أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

الاشتراك محتملاً ـ كان مقتضى اجتماع هذه الأيدي في الصور الثلاثة هو كون صاحب كلّ يد مالكاً للنصف ، فلو ادّعى أنّه مالك للجميع كان مدّعياً في مالكية النصف الآخر ، فيكونان من قبيل ما لو كان الكتاب في يد زيد والثوب في يد عمرو فادعّى زيد أنّه مالك للثوب أيضاً وادّعى عمرو أنّه مالك للكتاب أيضاً فتتألّف هناك خصومتان ، خصومة على الكتاب فعمرو يدّعيه وزيد ينكره وهو صاحب اليد عليه ، وخصومة على الثوب فزيد يدّعيه وعمرو ينكره وهو صاحب اليد عليه ، لكن يبقى الكلام في أنّه هل تنحلّ هذه الخصومة بإقامة زيد البيّنة على أنّه مالك لكلّ من الكتاب والثوب؟ ربما يقال نعم بناءً على سماع بيّنة المنكر ، لأنّ زيداً بالقياس إلى الكتاب منكر لأنّه صاحب اليد.

وعلى كلّ حال ، لو أقام كلّ منهما البيّنة على مدّعاه حكم بكون الكتاب لعمرو والثوب لزيد ، ولكن في مقامنا يحكم بكون المال بينهما بالمناصفة ، لأنّ النصف الذي تحت يد زيد يكون بالبيّنة من قبل عمرو لعمرو ، والنصف الذي تحت يد عمرو يكون بالبيّنة من قبل زيد لزيد ، وهذا غريب ، إذ لم يحدث بالبيّنة شيء زائد على ما اقتضته اليدان. أمّا لو ادّعى أحدهما الكل والآخر النصف لم يكن هناك إلاّخصومة واحدة وهي على النصف الذي في يد عمرو ، فإن أقام زيد البيّنة عليه حكم له به ، وإلاّ حلف عمرو على أنّه يملكه ويحكم له به وهو واضح ، هذا كلّه لو لم نعلم بعدم الاشتراك.

أمّا لو علمنا من الخارج بعدم الاشتراك سقطت الأيدي في الصور الثلاث ، لأنّ اليد وإن لم تقتض إلاّمالكية النصف ، إلاّ أنّ مالكية أحد النصفين ملازمة حينئذ لمالكية النصف الآخر ، وحينئذ يحصل التدافع بين اليدين ولو باعتبار اللازم ، فتسقط اليدان عن الاعتبار ، ويكون قول كلّ منهما على خلاف ما تقتضيه

٢٠١

القاعدة في الآخر من مالكيته للتمام ، وحينئذ يكون كلّ منهما مدّعياً ، فتدخل المسألة في باب التداعي ، ولا يتصوّر التداعي على النصف حينئذ ، لأنّ المفروض هو العلم بعدم التنصيف.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من إلحاق الصورة الثالثة بالأُولى والثانية إنّما هو بناءً على ما ذكرناه من أنّ اجتماع اليدين على تمام المال قاض بمالكية كلّ منهما النصف ، وأمّا بناءً على القول بتعارض اليدين لقضاء كلّ منهما مالكية التمام ، فلا ريب في كون المسألة من التداعي لو ادّعى كلّ منهما التمام ، ولو ادّعى أحدهما التمام والآخر النصف فالظاهر أنّه أيضاً من التداعي ، فإنّ اليدين بعد سقوطهما يكون ما يدّعيه كلّ منهما من قبيل الدعوى بلا حجّة ، سواء كان هو دعوى التمام أو دعوى النصف ، فكما أنّ من يدّعي التمام يكون قوله بلا حجّة فكذلك من يدّعي النصف.

أمّا لو قلنا باجتماع اليدين والالتزام بتحقّق الملكيتين وتعدّد المالك مع وحدة المملوك كما هو الظاهر من قضاء العروة (١) ، فالذي ينبغي هو ما تقدّم من أنّه مع احتمال الشركة يكون التداعي على الكل من قبيل الخصومتين ، وعلى النصف من قبيل الخصومة الواحدة ، فإنّ مقتضى اليدين وإن كان هو مالكية كلّ منهما إلاّ أنّه لابدّ أن يلتزم بأنّها ملكية ضعيفة ، ولأجل ذلك لا يحكم لصاحبها مع فرض عدم الخصومة إلاّبالنصف ، فيكون الحاصل هو أنّه مع اجتماع اليدين تكون يد كلّ منهما أمارة على مالكية النصف المشاع ، فيجري عليه ما ذكرناه في الصورة الأُولى والثانية والثالثة ، حتّى في صورة كون الدعوى على النصف بأن ادّعى أحدهما أنّه مالك الكل والآخر أنّه مالك النصف ، لكن الذي يظهر منه قدس‌سره الالتزام

__________________

(١) العروة الوثقى ٦ : ٥٨٩.

٢٠٢

بمقتضى ذلك في صورة ادّعاء أحدهما الكل والآخر النصف كما ذكره ص ١١٣ (١) إلاّ أنّه في صورة ادّعاء كلّ منهما الكل جعله من التداعي لو كانت يد كلّ منهما على الكلّ (٢) فراجع وتأمّل.

بل الذي ينبغي أن يكون الأمر كذلك على ما أفاده سيّد البلغة قدس‌سره وهو عين ما منعه صاحب الجواهر قدس‌سره بقوله : ومنه يظهر لك عدم كون كلّ منهما مدّعياً لنصف الآخر ومدّعى عليه في نصفه كي يتوجّه التحالف الخ (٣) ، ولم أتوفّق للوجه في تبعيد المسافة في توجيه كون كلّ منهما مدّعياً ومدّعى عليه بقوله : لأنّ كلاً منهما يدّعي الاستقلالية المستلزمة دعواه لعدم ملكية صاحبه أصلاً ، لا عدم استقلاليته الخ (٤) ، فراجعه وراجع ما أفاده في كتاب القضاء ص ٣٤٠ (٥) ، وكأنّه لم ينتقل إلى مالكية النصف من نفس اليد وإنّما انتقل إلى ذلك من الاستقلال ، فلأجل ذلك جعل مركز الدعوى هو الاستقلال. وعلى كلّ حال ، لا تخرج المسألة عن كونها ذات خصومتين.

والذي تلخّص : هو أنّه على جميع هذه الأقوال ، الذي ينبغي هو كون التداعي على التمام من قبيل الخصومتين وعلى النصف من قبيل الخصومة الواحدة. وأظهر هذه الأقوال في أنّه يلزمه ذلك هو ما اختاره الأُستاذ العراقي قدس‌سره ص ١١٦ من الاشتراك في اليد ، والظاهر أنّه قدس‌سره قد جرى على ذلك فيما لو أقام كلّ

__________________

(١) العروة الوثقى ٦ : ٥٩٩ ( مسألة ٧ ).

(٢) العروة الوثقى ٦ : ٥٩١.

(٣) جواهر الكلام ٤٠ : ٤٠٣.

(٤) بُلغة الفقيه ٣ : ٣٢٣.

(٥) بُلغة الفقيه ٣ : ٣٨٨.

٢٠٣

منهما البيّنة ص ١٢٧ من تصديق كلّ من البيّنتين ، وكذلك صنع في اليمين المردودة ص ١١٩ وص ١٢٠. لكنّه قال في ص ١١٩ : ثمّ إنّه على المختار لو حلف كلّ منهما فلا شبهة في انحلال حلف كلّ إلى الحلف على كلّ واحد من النصفين ، فيؤخذ بواحد من حلفي كلّ واحد ، ويلغى الآخر لعدم كونه ميزاناً (١).

ولم أتوفّق لفهم ذلك ، بل الأولى أن يقال : إنّه لابدّ من تحليف كلّ منهما على ما بيده من النصف ، وأنّه يملكه هو لا صاحبه ، نظير ما عرفت من دعوى الكتاب والثوب بين زيد وعمرو ، فإنّ زيداً يلزمه الحلف على أنّ ما بيد نفسه من الكتاب هو له لا لعمرو ، وكذلك عمرو يحلف على أنّ ما بيده من الثوب هو له لا لزيد ، فلاحظ وتأمّل.

وعلى كلّ حال ، لا تكون المسألة من باب التداعي إلاّ إذا علمنا من الخارج أنّه لا اشتراك في البين ، أو على رأي صاحب الجواهر قدس‌سره من التدافع والتعارض بين اليدين بعد فرض كون كلّ منهما على تمام العين.

وربما يتوهّم جريان ما ذكرناه من كونهما من قبيل الخصومتين حتّى في تلك الصورة وحتّى على رأي صاحب الجواهر قدس‌سره ، وذلك فإنّ صاحب الجواهر قدس‌سره يلتزم بالتنصيف بينهما إذا لم تكن مخاصمة في البين ، وحينئذ يكون ذلك ـ أعني التنصيف ـ هو حكم المسألة عند عدم المخاصمة ، ويكون مدّعي التمام حينئذ مدّعياً بالنسبة إلى النصف الزائد الذي هو له عند عدم المخاصمة ، وهكذا الطرف الآخر ، وحينئذ تتشكّل بينهما خصومتان.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ هذا الحكم ـ أعني التنصيف ـ لا يكون ميزاناً في تشخيص المدّعي ، لأنّه إنّما يكون في طول الموازين ، بمعنى أنّه في طول كلّ من

__________________

(١) كتاب القضاء : ١١٩ ـ ١٢٠.

٢٠٤

البيّنة واليمين ، وبعد عدم الانتفاع بتلك الطرق أو عدم تأتّيها يحكم بالتنصيف بينهما ، لا أنّ الحكم بالتنصيف يكون هو الأصل في المسألة ويكون من يدّعي خلافه مدّعياً ومن يدّعي على طبقه منكراً ، فلاحظ وتأمّل.

وممّا ينبغي الالتفات إليه هو أنّه قد وردت روايات متعدّدة في التداعي على العين في يدهما ، وقد ذكرها في البلغة ص ٣٤٦ وص ٣٤٧ (١) والحكم فيها لا ينطبق على ما ذكرناه من كون التداعي على العين في يدهما من قبيل الخصومتين ، فلابدّ من حملها ـ كما لا يبعد أن يكون ذلك ظاهرها ـ على الصورة المشار إليها أعني ما حصل العلم من الخارج بعدم الاشاعة والاشتراك بين المتداعيين ، وحينئذ تدخل المسألة في تعارض اليدين ثمّ تعارض البيّنتين ، فيقع الكلام في الحكم بالتنصيف بينهما وهل هو متوقّف على الاحلاف لهما ، وهل المقام مقام القرعة في من هو صاحب الحقّ أو في من يتوجّه عليه اليمين ، وقد اختلفت الروايات المذكورة في هذه الجهات.

والكلام فيها من هذه الجهات في محلّه من كتاب القضاء ، وعلى العجالة يمكن أن يقال : إنّه بعد تعارض البيّنات يتخيّر الحاكم بين الحكم بينهما بالتنصيف ابتداءً أو بعد تحليفهما معاً ، فإن نكل أحدهما حكم للحالف ، وبين الحكم بالقرعة إمّا ابتداءً أو على من توجّه إليه. وهل في البين ترجيح لبعض البيّنات على بعض عدالة ووثاقة أو عدداً؟ لا يبعد الترجيح بالعدد ، وللحاكم أن يستحلف من كانت بيّنته أكثر عدداً. وهل هذا التحليف وجوبي أو استحبابي؟ محلّ تأمّل.

ومنه يظهر الحال فيما لو كانت البيّنة من طرف واحد ، وإن كان الأحوط

__________________

(١) بلغة الفقيه ٣ : ٤٠٣ ـ ٤٠٥.

٢٠٥

للحاكم التحليف ، بل ربما كان اللازم تحليف من خرجت القرعة باسمه كما هو مفاد صحيحة داود (١).

ثمّ إنّ هذا التخيير مستفاد من اختلاف هذه الروايات في كيفية قضاء أمير المؤمنين ( صلوات الله وسلامه عليه ) فإنّ الغالب في هذه الروايات حكاية ما وقع ، ومع فرض اختلافه نستكشف التخيير. نعم في بعضها ما تضمّنته رواية البصري من قوله : « كان علي عليه‌السلام إذا أتاه رجلان » (٢) ونحوها صحيح أبي بصير (٣) ، ولكن ذلك لا يفيد الكلّية على وجه ينافي التخيير ، فلاحظ.

وتوضيح ذلك : هو أنّ رواية تميم بن طرفة ، وهي « أنّ رجلين ادّعيا بعيراً فأقام كلّ واحد منهما بيّنة فجعله أمير المؤمنين عليه‌السلام بينهما » (٤) يحتمل كونه في يدهما ، وأنّ القضية كانت ممّا يحتمل فيها الاشاعة بينهما ، فتدخل المسألة فيما تقدّم من كون ذلك حينئذ من قبيل الخصومتين المحتاج كلّ خصومة منهما إلى البيّنة ، ولا تعارض بين البيّنتين ، فيصدّقان معاً ويحكم بمالكية كلّ منهما للنصف ، وحينئذ تخرج القضية عن تعارض البيّنات. ويحتمل كونها من باب التعارض ، وهذا الاحتمال في غاية القوّة ، لأنّ احتمال الاشتراك وكون ذلك من قبيل الخصومتين في غاية البعد.

ولكن هل كان البعير بيدهما أو بيد أحدهما أو بيد ثالث؟ وهل كانت البيّنتان متساوية عدداً وعدالة أو لا؟ كلّ ذلك غير معلوم ، وحينئذ تكون الرواية

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٥١ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ٦.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٥١ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ٥.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٤٩ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ١.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٥١ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ٤.

٢٠٦

مجملة ساقطة الحجيّة من هذه الجهات ، لكن ذلك لا يمنع من الاستشهاد بها للتنصيف في قبال القرعة ، سواء كان البعير في يدهما أو في يد ثالث أو في يد أحدهما مع عدم الترجيح لبيّنة الخارج أو الداخل ، مع فرض تساويهما من حيث العدد والعدالة.

وأمّا رواية غياث عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام « اختصم إليه رجلان في دابّة وكلاهما أقام البيّنة أنّه أنتجها ، فقضى عليه‌السلام بها للذي هي في يده ، وقال عليه‌السلام : « لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين » (١) ومثله خبر جابر « أنّ رجلين تداعيا دابة ، وأقام كلّ منهما بيّنة أنّها دابّته أنتجها ، فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للذي في يده » (٢) فقد اشتملت على ترجيح بيّنة الداخل.

ولا يعارضها صحيح أبي بصير سأل الصادق عليه‌السلام « عن رجل يأتي القوم فيدّعي داراً في أيديهم ، ويقيم الذي في يديه الدار البيّنة أنّه ورثها عن أبيه ، ولا يدري كيف كان أمرها ، فقال عليه‌السلام : أكثرهم بيّنة يستحلف وتدفع إليه ، وذكر أنّ علياً عليه‌السلام أتاه قوم يختصمون في بغلة ، فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا وأقام هؤلاء البيّنة أنّهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا ، فقضى عليه‌السلام بها لأكثرهم بيّنة واستحلفهم » (٣) ، لأنّ ما تضمّنته رواية غياث حكاية قضية واقعة ، ولعلّ المورد كان هو تساوي البيّنتين عدداً وعدالة ، فحكم عليه‌السلام على طبق بيّنة الداخل ، وأمّا قوله عليه‌السلام : « لو لم تكن في يده

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٥٠ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ٣.

(٢) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٧٣ / أبواب كيفية الحكم ب ١٠ ح ٥ ( باختلاف يسير ).

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٤٩ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ١ ( باختلاف في بعض العبائر ).

٢٠٧

جعلتها بينهما نصفين » فهو أيضاً إشارة إلى ذلك المورد ، وأنّه لو تبدّل من هذه الناحية فقط ـ وهي عدم كونها في يد أحدهما ـ جعلتها بينهما نصفين ، وليس ذلك من قبيل الاطلاق والتقييد ، ولا من قبيل العموم من وجه باعتبار كون مفاد رواية غياث هو الترجيح بالداخل سواء كانت بيّنته أكثر أو لا ، ومفاد رواية أبي بصير هو الترجيح بالأكثرية سواء في ذلك الداخل والخارج ، أو هي مختصّة بخصوص موردها الذي هو الداخل لتكون أخصّ من رواية غياث ، وإنّما قلنا إنّهما ليسا من هذا القبيل لما عرفت من أنّ مفاد رواية غياث قضية واحدة وأنّ موردها واحد ، ولم يعلم أنّ البيّنة التي وجدت للداخل كانت أقلّ من الخارج ، فلا إطلاق فيها يشمل الأقل والأكثر والمساوي.

ثمّ إنّ رواية أبي بصير لم تتعرّض للحكم في صورة التساوي من حيث التنصيف أو الاحلاف أو القرعة ، فلا شاهد لنا فيها من هذه الجهة.

والخلاصة : هي أنّ اليد مرجّحة ، كما أنّ الأكثرية مرجّحة ، لكن المستفاد من رواية أبي بصير الترجيح بالأكثرية في مورد اليد ، فتكون كالنصّ في تقدّم هذه الجهة من الرجحان ـ وهي الأكثرية ـ على جهة اليد ، ورواية غياث وجابر لا ينفيان ذلك لأنّهما لا يزيدان على الحكاية ، ولعلّ البيّنتين كانتا متساويتين أو كانت بيّنة ذي اليد أكثر ، ولا إطلاق فيهما يشمل العكس ، لما عرفت من كونهما حكاية فعل خارجي لا بيان حكم كلّي.

نعم ، ذيل رواية ابن سنان أعني قوله : « إذا أقاما البيّنة جميعاً قضي بها للذي أنتجت عنده » (١) ليس حكاية لشخص قضية خاصّة ، بل هو حكم كلّي بالقضاء لصاحب اليد ، سواء كانت بيّنة الغير أكثر أو لم تكن ، لكن رواية أبي بصير لمّا

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٥٥ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ١٥.

٢٠٨

كانت حاكمة بترجيح الأكثر في مورد كون العين في يد أحدهما ، كانت بمنزلة النصّ في تقديم الترجيح بالأكثرية على الترجيح ببيّنة الداخل.

وأمّا خبر منصور (١) والمرسل (٢) والفقه الرضوي (٣) ممّا ظاهره سقوط بيّنة الداخل معلّلاً بأنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر الذي هو صاحب اليد ، فقد أعرض عنها الأصحاب ولم يقاوموا بها ما دلّ على حجّية بيّنة المنكر من حديث السرج (٤) ، ورواية احتجاج الأمير عليه‌السلام على أبي بكر (٥) ، وباقي الروايات المسطورة في المقام ، فإنّ عدم سماع بيّنة المنكر هو مذهب ابن حنبل (٦) ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا ذيل رواية أبي بصير « فقلت أرأيت » الخ ، فليس ذلك من تقدّم بيّنة الخارج ، بل هو من باب حكومة خصوص بيّنته على بيّنة الوارث كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى (٧).

ومن ذلك يعلم أنّ صورة ما لو كانت العين في يد أحدهما وأقام كلّ منهما البيّنة لا مورد فيها للقرعة ولا للتنصيف ، لأنّ إحدى البيّنتين إن كانت أرجح من حيث العدد أو من [ حيث ] العدالة كانت هي المقدّمة ، وإن لم يكن في البين

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٥٥ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ١٤.

(٢) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٧٢ / أبواب كيفية الحكم ب ١٠ ح ١.

(٣) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٧٢ / أبواب كيفية الحكم ب ١٠ ح ٣.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٩١ / أبواب كيفية الحكم ب ٢٤ ح ١.

(٥) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٩٣ / أبواب كيفية الحكم ب ٢٥ ح ٣.

(٦) حكاه عنه في الجواهر ٤٠ : ٤١٧ ، وراجع شرح الزركشي على مختصر الخرقي ٧ : ٣٩٩ وما بعدها.

(٧) في الصفحة : ٢١٩.

٢٠٩

تفاوت في ذلك كانت بيّنة الداخل هي المقدّمة ، فلا تصل النوبة في ذلك إلى سقوط البيّنتين كي تدخل المسألة في القرعة أو التنصيف.

أمّا رواية داود العطّار « في رجل كانت له امرأة فجاء رجل بشهود شهدوا أنّ هذه المرأة امرأة فلان ، وجاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان ، فاعتدل الشهود وعدلوا ، قال عليه‌السلام : يقرع بين الشهود فمن خرج اسمه فهو المحقّ وهو أولى بها » (١) فهي وإن كان ربما يتوهّم أنّ أحدهما صاحب يد وهو الرجل المسؤول عنه بقوله : « رجل كانت له امرأة » إلاّ أنّ مجموع ما بعده يدلّ على أنّ المرأة فعلاً ليست تحت يد أحدهما ، ومجرّد قوله : « كانت له امرأة » لا يدلّ على أنّها فعلاً تحت يده ، فلاحظ.

نعم ، رواية غياث حاكمة بالتنصيف عند تعارض البيّنتين من دون إحلاف ومن دون تعرّض للقرعة ، وكذلك رواية تميم ، وطريق الجمع حينئذ بينهما وبين رواية إسحاق الدالّة عليه بعد التحليف هو أن يقال : إنّ رواية غياث دالّة على التنصيف من دون إحلاف ، ورواية إسحاق بقوله عليه‌السلام : « فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين » (٢) دالّة على تقييد التنصيف بأنّه بعد الحلف ، فيكون الحكم حينئذ هو التحليف ، فإن نكل أحدهما قضي عليه ، وإن حلفا نصّفت العين بينهما ، هذا ولكن رواية داود قال عليه‌السلام : « يقرع بينهم فأيّهم قرع ، فعليه اليمين وهو أولى بالقضاء » (٣) وموثّقة سماعة قال : « فأقرع بينهما سهمين ـ إلى قوله ـ فخرج سهم

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٥٢ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ٨ ( باختلاف يسير ).

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٥٠ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ٢.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٥١ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ٦.

٢١٠

أحدهما فقضى له بها » (١) ورواية البصري « أقرع بينهم على أيّهم يصير اليمين ـ إلى قوله ـ ثمّ يجعل الحقّ للذي يصير عليه اليمين إذا حلف » (٢) دالّة على إعمال القرعة ، فتنافي الحكم بالتنصيف ولو بعد التحليف.

ولا يبعد القول بأنّ الحاكم مخيّر بين هاتين الطريقتين. وموثّقة سماعة وإن كانت القرعة فيها خالية من اليمين ، إلاّ أنّه لا مانع من تقييد ذلك باليمين الذي دلّت عليه رواية البصري ورواية داود. قال السيّد قدس‌سره في البلغة : نعم النسبة بين أخبار التنصيف بعد تقييدها بالتساوي والتحالف ، وبين أخبار القرعة بعد تقييدها به وبالحلف هو التباين ، اللازم فيه التماس المرجّح ، وهو لأخبار القرعة من وجوه (٣).

وقد عرفت أنّ الأولى هو الحمل على تخيير الحاكم وإن استبعده في قضاء العروة ، فإنّه بعد ذكر خبر إسحاق الدالّ على التحليف والتنصيف ، وأنّه لم يقل به أحد إلاّما عن كشف اللثام عن ظاهر أبي علي (٤) ، قال السيّد ما هذا لفظه : وعن الشيخ حمله على ما إذا تصالحا على ذلك. وقال في الاستبصار : ويمكن أن يكون ذلك نائباً عن القرعة إذا اختار كلّ واحد منهما اليمين ، فيكون الإمام عليه‌السلام مخيّراً بين العمل عليه والعمل بالقرعة. وكلا الحملين بعيد ، والعمل به في قبال الأخبار الأُخر لا وجه له ، فالأولى طرحه بالنسبة إلى هذا لعدم مقاومته لسائر الأخبار (٥)

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٥٤ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ١٢.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٥١ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ٥.

(٣) بلغة الفقيه ٣ : ٤٠٥.

(٤) كشف اللثام ١٠ : ١٩١.

(٥) العروة الوثقى ٦ : ٦٤٠.

٢١١

قلت : الوجه في الاستبعاد المذكور واضح ، أمّا الأوّل فلأنّ ظاهره الحكم منه عليه‌السلام ، لا أنّهما تصالحا على ذلك. وأمّا الثاني فلأنّ تقييد الحكم المذكور باختيار كلّ منهما اليمين خلاف الظاهر ، لكن لو لم نقيّده بذلك ويكون محصّل قوله عليه‌السلام « جعلتها » هو أنّه عليه‌السلام له الخيار في ذلك الجعل ، فليس فيه خلاف الظاهر من هذه الجهة ، وإن كان مخالفاً له من ناحية الظهور في تعيّن الجعل المذكور ، ولا بأس به بعد الجمع بينه وبين ما دلّ على القرعة ، اللهمّ إلاّ أن يقال إنّه تبرّعي.

وكيف كان ، نحن وإن قلنا إنّه لا بأس به ، إلاّ أنّه بعد فرض أنّه لم يقل به أحد كما يستفاد من قول السيّد : ولا عامل به (١) ففيه كلّ البأس ، فالمتعيّن حينئذ هو القرعة ، فلاحظ.

وكلّ ذلك إنّما هو فرار ممّا أفاده السيّد في قضاء العروة من أنّه لم يجد به عاملاً ، وإن أمكن أن يقال كفى بالشيخ قدس‌سره قائلاً به سيّما مع ما ينقل من أنّ أغلب من تأخّر عن الشيخ قدس‌سره إنّما هو تابع له ، حتّى قيل في حقّهم إنّهم له مقلّدون ، ولو فتحنا هذا الباب ـ أعني التخيير ـ لأمكننا القول بعدم الحاجة إلى حمل إطلاقات أدلّة التنصيف على التقييد بما دلّ على التحليف.

بل يمكن أن يقال : إنّ التحليف لمن خرجت القرعة باسمه أو لمن كانت بيّنته أقوى وأكثر من هذا القبيل أيضاً ، يعني أنّه راجع إلى نظر الإمام عليه‌السلام وإلى الحاكم المنصوب من قبله بالنصب الخاصّ أو العام ، ولكن مع ذلك كلّه ففي مقام العمل لا يكون العمل إلاّعلى وفق ما أفادوه من الالتزام بالتحليف في موارده ، والاعتماد في خصم المخاصمة بالقرعة لا بالتنصيف ، فإنّ العمل على طبق ذلك لا ينافي التخيير ، فلا بأس بالالتزام به في مقام العمل لكونه هو الأحوط ، وإن لم

__________________

(١) العروة الوثقى ٦ : ٦٣٩.

٢١٢

يكن لازماً بحسب النظر.

واعلم أنّ ما دلّ على التنصيف منحصر في خبر إسحاق وفي المرسلة وخبر غياث وخبر تميم ، ولا يمكن حمل هذه الأخبار على صورة احتمال الاشاعة ، لبعد ذلك خصوصاً في خبر إسحاق والمرسلة ، لأنّ خبر إسحاق اعتبر اليمين والمرسلة اعتبرت التعادل بين البيّنتين ، ولو كان من قبيل احتمال الاشاعة وتعدّد الخصومة لم يكن وجه لاعتبار شيء من هذين القيدين.

ثمّ إنّه بعد فرض كون ذلك من تعارض البيّنات لعدم احتمال الاشاعة ، يكون اللازم تقييد رواية إسحاق ورواية غياث بما في المرسلة وغيرها من اعتدال البيّنتين ، كما أنّ مفاد رواية إسحاق يقيّد الجزء الثاني من المرسلة ورواية غياث بالتحالف ، وأنّ التنصيف إنّما يكون بعد الاحلاف ، أمّا رواية تميم فقد عرفت إجمالها من جهة كونها حكاية شخصية متردّدة بين كون المورد هو اجتماع اليدين على البعير أو خلوّهما منه أو يد أحدهما عليه فقط ، فلا حجّية فيه من هذه الجهة ، فبعد إسقاط الاحتمال الثالث لبعده يبقى مردّداً بين الاحتمال الأوّل فيكون موافقاً للجزء الثاني من المرسلة ومن موارد الجزء الأوّل من رواية إسحاق ، والاحتمال الثاني فيكون حاله حال الجزء الثاني من خبر إسحاق معارضاً للجزء الأوّل من المرسلة.

أمّا خبر غياث فيحتمل أن يكون قوله عليه‌السلام : « لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين » شاملاً لما إذا خلت عنه يدهما معاً ولما إذا كان تحت يديهما ، وحينئذ يكون إطلاقه موافقاً لكلا صورتي خبر إسحاق ، ويكون الجزء الأوّل من المرسلة مخصّصاً له. لكنّه احتمال بعيد ، وإنّما الظاهر هو أنّه لم يكن في يد أحدهما ، وحينئذ يكون حاله حال الجزء الثاني من خبر إسحاق معارضاً للجزء

٢١٣

الأوّل من المرسلة في خصوص ما إذا كان محلّ النزاع خارجاً عن يد كلّ منهما ، أمّا ما يكون تحت يديهما فإنّ حكمه هو التنصيف وليس هو مورداً لتعارض الأدلّة ، فإنّ الحكم بالقرعة وإن ورد غير مقيّد بخروجه عن تحت يدهما كما في خبر البصري وموثّقة سماعة ورواية داود بن سرحان ورواية داود العطّار ، إلاّ أنّ المرسلة بجزئها الأوّل كافية في تقييد ذلك بما إذا لم يكن تحت أيديهما ، وتبقى المعارضة في ذلك بينها وبين خبر إسحاق ، بل وخبر غياث أيضاً بناءً على ما عرفت من ظهوره في الخارجين عن العين.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده السيّد في العروة (١) من أنّ المرجع هو القرعة في جميع الصور الأربع ما عدا الأُولى منها فراجع ، وعمدة ما أفاده هو ضعف المرسلة وعدم انجبارها بالشهرة ، فتبقى إطلاقات القرعة بحالها شاملة لتمام الصور الأربع ما عدا الأُولى منها. وأمّا رواية زرارة (٢) فالظاهر خروجها عمّا نحن فيه.

ثمّ إنّ المرسلة وإن حكمت بالتنصيف في مورد كون العين تحت يدهما ، إلاّ أنّ ذلك بعد قيام البيّنة من كلّ منهما مع التساوي كما يعطيه قوله : « يقرع بينهما إذا عدلت بيّنة كلّ واحد منهما وليس في أيديهما ، وأمّا إذا كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان » (٣) فإنّ ظاهره انحصار الاختلاف بين الصورتين بخصوص كونه في أيديهما ، ثمّ بعد هذا نحتاج إلى تقييد آخر وهو التقييد بالحلف من كلّ منهما كما يعطيه رواية إسحاق ، فإنّ الشقّ الثاني من رواية إسحاق وإن كان معارضاً

__________________

(١) العروة الوثقى ٦ : ٦٣٥.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٥٢ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ٧.

(٣) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٧٢ / أبواب كيفية الحكم ب ١٠ ح ١ ( مع اختلاف يسير ).

٢١٤

للمرسلة إلاّ أنّ الشقّ الأوّل وهو ما لو كانت في أيديهما غير معارض للمرسلة ، بل هو موافق لها في الشقّ الثاني منها ، فلاحظ.

واعلم أنّ الذي ذكره في الوسائل عن الشيخ قدس‌سره هو قول صاحب الوسائل قال الشيخ : الذي أعتمد في الجمع بين هذه الأخبار هو أنّ البيّنتين إذا تقابلتا ـ إلى أن قال ـ فأمّا خبر إسحاق بن عمّار « إنّ من حلف كان الحقّ له ، وإن حلفا كان الحقّ بينهما نصفين » فمحمول على أنّه إذا اصطلحا على ذلك ، لأنّا بيّنا الترجيح بكثرة الشهود أو القرعة ، ويمكن أن يكون الإمام مخيّراً بين الاحلاف والقرعة (١).

قال في الوافي : بيان ، قال في التهذيبين في الجمع بين هذه الأخبار : إنّ البيّنتين إذا تقابلتا ـ إلى أن قال ـ وأمّا الحكم للحالف ومع حلفهما فالتنصيف فمحمول على الاصطلاح بينهما ، لأنّا قد بيّنا وجوه الترجيح ولا حالة توجب اليمين على كلّ واحد منهما. وقال في الاستبصار : ويمكن أن يكون ذلك نائباً عن القرعة بأن لا يختار القرعة وأحال كلّ واحد منهما إلى اليمين ورأى ذلك الإمام صواباً وكان مخيّراً بين العمل على ذلك والعمل على القرعة ، هذا ملخّص كلامه في الكتابين (٢).

وعلى كلّ حال ، أنّ ظاهر هذا الوجه هو كون الإمام مخيّراً بقول مطلق ، لا أنّ تخييره مقيّد برضاهما كما يظهر من حكاية العروة بقوله : إذا اختار كلّ منهما اليمين فيكون الإمام مخيّراً (٣) فلاحظ. وإن كانت عبارة الاستبصار مشعرة بما حكاه

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٥٦ / ذيل الباب (١٢) من أبواب كيفية الحكم.

(٢) كتاب الوافي ١٦ : ٩٣٩.

(٣) العروة الوثقى ٦ : ٦٤٠.

٢١٥

عنه في العروة على خلاف ما حكاه في الوسائل ، فإنّ عبارة الاستبصار (١) : كان

__________________

(١) في الاستبصار : قال محمّد بن الحسن الطوسي رحمه‌الله : الذي أعتمد عليه في الجمع بين هذه الأخبار هو أنّ البيّنتين إذا تقابلتا فلا يخلو ـ إلى أن قال ـ فأمّا خبر إسحاق بن عمّار خاصّة بأنّه إذا تقابلت البيّنتان حلف كلّ واحد منهما ، فمن حلف كان الحقّ له ، وإن حلفا جميعاً كان الحقّ بينهما نصفين ، فمحمول على أنّه إذا اصطلحا على ذلك ، فإنّا قد بيّنا ما يقتضي الترجيح لأحد الخصمين مع تساوي بيّنتهما باليمين له ، وهو كثرة الشهود أو القرعة ، وليس هاهنا حالة توجب اليمين على كلّ واحد منهما. ويمكن أن يكون ذلك نائباً عن القرعة بأن لا يختار القرعة ، وأجاب كلّ واحد منهما إلى اليمين ، ورأى ذلك الإمام صواباً كان مخيّراً بين العمل على ذلك والعمل على القرعة ، وهذه الطريقة تأتي على جميع الأخبار من غير اطراح شيء منها وتسلم بأجمعها ، وأنت إذا فكّرت فيها وجدتها على ما ذكرت لك إن شاء الله تعالى [ الاستبصار ٣ : ٤٢ ـ ٤٣ ].

قال في الايضاح : قوله حكم لمن يصدقه بعد اليمين منهما ، أي من ذي اليد على أنّها ليست للآخر أو لا يعرف أنّها للآخر على اختلاف الرأيين ومن المدّعي على أنّه له [ إيضاح الفوائد ٤ : ٣٧٩ ].

قال المحقّق القمّي قدس‌سره : فإن صدق أحدهما فالمقرّ له في حكم ذي اليد فيقضى له مع يمينه ، وعلى المصدّق اليمين للآخر على أنّها ليست له أو على أنّه لا يعرف أنّها له على اختلاف الروايتين ( الجوابين خ ل ) كما نقلهما في الايضاح [ جامع الشتات ٢ : ٧٠٤ ].

قال في التهذيب : فأمّا خبر إسحاق بن عمّار خاصّة بأنّه إذا تقابلت البيّنتان حلف كلّ واحد منهما ، فمن حلف كان الحقّ له ، وإن حلفا كان الحقّ بينهما نصفين ، فمحمول على أنّه إذا اصطلحا على ذلك ، لأنّا قد بيّنا ما يقتضي الترجيح لأحد الخصمين مع تساوي بيّنتهما باليمين له ، وهو كثرة الشهود أو القرعة ، وليس هاهنا حالة توجب اليمين على كلّ واحد منهما ، وهذه الطريقة تأتي على جميع الأخبار من غير اطراح

٢١٦

مخيّراً بين العمل على ذلك والعمل على القرعة (١) باسقاط الواو من لفظ « كان » ، وحينئذ تكون جواباً لقوله : بأن ، فلاحظ.

لا يقال : إنّ رواية إسحاق لا تقييد فيها بتعادل البيّنتين ، فهي حاكمة بالتنصيف فيما لو أقام البيّنة ولم تكن العين في أيديهما ، سواء اعتدلت البيّنتان أو لم تعتدلا ، بخلاف المرسلة فإنّها حاكمة بالقرعة في خصوص اعتدال البيّنتين ، فتكون أخص من مضمون رواية إسحاق فتقدّم عليها ، وحينئذ تكون النتيجة أنّه عند اعتدال البيّنتين يحكم بالقرعة ، وتبقى صورة عدم الاعتدال تحت حكم رواية إسحاق بالتنصيف.

لأنّا نقول : إنّ ذلك ـ أعني الحكم بالتنصيف في صورة عدم الاعتدال ـ لا يمكن الالتزام به ، لما هو واضح من عدم التساقط عند عدم الاعتدال ، بل لابدّ من تقديم ما هو الأعدل أو الأكثر عدداً ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك لا يوجب كون التعارض بين المرسلة وبين رواية إسحاق ، بل كما تتقدّم المرسلة على رواية إسحاق لكونها أخصّ منها ، فكذلك يقدّم على رواية إسحاق ما هو مستفاد من مجموع الأدلّة من الترجيح ، وبالأخرة ينتهي الأمر إلى سقوط رواية إسحاق ، إلاّ أن يدّعى أنّها من أوّل الأمر غير شاملة لصورة عدم الاعتدال ، وحينئذ تكون النسبة بينها وبين المرسلة هي التباين ، فلابدّ في توجيه تقديم المرسلة عليها من الركون إلى ما أُفيد في البلغة (٢)

__________________

شيء منها وتسلم بأجمعها ، وأنت إذا فكّرت فيها رأيتها على ما ذكرت لك إن شاء الله تعالى [ تهذيب الأحكام ٦ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ذيل الحديث ٥٨٣ منه قدس‌سره ].

(١) الاستبصار ٣ : ٤٣.

(٢) لاحظ بلغة الفقيه ٣ : ٤٠٥.

٢١٧

والعروة (١) من كون المرسلة مقدّمة لعدم العمل برواية إسحاق كما أفاده في العروة ، لكن الظاهر أنّ عدم العمل (٢) وإن شئت قلت ـ كما أفاده الشيخ الطوسي قدس‌سره ـ أنّه لا وجه للتحليف.

لكن لا يخفى أنّ هذا لو تمّ لم يكن موجباً لسقوط أصل الحكم بالتنصيف ، وإنّما أقصى ما فيه هو سقوط الحكم بالتحليف ، فإنّه هو الذي استشكل الشيخ قدس‌سره في وجهه ، وهو الذي ادّعى في العروة عدم العمل به فلاحظ وتدبّر. وهذه الجهات إنّما تأتّت لو قلنا بالتعيين ، أمّا لو قلنا بالتخيير فلا حاجة إلى هذه الجهات ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ إنّ المرسلة المذكورة في البلغة ناقصة ، وهذا نصّها : « عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في البيّنتين تختلفان في الشيء الواحد يدّعيه الرجلان ، أنّه يقرع بينهما فيه إذا اعتدلت بيّنة كلّ واحد منهما وليس في أيديهما ، فإن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان ، وإن كان في يد أحدهما فالبيّنة فيه على المدّعي واليمين على المدّعى عليه » (٣).

ولا يبعد أن يكون المنشأ في الحكم بالتنصيف فيما إذا كان بأيديهما هو احتمال الاشاعة أو ظهورها من اجتماع اليدين ، فيحكم بالتنصيف بينهما لا من باب العدل والانصاف ، بل من باب أنّ قضية اليد مالكية النصف عند الاجتماع ، هذا إذا لم نجعل هذا القسم مشاركاً للأوّل في كونه مورد البيّنتين ، وإلاّ كان الحكم بالتنصيف من باب قضية البيّنة لكلّ منهما بناءً على ما عرفت من أنّه يكون من

__________________

(١) العروة الوثقى ٦ : ٦٣٩.

(٢) [ كذا في الأصل فلاحظ ].

(٣) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٧٢ / أبواب كيفية الحكم ب ١٠ ح ١ ( مع اختلاف يسير ).

٢١٨

قبيل الخصومتين ، ولكن لا يدخله قيد التساوي واعتدال البيّنتين ، بل يكون ذلك مختصّاً بالأوّل مقدّمة للقرعة ، بخلاف الثاني فإنّه عند اجتماع البيّنتين لا تعارض بينهما ، فيحكم بالتنصيف الذي هو مقتضى البيّنتين.

ومنه يظهر الكلام في الصورة الثالثة وهي ما لو كان في يد أحدهما ، فإنّه يمكن أن يكون لبيان الحكم الكلّي في مورد اليد لأحدهما من أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر.

ولو قلنا إنّه داخل في مفروض الصورة الأُولى وهو وجود البيّنتين ، كان حاله من هذه الجهة حال خبر منصور المتضمّن لجملة « ولا أقبل من الذي في يده بيّنة » في الدلالة على عدم قبول بيّنة المنكر ، وقد حقّق في محلّه أنّ كون اليمين عليه إنّما [ هو ] من قبيل الارفاق ، وأنّه لا مانع من سماع بيّنته كما دلّ عليه رواية السرج وحديث علي عليه‌السلام في فدك مع أبي بكر كما أوضحه السيّد في قضاء العروة (١) ، فلا يكون حينئذ مقاوماً لتلك الأدلّة ، مضافاً إلى ضعفهما وكون ذلك مذهب ابن حنبل (٢) ، فراجع.

وأمّا ذيل رواية أبي بصير « فقلت : أرأيت إن كان الذي ادّعى الدار قال : إنّ أبا هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن ، ولم يقم الذي هو فيها بيّنة إلاّ أنّه ورثها عن أبيه ، قال عليه‌السلام : إذا كان الأمر هكذا فهي للذي ادّعاها وأقام البيّنة عليها » (٣) فليس هو من باب تقديم بيّنة الخارج ولا من باب سقوط بيّنة الداخل إذا بيّنت السبب ، بل

__________________

(١) رواية السرج وحديث علي عليه‌السلام تقدّم ذكر مصدرهما في الصفحة : ٢٠٩ ، وراجع العروة الوثقى ٦ : ٦٣٣ ـ ٦٣٤.

(٢) تقدّم ذكر مصدره في الصفحة : ٢٠٩.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٤٩ / أبواب كيفية الحكم ب ١٢ ح ١.

٢١٩

الظاهر هو أنّ المدّعي أقام البيّنة على دعواه وهي الأخذ بغير ثمن ، وهو عبارة عن كون المورّث غاصباً ، فتكون بيّنته حاكمة على بيّنة الوارث التي أقامها على أنّه ورثها من أبيه ولا يدري كيف كان أمرها ... إلخ ، خصوصاً إذا كان ذلك ـ أعني قوله : « ولا يدري » ـ من تتمّة البيّنة وجزءاً من شهادة الشاهد ، وكذلك لو جعلناه من مقولات الوارث بأن قرأناه مبنيّاً للفاعل ، بخلاف ما لو جعلناه من مقولات حاكي القضية وأنّه بالبناء للمفعول ، مع أنّه لو كان كذلك كانت بيّنة المدّعي حاكمة أيضاً ، وإن كانت حكومتها على الوجهين الأوّلين أوضح.

بقي الكلام في أنّ من أقرّ له صاحب اليد هل يكون صاحب يد في قبال من يدّعي العين فيما لو تداعياه وهي في يد ثالث وأقرّ هذا الثالث بأنّها لأحدهما المعيّن ، والمعروف عندهم هو ذلك ، ويمكن [ القول ] بأنّ جميع ما أفادوه في توجيه كون المقرّ له صاحب يد بحيث يكون عليه اليمين وعلى طرفه البيّنة لا يخلو من تعسّف حتّى توجيه ذلك بقاعدة من ملك ، تلك القاعدة التي هي في نفسها محل التأمّل فضلاً عن انطباقها على ما نحن فيه.

وأحسن ما يمكن أن يقال في توجيه كون المقرّ له صاحب يد بعد أن لا ريب في كون طرفه أجنبياً : هو أنّ يد الغاصب والأمين ونحوه إنّما هي يد المالك حتّى فيما لو كان المالك غافلاً أو جاهلاً بأنّها في يد هذا الثالث ، وهذا الثالث هو صاحب اليد حتّى بعد اعترافه لأحدهما وإن كانت يده هي يد المقرّ له ، وإن شئت قلت : إنّ هذا والمقرّ له تكون اليد بينهما في قبال ذلك الأجنبي الذي لا يقدر على انتزاعها منهما إلاّبالبيّنة ، وحيث إنّ هذا الثالث قد اعترف بأنّ يده على المال هي عارية أو عادية عن المالك الذي هو المقرّ له وقد صدّقه المقرّ له بذلك ، فليس إقرار هذا الثالث من قبيل مجرّد الاعتراف بسقوط يده والشهادة بأنّ المال

٢٢٠