أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

بعض فروع هذه الكبرى ، فقال مازجاً عبارته بعبارة المصنّف قدس‌سرهما : ولو كانت العين التي ادّعيا شراءها من فلان في يد أحدهما قضي بها له مع عدم البيّنة وعليه اليمين للآخر. ولو أقاما بيّنة حكم للخارج على رأي وللداخل على قول (١) ، فإنّه قد أرسل ذلك إرسال المسلّمات ، وما ذلك إلاّمن جهة أنّ إقرار صاحب اليد بأنّه اشتراها من صاحبها لا يوجب قلبه مدّعياً في قبال طرفه في الخصومة.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك فيما إذا لم يكن شراء الآخر معلوماً ، أمّا لو كان معلوماً ولو بالبيّنة كان على صاحب اليد إقامة البيّنة على أنّه اشتراها من صاحبها قبل شراء الطرف ، وبهذه الكيفية تخرج المسألة عن محلّ الكلام في ترجيح بيّنة الداخل أو ترجيح بيّنة الخارج ، فلاحظ وتتبّع وتأمّل ، لكن لو أقرّ صاحب اليد لطرفه بالشراء ، لكنّه يدّعي أنّ شراءه متأخّر عن شراء نفسه ، وإن أمكن القول بانقلابه مدّعياً وأنّ عليه إثبات تقدّم شرائه ، على إشكال في ذلك. وعلى كلّ حال ، فهذا الاحتمال لا يأتي فيما لو كان المدّعي يدّعي أنّ زيداً صالحني أو وهبني جميع أمواله وهذا الذي بيدك من جملته ، وصاحب اليد يعترف له بما ادّعاه لكن يقول إنّما صالحك على ما بقي من أمواله وهذا ليس من ذلك ، وحينئذ لا يحتاج إلى إثبات السبق ، لأنّه لم يعترف بالمصالحة على وجه العموم ، وإنّما يعترف بالمصالحة على أعيان خاصّة وهي ما بقي من أمواله ، وقضية فدك من هذا القبيل ، لأنّ الصدّيقة عليها‌السلام لو اعترفت بمقتضى الخبر المزعوم فهي إنّما تعترف بانتقال ما توفّي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عموم المسلمين ، ولا دخل لذلك بما هو تحت يدها ممّا تدّعي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنحله إيّاها في حياته ، فبعد أنّه ليس انتقال ما تركه صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم

__________________

(١) كشف اللثام ١٠ : ٢١٩.

٢٤١

على نحو الارث بل على نحو الوصية ، يكون اعترافها بأنّ فدكاً كانت له صلى‌الله‌عليه‌وآله اعترافاً لشخص لا يمتّ إليه المسلمون إلاّبنحو من الوصية ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ المرحوم الحاج آغا رضا الهمداني قدس‌سره في حاشيته على هذا المقام في الرسائل أجاب عن الانقلاب بما حاصله : أنّ الانقلاب إنّما يتمّ فيما لو أنكر الطرف المقابل ما يدّعيه طرفه من سبب النقل ، كأن يقول صاحب اليد اشتريتها من مورّثك فينكر الطرف الآخر ذلك ، أمّا لو لم يجب الطرف الآخر إلاّ بعدم العلم ، فليس له على صاحب اليد الذي يدّعي الانتقال إليه إلاّ اليمين دون البيّنة ، والمفروض في قضية فدك هو ذلك ، حيث إنّ أبا بكر لم ينكر ما ادّعته الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام ، وإنّما كان أقصى ما عنده هو عدم العلم بذلك ، وحينئذ فليس له أن يطالب بالبيّنة ، قال : إذ ليس أثر الاعتراف أزيد من العلم بكونه في السابق ملكاً للمدّعي ، بل ليس للمدّعي فيما بينه وبين الله التصرّف ـ في مثل الفرض ـ فيما في يد الغير اعتماداً على ملكيته السابقة التي يحتمل زوالها بناقل شرعي ، لأنّ اليد كما أنّها أمارة لغيره عند الجهل بالسبب كذلك أمارة له ما لم يعلم بكونها عادية ، فحكم المشهور بانتزاع العين من يده إنّما هو في صورة إنكار السبب الموجب لانقلاب الدعوى ، لا الاعتراف بجهله بالحال المستلزم لبقاء الدعوى على ما كانت عليه وهي الملكية الفعلية لا في سببها ، فمطالبة أبي بكر البيّنة منها عليها‌السلام مع أنّه لم يكن في مقابلها من ينكر التلقّي ممّا لا وجه له ، وليس دعوى الجهل بالسبب كانكاره في سماع الدعوى ومطالبة البيّنة ، وإلاّ لفتح من ذلك باب واسع لأكل أموال الناس على وجه مشروع ، فإنّ أكثر الناس يعترفون بأنّ كثيراً ممّا في أيديهم كان ملكاً للسابقين ، ولا يعلم ورثتهم نقلها إليهم بناقل شرعي

٢٤٢

كما لا يخفى (١). وعلى ذلك جرى المرحوم صاحب الدرر فراجعه (٢).

قلت : لا يخفى ما فيما أفاده من التسوية بين علم المدّعي بكونها في السابق له وبين اعتراف صاحب اليد ، وقد مرّ تفصيل الفرق بين الصورتين ، فإنّ علم المدّعي بأنّها في السابق كانت له لا ينفعه في الملكية الفعلية إلاّبالاستصحاب المفروض سقوطه بحكومة اليد ، وأمّا ما أفاده من تخصيص الانقلاب بصورة إنكار المدّعي ففيه : أنّ الاعتراف ودعوى الانتقال إذا قلنا إنّه يوجب قلب الدعوى فلا دخل له بجواب المجيب ، بل أقصى ما في البين هو أنّ طرف صاحب اليد لو أجاب عن دعوى الانتقال بقوله لا أدري ، دخل فيما حرّره الفقهاء في جواب المدّعى عليه بقوله لا أدري ، من أنّه إذا لم تكن للمدّعي بيّنة فهل عليه الحلف ويحكم له أم تسقط الدعوى بالمرّة ، فراجع ما ذكره السيّد في قضاء العروة ص ٩٠ (٣).

وأمّا قوله : وليس دعوى الجهل بالسبب كإنكاره في سماع الدعوى ومطالبة البيّنة الخ ، ففيه أنّ عدم العلم والجهل بالواقع إنّما يؤثّر فيما لو كان صاحبه مدّعياً ، إذ لا تسمع الدعوى إلاّمع الجزم ، أمّا لو كان صاحبه منكراً كما هو المفروض فلا أثر له في عدم سماع الانكار الناشئ عن الجهل وعدم العلم بحيث إنّ ذلك المنكر يُلزم بمجرّد دعوى المدّعي.

ثمّ إنّ ذلك لو سلّم لم يكن نافعاً في توجيه رواية الاحتجاج ، لأنّ حاصل

__________________

(١) حاشية فرائد الأُصول : ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(٢) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٦١٧.

(٣) العروة الوثقى ٦ : ٥٦٢.

٢٤٣

الرواية هو أنّه عليه‌السلام يستدلّ على خطأ أبي بكر في طلب البيّنة ، بأنّ صاحب اليد لا يطالب بالبيّنة ، لا بأنّ إقراره مع عدم علم الطرف بما يدّعيه من الانتقال لا يوجب الانقلاب ، فتأمّل.

وأمّا ما ذكره بقوله : وإلاّ لفتح من ذلك باب واسع الخ ، فلا يخفى ما فيه ، فإنّ الاشهاد المأمور به في المعاملات وتعارف كتابة الأسناد والسجلاّت يسدّ هذا الفتق ، وهذه الجهة هي إحدى الجهات في حكمة الاشهاد وتنظيم السجلاّت الذي نطقت به الآيات الشريفة.

٢٤٤

[ قاعدة الفراغ والتجاوز ]

قوله : فقد قيل بكونها من الأمارات لما فيها من الكاشفية ، فإنّ الغالب عند تعلّق الارادة ... الخ (١).

إنّ هذا المطلب قوي ومتين ، وحاصله هو تحرّك المكلّف عن تلك الارادة وإن كان قد طرأته الغفلة في أثناء استمراره على العمل ، فهو يفعل بإرادته تلك الموجودة في صقع نفسه ارتكازاً وإن كان غافلاً عنها ، وما أكثر نظائر ذلك في عالم الإنسان كما في التبادر ونحو ذلك من الارتكازيات الموجودة في صقع النفس المؤثّرة في عالم الإنسان مع غفلته عنها ، فهو فعلاً يسجد باختياره وإرادته مع فرض عدم تعلّق إرادة شخصية بذلك.

ولكن هذا كلّه نافع في تصحيح العبادة ، أما أنّه يكون موجباً لأمارية قاعدة التجاوز ففيه تأمّل ، فإنّ الغالب وإن كان هو الجري على طبق تلك الارادة المخزونة ، أو أنّها بطبعها تدفعه إلى الفعل ما لم يكن هناك طارئ يوجب عدم تأثّرها ، إلاّ أنّ ذلك كلّه إنّما يصلح وجهاً في تعبّدهم بالقاعدة المزبورة ، إذ كلّ أصل جرى عليه العقلاء لابدّ أن يوجّه بهذا النحو من التوجيهات الراجعة إلى الارتكازات العقلائية ، إذ ليس من شأنهم التعبّد الصرف بلا جهة توجبه ، أمّا مثل قوله عليه‌السلام : « بلى قد ركعت » (٢) ومثل قولهم عليهم‌السلام : « هو

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦١٨.

(٢) وسائل الشيعة ٦ : ٣١٧ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٣.

٢٤٥

أذكر » (١) فلا يكون من الأدلّة على الأمارية ، بل ظاهر الأوّل هو التعبّد بوجود الركوع ، فلا يزيد على سائر الأُصول التعبّدية الاحرازية أو التنزيلية ، نظير قوله في المشكوك : « هو طاهر » أو « حلال » ونحو ذلك ممّا يفيد التنزيل ، سيّما ما اشتمل على قوله عليه‌السلام : « بلى قد ركعت فامض في صلاتك ، فإنّما ذلك من الشيطان » (٢) فإنّه لا يخلو عن ظهور في مجرّد التعبّد من دون كشف ، نعم هي لا تخلو عن الاحرازية ، فلاحظ.

وأمّا مفاد قوله عليه‌السلام : « هو أذكر » فلعلّه لا يزيد على مفاد الأخذ باليقين السابق على نحو مفاد الاستصحاب أو على نحو مفاد قاعدة اليقين ، وإلى ذلك يومئ قوله عليه‌السلام : « إذا شكّ الرجل بعد ما صلّى فلم يدر أثلاثاً صلّى أم أربعاً ، وكان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ ، لم يعد الصلاة ، وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك » (٣). وفي مستطرفات السرائر بدله « وكان حين انصرف أقرب منه للحفظ بعد ذلك » (٤).

قال شيخنا قدس‌سره عند استشهاده على الأمارية بقوله عليه‌السلام : « بلى قد ركعت » ما هذا لفظه الذي حرّرته عنه : نعم ، قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : « فامضه كما هو » (٥) ربما يكون دليلاً على كونها أصلاً ، إلاّ أنّه أقصى ما فيه أنّه لم يكن متعرّضاً لتتميم الكشف ، لا أنّه كان متعرّضاً للحكم بعدمه ، فيكون ما تعرّض له هو

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧ وفيه « هو حين يتوضّأ أذكر ... ».

(٢) وسائل الشيعة ٦ : ٣١٧ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٣.

(٣) وسائل الشيعة ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٧ ح ٣.

(٤) السرائر ٣ : ٦١٤.

(٥) وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٣ ح ٣.

٢٤٦

المرجع لأنّه بلا مزاحم. وبالجملة : فإنّ الفرق بين مفاد الأمارة ومفاد الأصل هو الفرق بين الوجود والعدم ، فدليل الأمارة يكون متعرّضاً لجهة زائدة وهي تتميم الكشف ، ودليل الأصل لا يكون متعرّضاً لها ، فلا يكون بين الدليلين تعارض لو اجتمعا في مورد واحد ، انتهى.

قلت : قد عرفت أنّ نفس قوله عليه‌السلام : « بلى قد ركعت » لا دلالة فيه على لحاظ جهة الكشف أو تتميمها ، فإنّه ليس باخبار عن وجود الركوع حقيقة ، بل هو تعبّد وتنزيل لوجود الركوع ، فلا يستفاد منه إلاّ التعبّد بوجود الركوع ولزوم البناء على وجوده.

اللهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ هذا ـ أعني الاخبار عن الركوع ـ هو مفاد نفس قاعدة التجاوز ، فكأنّ لسان قاعدة التجاوز يُخبرك عن الواقع بأنّك قد ركعت ، فإذا فرضنا أنّ الشارع جعل قاعدة التجاوز حجّة فقد جعل لك حجّية ذلك الاخبار ، غايته أنّه كان دليل حجّيتها هو عين مفادها أعني الاخبار عن الواقع ، فيكون نظير ما لو أخبرك المخبر بحياة زيد والمولى في مقام لزوم تصديقه عليك يقول لك إنّ زيداً حي.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ ذلك متوقّف على أن يكون مفاد قاعدة التجاوز في حدّ نفسه هو الاخبار عن وجود الجزء ، وليس الأمر كذلك ، إذ ليس الاخبار إلاّ واقعاً في كلامه عليه‌السلام تنزيلاً وتعبّداً بوجود الركوع ، فلا يزيد على أن يكون قد تعبّدنا بوجوده في لزوم ترتيب آثار وجوده من المضي على الصلاة ، ولأجل ذلك عقّبه بقوله عليه‌السلام في بعضها « فامضه » بل وزاد في بعضها « فإنّما ذلك من الشيطان ».

ثمّ لا يخفى أنّ الظاهر أنّ هذا النزاع ـ أعني كونها أمارة أو أصلاً ـ لا أثر له سوى توجيه حكومتها على الاستصحاب ، أمّا ما أفاده العلاّمة الأصفهاني قدس‌سره في

٢٤٧

رسالته ص ٣٠٤ المطبوعة مع الجزء الثالث من حاشيته على الكفاية ، من الأمثلة من الشكّ في الوضوء أو الغسل بعد الفراغ من الصلاة ، وأنّها لو كانت أمارة لكان مقتضاها عدم وجوب الغسل عليه للصلوات الآتية ، بخلاف ما لو كانت أصلاً ، فيمكن التأمّل فيه ، فإنّ الظاهر أنّ هذا الأثر وهو عدم وجوب الغسل عليه للصلوات الآتية تابع لما هو المستفاد من أدلّة القاعدة من لزوم ترتيب آثار وجود الغسل مثلاً ، وهل في البين إطلاق يشمل الصلاة الآتية أو أنّه مقصور على الصلاة السابقة التي هي موقع الشكّ ، سواء قلنا بكونها أمارة أو قلنا بكونها أصلاً ، وقد صرّح هو بذلك بقوله : نعم على الطريقية والأمارية يقع الكلام في أنّ مقتضى أخبار المسألة التعبّد بالوجود بقول مطلق الخ (١) ، بل حتّى لو كانت من الأُصول غير الاحرازية ، فإنّه يمكن أن يكون الحكم على الشاكّ في الغسل بأنّه مغتسل مطلق شامل لجميع آثار الغسل حتّى صحّة ما يأتي به من الصلوات بعد ذلك ، فإنّ ميزان الأمارة هو الكشف وتتميم جهة الكشف من دون أن يكون الشكّ مأخوذاً في موضوعها ، غايته أنّه مورد لها ، وميزان الأصل هو أخذ الشكّ في موضوعه ، فإن كان الحكم فيه حكماً على الشكّ من دون تعرّض لإزالته كان أصلاً غير إحرازي ، وإن كان الحكم فيه قد تضمّن إزالة الشكّ كان أصلاً إحرازياً ، ولأجل ذلك كانت الأمارة حاكمة على الأصل ، وكان الأصل الاحرازي حاكماً على غير الاحرازي.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده العلاّمة المذكور ممّا يظهر أنّ الميزان في الأمارة هو الحكم بها بازالة الشكّ بخلاف الأصل ، فإنّه قال في تقريب الاستدلال على كونها أمارة بالروايات : مضافاً إلى الفرق بين ترتيب الحكم على

__________________

(١) رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : ٣٠٥.

٢٤٨

الشكّ كما في الأصل والحكم بعدم الاعتناء بالشكّ بقوله : « فشكّك ليس بشيء » (١) ـ (٢) فلاحظ.

ثمّ إنّه أشار إلى مطلب شيخنا قدس‌سره وأوضحه فقال في ص ٣٠٤ ومحصّله بتوضيح منّي : إنّ الارادة المتعلّقة بمركّب إرادة كلّية ينبعث منها إرادات جزئية تدريجية متعلّقة بكلّ جزء جزء متدرّجاً الخ ، ومحصّل هذا التوجيه هو أنّ الارادة المتعلّقة بمركّب تولّد إرادات متعدّدة حسب تعدّد الأجزاء ، كلّ إرادة تقع في ظرف ذلك الجزء الذي تتعلّق به ، فالارادة الأُولى الكلّية تولّد إرادات جزئية متدرّجة ، وتلك الارادات الجزئية يولد كلّ منها ما تعلّق به من الأجزاء ، وبعد الفراغ يحكم بأنّه عند وصوله مثلاً إلى السجود قد أراده في ظرفه وفعله.

ولكن الظاهر من تقريب شيخنا قدس‌سره حذف الارادات الجزئية في كلّ جزء ، بمعنى عدم الحاجة إليها في صحّة العمل ، وأنّ الارادة الكلّية الأُولى المخزونة في النفس كافية في صحّة الجزء ، وفي الحقيقة أنّ نفس الارادة الكلّية الحاصلة عند الشروع في المركّب هي عبارة عن الارادة المنبسطة على ذلك المركّب التي يكون تعلّقها بذلك المركّب عين تعلّق الارادة بكلّ واحد من أجزائه ، بمعنى أنّ كلّ واحد من تلك الأجزاء يكون مراداً ضمناً في ضمن تلك الارادة الكلّية ، نظير ما قلنا في الإرادة التشريعية الوجوبية المتعلّقة بالمركبات.

ثمّ إنّ هذه الإرادة الكلّية بما اشتملت عليه من الارادات الانحلالية تبقى مخزونة في النفس ، لكنّها تؤثّر في تحريك المكلّف وتبعثه على كلّ جزء في

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٣ ح ١.

(٢) رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : ٣٠٤.

٢٤٩

مورده وإن حصلت الغفلة وغيبوبتها تفصيلاً عن ذهنه لكنّها حاضرة في نفسه ارتكازاً على حذو ما ذكرناه في التبادر وغيره من الحركات الارتكازية ، وبعد الفراغ لو شكّ في إيجاد بعض تلك الأجزاء كان الأصل العقلائي أو الأمارة العقلائية قاضية بأنّه عند وصوله إلى محلّ ذلك الجزء قد انبعث إليه بتلك الارادة الكلّية الارتكازية التي كان في ضمنها إرادة ذلك الجزء عندما شرع في العمل ، فإنّه لا يترك ذلك الجزء إلاّبعارض يحول بينه وبين الانبعاث عن تلك الارادة ، بأن تغيب تلك الإرادة عن ذهنه بالمرّة ، وتكون تلك الغيبوبة التامّة ماحية لتلك الارادة عن صقع النفس بالمرّة ، وهذا خلاف العادة الجارية في من تعلّقت إرادتهم بالمركّب وشرعوا فيه واستمرّوا إلى آخر جزء منه.

ولأجل ذلك أفاد شيخنا قدس‌سره بأنّه لابدّ في مجرى القاعدة من كونه مراداً ضمناً لا استقلالاً ، فإنّه حينئذ يخرج عن هذا الأصل العقلائي.

وأمّا ما أفاده العلاّمة المذكور (١) من تقريب الوجه الثاني الذي اختاره ممّا حاصله أنّ المقدم على الفعل المشروط بشرط مثلاً لا يُقدم عليه إلاّمع حصول ذلك الشرط إمّا سابقاً أو مع الاقدام عليه قبل الشروع في العمل المشروط به ، فلو تمّت الغلبة في ذلك أو تمّ البناء العقلائي عليه ، فذلك على الظاهر أمر آخر غير مفاد قاعدة التجاوز أو قاعدة الفراغ ، بل هو أشبه شيء بأصالة الحمل على الصحّة وعدم المخالفة لما هو المقرّر ، سواء ذلك في عمل نفسه أو عمل غيره ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) رسالة في قاعدة الفراغ والتجاوز ( المطبوعة آخر الطبعة القديمة من نهاية الدراية ) : ٣٠٥.

٢٥٠

قال الشيخ قدس‌سره في الموضع السادس الذي حرّره لما إذا كان الشكّ متعلّقاً بصحّة الجزء وقد تجاوزه إلى جزء آخر ، وأنّه هل يلحق بما لو حصل الشكّ في أصل وجوده ما هذا لفظه : لكن الانصاف أنّ الإلحاق لا يخلو عن إشكال ، لأنّ الظاهر من أخبار الشكّ في الشيء اختصاصها بغير هذه الصورة ، إلاّ أن يدّعى تنقيح المناط أو يستند فيه إلى بعض ما يستفاد منه العموم مثل موثّقة ابن أبي يعفور (١) ، أو يجعل أصالة الصحّة في فعل الفاعل المريد للصحيح أصلاً برأسه ومدركه ظهور حال المسلم ، قال فخر الدين في الإيضاح في مسألة الشكّ في بعض أفعال الطهارة : إنّ الأصل في فعل العاقل المكلّف الذي يقصد براءة ذمّته بفعل صحيح وهو يعلم الكيفية والكمّية ، الصحّة (٢). ويمكن استفادة اعتباره من عموم التعليل المتقدّم في قوله : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » فإنّه بمنزلة صغرى لقوله : فإذا كان أذكر فلا يترك ما يعتبر في صحّة عمله الذي يريد به إبراء ذمّته ، لأنّ الترك سهواً خلاف فرض الذكر ، وعمداً خلاف إرادة الابراء (٣) ، وهو عين ما أفاده العلاّمة المذكور في هذا المقام ، فلاحظ وتأمّل.

وعلى أي حال ، لا يكون ذلك مستلزماً لكونها من قبيل الأمارة ، بل أقصى ما فيه هو أنّه صالح لعلّية البناء العقلائي أو لحكمة التشريع في ذلك البناء التعبّدي ، فلا تخرج القاعدة بذلك عن كونها أصلاً عقلائياً أمضاه الشارع أو أصلاً تعبّدياً شرعياً ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٢.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ٤٣.

(٣) فرائد الأُصول ٣ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

٢٥١

قوله : وحينئذ تكون القاعدة حاكمة على استصحاب عدم وقوع الفعل المشكوك فيه ، كحكومة سائر الأمارات الأُخر عليه ... إلخ (١).

بعد الاعتراف بأنّ موضوع كلّ منهما هو الشكّ وصلاحية كلّ منهما في حدّ نفسه لأن يكون رافعاً لذلك الشكّ ، لا وجه لتقدّمها عليه وإن كانت هي من الأمارات ، خصوصاً إذا كان الشكّ فيهما واحداً لا تعدّد فيه ، وقد تقدّم في المباحث السابقة ما لعلّه يكون موضّحاً لذلك ، فراجع.

قوله : ولعلّ الوجه في ذلك هو أنّ موضوع الاستصحاب إنّما هو الشكّ في بقاء الحالة السابقة ، وهو إنّما يكون مسبّباً عن الشكّ في حدوث ما يوجب ... الخ (٢).

حاصل ما أفاده قدس‌سره في توضيح ما أفاده الشيخ قدس‌سره فيما حرّرته عنه قدس‌سره : هو أنّ هذه القاعدة وكلّ ما هو نظيرها مثل اليد ونحوها لو كانت مسبوقة بخلاف ما هو مقتضاها كالملكية السابقة في مورد اليد ، وعدم الاتيان بالجزء المشكوك في مورد القاعدة ، تكون حاكمة على الاستصحاب ، فإنّ غاية تقريب المعارضة أن يقال : إنّه ليس لنا في مورد المعارضة إلاّشكّ واحد ، له إضافة إلى الحالة السابقة ، فيكون شكّاً في البقاء ، وإضافة إلى حدوث ما هو مقتضى القاعدة فيكون شكّاً في الحدوث ، فيكون ذلك الشكّ الواحد مورداً للاستصحاب والقاعدة ، فيحصل التعارض.

وفيه أوّلاً : أنّ دعوى كون الشكّ شكّاً واحداً عهدتها على مدّعيها ، حيث إنّ الوجدان شاهد على أنّ لنا شكّين ، أحدهما الشكّ في بقاء عدم السورة مثلاً الذي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦١٨.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦١٩.

٢٥٢

هو الحالة السابقة ، والآخر الشكّ في حدوث ما هو مقتضى القاعدة وهو وجود السورة.

وثانياً : أنّه لو أُغضي النظر عن ذلك وقيل إنّه شكّ واحد ذو جهتين ، أو قيل إنّهما شكّان ، فالقاعدة حاكمة على الاستصحاب من جهة السببية والمسبّبية ، حيث إنّ الشكّ في بقاء الحالة السابقة إنّما يكون مسبّباً عن حدوث ذلك الحادث الذي هو رافع لها ، بخلاف الشكّ في وجود ذلك الحادث فإنّه غير مسبّب عن الشكّ في بقاء الحالة السابقة ، لتحقّق الشكّ المذكور حتّى لو لم تكن الحالة السابقة معلومة ، بخلاف الشكّ في البقاء فإنّه لا يكون له منشأ إلاّمن جهة الشكّ في حدوث ذلك المشكوك ، وحينئذ فإذا كان ذلك المشكوك حدوثه محكوماً بالحدوث بمقتضى القاعدة المذكورة ، كان مقتضاه الحكم بانتقاض الحالة السابقة ، فيسقط الاستصحاب للحكم بانتقاض الحالة السابقة.

قلت : أمّا كونهما شكّاً واحداً أو شكّين فلم يتّضح الحال فيه ، فإنّ الظاهر أنّ الشكّ في بقاء عدم السورة عبارة عن التردّد في بقاء ذلك العدم بين البقاء وعدم البقاء ، ولا يخفى أنّ عدم بقاء ذلك العدم هو عين وجود السورة ، فالظاهر أنّه ليس لنا إلاّشكّ واحد ، ثمّ بعد تسليم كونه شكّاً واحداً ذا جهتين أو تسليم كونه شكّين لم يتّضح وجه الحكومة ، فإنّ الشكّ في بقاء العدم لو كان مسبّباً عن الشكّ في حدوث السورة لم يكن وجه للحكومة ، لعدم كون هذا التسبّب شرعياً ، مضافاً إلى إمكان عكس الأمر ، بأن يقال : إنّ الشكّ في حدوث السورة مسبّب عن الشكّ في بقاء العدم. ومجرّد أنّه قد يحدث الشكّ في وجود السورة مع فرض عدم تحقّق الحالة السابقة أو عدم العلم بها لا ينفع في دفع الإشكال ، فإنّ المدّعى هو أنّه في المورد الذي يكون الشكّ في الحدوث مسبوقاً بالعلم بالحالة السابقة ، يكون

٢٥٣

الشكّ في الحدوث مسبّباً عن الشكّ في بقاء الحالة السابقة.

ومن ذلك كلّه تظهر الخدشة فيما في التقريرات المطبوعة في صيدا (١) ، من توجيه الحكومة بأنّ الاستصحاب لا يرفع موضوع القاعدة إلاّبلازم حكمه ببقاء الحالة السابقة ، بخلاف القاعدة فإنّها بنفس حكمها بالحدوث ترفع الحالة السابقة التي هي مورد الاستصحاب ، فإنّه قد اتّضح لك أنّ ارتفاع الحالة السابقة هو عين حدوث مقتضى القاعدة ، وعدم حدوثه هو عين بقاء الحالة السابقة ، فليس في البين تلازم بل اتّحاد وعينية ، ولو سلّمنا التلازم لأمكن العكس بأن يقال : إنّ القاعدة لا ترفع الاستصحاب بنفسها ، بمعنى أنّه لا ترفعه بمدلولها المطابقي الذي هو الحكم بوجود السورة ، بل إنّما ترفعه بواسطة اللازم الذي هو ارتفاع الحالة السابقة وانتقاضها.

قوله : كما يظهر من الشيخ قدس‌سره حيث ذكر قبل التعرّض لحكومة اليد على الاستصحاب بأسطر ما لفظه : وقد يعلم عدم كونه ناظراً إلى الواقع وكاشفاً عنه وأنّه من القواعد التعبّدية لكن يختفي حكومته مع ذلك على الاستصحاب الخ ، فراجع العبارة فإنّ الذي يظهر من كلامه إمكان أن يكون أحد التنزيلين في الأُصول التنزيلية رافعاً لموضوع التنزيل الآخر. ولكن لم يبيّن وجهه (٢).

لا يخفى أنّ تتمّة العبارة هي قوله : لأنّا قد ذكرنا أنّه قد يكون الشيء غير الكاشف منصوباً من حيث تنزيل الشارع الاحتمال المطابق له منزلة الواقع ، إلاّ أنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١٠ ـ ٢١١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦١٩.

٢٥٤

الاختفاء في تقديم أحد التنزيلين على الآخر وحكومته عليه (١) ، وليس في هذه العبارة إلاّمجرّد الإشكال في وجه التقديم ، من دون إشارة إلى الوجه المشار إليه أعني كون أحدهما رافعاً لموضوع الآخر ، بل قال بعد ذلك في توجيه تقديم قاعدة الفراغ ما نصّه : المسألة الثانية : في أنّ أصالة الصحّة في العمل بعد الفراغ منه لا يعارض بها الاستصحاب ، إمّا لكونها من الأمارات كما يشعر به قوله عليه‌السلام في بعض روايات ذلك الأصل : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (٢) وإمّا لأنّها وإن كانت من الأُصول إلاّ أنّ الأمر بالأخذ بها في مورد الاستصحاب يدلّ على تقديمها عليه ، فهي خاصّة بالنسبة إليه يخصّص بأدلّتها أدلّته ، ولا إشكال في شيء من ذلك (٣).

وإلى هذا الوجه ـ أعني التخصيص ـ يرجع ما أفاده شيخنا قدس‌سره بقوله : فلو قدّم الاستصحاب عليها تبقى القاعدة بلا مورد (٤) ، وإليه يرجع ما في الكفاية (٥) وأمّا ما احتمله في الكفاية من العموم من وجه ، فلم يظهر له وجه إلاّ إذا فرض نادراً سقوط الاستصحاب في موردها بذاته لمعارضة ونحوها ، وهو نادر جدّاً لا يعتنى به ، ولأجل ذلك نقول : لو قدّم عليها لبقيت بلا مورد أو على مورد نادر ، فلاحظ.

وأمّا ما احتمله شيخنا قدس‌سره بقوله : ولعلّ الوجه في ذلك هو أنّ الخ (٦) ، فقد عرفت

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٣١٩.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧.

(٣) فرائد الأُصول ٣ : ٣٢٥.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٦١٩.

(٥) كفاية الأُصول : ٤٣٣.

(٦) فوائد الأُصول ٤ : ٦١٩.

٢٥٥

أنّ كلام الشيخ قدس‌سره في هذا المقام أجنبي عنه ، نعم في مبحث أصالة الصحّة في عمل الغير عند قوله : المقام السادس في بيان ورود هذا الأصل على الاستصحاب (١) ، قد اختلفت فيه النسخ وفي بعضها ما لعلّه يرجع إلى هذا الوجه الذي أفاده شيخنا قدس‌سره فراجع ، ولم أتوفّق لمعرفة الوجه في عدول الشيخ قدس‌سره عمّا أفاده في قاعدة الفراغ من وجه التقديم إلى هذه العبائر التي اختلفت النسخ فيها على طولها في مبحث أصالة الصحّة في فعل الغير ، كما أنّ ما أفاده في تحرير السيّد ( سلّمه الله تعالى ) عن شيخنا قدس‌سره بقوله : وتحقيق الحال الخ (٢) ، لم يتّضح المراد منه ، فإنّه يقول : فإنّ دليل القاعدة الناظر إلى إثبات حكم مخالف للحالة السابقة بنفسه ينظر إلى سقوط الاستصحاب وعدم بقاء الحالة السابقة الخ ، ومن الواضح أنّ هذا بمجرّده لا يوجب الحكومة إلاّمن جهة كون دليل القاعدة وارداً في مورد الاستصحاب على خلافها ، وذلك عبارة أُخرى عن الالتزام بالتخصيص ، إذ لا مورد لها غير مورد الاستصحاب ، وذلك لا دخل له بالقرينة وذي القرينة الذي قاس التقديم فيما نحن فيه عليه.

وهذا ـ أعني كون التقديم من باب التخصيص ـ هو الظاهر من الشيخ قدس‌سره ومن الكفاية ومن المقالة ص ١٧٧ وص ١٨٣ (٣) ، وهو الذي يظهر من الغرر ، قال فيها : إن قلنا به من باب التعبّد فمقتضى تقديمه على سائر الأُصول وإن كان تقديمه عليها أيضاً إلاّ أنّه لو قلنا به لزم لغوية القاعدة ، إذ قلّما يتّفق عدم استصحاب في موردها ، مخالفاً كان أو موافقاً ، ولو بني على تقديم الاستصحاب

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٣٧٣.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢١٠.

(٣) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣٩ ، ٤٥٢.

٢٥٦

على القاعدة كتقديمه على سائر الأُصول لم يبق لها مورد إلاّنادراً غاية الندرة ، فاللازم تقديمها عليه من هذه الجهة (١).

ولا يخفى أنّ البناء على كون القاعدة من باب التعبّد لا يقضي بتقدّم الاستصحاب عليها إلاّ إذا قلنا بعدم تكفّلها الاحراز ، أمّا لو قلنا بكونها من الأُصول الاحرازية فلا موجب لتقدّم أحدهما على الآخر كما أشار إليه في المقالة ، فلاحظ كلماته ص ١٧٧ وص ١٨٣ (٢).

وكيف كان ، أنّ لقائل أن يقول : ما الداعي إلى هذه التعبيرات الموجبة للاشتباه ، فإنّ حقّ التعبير هو أن يقال : إنّ مفاد أدلّة هذه القواعد أخصّ من مفاد أدلّة الاستصحاب ، فالمتعيّن هو التخصيص ، ولو فرضنا النسبة هي العموم من وجه كان المتعيّن هو تقديم أدلّة القاعدة (٣) ، لأنّ العكس يوجب التخصيص المستهجن وهو خروج الأكثر ، لكون الباقي أقلّ قليل.

وتوضيح ذلك : هو أنّ الموارد الباقية للقاعدة ولا يجري فيها الاستصحاب المخالف لها لا تخلو عن أحد أُمور :

الأوّل : أن يكون الاستصحاب مبتلى بالمعارض ، فيكون في حدّ نفسه ساقطاً ، كما لو شكّ بعد الفراغ من الصلاة في أنّه قد اغتسل من الجنابة ، وقلنا بعدم جريان قاعدة التجاوز في الغسل لكونه مراداً بإرادة مستقلّة ، واتّفق أنّ استصحاب الجنابة أو عدم الغسل غير جار لأجل الابتلاء بالعلم الاجمالي مثلاً ، وحينئذ ينحصر الأمر في إجراء قاعدة الفراغ في الصلاة.

__________________

(١) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٦١٠.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣٩ ـ ٤٤٠ ، ٤٥٠ ـ ٤٥٢.

(٣) [ المذكور في الأصل : أدلّة الاستصحاب ، فلاحظ ].

٢٥٧

الثاني : ما لو شكّ بعد الفراغ من الصلاة بين الثلاث والأربع مثلاً ، وقلنا بعدم جريان استصحاب العدم في الركعات [ لا ] لأجل تقدّم قاعدة البناء على الأكثر ، لأنّ ذلك منحصر بما إذا كان الشكّ في أثناء الصلاة ، بل لأجل أنّ استصحاب عدم الركعات في ذاته لا يجري ، لأنّ أصالة عدم الاتيان بالرابعة لا ينفع في إثبات أنّ صلاته كانت ثلاثاً ، ونحو ذلك من الموانع المدّعاة الجارية فيما لو كان الشكّ بعد الفراغ.

الثالث : ما لو شكّ بعد الفراغ في عروض المبطل مثل زيادة الركوع أو استدبار القبلة مثلاً.

أمّا الأوّلان فالصناعة العلمية فيهما هي أن يقال : إنّ بين دليل الاستصحاب ودليل قاعدة الفراغ وإن كان هو العموم من وجه ، إلاّ أنّه لو قدّم الأوّل على الثاني لزم التخصيص الأكثر في دليل القاعدة ، وهو باطل فيتعيّن العكس ، ولعلّ ذلك هو المراد من قولهم إنّه لو قدّم الاستصحاب على القاعدة لم يبق لها إلاّ النادر.

وأمّا الثالث فلا يتأتّى فيه ما ذكرناه من لزوم تخصيص الأكثر ، لأنّ المفروض أنّ الاستصحاب القاضي بعدم زيادة الركوع موافق لقاعدة الفراغ ، فإمّا أن نقدّم القاعدة عليه لكونها أمارة ، أو نقدّمه عليها لكونه إحرازياً وهي من الأُصول غير الاحرازية ، وإن لم نقل بذاك ولا بهذا كان مقتضاه إجراءهما معاً ، ولا يصحّ لنا أن نقول : إنّها لو لم تقدّم في هذا المورد على الاستصحاب بل قدّمنا الاستصحاب عليها لكانت بلا مورد أو مورد نادر ، لأنّ ذلك في الاستصحاب المخالف لها دون الموافق.

نعم يصحّ لنا أن نقول : إنّا لو قدّمنا الاستصحاب المخالف لها في مورد المخالفة لانحصر جريانها في مثل هذه الموارد ، وهي وإن كانت كثيرة إلاّ أنّها لا

٢٥٨

أهميّة للقاعدة فيها بعد فرض جريان الاستصحاب فيها القاضي بصحّة العمل ، وحينئذ لا يبقى موقع لهذا الاهتمام بالقاعدة المستفادة من تلك الأخبار ، وبناءً على ذلك ، الحاصل هو أنّه عند مخالفتها مع الاستصحاب لو قدّمنا الاستصحاب عليها لم يبق للقاعدة إلاّموارد نادرة ، وموارد أُخر لا أهميّة فيها للقاعدة وإن كانت كثيرة في الجملة.

نعم ، لو اتّفق سقوط الاستصحاب الموافق لها وبقيت القاعدة وحدها ، كان لجريانها فيه أهميّة ، ولكن ذلك مورد نادر ، بحيث إنّا لو قدّمنا الاستصحاب عليها في تلك الموارد التي يكون الاستصحاب مخالفاً لها وابقاء هذا المورد لها والموردين السابقين كان من التخصيص المستهجن ، فلاحظ.

قوله : ويمكن أن يستظهر من كلام الشيخ قدس‌سره اتّحاد القاعدتين ووحدة الكبرى المجعولة الشرعية ، حيث قال : الموضع السادس إنّ الشكّ ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الظاهر من عبارة الشيخ قدس‌سره في هذا الموضع السادس (٢) هو النظر إلى أنّ قاعدة التجاوز إنّما تجري في مورد الشكّ في وجود الجزء بعد الدخول في جزء آخر ، أمّا لو كان المشكوك هو صحّة ذلك الجزء لا أصل وجوده ، فهل تجري فيه قاعدة التجاوز؟

والذي أفاده هو الإلحاق ، بدعوى أنّ الشكّ في صحّة الجزء راجع إلى الشكّ في وجود الصحيح ، وحينئذ يكون مفاد القاعدة هو الأعمّ من الشكّ في أصل وجود الجزء أو الشكّ في وجود الصحيح منه.

ثمّ استشكل في هذا الالحاق ، ثمّ بنى عليه لتنقيح المناط أو لرواية ابن أبي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٠.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٣٤٢.

٢٥٩

يعفور (١) أو لأجل أصالة الصحّة ، وقد تقدّم منه نظير هذا التشكيك في الموضع الأوّل من المواضع المذكورة ، وقال في آخره : وهذا ـ أعني الاختصاص بالشكّ في أصل الوجود ـ هو المتعيّن ، لأنّ إرادة الأعمّ من الشكّ في وجود الشيء والشكّ الواقع في الشيء الموجود في استعمال واحد غير صحيح (٢). ثمّ أحال المطلب على ما سيأتي.

وعلى كلّ حال ، أنّ عبارة الشيخ قدس‌سره إنّما هي مسوقة لما عرفت من إجراء القاعدة عند الشكّ في صحّة الجزء ، وليست بصدد بيان اتّحاد القاعدتين أو تعدّدهما ، ولكن لازم كلامه هو وحدة القاعدتين ، لأنّ أساس الفرق بينهما هو أنّ محصّل قاعدة التجاوز هو الشكّ في أصل وجود الشيء ، ومحصّل قاعدة الفراغ هو الشكّ في صحّته ، فلو شكّ بعد الفراغ في نقصان ركوع يكون جريان قاعدة التجاوز فيه باعتبار كونه قد شكّ في أصل وجود الركوع مع فرض تجاوز محلّه ، وجريان قاعدة الفراغ فيه باعتبار كونه قد شكّ في صحّة صلاته ولو من جهة كون الشكّ في الصحّة مسبّباً عن الشكّ في وجود الركوع ، وحينئذ فنحن لو قلنا بما أفاده الشيخ قدس‌سره في هذا المقام من إرجاع الشكّ في صحّة الشيء إلى الشكّ في وجود الصحيح ، كان كلّ منهما من قبيل الشكّ في الوجود ، فلا يحصل ما هو الفارق بين القاعدتين ، وتكون الكبرى الجامعة هي أنّه لا يعتنى بالشكّ في وجود الشيء سواء كان في أصل وجوده أو كان في وجود الصحيح منه ، غايته أنّ موارد الأُولى هي الشكّ في أصل الوجود وموارد الثانية هي الشكّ في وجود الصحيح.

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه ما هذا لفظه الذي حرّرته عنه : وحاصل الأقوال أو

__________________

(١) الآتية في الصفحة : ٢٦٨.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٣٢٩.

٢٦٠