوله في المغني وهو أنّه قد أنكر أبو علي ما قائله السائل من أنّها لمّا رُدّت في دعوى النحلة ادّعته إرثاً ، وقال : بل كان طلب الارث قبل ذلك ، فلمّا سمعت منه الخبر كفت وادّعت النحلة (٣) انتهى ما نقله ابن أبي الحديد عن قاضي القضاة.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦١٣ ـ ٦١٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢١٠ ـ ٢١٦.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٦٨ فما بعدها.

٢٢٦

ولكن السيّد المرتضى في الشافي والشيخ الطوسي في مختصره (١) والقاضي نور الله في إحقاق الحقّ (٢) صرّحوا بأنّ دعوى النحلة مقدّمة على دعوى الارث ، وهذه عبارة السيّد المرتضى على ما نقله ابن أبي الحديد في المجلّد الرابع : قال السيّد : فأمّا إنكار أبي علي لأن يكون ادّعاء النحل قبل ادّعاء الميراث وعكسه الأمر فيه ، فأوّل ما فيه : أنّا لا نعرف له غرضاً صحيحاً في إنكار ذلك ، لأنّ كون أحد الأمرين قبل الآخر لا يصحّح له مذهباً ، ولا يفسد على مخالفيه مذهباً. ثمّ إنّ الأمر في أنّ الكلام في النحل كان المتقدّم ظاهر ، والروايات كلّها به واردة ، وكيف يجوز أن تبتدئ بطلب الميراث فيما تدّعيه بعينه نحلاً ، أو ليس هذا يوجب أن تكون قد طالبت بحقّها من وجه لا تستحقّه منه مع الاختيار ، وكيف يجوز ذلك والميراث يشركها فيه غيرها والنحل تنفرد به ، ولا ينقلب مثل ذلك علينا من حيث طالبت بالميراث بعد النحل ، لأنّها في الابتداء طالبت بالنحل وهو الوجه الذي تستحقّ فدك منه ، فلمّا دُفعت عنه طالبت ضرورة بالميراث ، لأنّ للمدفوع عن حقّه أن يتوصّل إلى تناوله بكلّ وجه وسبب ، وهذا بخلاف قول أبي علي لأنّه أضاف إليها ادّعاء الحقّ من وجه لا تستحقّه منه وهي مختارة ، انتهى كلام السيّد قدس‌سره (٣).

وقد تعرّض ابن أبي الحديد للتعليق عليه ، وتوقّف هو في كون المقدّم أيّهما ، لتعارض الروايات عنده ، ولكنّه مع ذلك استحسن ما ذكره السيّد قدس‌سره من كون الحال تقتضي تقديم دعوى النحلة.

__________________

(١) تلخيص الشافي ٣ : ١٢٧.

(٢) إحقاق الحقّ ( الأصل ) : ٢٢٥.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٧٧ ، الشافي في الإمامة ٤ : ١٠١.

٢٢٧

ولا يخفى أنّ هناك مبعّداً آخر لتقدّم دعوى الارث ، وهو أنّ تقدّمه لا يخلو من منافاة لدعواها النحلة بعد ذلك ، إذ لا تخلو مطالبة الارث من ظهور في عدم النحلة.

وقال القاضي نور الله قدس‌سره في إحقاق الحقّ في أبواب المطاعن على أبي بكر : والظاهر أنّها عليها‌السلام ادّعت النحلة أوّلاً ثمّ لمّا رأت أنّهم عكسوا قضية الشرع في شأنها وطلبوا منها البيّنة على أنّ ما في يدها منحولة إيّاها ، قالت لهم إن لم تقبلوا النحلة فالارث ثابت ، فدفعوا ذلك بما اخترعوه من قولهم : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث الخ (١).

وقال في مقام آخر بعد هذا المقام بعد نقل ما صدر عن أبي بكر من طرده وكيلها عليها‌السلام وأخذه فدكاً والعوالي : فنازعته فاطمة عليها‌السلام في ذلك وقالت له إنّهما ممّا أنحليهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لي ، وإن أبيت فهو ميراث لي ، فلهذا ترى في بعض الروايات سؤال النحلة وفي بعضها سؤال الميراث. ثمّ نقل عن ملل الشهرستاني قوله الخلاف السادس في أمر فدك والتوارث من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودعوى فاطمة وارثة تارة وتمليكاً أُخرى حتّى دفعت عن ذلك بالرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة (٢).

ولا يبعد أن يكون الواقع هو ما ذكره السيّد قدس‌سره من تقدّم دعوى النحلة ، ولكن لا يخفى أنّه قبل سدّ باب الارث عنها عليها‌السلام بذلك الخبر المزعوم لا يكون طرفها في دعوى النحلة أبا بكر ، بل يكون طرفها في هذه الدعوى هو العبّاس ، بناءً على ما يقولونه من إرث العصبة أو الأزواج. ولو كان الطرف هو باقي الورثة

__________________

(١) إحقاق الحقّ ( الأصل ) : ٢٢٥.

(٢) إحقاق الحقّ ( الأصل ) : ٢٢٩.

٢٢٨

لتوجّه إشكال انقلاب الدعوى ، وإنّما يمكن الجواب عنه بما أفاده شيخنا قدس‌سره إذا كان الطرف لها في هذه الدعوى هو أبا بكر ، لكن لو كانت دعوى النحلة هي المتقدّمة لم يتوجّه إشكال الانقلاب أصلاً ، لأنّ توهّم الانقلاب والاحتياج للجواب عنه بعد اختلاق تلك الرواية ، وذلك الاختلاق إنّما كان بعد دعواها الارث المفروض تأخّرها عن دعوى النحلة.

والحاصل : أنّها عليها‌السلام قبل سدّ باب الارث عنها لا تكون بدعواها النحلة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله معترفة بشيء لأبي بكر كي تكون بتلك الدعوى داخلة في باب انقلاب الدعوى في صاحب اليد باقراره بملكية طرفه سابقاً أو بملكية مورّثه ، بل قد عرفت أنّ أبا بكر قبل سدّه باب الارث عنها يكون أجنبياً عن دعوى النحلة ، بل لا وجه لوضع يده على فدك قبل أن يختلق تلك الرواية ، بل تكون مطالبته لها عليها‌السلام بالبيّنة حينئذ أسوأ حالاً من مطالبة ذي اليد ، لكونه قبل سدّه باب الارث عنها أجنبياً عن متروكات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمرّة ، إلاّ أن يكون ذلك منه بدعوى أنّها ليست من أمواله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّها من أموال المسلمين ، نظير الفيء ونحوه كما في بعض ما نقله ابن أبي الحديد في المجلّد الرابع (١).

ولا يخفى أنّه لو كان بناؤه على أنّ فدك ليست له صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّها فيء للمسلمين لكان عليه أن يردّ فاطمة عليها‌السلام بذلك كما تضمّنته هذه الرواية من عدم كون فدك ملكاً له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا أن يطالبها بالبيّنة ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّها وإن كانت فيئاً للمسلمين إلاّ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يصحّ له أن يهبها لها عليها‌السلام ، فلأجل ذلك طالبها عليها‌السلام بالبيّنة ، فراجع ما تكلّم به ابن أبي الحديد في هذا المقام ، أعني أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يجوز له هبة الفيء أو لا (٢)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢١٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٢٥.

٢٢٩

ثمّ إنّه لو كان بناء أبي بكر هو كونها فيئاً لكان له أن يقول في ردّ دعوى الارث : إنّها لم تكن له صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّها فيء المسلمين ، ولم يكن في حاجة إلى اختراع ذلك الخبر ، ولكن رواية الاحتجاج ... (١).

والحاصل : أنّ تأخّر دعوى الارث لا يلائم توجيهها عليها‌السلام دعوى النحلة إلى أبي بكر ، ولا يكون قولها عليها‌السلام : « نحلنيها أبي » قبل أن يسدّ باب الارث عنها بذلك الخبر المزعوم إلاّكقولك لمن غصب منك دار أبيك : إنّ أبي نحلنيها ، فإنّ ذلك لا محصّل له ، بل كان عليك أن تقول : لِمَ ذا غصبت داري أو دار أبي ، كما أنّه لا يلائم ما في مرسلة الاحتجاج (٢) ونحوها من أنّ البيّنة كانت على المسلمين لا عليها ، لأنّ طلبه البيّنة في هذه الصورة ـ أعني قبل أن يتبيّن أنّ ما تركه صلى‌الله‌عليه‌وآله هو للمسلمين ـ أسوأ حالاً من طلب البيّنة من صاحب اليد ، وإنّما ذلك كلّه يلائم تقدّم دعوى الارث ليكون المسلمون طرفاً لها عليها‌السلام في دعوى النحلة بعد سدّ باب الارث عنها بتلك الرواية المختلقة.

ولا يضرّ في تقدّم دعوى الارث ما أفاده السيّد قدس‌سره ، لأنّ الفرض انحصار الارث بها دون العبّاس ، ولعلّ دعوى الارث كانت أوسع من فدك ، أو لعلّها رأت الاستراحة فعلاً من أبي بكر لأنّه استولى على جميع ما كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأرادت أن ترفع غصبه بدعوى الارث ثمّ هي بعد ذلك تتراجع مع الأزواج في ميراثهنّ ، أو لعلّها رأت أنّ دعوى الارث أسهل لكونها بطبيعة الحال لكون أبي بكر أجنبياً عن تركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا سدّ باب الارث عنها التجأت إلى دعوى النحلة.

ويمكن أن يكون ذلك في مجلس واحد ، فإنّها هي صاحبة اليد وهي

__________________

(١) [ كذا في الأصل ].

(٢) الاحتجاج ١ : ٢٣٧.

٢٣٠

المنحولة وهي وارثة أيضاً ، وكان محصّل دعواها عليها‌السلام التمسّك بهذه الأُمور أجمع ، وبعد أن سدّ عنها باب الارث بقي من مستمسكاتها عليها‌السلام النحلة فطالبها بالبيّنة.

ثمّ إنّ الذي يظهر من قاضي القضاة كما حكاه السيّد عنه أنّه ينكر كونها صاحبة يد ، ويوجّه طلب أبي بكر البيّنة منها بذلك ، لا بأنّها بعد إقرارها بالنحلة تنقلب مدّعية ، وقد ردّه السيّد قدس‌سره بما لا مزيد عليه ، فراجع الشافي (١) أو راجع ما نقله ابن أبي الحديد.

ثمّ لا يخفى أنّ قاضي القضاة على ما حكاه عنه في شرح ابن أبي الحديد روى عن أبي سعيد الخدري أنّه لمّا أُنزلت ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ )(٢) أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة عليها‌السلام فدكاً. ثمّ إنّه أنكر كون فدك في يد فاطمة عليها‌السلام ، ثمّ أنكر شهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام لفاطمة عليها‌السلام واستشهد على ذلك بأنّه عليه‌السلام لمّا ولي الخلافة ترك فدك بحالها ، وقال : وهذا يبيّن أنّ الشاهد كان غيره ، لأنّه لو كان هو الشاهد لكان الأقرب أن يحكم بعلمه ، على أنّ الناس اختلفوا في الهبة إذا لم تقبض ، فعند بعضهم تستحقّ بالعقد ، وعند بعضهم أنّها إذا لم تقبض يصير وجودها كعدمها ، فلا يمتنع من هذا الوجه أن يمتنع أمير المؤمنين عليه‌السلام من ردّها ، وإن صحّ عنده عقد الهبة ، وهذا هو الظاهر ، لأنّ التسليم لو كان وقع لظهر أنّه كان في يدها ، ولكان ذلك كافياً في الاستحقاق الخ (٣).

وقال السيّد قدس‌سره في ردّه : فأمّا إنكار صاحب الكتاب لكون فدك في يدها عليها‌السلام ، فما رأيناه اعتمد في إنكار ذلك على حجّة ، بل قال : لو كان ذلك في

__________________

(١) الشافي في الإمامة ٤ : ٩٨.

(٢) الإسراء ١٧ : ٢٦.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٦٨ ـ ٢٧٠.

٢٣١

يدها لكان الظاهر أنّه لها ، والأمر على ما قال ، فمن أين أنّها لم تخرج عن يدها على وجه يقتضي الظاهر خلافه. وقد روي من طرق مختلفة غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب أنّه لمّا نزل قوله تعالى : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة عليها‌السلام فأعطاها فدك ، وإذا كان ذلك مروياً فلا معنى لدفعه بغير حجّة (١).

وقال ابن أبي الحديد : فلو كانت في يدها تتصرّف فيها وفي ارتفاقها كما يتصرّف الناس في ضياعهم وأملاكهم ، لما احتاجت إلى الاحتجاج بآية الميراث ولا بدعوى النحل ، لأنّ اليد حجّة ، فهلاّ قالت لأبي بكر هذه الأرض في يدي ولا يجوز انتزاعها منّي إلاّبحجّة ، وحينئذ كان يسقط احتجاج أبي بكر بقوله : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ، لأنّها ما تكون قد ادّعتها ميراثاً ليحتجّ عليها بالخبر ، وخبر أبي سعيد في قوله : « فأعطاها فدك » يدلّ على الهبة لا على القبض والتصرّف ، ولأنّه يقال : أعطاني فلان كذا فلم أقبضه ، ولو كان الاعطاء هو القبض والتصرّف لكان هذا الكلام متناقضاً الخ (٢).

أقول : لا يخفى ظهور قولك « أعطاني » في القبض ، وإن لم يكن قولك « وهبني » ظاهراً في ذلك. وعدم التناقض في قولك « أعطاني فلم أقبض » إنّما هو من جهة الجمع بين القرينة وذيها ، نظير قولك : رأيت أسداً يرمي.

ثمّ إنّه لو لم يكن القبض مسلّماً عند أبي بكر وكانت الهبة مشروطة بالقبض ـ كما هو الظاهر عند كثير من العامّة وعند جميع الخاصّة ، فراجع ما نقله العلاّمة

__________________

(١) الشافي في الإمامة ٤ : ٩٨.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٨٥.

٢٣٢

في إحقاق الحقّ في باب الهبات (١) ـ لكان الأولى له بعد قيام البيّنة على أصل الهبة والنحلة أن يطالب بالبيّنة على القبض ، لا أن يجيب عن البيّنة المذكورة بمثل تلك الترهات مثل : يجرّ النار إلى قرصه.

ولو أُجيب عن ذلك بأنّ البيّنة شهدت بالقبض أيضاً ، كان ذلك حجّة على قاضي القضاة وأصحابه ، لأنّ شهادة علي عليه‌السلام بالقبض وكذا شهادة أُمّ أيمن بل وكذا بعض موالي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما يزعمه قاضي القضاة لا تقصر عندهم عن رواية مثل أبي هريرة وأضرابه ، فلماذا أنكر القاضي القبض واليد مع وجود تلك الشهادة منهم التي لا تقصر عن أن تكون عنده رواية من الروايات وإن كانت قاصرة عند أبي بكر.

ثمّ لا يخفى أنّ العلاّمة قدس‌سره قال في متن إحقاق الحقّ ما نصّه : وروى الواقدي وغيره من نقلة الأخبار عندهم وذكروه في الأخبار الصحيحة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا افتتح خيبر اصطفى قرى من قرى اليهود ، فنزل جبرئيل بهذه الآية ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) فقال : ومن ذوي القربى وما حقّه؟ قال : فاطمة ، فدفع إليها فدك والعوالي ، فاستغلّتها حتّى توفّي أبوها ( عليه الصلاة والسلام ) ، فلمّا بويع أبو بكر منعها وكلّمته في ردّها عليها وقالت : إنّهما لي ـ إلى أن قال ـ وأراد أن يكتب لها كتاباً فاستوقفه عمر بن الخطّاب وقال : إنّها امرأة فطالبها بالبيّنة على ما ادّعت ، فأمرها أبو بكر فجاءت بأُمّ أيمن وأسماء بنت عميس مع علي عليه‌السلام فشهدوا بذلك الخ (٢).

ولا يخفى أنّ هذه الرواية تشهد بالقبض واليد إلى وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن ما

__________________

(١) إحقاق الحقّ ( الأصل ) : ٤٤٦ وما بعدها.

(٢) إحقاق الحقّ ( الأصل ) : ٢٩٧.

٢٣٣

أدري أين كان هؤلاء الرواة عندما طولبت الصدّيقة بالبيّنة ، إن هي إلاّ السلطة الغاشمة التي تأخذ بأفواه الناس عن النطق بالحقّ وأداء الشهادة ، فأين كان أبو سعيد الخدري وغيره عن أداء الشهادة. نعم إنّه وغيره كتموا ما هو أعظم من ذلك ، ألا وهو بيعة الغدير ، بل كتموا ذلك حتّى في خلافة أمير المؤمنين وادّعى أبو سعيد هذا النسيان ، فرمي بما دعا به عليه أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وأمّا قول ابن أبي الحديد : فهلاّ قالت عليها‌السلام لأبي بكر : هذه الأرض في يدي ولا يجوز انتزاعها منّي إلاّبحجّة الخ (١) ، فقد قال ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام كما في رواية الاحتجاج وغيرها ممّا رواه في الوسائل في كتاب القضاء في باب وجوب الحكم بملكية صاحب اليد (٢) ، ولكن من يسمع ذلك والسلطة غاشمة.

قال ابن الأثير في الجزء الثاني : وكان نصف فدك خالصاً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، يصرف ما يأتيه منها على أبناء السبيل ـ إلى أن قال ـ ولم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي عليه‌السلام يصنعون صنيع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد وفاته ـ إلى أن قال ـ فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة خطب الناس وأعلمهم أمر فدك ، وأنّه قد ردّها إلى ما كانت عليه مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، فوليها أولاد فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ أخذت منهم ، فلمّا كانت سنة عشر ومائتين ردّها المأمون إليهم (٣).

فانظر إلى هذا التناقض واعجب ، فإنّه يقول : إنّها خالصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٨٥.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٩٣ / أبواب كيفية الحكم ب ٢٥ ح ٣ ، الاحتجاج ١ : ٢٣٧.

(٣) الكامل في التاريخ ١ : ٦٠٠.

٢٣٤

يقول إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله والخلفاء بعده يصرفونها في أبناء السبيل ، فأين النزاع من فاطمة عليها‌السلام فيها!! ثمّ يقول إنّ عمر بن عبد العزيز ردّها إلى ما كانت عليه أيّامه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأيّام الخلفاء بعده ويقول فوليها أولادها عليها‌السلام ، فإن كانت في أيّامه صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبناء السبيل فما معنى قوله : أرجعها إلى ولد فاطمة عليها‌السلام!!

ثمّ لا يخفى أنّ الظاهر من قاضي القضاة وابن أبي الحديد أنّهما يهوّنان الخطب في فدك بإنكار القبض ، لكنّا نقول : إنّهما لو سلّما النحلة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنكرا القبض وأبطلا هبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقع منه التسليم لما وهبه ، فهلاّ كانت هذه القضية نظير القضايا التي ادّعاها أربابها على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعدهم بها فأنجزوا عدته صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك مثل قضية كرامة بنت عبد المسيح التي ادّعى شويل أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعده بأن تكون له إذا فتحت الحيرة ، فلمّا فتحت بعده في السنة الثانية عشر من الهجرة في أيّام عمر وادّعى هذه الدعوى وشهد له بذلك سُلّمت له كرامة المذكورة مع كونها فيئاً أو مع اشتراط لتسليمها لشويل عند كتابة الصلح كما تضمّنه تاريخ الطبري في الجزء الرابع (١). وببالي أنّ مثل ذلك وقائع أُخر لا تحضرني مواقعها فعلاً ، نعم لهم أن يقولوا : إنّ مثل تلك الوقائع كانت بعد كثرة الأموال على المسلمين مع فرض عدم أهميّة موردها ، بخلاف فدك ، لكن ذلك لا يغيّر الحكم الشرعي في مقام الترافع واستماع الشهود. نعم إنّ تحت قضية فدك مانعاً قوياً للجماعة من السماح بها ، وذلك هو تقوّي أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي كان عمدة اهتمام القوم في إضعاف جانبه.

تنبيه : قال السيّد سلّمه الله فيما حكاه عن شيخنا قدس‌سره : والعجب من العلاّمة الأنصاري قدس‌سره في المقام كيف غفل عن ذلك واحتمل كون الرواية الشريفة دليلاً

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ : ٥٦٨ ـ ٥٦٩.

٢٣٥

على عدم سقوط اليد عن الاعتبار حتّى مع الاعتراف بملكية المورّث الخ (١).

قال الشيخ قدس‌سره : ولذا لو لم يكن في مقابله مدّع لم تقدح هذه الدعوى منه في الحكم بملكيته ، أو كان في مقابله مدّع لكن أسند الملك السابق إلى غيره ، كما لو قال في جواب زيد المدّعي : اشتريته من عمرو. بل يظهر ممّا ورد في محاجّة علي عليه‌السلام مع أبي بكر في أمر فدك المروية في الاحتجاج أنّه لم يقدح في تشبّث فاطمة عليها‌السلام باليد دعواها تلقّي الملك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أنّه قد يقال : إنّها حينئذ صارت مدّعية لا تنفعها اليد (٢) ، ولعلّ قول الشيخ قدس‌سره : بل يظهر الخ ، بيان لمطلب آخر وهو أنّ الاقرار للمورّث لا يكون إقراراً للوارث وأنّه داخل في الاقرار لغير المدّعي ، أو أنّ مراده أنّه من قبيل الاقرار للأجنبي عن المدّعي ومورثه ، والمناسب حينئذ أن يقول : كما يدلّ قوله بل ، لكن لمّا كانت انتقالاً من مجرّد الاحتمال إلى قيام الدليل عبّر بلفظ « بل » التي تفيد الترقّي.

قوله : وتوضيح ذلك هو أنّ الملكية عبارة عن الاضافة الخاصّة القائمة بين المالك والمملوك ، فللملكية طرفان طرف المالك وطرف المملوك ، وتبدّل الاضافة قد يكون من طرف المملوك كما في عقود المعاوضات ، فإنّ التبدّل في البيع إنّما يكون من طرف المملوك فقط ... الخ (٣).

أفاد قدس‌سره فيما حرّرته عنه بعد الفراغ من تحرير هذه الأنحاء الثلاثة ما محصّله : أنّ هذا التفصيل الذي ذكرناه ليس أمراً تخيلياً صرفاً ، بل هو أمر واقعي

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢٠٨.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٣٢٢.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٦١٥.

٢٣٦

يكون منشأ لآثار مهمّة ، فإنّ الحقوق المتعلّقة بالأعيان المملوكة بعضها يكون متعلّقاً بنفس العين ويكون تابعاً لنفس العين في أيّ ملك وجدت ، فلا يكون له ربط بالعلقة بينها وبين المالك ، وذلك كما في حقّ الجناية العمدية ، فإنّ لصاحب الحقّ أن يسترقّ ذلك العبد الجاني في أي ملك وجده ، فيكون هذا الحقّ تابعاً للجاني سواء انتقل إلى الغير بإرث أو هبة أو معاوضة أو بقي على ملك مالكه.

وحقّ الرهانة يكون متعلّقاً بالعين بما أنّها طرف لهذه الاضافة التي هي بينها وبين الراهن ، فلو خرجت عن كونها طرفاً للاضافة المذكورة إمّا بزوال تلك الاضافة بأن نقلت العين من ملكه بطريق الهبة ، وإمّا بتبدّل طرف الاضافة بأن صارت تلك العين طرفاً لاضافة أُخرى بينها وبين مالك آخر غير ذلك الراهن ، بأن زالت عن ملك الراهن بطريق المعاوضة ، ارتفع عنها ذلك الحقّ إن تمّ النقل بأحد الطريقين ، بأن أجازه المرتهن ، وإلاّ كان النقل المذكور باطلاً لكون الحقّ مانعاً منه.

وهكذا الحال في حقّ الخيار ونحوه ممّا يكون متعلّقاً بالعين بما أنّها طرف للاضافة بينها وبين مالك خاصّ ، فإنّه يرتفع إذا خرجت العين عن كونها طرفاً لهذه الاضافة وصارت طرفاً لإضافة أُخرى ، بأن تبدّلت نفس الاضافة كما في الهبة أو تبدّلت العين عن كونها طرفاً لها وصارت طرفاً لإضافة أُخرى بينها وبين مالك آخر كما في المعاوضة.

أمّا لو بقيت العين على ما هي عليه من كونها طرفاً لهذه الاضافة ولكن تبدّل الطرف الآخر ـ أعني المالك ـ كما في باب الارث ، كان الحقّ المذكور تابعاً للعين المذكورة لبقائها طرفاً لتلك الاضافة وبقاء نفس تلك الاضافة ، غير أنّ طرفها الآخر ـ أعني المالك ـ قد تبدّل ، فكأنّ تلك الاضافة باقية بحالها غير أنّ طرفها

٢٣٧

الآخر رفع عن المورّث وجعل الوارث مكانه مع بقاء الاضافة بحالها ، فالحقّ الذي يكون متعلّقاً بالعين بما أنّها طرف لتلك الاضافة يكون باقياً بحاله لبقاء تلك العين على ما هي عليه من كونها طرفاً لتلك الاضافة. ( قلت : ولذلك لا يقال خرجت العين من ملك المورّث وصارت في ملك الوارث ، بل يقال : إنّ الوارث قام مقام المورّث كما هو مفاد : ما كان للميت فهو لوارثه (١) ) ، وهذا بخلاف النقل في باب الهبة فإنّ تلك الاضافة انعدمت وحصلت مكانها إضافة أُخرى ، فقبل الهبة كانت العين طرفاً لاضافة ، وبعد الهبة انعدمت تلك الاضافة وحدثت إضافة أُخرى وصارت العين طرفاً لهذه الاضافة الجديدة. ( قلت : ولذلك يقال : خرجت العين من ملك الواهب وصارت في ملك المتّهب ). وهكذا الحال في النقل في باب المعاوضة ، فإنّ العين كانت طرفاً للاضافة بينها وبين مالك خاصّ فصارت طرفاً للاضافة بينها وبين مالك آخر ، وفي كلا المقامين لم تبق العين على ما هي عليه من كونها طرفاً لتلك الاضافة التي تعلّق الحقّ بها بما أنّها طرف لها ، فلا يلحقها الحقّ المذكور في الصورتين المذكورتين ، وإنّما يلحقها في تلك الصورة فقط ، وهي صورة الارث التي يكون المنتقل إليه العين وهو الوارث قائماً مقام من انتقلت عنه أعني المورّث ، بحيث تكون العين باقية طرفاً لتلك الاضافة ، والاضافة تكون باقية بحالها ، غير أنّ طرفها الآخر وهو المالك قد تبدّل وصار الوارث قائماً مقامه ، وهذا النحو من الانتقال مختصّ بباب الارث.

إذا عرفت ذلك فنقول : لو تمّ ما لفّقه أبو بكر من عدم مورّثية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ ما يتركه يكون للمسلمين بعده ، وأنّه هو وليّهم ، بحيث سلّمنا صحّة ما ادّعاه

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٦ : ٢٥١ / أبواب ولاء ضمان الجريرة ب ٣ ح ١٤ ( نقل بالمضمون ).

٢٣٨

من الخبر المانع من الارث الذي قلب مورد صدره الوارد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام أنّهم لا يدّخرون الأموال كي يورّثونها ، وجعله وارداً في مقام أنّهم لا يورّثون ما يتركون ، وأضاف له زيادة من عنده وجعلها مؤيّدة لما افتعله من قلب مورد الصدر ، وهي : ما تركناه من طعمة فهو لولي الأمر بعدنا ، إلى آخر تلك المغالطات والأكاذيب ، لم يكن الانتقال منه صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه من قبيل الارث ليكون هو قائماً مقامه صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الجهة وتلك الاضافة ، ويكون إقرارها عليها‌السلام بأنّ فدكاً كانت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبيل الاقرار لمورّث المدّعي ، بل يكون الانتقال إليه من قبيل الانتقال إلى الموصى له أو المتّهب ، لأنّه بحسب دعوى أبي بكر يكون ما كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للمسلمين بعد رحلته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبواسطة كون أبي بكر بحسب زعمه وليّاً للمسلمين بعد رحلته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ المسلمين ليسوا بورثة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل كان صيرورة ما كان له صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم من قبيل الوصية أو الهبة ، لم يكن الاقرار منها عليها‌السلام بأن فدكاً كانت لأبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبيل الاقرار لمورّث المدّعي ، بل يكون من قبيل الاقرار لشخص ثالث ، فلا يكون في البين ما يوجب قلب الدعوى بحيث يكون موجباً لتوجّه البيّنة عليها.

وبالجملة : لو كان انتقال متروكاته صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم من قبيل الارث لكان إقرارها عليها‌السلام بأنّ فدكاً كانت له صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبيل الاقرار لمورّثهم في قلبه الدعوى وتوجّه البيّنة عليها عليها‌السلام ، لأنّ الوارث يملك ما كان يملكه مورّثه ، فإذا أقرّت بأنّها كانت له صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت ملزمة باسقاط يدها وإقامة البيّنة على ما تدّعيه من النحلة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن المفروض أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يورّث ، وأنّه لو كان له وارث لكانت هي ذلك الوارث ، فلابدّ أن لا يكون الانتقال منه صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم من قبيل الارث الذي هو تبدّل أحد طرفي الاضافة أعني المالك ، بل هو من قبيل تبدّل نفس الاضافة وحدوث

٢٣٩

إضافة جديدة نظير ملك الموصى له لما أُوصي له به ، فكما أنّه لو كانت العين بيد شخص واعترف بأنّه اشتراها أو اتّهبها من الموصي في حياته لم يكن للموصى له أن يطالبه بالبيّنة على ذلك ، بل كان على الموصى له أن يثبت أنّها باقية على ملك الموصي إلى حين موته ، ولم يكن الاستصحاب نافعاً في ذلك لكونه محكوماً لليد ، ولابدّ للموصى له من إقامة البيّنة على كونها باقية على ملك الموصي إلى حين موته ، فكذلك اعترافها عليها‌السلام بأنّ فدكاً التي هي تحت يدها عليها‌السلام قد انتقلت إليها بالنحلة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يكون موجباً لانقلابها مدّعية ، بل يكون على المسلمين أن يثبتوا أنّ فدكاً باقية على ملكه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حين رحلته صلى‌الله‌عليه‌وآله لتكون بعد رحلته صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم والاستصحاب محكوم ليدها عليها‌السلام ، فلا تتوجّه عليها إقامة البيّنة ، بل عليهم أن يقيموا البيّنة على كونها باقية على ملكه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حين رحلته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قلت : فعلى هذا الذي أفاده قدس‌سره يتنقّح عندنا كبرى واسعة الفروع ، وجامعها هو أنّه لو صالح شخص زيداً على جميع أمواله أو باعها منه أو وهبها له أو أوصى له بها أو نحو ذلك من موجبات الانتقال ما عدا الارث ، وكان من جملة تلك الأموال ما هو تحت يد شخص ثالث ، وادّعى ذلك الشخص الثالث أنّه تملّكها من ذلك المالك بأحد أنحاء التملّك ، لم يكن لزيد انتزاع تلك العين من ذلك الشخص الثالث وطلب البيّنة على انتقالها من المالك إليه ، بل كان على زيد إقامة البيّنة على بقاء تلك العين على ملك ذلك المالك الأصلي إلى حين انتقال جميع أمواله إليه.

وهذه الكبرى محتاجة إلى تتبّع تامّ في كلمات الفقهاء ، ولم تسنح لي الفرصة فعلاً في تمامية هذا التتبّع ، لكن وجدت في كشف اللثام ما لعلّه يكون من

٢٤٠