أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

بصحّته في الشهر الأوّل كان المتيقّن هو أنّ المستأجر ملك منفعة الشهر الأوّل ، إمّا بالدرهم أو بنصف سدس الدينار ، ومن هذه الجهة يكون المالك مدّعياً ، لأنّه يطالب بالدرهم والمستأجر ينكر ذلك ويعترف له بنصف سدس الدينار والمالك ينفيه عن نفسه ، وأمّا من جهة الزائد على الشهر الأوّل فإنّ المدّعي هو المستأجر والمالك ينكر ذلك. وعلى كلّ حال ، أنّ أصالة الصحّة لا تكون نافعة في النزاع الأوّل ولا في النزاع الثاني.

ويحتمل أن يكون الوجه في صحّة الشهر الأوّل هو أنّ وجه البطلان لا يتأتّى فيه ، حيث إنّ وجه البطلان هو الغرر على المالك وأنّه لا يعرف مقدار ما هو ملزم به ، كما أنّ المستأجر أيضاً لا يعلم مقدار ما هو ملزم به من الثمن ، أمّا بالنسبة إلى الشهر الأوّل فلا شكّ عندهما في أنّهما ملزمان به ، وفيه ما لا يخفى كما هو واضح.

قوله بعد الفراغ عن شرح ما أفاده في جامع المقاصد في شرح الوجه في توقّفه عن إجراء أصالة الصحّة : وبذلك يظهر أنّه يصحّ الاستشهاد على عدم حجّية مثبتات أصالة الصحّة بما ذكره العلاّمة في الفرع الأوّل أيضاً ... الخ (١).

قال في جامع المقاصد في شرح قول العلاّمة قدس‌سره « ففي تقديم قول المستأجر نظر » : ينشأ من أنّه مدّع للصحّة وهي موافقة للأصل ، فيكون هو المنكر فيقدّم قوله باليمين ، ومن أنّه مع ذلك يدّعي أمراً زائداً وهو استيجار سنة بدينار والمالك ينكره فلا يقدّم قوله فيه ، لأنّ الأصل عدمه ، ولأنّ الأُمور المعتبرة في العقد لم يقع الاتّفاق عليها فلم يثبت سببيته ، وتقديم قول مدّعي الصحّة فرع ذلك

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٦٨.

٤٨١

كما حقّقناه في المسألة السابقة ، فعدم تقديم قوله أوجه (١).

قلت : أمّا الوجه الثاني الذي ركن إليه في المنع من جريان أصالة الصحّة فهو على الظاهر لا دخل له بالأصل المثبت ، بل هو راجع إلى ما اعتبره في جريان أصالة الصحّة من إحراز الأركان ، فيكون مرجع هذا الوجه إلى المنع من جريان أصل الصحّة.

وأمّا الوجه الأوّل وهو دعوى المستأجر أمراً زائداً وهو مالكية منفعة السنة بدينار ، فالظاهر أنّه كذلك لا دخل له بكون الأصل مثبتاً ، بل الظاهر أنّه مبني على دعوى استحقاق ذلك الأمر الزائد وأنّ المالك ينكره وينفيه ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا الأمر الزائد لمّا كان أمراً خارجاً عن مقتضى أصالة الصحّة وكان ملازماً لصحّة الاجارة ، لم يمكن الحكم بترتّبه على أصالة الصحّة فيها إلاّبالأصل المثبت ، وحيث إنّا لا نقول بحجّية الأصل المثبت يكون المرجع في هذا الأمر الزائد الذي [ هو ] مركز الدعوى هو أصالة عدمه ، على حذو ما ذكرناه في دعوى البائع صحّة العقد لكونه قد وقع على كون الثمن ديناراً ، ودعوى المشتري فساده لكون الثمن كان خمراً.

وبالجملة : أنّ المسألة فيما نحن فيه نظير تلك المسألة في عدم إثبات أصالة الصحّة لكون البائع مستحقّاً للدينار الذي هو لازم أصالة الصحّة ، فإنّ كلا المسألتين من وادٍ واحد وهو تردّد العوض بين موجب الفساد وموجب الصحّة ، وأصالة الصحّة لا تثبت الثاني ، فلا ريب في كون أصالة صحّة الاجارة بالنسبة إلى إثبات كون العوض هو منفعة السنة من قبيل الأصل المثبت.

نعم ، يبقى الكلام في أنّ مراد جامع المقاصد هو هذه الجهة ، أو أنّ مراده

__________________

(١) جامع المقاصد ٧ : ٣٠٨.

٤٨٢

أمر آخر وهو الركون إلى أصالة العدم في استحقاق ذلك الزائد. وعلى كلّ حال ، فالذي يمكن أن يكون راجعاً إلى إعابة أصالة الصحّة بكونها مثبتة إنّما هو الوجه الأوّل دون الوجه الثاني كما يظهر من هذا التحرير.

قوله : أقول ولو فرض أنّ قيمة الدينار كانت اثني عشر درهماً لا يحصل الاتّفاق بينهما في الشهر الأوّل ... الخ (١).

الظاهر أنّه لو قال آجرتك كلّ شهر بدرهم فقال المستأجر بل آجرتني سنة باثني عشر درهماً ، لا يحصل الاتّفاق بينهما على الشهر الأوّل ، وذلك لأنّ المالك يدّعي فساد العقد بالمرّة ، فلا تصحّ الاجارة حتّى في الشهر الأوّل ، والمستأجر يدّعي صحّتها في تمام السنة ، فكيف يكونان متّفقين على أنّ المستأجر ملك منفعة الشهر الأوّل بدرهم. نعم إنّهما قد اتّفقا على أنّ الشهر الأوّل قد وقع تحت الاجارة ، فالمالك يدّعي وقوعه تحتها فاسدة في ضمن مجموع الاجارة لكلّ شهر درهم ، والمستأجر يدّعي وقوعه تحتها صحيحة في ضمن مجموع إجارة السنة ، غايته أنّه قد وقع النزاع بينهما في صحّة إجارة ذلك الشهر وفساده ، وحيث إنّ المستأجر يدّعي الصحّة فالقول قوله في خصوص الشهر الأوّل وإن قدّمنا قول المالك في بقية جهات النزاع ، ولا ينتقض ذلك بضمّ الشهر الثاني إلى الأوّل بأن يقال إنّهما اتّفقا على وقوع الشهرين تحت الاجارة الخ ، لأنّهما لم يتّفقا على وقوع الاجارة على الشهرين متّصلين ، فإنّ المالك يدّعي أنّ كلّ شهر على حدة ، والمستأجر يدّعي انضمام الثاني إلى الأوّل.

نعم ، قد أورد عليه في جامع المقاصد بما حاصله أنّه بعد تقديم قول المالك استناداً إلى أصالة عدم الانتقال بعد سقوط أصالة الصحّة يكون العقد

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٦٨.

٤٨٣

فاسداً بتمامه ، سواء في ذلك الشهر الأوّل وباقي الأشهر ، ولا معنى للتبعيض. وفيه تأمّل ، هذا كلّه بناءً على بطلان الاجارة لكلّ شهر بدرهم بقول مطلق.

أمّا لو قلنا بصحّته في الشهر الأوّل كان المتيقّن هو أنّ المستأجر ملك منفعة الشهر الأوّل إمّا بالدرهم أو بنصف سدس الدينار ، ومن هذه الجهة يكون المالك مدّعياً لأنّه يطالب بالدرهم ، والمستأجر ينكر ذلك ويعترف له بنصف سدس الدينار والمالك ينفيه عن نفسه ، وأمّا من جهة الزائد على الشهر الأوّل فإنّ المدّعي هو المستأجر والمالك منكر. وعلى كلّ حال ، أنّ أصالة الصحّة لا تكون نافعة في النزاع الأوّل ولا في النزاع الثاني.

قوله : وعن جامع المقاصد في شرح قوله : « والأقوى التقديم فيما لم يتضمّن دعوى » ... الخ (١).

لو وقع النزاع في تعيين المدّة وعدمه ، فقال المالك آجرتكها لمدّة شفاء مريضك بدينار ، وقال المستأجر بل آجرتنيها سنة تامّة بدينار ، فإن كان ذلك قبل استيفاء المستأجر المنفعة المذكورة ، كان حاله حال قول المشتري بعتنيه بخمر وقال البائع بل بالدينار المعيّن في عدم جريان أصالة الصحّة في ناحية البائع وإجراء أصالة عدم النقل للدينار في ناحية المشتري ، ويكون القول قول المشتري ولا تجري أصالة الصحّة في ناحية البائع حتّى في ناحية انتقال المبيع عنه إلى المشتري ، لأنّ ذلك ـ أعني مالكية المشتري للمبيع ـ أمر يعترف به البائع وينفيه المشتري ، وتكون فائدة قول المالك في هذه الصورة هي طرد المستأجر عن السلطنة على استيفاء المنفعة المذكورة وهي تمام السنة.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٦٩ [ سيأتي التعليق مرّة أُخرى على هذا المتن في الصفحة : ٤٩٠ ].

٤٨٤

لا يقال : بعد فرض كون الشكّ في تعيين المدّة تكون أصالة الصحّة نافعة للمستأجر في استحقاقه لمنفعة السنة ، فإنّها بناءً على كونها من الأُصول الاحرازية تكون محرزة لكون المنفعة هي المعلومة وهي السنة دون المجهولة.

لأنّا نقول : إنّ أصالة الصحّة وإن كانت من الأُصول الاحرازية إلاّ أنّه لا يحرز بها إلاّواجدية المعاملة لذلك الشرط ، وهو هنا معلومية المدّة ، أمّا أنّ كون تلك المدّة هي السنة فذلك لا يترتّب عليها إلاّبالأصل المثبت من جهة العلم الخارجي في خصوص هذه المسألة بانحصار [ المدّة ] المعلومة في السنة ، فلا يمكن القول بترتّب هذا اللازم وهو استحقاق منفعة السنة على أصالة الصحّة.

وإن كان حدوث النزاع بينهما بعد استيفاء المستأجر للمنفعة في تلك المدّة وكانت أُجرة المثل للسنة مساوية لما هو المسمّى ـ أعني الدينار ـ أو كانت أقلّ منه سقط النزاع بينهما ، لعدم الفائدة حينئذ للمالك في دعواه فساد الاجارة ، كما أنّه لا فائدة للمستأجر في دعواه صحّة الاجارة ، ولو كانت أُجرة المثل أزيد من الدينار توجّه النزاع بينهما ، وكانت فائدة دعوى المالك فساد الاجارة هي سلطنته على أخذ أُجرة المثل من المستأجر وهي أكثر من الدينار ، وكانت فائدة دعوى المستأجر صحّة الاجارة هي منع المالك من أخذ الزائد على الدينار وقصر استحقاقه على المسمّى الذي هو الدينار ، وحينئذ تسقط أصالة الصحّة في جانب المستأجر ، لأنّها لا يترتّب عليها ما يدّعيه من منع المالك من أخذ الزائد على الدينار إلاّبالأصل المثبت ، إذ لا يمكنه منعه إلاّباثبات كونه مالكاً عليه منفعة السنة ، وهذا لا يترتّب على أصالة الصحّة إلاّبالأصل المثبت.

وحينئذ يكون المرجع هو أصالة عدم انتقال منفعة السنة إلى المستأجر ، وأنّه لم يكن مالكاً لها ، فيلزم المستأجر دفع أُجرة المثل التي هي زائدة على

٤٨٥

الدينار ، ولا يعارضها أصالة براءة ذمّة المستأجر من ذلك الزائد ، لأنّ أصالة عدم انتقال منفعة تمام السنة إلى المستأجر حاكم على البراءة المذكورة لكونه أصلاً موضوعياً بالقياس إليها ، كما أنّ أصالة الصحّة الحاكمة بانتقال الدينار إلى المالك لا تدفع هذا الأصل ، لما عرفت من أنّ أصالة الصحّة والحكم بانتقال الدينار إلى المالك لا يترتّب عليه الحكم بانتقال المنفعة في تمام السنة إلى المستأجر إلاّ بالأصل المثبت ، وفي كلتا الصورتين تكون أصالة الصحّة في ناحية المستأجر متضمّنة للدعوى على المالك وهي استحقاق المستأجر منفعة تمام السنة ، وذلك لا يكون إلاّبالأصل المثبت.

ولو وقع النزاع بينهما في تعيين العوض ، بأن قال المالك آجرتكها سنة بما في الصرّة التي هي عندك مع فرض كون ما في الصرّة غير معلوم لهما ، وقال المستأجر آجرتنيها سنة بهذا الدينار ، فإن كان النزاع بينهما قبل استيفاء المستأجر المنفعة المذكورة ، كان فائدة قول المالك هي منع المستأجر من السلطنة على استيفاء المنفعة المذكورة ، وفائدة قول المستأجر هي إثبات سلطنته على ذلك بالدينار ، وحينئذ تجري أصالة الصحّة في ناحية قول المستأجر ويكون القول قوله ، ويترتّب على أصالة الصحّة مقتضاها الشرعي وهو سلطنته على استيفاء المنفعة واستلامها من المالك. وأمّا بالنسبة إلى عوض منفعة السنة فيكون الحال فيه كما إذا كان النزاع بعد الاستيفاء في أنّ المالك يدّعي الزائد والمستأجر يدّعي الناقص ، ويكون القول في هذه الجهة هو قول المستأجر أيضاً.

ولو كان ذلك النزاع بينهما بعد استيفاء المستأجر لتلك المنفعة ، فإن كانت أُجرة المثل لتلك المنفعة مساوية للدينار أو أقلّ منه سقط النزاع بينهما ، إذ لا فائدة ترتّب عليه ، أمّا بالنسبة إلى المالك فلأنّ المفروض أنّ المستأجر قد استوفى

٤٨٦

المنفعة ، فلا يكون غرض المالك من دعوى الفساد هو طرد المستأجر عن استيفاء المنفعة ، كما أنّه لا غرض للمستأجر من دعوى الصحّة ، لأنّ ذلك لا يترتّب عليه إلاّ الدينار وهو مساوٍ لأُجرة المثل أو أكثر منها.

نعم ، لو كانت أُجرة المثل أزيد من الدينار توجّه النزاع بينهما بالنسبة إلى الزائد على الدينار ، فالمالك يدّعي الفساد لأجل إثبات استحقاقه ذلك الزائد ، والمستأجر يدّعي الصحّة لأجل نفي ذلك الزائد عنه ، وأصالة الصحّة وإن أثبتت انتقال منفعة تلك السنة إلى المستأجر وأنّه قد ملكها ، إلاّ أنّها لا يترتّب عليها كون عوضها هو الدينار على وجه لا يكون المالك مستحقّاً لما هو الزائد الذي هو أُجرة المثل إلاّبالأصل المثبت ، فقول المستأجر وإن كان مطابقاً لأصالة الصحّة إلاّ أنّه لا يترتّب عليه ما يرومه من دفع المالك عمّا هو الزائد على الدينار ، فلا يكون بالنسبة إلى دفع المالك عن ذلك الزائد إلاّمدّعياً ، وهو معنى قول العلاّمة قدس‌سره : « فيما لم يتضمّن دعوى » على ما شرحه جامع المقاصد (١).

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ قول المستأجر وادّعاءه بعدم استحقاق المالك ذلك الزائد عليه وإن لم يمكن إثباته بأصالة الصحّة ، إلاّ أنّ قول المالك وادّعاءه ذلك الزائد لا يكون على طبق الأصل ، لأنّ أصالة عدم الانتقال في تلك المنفعة لا تجري ، لحكومة أصالة الصحّة عليها القاضية بمالكية المستأجر لتلك المنفعة ، فلم يبق لنا في ناحية استحقاق ذلك الزائد إلاّ أصالة براءة ذمّة المستأجر منه ، فيكون القول في هذا النزاع قوله ، وفي كلا الصورتين لا تكون أصالة الصحّة في جانب المستأجر متضمّنة لدعوى على المالك ، أمّا بالنسبة إلى استحقاقه تمام منفعة السنة فلأنّ ذلك هو مقتضى أصالة الصحّة ، وأمّا بالنسبة إلى عوضها فلأنّ

__________________

(١) جامع المقاصد ٧ : ٣١٠.

٤٨٧

المالك يدّعي الزائد والمستأجر يدّعي أنّه غير مشغول الذمّة إلاّبالدينار ، فيكون القول قول المستأجر من الجهتين ، ولا تكون أصالة الصحّة في ناحيته متضمّنة لدعوى على المالك.

وربما يقال : إنّ أصالة الصحّة لا يترتّب عليها لازمها وهو مالكية المستأجر لمنفعة السنة ، سواء كان قد وقع النزاع بينهما قبل الاستيفاء أو كان بعده ، وسواء كان النزاع من جهة مجهولية المدّة أو من جهة مجهولية الثمن ، ففي جميع هذه الصور الأربع لا تكون أصالة الصحّة مثبتة للازم وهو مالكية المستأجر لمنفعة السنة ، وما لم يترتّب عليها ذلك اللازم يكون جريانها بلا أثر فتسقط ، وحينئذ يكون المرجع هو أصالة عدم انتقال منفعة السنة إلى المستأجر ، ويكون القول قول المالك في جميع الصور المذكورة ، وتكون أصالة الصحّة في جميع هذه الصور متضمّنة للدعوى على المالك.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ ذلك وإن كان كذلك في الصورتين السابقتين أعني ما لو كان النزاع في جهالة المدّة ومعلوميتها قبل الاستيفاء أو بعده إلاّ أنّه لا يتمّ في الصورتين الأخيرتين أعني ما لو كانت المدّة معلومة وكان النزاع في العوض هل هو الدينار أو هو ما في الصرّة ، فإنّ أصالة الصحّة في ذلك هو عين صحّة مالكية المستأجر للمنفعة المعلومة أعني تمام السنة ، وليس ذلك بلازم خارج ، وأمّا النزاع بينهما في العوض فإنّ القول فيه هو قول المستأجر ، لأنّ المالك يدّعي على المستأجر تمام أُجرة المثل وهو العشرة دنانير مثلاً ، والمستأجر ينفي اشتغال ذمّته بأُجرة المثل ، ولا يعترف باشتغال ذمّته إلاّبالمسمّى الذي هو الدينار ، وهو ـ أعني انشغال ذمّته بالدينار ـ وإن لم يثبت بأصالة الصحّة لكونه لازماً لها ، إلاّ أنّه يكفي في نفي الزائد عليه أصالة البراءة ، فيكون القول قول المستأجر في هذه الصورة في

٤٨٨

كلّ من الحالين ، أعني حال ما قبل الاستيفاء وحال ما بعد الاستيفاء ، ولا تكون أصالة الصحّة في جانبه متضمّنة لدعوى على المالك في كلا الحالين ، بخلاف الصورة الأُولى وهي ما لو كان النزاع على جهالة المدّة ومعلوميتها ، فإنّ أصالة الصحّة فيها تتضمّن الدعوى على المالك ، سواء كان النزاع بينهما قبل الاستيفاء أو كان بعد الاستيفاء ، ولعلّ قول العلاّمة قدس‌سره : « فيما لم يتضمّن دعوى » إشارة إلى إخراج الصورة الأُولى بكلا حاليها ، وإبقاء الصورة الثانية بكلا حاليها أيضاً ، فلاحظ وتأمّل.

بل يمكن أن يقال : إنّ أصالة الصحّة في جانب المستأجر تسدّ على المالك باب المطالبة بأُجرة المثل ، لأنّ استحقاقه لأُجرة المثل منوط بفساد مالكية المستأجر لمنفعة السنة ، وأصالة الصحّة قاضية بصحّة مالكية المستأجر لها ، ومعه لا وجه لمطالبته بأُجرة المثل.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك التأمّل فيما أفاده جامع المقاصد قدس‌سره (١) من تفسير ما أفاده العلاّمة قدس‌سره من قوله : والأقوى التقديم فيما لا يتضمّن دعوى. كما يظهر لك التأمّل ممّا يظهر من شيخنا من تقريره لذلك التفسير.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال : إنّ قول العلاّمة « والأقوى التقديم » راجع إلى جميع ما تقدّم من موارد النزاع ، حتّى فيما لو قال المالك آجرتك كلّ شهر بدرهم فقال المستأجر بل سنة بدينار ، وأنّ جميع ذلك يكون الأقوى فيه تقديم قول مدّعي الصحّة بالشرط المذكور ، غايته أنّ هذا الشرط ـ أعني عدم تضمّن الدعوى على المالك ـ منحصر بالصورة الأخيرة أعني ما لو ادّعى المالك جهالة الثمن وادّعى المستأجر معلوميته ، دون باقي الصور ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) جامع المقاصد ٧ : ٣١٠.

٤٨٩

ولعلّ المراد من كون أصالة الصحّة في حقّ المستأجر الذي يدّعي كون الأُجرة معلومة تتضمّن الدعوى هو ما لو منعه المؤجر من العين في المدّة التي وقع عليها عقد الاجارة ، فإنّ صحّة الاجارة توجب كون المؤجر ضامناً للمستأجر أُجرة المثل لتلك المدّة.

قوله : وعن جامع المقاصد في شرح قوله : والأقوى التقديم فيما لم يتضمّن دعوى ـ إلى قوله ـ أقول : لا فائدة في تقديم قول المستأجر لو كان يدّعي أُجرة تساوي أُجرة المثل ، ولا أثر لجريان أصالة الصحّة ... الخ (١).

قال في جامع المقاصد في أثناء شرحه العبارة المذكورة : والأقوى عند المصنّف تقديم قول المستأجر بيمينه فيما لا يتضمّن دعوى أمر آخر غير الصحّة على المؤجر ، كما لو كان العوض الذي ادّعاه المستأجر لا يزيد على أُجرة المثل ، فإنّ ذلك القدر ثابت على كلّ تقدير ، فيقدّم فيه قول مدّعي الصحّة عملاً بالأصل مع عدم المنافي. وهذا الذي ذكره يمكن أن يرد عليه أمران :

أحدهما : أنّ الاختلاف الذي لا يترتّب عليه فائدة أصلاً ولا يكون فيه إلاّ محض تجرّع مرارة اليمين وامتهان اسم الله العظيم بالحلف به لغير مصلحة لا يكاد يقع ممّن يعقل ، ومع الفائدة فالمحذور قائم.

الثاني : أنّ تقديم قول مدّعي الصحّة إنّما يتحقّق على ما بيّناه حيث يتّفقان على حصول أركان العقد ويختلفان في وقوع المفسد ، فإنّ التمسّك لنفيه بالأصل هو المحقّق لكون مدّعي الصحّة منكراً ، دون ما إذا اختلفا في شيء من أركان العقد فإنّه لا وجه للتقديم الخ (٢)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٦٩ [ مرّ التعليق على هذا المتن في الصفحة : ٤٨٤ ].

(٢) جامع المقاصد ٧ : ٣١٠ ـ ٣١١.

٤٩٠

ومنه يظهر أنّ هذا الذي أفاده قدس‌سره من الايراد على جامع المقاصد قد صرّح به هو في إيراده الأوّل على عبارة العلاّمة قدس‌سره. وأمّا إيراده الثاني على العبارة فهو راجع إلى الإشكال على جريان أصالة الصحّة في أمثال هذه الموارد ممّا يكون الشكّ في الصحّة فيه ناشئاً عن الشكّ في تحقّق ما هو الركن.

قوله : إذا لم يكن في البين أصل موضوعي آخر ، كما إذا كان الشكّ متمحّضاً في شرائط العقد من العربية والماضوية والصراحة ونحو ذلك ... الخ (١).

قد يتصوّر الأصل الموضوعي في شرائط العقد غير أصالة عدم الانتقال ، كما في ذكر المهر في العقد المنقطع فإنّه شرط للعقد ويجري فيه الاستصحاب العدمي عند الشكّ في ذكره ، وكما في موارد الشكّ في الموالاة بين الايجاب والقبول ، فإنّ استصحاب عدم وقوع القبول في الزمان الذي يتحقّق به الموالاة يكون نافياً لهذا الشرط ، ولكن مع ذلك تكون أصالة الصحّة حاكمة عليه ، إلاّ إذا كان على وجه تكون دائرة الشكّ أوسع من ذلك ، على وجه احتمل التأخّر بمقدار يكون منافياً لصدق العقد ، فإنّه حينئذ لا مورد لأصالة صحّة العقد لعدم إحراز العقدية ، بل بواسطة إحراز ذلك الفاصل بأصالة عدم وقوع القبول فيه تكون المسألة من قبيل إحراز عدم العقدية ، اللهمّ إلاّ أن يرجع في ذلك إلى أصالة صحّة القبول بناءً على أنّها يحرز بها موالاته للايجاب التي هي شرط فيهما ، لكنّها على الظاهر لا تنفع ، لأنّها لا يثبت بها إلاّ الصحّة التأهّلية للقبول ، وكونه بحيث لو تقدّمه الايجاب على الوجه المعتبر من عدم الفاصل المعتد به لترتّب عليه الأثر.

ومن ذلك ما لو شكّ في تحقّق القصد ، فإنّه مع قطع النظر عن الأصل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٦٩.

٤٩١

العقلائي الحاكم بعدم الهزل مثلاً تكون أصالة عدم القصد محكّمة ، ومعها لا تجري أصالة الصحّة في العقد لعدم إحراز القصد الذي به قوام العقد على وجه يكون الشكّ في تحقّق القصد موجباً للشكّ في تحقّق العقد ، فلو لم تكن أصالة عدم القصد جارية لكان الشكّ في القصد كافياً في الشكّ في تحقّق العقد الموجب لعدم جريان أصالة الصحّة في العقد لعدم إحراز موضوعها الذي هو العقد.

قوله : وأمّا بالتخصيص بناءً على كونها من الأُصول الغير المحرزة ... الخ (١).

لا يخفى أنّ تقدّم أصالة الصحّة على أصالة عدم النقل والانتقال لا يكون إلاّ بالحكومة ، أمّا على تقدير كونها محرزة فواضح ، وأمّا على تقدير كونها غير إحرازية فكذلك أيضاً ، لأنّ الشكّ في النقل والانتقال مسبّب عن الشكّ في صحّة المعاملة ، فيكون أصل صحّة المعاملة موضوعياً بالنسبة إلى أصالة عدم النقل والانتقال ، نعم لو أخذنا أصالة الصحّة بمعنى حمل فعل المسلم على الصحّة لكانت غير حاكمة على أصالة الفساد ، بل كانت جارية مع أصالة الفساد بلا تدافع بينهما.

قوله : فإنّه لو سلّم كون الصحّة من مقتضيات ظهور حال المسلم في عدم إقدامه على الفساد ، إلاّ أنّه قد عرفت أنّ عمدة الدليل على اعتبار أصالة الصحّة هو الإجماع ، ولم يظهر من الإجماع أنّ اعتبارها كان لأجل كشفها عن الصحّة ، وبعبارة أُخرى لم يعلم أنّ التعبّد بها كان تتميماً لكشفها ... الخ (٢).

الأولى إبدال ظهور حال المسلم بظهور حال العاقل ، فإنّ هذا الظهور لا

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٧٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٧٠.

٤٩٢

يختصّ بحال المسلم ، وإلاّ لاختصّت أصالة الصحّة بالعقود التي يوقعها المسلمون دون غيرهم من العقلاء.

ثمّ إنّك قد عرفت في بعض المباحث السابقة (١) أنّ منشأ هذا الظهور هو أنّ المقدم على عمل مركّب من أُمور لها جهة وحدة عرفية اعتبارية لا يكون مخلاً بشيء من تلك الأُمور التي وقع قصده إليها بقصده المجموع المركّب منها ، لكن هذا الظهور العقلائي وبناء العقلاء عليه لمّا كان مختصّاً بموارد الشكّ على وجه يكون موضوع الركون إليه هو الشكّ في تحقّق شيء من تلك الأُمور ، يكون هذا الظهور من هذه الجهة ـ أعني كون موضوعه مقيّداً بالشكّ ـ حاله حال الأُصول ، غايته أنّ حاله حال الأُصول الاحرازية ، وبهذه الواسطة لا تكون أصالة الصحّة من قبيل الأمارات التي لا يكون موضوعها مقيّداً بالشكّ حتّى لو كان دليل اعتباره هو الإجماع.

وبالجملة : أنّ الظاهر هو كون الدليل على حجّية هذا الظهور هو بناء العقلاء والسيرة العقلائية ، فيكون موضوعه مقيّداً بالشكّ ، ولو سلّمنا أنّ دليله الإجماع فأيضاً نقول إنّ الظاهر أنّ موضوعه عندهم مقيّد بالشكّ ، فلا يخرج بذلك عن حضيض الأُصول إلى أوج الأمارات ، بل لو قلنا إنّ اعتباره كان من قبيل تتميم الكشف لم يكن ذلك موجباً لكونه من قبيل الأمارات التي لا يكون موضوعها مقيّداً بالشكّ.

ثمّ لا يخفى أنّ المراد من كون أصالة الصحّة من الأُصول الاحرازية أنّها يحرز بها وجود الشرط ، فإذا شكّ في واجدية العقد للشرط مثل العربية يكون معنى أصالة الصحّة هو أنّه كان واجداً لذلك الشرط المشكوك ، لأنّ معنى الصحّة

__________________

(١) أشار إلى ذلك في الصفحة : ٤٤٣.

٤٩٣

هو التمامية والتمامية عبارة أُخرى عن واجدية الشرط.

أمّا المراد من كونها من الأُصول غير الاحرازية فلا أتصوّر له معنى إلاّما سيأتي إن شاء الله تعالى في كلام السيّد الشيرازي من قوله : فإن أُريد بالصحّة من قولهم إنّ الأصل الصحّة هو ترتّب الأثر الخ (١) وذلك عبارة أُخرى عن أنّ أصل الصحّة أصل حكمي مفاده ترتّب الأثر ، وحينئذ فهل يكون مفاد هذا الأصل مصادماً ومعارضاً لأصالة عدم ترتّب الأثر لنحتاج في توجيه تقديم أصالة الصحّة على أصالة عدم ترتّب الأثر إلى ارتكاب طريقة التخصيص ، وإلى أنّه لولا هذا التقديم لكانت أصالة الصحّة بلا مورد ، أو أنّ مفاد هذا الأصل ـ أعني أصالة الصحّة ـ لا يكون مصادماً لأصالة عدم ترتّب الأثر لحكومته عليه ، بتقريب أنّ محصّل أصالة عدم ترتّب الأثر وعدم انتقال المال من البائع إلى المشتري مثلاً هو التمسّك بأصالة بقاء مالكية البائع لذلك المال ، فإذا كان مفاد أصالة الصحّة هو الحكم بالانتقال كان رافعاً لذلك المستصحب وهو مالكية البائع.

ولكن في ذلك تأمّل وإشكال ، لأنّ مفاد كلّ من هذين الأصلين مناقض لما هو مفاد الآخر مع كون موضوع كلّ منهما هو الشكّ الناشئ عن الشكّ في وجود شرط من شروط ذلك العقد ، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الشكّ في بقاء ملكية البائع مسبّب عن الشكّ في صحّة العقد بمعنى ترتّب الأثر عليه. وإن شئت فقل : إنّ الشكّ في بقاء ملكية البائع مسبّب عن الشكّ في حكم الشارع على ذلك العقد بأنّه ناقل الذي هو عبارة عن الصحّة ، بخلاف الشكّ في صحّة ذلك العقد ـ بمعنى حكم الشارع على ذلك العقد بأنّه ناقل ـ فإنّه مسبّب عن الشكّ في واجديته للشرط ، لأنّ محصّل أصالة

__________________

(١) نقل عنه في فوائد الأُصول ٤ : ٦٧٢.

٤٩٤

صحّة العقد بناءً على كونه حكمياً هو أنّك إذا شككت في واجدية العقد للشرط فاحكم عليه بأنّه قد ترتّب عليه الأثر.

وفيه تأمّل ، لإمكان كون الشكّ في بقاء المالكية السابقة ناشئاً عن الشكّ في واجدية العقد للشرط ، أو نقول إنّ الشكّ في حكم الشارع بالانتقال إنّما يكون مترتّباً على الشكّ في الانتقال المسبّب عن الشكّ في واجدية العقد للشرط ، فيكون كلّ من أصالة بقاء المالكية السابقة وحكم الشارع بالانتقال واردين على الشكّ في الانتقال المسبّب عن الشكّ في واجدية العقد للشرائط ، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر ، ولعلّه سيأتي زيادة توضيح لهذا المبحث إن شاء الله تعالى عند الكلام على ما أفاده قدس‌سره من الإشكال على ما أفاده المرحوم السيّد الشيرازي قدس‌سره هذا.

ولكن لا يخفى أنّه لو لم يحصل هذا العقد المشكوك فلا شكّ لنا في بقاء ملكية المالك الأوّل ، وإنّما حصل الشكّ في بقائها من جهة الشكّ في صحّة هذا العقد التي هي عبارة عن حكم الشارع بانتقال ملكية المالك الأوّل.

وإن شئت فقل : إنّ الشكّ في بقاء مالكية المالك الأوّل هو عين الشكّ في ارتفاعها ، فإذا كان هناك أصل يحكم بارتفاعها فقد ارتفع الشكّ في البقاء ، والمفروض أنّ أصالة الصحّة في العقد عبارة عن حكم الشارع بترتّب الأثر عليه ، وهو كونه رافعاً للملكية السابقة ، فلا ينبغي الريب في حكومة أصالة الصحّة ولو بمعنى ترتّب الأثر على استصحاب الملكية السابقة بلا حاجة إلى تكلّف طريقة التخصيص الراجع إلى التشبّث ببقاء أصالة الصحّة بلا مورد.

بل لا معنى للحكومة في المقام ، إذ ليس لنا فيه شكّان وأصلان يكون أحدهما حاكماً على الآخر ، بل لا يكون في البين إلاّشكّ واحد وهو الشكّ في

٤٩٥

ارتفاع الملكية السابقة للشكّ في رافعية هذا العقد لها ، فلو لم يكن لنا أصل يتعرّض هذا الشكّ المتعلّق برافعية هذا العقد كان المورد مورداً لاستصحاب بقاء الملكية السابقة ، أمّا إذا كان لنا أصل يكون مقتضاه هو الحكم برافعية ذلك العقد للملكية السابقة ، كانت الملكية السابقة محكومة بالارتفاع.

ولا يقال : إنّه وإن كان شكّاً واحداً مردّداً بين البقاء والارتفاع لكن الاستصحاب يحكم بالبقاء ، وأصالة الصحّة تحكم بالارتفاع فيقع التعارض.

لأنّا نقول : إنّ احتمال البقاء عبارة أُخرى عن احتمال الارتفاع ، بمعنى أنّ احتماله ناشئ عن احتمال الارتفاع ، لما عرفت من أنّ البقاء معلوم ، وإنّما جاء الشكّ فيه من جهة الشكّ في هذا العقد المولّد لاحتمال الارتفاع الموجب لخروج البقاء عن المعلومية إلى الاحتمال ، ولعلّ المراد من تعدّد الشكّ والحكومة هو هذا المقدار.

وعلى كلّ حال ، أنّ ما نحن فيه نظير البلل الخارج قبل الاستبراء وبعد الوضوء ، حيث إنّ استصحاب الطهارة قاضٍ بالحكم بالبقاء ، وحكم الشارع على ذلك البلل بأنّه بول نجس ورافع للطهارة قاضٍ بالحكم بالارتفاع ، ولا ريب في كون المحكّم هو الثاني ، ولم يتخيّل أحد أنّ هناك مورداً لاستصحاب الطهارة وأنّ قاعدة البلل الخارج قبل الاستبراء حاكمة عليه ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ نظرهم في ذلك إلى كون قاعدة البلل الخارج من قبيل الأمارة. وفيه تأمّل ، إذ لا وجه لكونها أمارة ، فإنّ مجرّد عدم الاستبراء لا يكشف عن بقاء البول في المجرى ليكون ذلك الكشف هو القاضي بكون الخارج بولاً لا مجرّد التعبّد بأنّه بول ، فتأمّل.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ الوجه في تحكيم قاعدة البلل الخارج على استصحاب الطهارة هو أنّها لو لم تقدّم عليه لبقيت بلا مورد ، كما أنّ الوجه في

٤٩٦

تقديم أصالة الصحّة على أصالة عدم الانتقال هو بقاؤها بلا مورد لو لم تقدّم عليه. هذا على تقدير كون أصالة الصحّة من الأُصول غير الاحرازية ، وأنّ مفادها منحصر بترتّب الأثر ، أمّا لو قلنا بكونها من الأُصول الاحرازية بمعنى إحراز وجود الشرط المشكوك ، فلا ينبغي الريب في تقدّمها على استصحاب بقاء الملكية السابقة.

ولا يخفى أنّ الأمر في أصالة الصحّة لا ينحصر بهذين الوجهين ـ أعني كونها إحرازية بمعنى إحراز الشرط ، وغير إحرازية بمعنى أنّها لا محصّل لها إلاّ الحكم بترتّب الأثر والنقل والانتقال ـ بل هناك معنى ثالث متوسّط بين هذين الوجهين ، وهو أن نقول إنّها لا تحرز الشرط ، ولكنّها تتضمّن الحكم بالصحّة ، فإنّ الصحّة بنفسها من الأحكام الشرعية الوضعية نظير الحجّية والملكية ، فإذا حكم الشارع على هذا العقد بالصحّة كان من آثار صحّته هو النقل والانتقال.

وعلى كلّ حال ، لا ينبغي الريب في تقدّم أصالة الصحّة على أصالة بقاء الملكية السابقة ، إمّا حكومة كما عرفت ، أو تخصيصاً كما أفاده شيخنا قدس‌سره من لزوم كونها بلا مورد ، لكن هذا الوجه لا يخلو عن تأمّل ، إذ ليست الصحّة إلاّ التمامية ، وليست هي من الأحكام الشرعية ، فلا يكون محصّل التعبّد بها إلاّ التعبّد بالأثر الشرعي المترتّب عليها.

ولكن هذا كلّه فيما إذا لم يكن في قبالها إلاّمجرّد أصالة بقاء الملكية السابقة أمّا لو كان في قبالها أصل موضوعي حاكم بعدم الشرط المشكوك مثل أصالة عدم ذكر المهر في العقد المنقطع ، ومثل استصحاب عدم وقوع القبول بعد الايجاب الموجب لعدم حصول الموالاة ، ونحو ذلك من الأُصول الموضوعية الجارية في بعض شرائط العقد أو شرائط العوضين أو شرائط المتعاقدين ، فإنّه في غاية

٤٩٧

الإشكال ، لعدم تأتّي طريقة البقاء بلا مورد ، لكفاية الموارد التي لا يكون فيها في قبال أصالة الصحّة إلاّ أصالة عدم الانتقال ، ولو قلنا بكون أصالة الصحّة من الأمارات الحاكية عن وجود الشرط ، كان وجه تقديمها على مثل تلك الأُصول العدمية الجارية في ذلك النحو من الشرائط واضحاً لا ريب فيه ، ولكن الإشكال كلّ الإشكال فيما لو قلنا بكونها من الأُصول الاحرازية التي يحرز بها وجود الشرط فضلاً عمّا لو قلنا بكونها من الأُصول غير الاحرازية ، ولعلّ أن يأتي في شرح عبارة السيّد الشيرازي قدس‌سره ما يندفع به هذا الإشكال إن شاء الله تعالى.

قوله في العبارة المنقولة عن الرسائل : والتحقيق أنّه إن جعلنا هذا الأصل ( يعني أصالة الصحّة ) من الظواهر ... الخ (١).

ملخّص المراد هو أنّ أصالة الصحّة إمّا أن تكون من الأمارات ، وإمّا أن تكون من الأُصول غير الاحرازية ، وإمّا أن تكون من الأُصول الاحرازية.

فعبّر عن الاحتمال الأوّل بقوله : إن جعلنا هذا الأصل من الظواهر (٢). وعن الثاني بقوله : فإن أُريد بالصحّة من قولهم « إنّ الأصل الصحّة » نفس ترتّب الأثر (٣) ، بمعنى أنّ الصحّة تكون بمعنى ترتّب الأثر ، فتكون أصلاً حكمياً يتضمّن الحكم على ذلك العقد المشكوك بأنّه يترتّب عليه الأثر ، فلا يكون لها تعرّض لإثبات وجود الشرط المشكوك ، بل لا تعرّض لها لأزيد من الحكم بترتّب الأثر ، فلا تكون أصلاً إحرازياً ، بل تكون من الأُصول غير الاحرازية التي لا تعرّض لها إلاّ إثبات الحكم فتكون أصلاً حكمياً ، ولأجل ذلك يكون الأصل الموضوعي حاكماً عليها.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٧٢.

(٢ و ٣) فرائد الأُصول ٣ : ٣٧٤.

٤٩٨

وعبّر عن الثالث ـ أعني كونها من الأُصول الاحرازية ـ بقوله : وإن أُريد بها كون الفعل ( يعني العقد ) على وجه يترتّب عليه الأثر الخ ، يعني أنّ الصحّة تكون بمعنى التمامية ، ومعنى التمامية هي واجدية العقد لما يعتبر فيه ، فإن كان بلوغ العاقد مشكوكاً ، كان معنى التمامية هو تحقّق البلوغ ، فتكون أصلاً موضوعياً إحرازياً لكونه حينئذ حاكماً باحراز البلوغ في المقام ، ويكون مركب كلّ من هذا الأصل الموضوعي المحرز للبلوغ والاستصحاب المحرز لعدم البلوغ شكّاً واحداً ، وهو الشكّ في كون العاقد بالغاً عند صدور العقد ، أمّا الاستصحاب فواضح ، لأنّ مجراه هو عدم البلوغ إلى زمان الشكّ في بلوغ العاقد الذي هو زمان صدور العقد ، وحيث إنّ صدور العقد محرز بالوجدان ، وكونه مع من ليس ببالغ بالأصل ، تكون النتيجة أنّ هذا العقد كان مع غير بالغ ، وأمّا أصالة الصحّة فهي وإن كان المشكوك فيها هو كون هذا العقد مع البالغ ، إلاّ أنّ هذا العقد لمّا كان محرزاً بالوجدان ، كان الشكّ في الحقيقة متّجهاً إلى قيده أعني بلوغ العاقد ، فيكون الشكّ في بلوغ العاقد حين صدور العقد مورداً للحكم عليه بعدم البلوغ من ناحية الاستصحاب وبالبلوغ من ناحية أصل الصحّة ، ويكون موجباً للتعارض بينهما وعدم إمكان تقدّم أحدهما على [ الآخر ] لكونهما حكمين متنافيين على موضوع وشكّ واحد ، وهو بلوغ العاقد حين صدور العقد منه.

قوله : لا يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب بنفسه موضوع الأثر الشرعي ، بل يكفي في صحّة الاستصحاب كون المستصحب نقيض ما هو الموضوع للأثر ، ويترتّب على الاستصحاب عدم وجود موضوع الأثر ... الخ (١).

لا يخفى أنّ عدم وجود الأثر لا يترتّب على استصحاب نقيض ما هو

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٧٥.

٤٩٩

موضوع الأثر بمفاد ليس الناقصة ، بل إنّما يترتّب عليه بمفاد ليس التامّة.

والأولى أن يقال : إنّه ليس المطلوب من استصحاب عدم بلوغ العاقد الحكم بعدم ترتّب الأثر بمفاد ليس التامّة كي يقال إنّه لا يترتّب عليه إلاّبالأصل المثبت ، بل المطلوب إنّما هو بيان حال هذا العقد ، وبيان أنّه عقد صدر من غير بالغ ، وأنّ الأثر لا يترتّب على هذا العقد ، ويكون ذلك مناقضاً لما تثبته أصالة الصحّة من كونه عقداً تامّاً صدر من بالغ وأنّه يترتّب عليه الأثر فيتعارضان ، ويكون المرجع بعد تعارضهما إلى أصالة عدم ترتّب الأثر بمفاد ليس التامّة ، لا أنّا نريد أن نحكم بهذا الذي هو مفاد ليس التامّة بنفس الاستصحاب المذكور ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الأثر فيما نحن فيه ـ وهو ارتفاع الملكية السابقة ـ إنّما يترتّب على وجود العقد من البالغ بمفاد كان التامّة ، فالأصل العدمي لا يترتّب عليه نفي الأثر المذكور إلاّ إذا كان بمفاد ليس التامّة ، بمعنى أنّ العقد من البالغ لم يوجد ، وهذا المعنى ـ أعني أنّ العقد من البالغ لم يوجد ـ لا يترتّب على استصحاب عدم بلوغ العاقد إلى حين العقد الذي هو بمفاد ليس الناقصة إلاّ بالأصل المثبت.

نعم ، إنّ هذا العقد لو كان من البالغ لكان رافعاً للملكية السابقة ، وأصالة الصحّة بناءً على كونها محرزة لبلوغ هذا العاقد كافية في إثباته ، لأنّ إثبات مفاد كان الناقصة كاف في إثبات أنّه قد وجد العقد بمفاد كان التامّة ، أمّا مقابل أصالة الصحّة وهو استصحاب عدم بلوغ العاقد إلى حين صدور العقد منه ، فقد عرفت أنّه لا ينفي وجود العقد من البالغ بمفاد كان التامّة الذي هو منشأ الأثر إلاّبالأصل المثبت ، وأمّا نفيه لكون العاقد بالغاً الذي هو مفاد كان الناقصة ، فهو أيضاً لا يكون إلاّ بالأصل المثبت ، لأنّ محصّل مفاد ليس الناقصة هو اتّصاف العاقد بعدم البلوغ

٥٠٠