أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

عن الشكّ في وجود ذلك الجزء ، كانت قاعدة التجاوز في الجزء حاكمة على الشكّ المزبور ، من دون فرق في ذلك بين القول بكونهما قاعدة واحدة أو قاعدتين.

قوله : وأمّا الإشكال الرابع ... الخ (١).

يريد أنّ التجاوز عن الكل بعد أن كان الشكّ فيه مسبّباً عن الشكّ في وجود الجزء يكون أيضاً تجاوزاً عن المحل بالنسبة إلى ذلك الجزء ، وإن كان هو تجاوزاً عن نفس المشكوك بالنسبة إلى الشكّ في الكل.

ولا يخفى أنّ ذلك خلف لما هو المفروض من أنّ المطلوب إنّما هو إجراء قاعدة الفراغ دون قاعدة التجاوز.

وحاصل الأمر أنّ الكبرى الكلّية إن طبّقناها على الشكّ السببي الذي هو الشكّ في وجود الجزء لم تكن إلاّعبارة عن قاعدة التجاوز ، وإن طبّقناها على الشكّ المسبّبي لم يكن ذلك من قبيل التجاوز عن محلّ المشكوك ، وإنّما يكون من قبيل التجاوز عن نفس المشكوك.

ومنه يظهر فيما أُفيد من الجواب عن الإشكال الخامس ، هذا. مضافاً إلى ما سيأتي في صدر البحث الثاني من محاولة إرجاع التجاوز إلى التجاوز عن نفس المشكوك في كلّ من القاعدتين ، خلافاً لما أفاده هنا من محاولة إرجاعه إلى التجاوز عن المحل في كلّ منهما.

والذي ينبغي أن يقال : إنّ العمدة هو الإشكال الأوّل ، ولو تمّ الجواب عنه بأنّ الشكّ في الصحّة الذي هو مورد قاعدة الفراغ [ مرجعه ] إلى الشكّ في وجود

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٦.

٣٠١

الصحيح ، فيكون الجامع هو الشكّ في وجود الشيء ، الشامل للشكّ في وجود الجزء كالشكّ في أصل وجود الركوع بعد الدخول في السجود ، وللشكّ في وجود الركوع الصحيح ، وللشكّ في وجود المركّب الصحيح ، وهذا الجامع لو تمّ لم يتّجه الإشكال الرابع ، لأنّ الشكّ في هذه الموارد الثلاثة شكّ في وجود الشيء بعد تجاوز محلّه ، حتّى ما هو مورد قاعدة الفراغ أعني المورد الثالث من الموارد المذكورة ، لأنّ الشكّ في وجود الصحيح من الصلاة يكون أيضاً بعد تجاوز محلّها والدخول في شيء آخر ممّا يدخل فيه بعد الصلاة ، فلا يكون التجاوز في ذلك إلاّمن قبيل التجاوز عن المحل كما في موارد قاعدة التجاوز.

ومنه يظهر اندفاع الإشكال الخامس ، لأنّ مدخول لفظة « في » في قولنا : شككت في وجود الصلاة الصحيحة ، لا يكون ظرفاً للشكّ ، بل يكون هو متعلّق الشكّ كما في موارد قاعدة التجاوز ، وحينئذ فالعمدة هو صحّة الجامع المذكور ، وقد تقدّم منه (١) الإشكال عليه بأنّ الحكم بوجود الصحيح بمفاد كان التامّة لا ينفع في إثبات صحّة الموجود ، والمطلوب إنّما هو إثبات صحّة الموجود لا مجرّد الحكم بوجود الصحيح ، فلاحظ.

ويمكن أن يقال : إنّ الجامع هو الشكّ في وجود الشيء ، فإن كان هو الجزء فواضح ، وإن كان هو الكل فذلك من جهة أنّ الكل ينعدم بانعدام جزئه ، فعند الشكّ في وجود جزئه أو شرطه يكون نفس المركّب مشكوك الوجود ، وإذا حكمنا بوجود المركّب كان ذلك كافياً في الخروج عن العهدة من دون حاجة إلى إثبات صحّة الموجود أو تماميته.

__________________

(١) راجع فوائد الأُصول ٤ : ٦٢١.

٣٠٢

قوله : وأمّا الإشكال الرابع ففيه : أنّ المراد من التجاوز إنّما هو التجاوز عن محلّ المشكوك فيه مطلقاً ، فإنّ الشكّ في قاعدة الفراغ أيضاً يكون بعد التجاوز عن محلّ الجزء المشكوك فيه الذي كان سبباً للشكّ في وجود الكلّ (١).

لا يخفى أنّ الشكّ بعد الفراغ لو كان في الشرائط التي ليس لها محلّ مخصوص لم يصدق عليه أنّه بعد التجاوز عن محلّ الجزء المشكوك ، فلابدّ أن يراد من التجاوز بالنسبة إلى هذه الصورة التجاوز عن نفس العمل بالفراغ منه. نعم بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط التي لها محلّ مخصوص لو كان الشكّ واقعاً بعد الفراغ ، لصدق عليه قاعدة التجاوز بالنسبة إلى محلّ المشكوك المقرّر له ، ولأجل ذلك قلنا إنّ قاعدة التجاوز حاكمة على قاعدة الفراغ في مثل هذه الموارد.

ولا يخفى أنّه لو كان التجاوز في قاعدة الفراغ هو التجاوز عن محلّ الجزء الذي كان الشكّ فيه سبباً للشكّ في الكل ، لكان محصّل قوله عليه‌السلام « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى » (٢) هو أنّ المركّب الذي شككت فيه بعد تجاوز محلّ جزئه الذي كان الشكّ فيه سبباً للشكّ في ذلك المركّب. ولا يخفى ما فيه من التكلّف وعدم الالتئام.

والأولى أن يقال في توجيه الجامع : إنّ المراد هو التجاوز عن نفس الشيء ، وإنّما الاختلاف في المحقّق لذلك التجاوز ، ففي الجزء يكون التجاوز عنه بالدخول في غيره ، وفي الكل يكون التجاوز عنه بالفراغ منه.

وفيه تأمّل ، فإنّ التجاوز عن الجزء حينئذ يكون مجازياً ، وسيأتي الكلام

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٦.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٣ ح ٣.

٣٠٣

فيه إن شاء الله تعالى.

قوله : وأمّا الإشكال الخامس ففيه : أنّ متعلّق الشكّ في قاعدة التجاوز والفراغ إنّما هو وجود الجزء ، وليس الكل في قاعدة الفراغ ظرفاً للشكّ ، لما عرفت من أنّ الشكّ في الكلّ دائماً يكون مسبّباً عن الشكّ في وجود الجزء أو الشرط ، فلم يختلف متعلّق الشكّ في القاعدتين (١).

لا يخفى أنّه لو كان متعلّق الشكّ في كلّ من القاعدتين هو وجود الجزء وكان مثل قوله عليه‌السلام : « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى » بمنزلة قولك « كلّ جزء شككت فيه » كانت القاعدة المذكورة هي عين قاعدة التجاوز من دون توقّف على إعمال عناية من الشارع في إلحاق الجزء بالكل ، بل بناءً على ذلك لا وجه لذلك الكل أصلاً ، ولكان الشكّ دائماً منسوباً إلى وجود الجزء ، وكانت القاعدة عامّة للطهارات وغيرها من العبادات والمعاملات.

ولكن مراد الأُستاذ قدس‌سره أمر آخر غير هذا الذي يتراءى من العبارة ، فإنّ مراده قدس‌سره هو أنّه بعد البناء على أنّ الشكّ في الكل راجع إلى مفاد كان التامّة يكون لفظ « في » في مثل قوله عليه‌السلام « كلّ ما شككت فيه » متعلّقاً للشكّ لا ظرفاً له ، ويكون الحاصل أنّ كلّ شيء سواء كان هو الجزء أو الكل قد شككت في وجوده بعد فرض مضيّه فامضه كما هو.

قوله : المبحث الثاني : التجاوز عن الجزء إنّما يكون بالتجاوز عن محلّه ـ إلى قوله ـ ولا عبرة بالمحل العادي في شيء من الموارد ... الخ (٢).

لا يخفى أنّا لو قلنا بتعدّد القاعدتين ، وأنّ لنا قاعدة هي قاعدة الفراغ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٦.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٧.

٣٠٤

وأُخرى هي قاعدة التجاوز ، والأُولى هي المستفادة من الموثّقة « كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه » (١) وممّا رواه محمّد بن مسلم « كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك » الخ (٢) و « في الرجل يشكّ بعد ما ينصرف من صلاته ، قال عليه‌السلام : لا يعيد ولا شيء عليه » (٣) وقوله عليه‌السلام : « كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فأمض ولا تعد » (٤) و « في الرجل يشكّ في الوضوء بعد ما فرغ من صلاته » (٥) وعن بكير ابن أعين « الرجل يشكّ بعد ما يتوضّأ ، قال عليه‌السلام : هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (٦) إلى غير ذلك من الروايات ، ولا يخفى أنّها قد اكتفت بمجرّد الفراغ والمضي ، ولم يعتبر فيها الدخول في الغير فضلاً عن كون ذلك الغير مترتّباً شرعياً أو كون المحلّ محلاً شرعياً.

نعم ، بعض الروايات اعتبرت في خصوص باب الوضوء الدخول في الغير ، كما في رواية ابن أبي يعفور « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره » (٧) بناءً على رجوع الضمير في « غيره » إلى الوضوء ، ورواية زرارة القائلة : « فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أُخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمّى الله ممّا أوجب الله عليك فيه وضوءه ، لا

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٣ ح ٣.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٦.

(٣) وسائل الشيعة ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٧ ح ١.

(٤) وسائل الشيعة ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٧ ح ٢.

(٥) وسائل الشيعة ١ : ٤٧٠ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٥ ( باختلاف يسير ).

(٦) وسائل الشيعة ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧.

(٧) وسائل الشيعة ١ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٢.

٣٠٥

شيء عليك فيه » (١) وذلك خصوصية في الوضوء لعلّها ناشئة عمّا في رواية زرارة من قوله : « إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا ، فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى الله ما دمت في حال الوضوء » الخ ، بحيث إنّه يكون حكمه أنّه شكّ في المحل ما دام قاعداً على الوضوء وكان في حالة وضوء ، وحينئذ يكون ذلك موجباً لتقييد قوله : « كلّ ما مضى من طهورك » وقوله : « يشكّ بعد ما يتوضّأ » بأنّه إذا صار في حال أُخرى ، أو لعلّ الخصوصية في الوضوء هو أنّه كثيراً ما يكمل الإنسان وضوءه في أثناء المشي ، فهو لا يصدق عليه الفراغ ، إذ لا يحرزه إلاّ إذا دخل في عمل مقابل للوضوء كالصلاة ونحوها ، هذا كلّه في قاعدة الفراغ.

وأمّا قاعدة التجاوز فالميزان فيها هو أخبارها أيضاً ، والعمدة هي قوله في رواية زرارة بعد التعداد « إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشككت فليس بشيء » (٢) وكذلك قوله عليه‌السلام في رواية إسماعيل بن جابر بعد التعداد : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (٣) ونحوهما باقي الروايات ، وهي تعطي الدخول في الغير المترتّب شرعاً ، ولا تشمل الجزء الأخير فيما لو شكّ فيه بعد الدخول في فعل آخر إلاّبنحو العناية الزائدة على مورد الروايات ، بدعوى كون التعقيب مثلاً مترتّباً شرعاً ، أو بدعوى كون الفعل المنافي مترتّباً ولو عادياً.

ولو أمكن تسليم الدعوى الأُولى ، فلا أقل من منع الثانية ، وإلاّ لجرت قاعدة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٤٦٩ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٣ ح ١ ( باختلاف يسير ).

(٣) وسائل الشيعة ٦ : ٣١٧ ـ ٣١٨ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٤.

٣٠٦

التجاوز في من شكّ في الاستنجاء بعد أن تلبّس بالخروج من المحلّ ، بناءً على أنّ مفادها هو أنّ كلّ فعل قد شكّ في وجوده بعد أن تلبّس بغيره الذي يكون واقعاً بعده عادةً مثلاً. نعم في مثل الشكّ في السلام بعد التلبّس بفعل مناف يمكن تطبيق قاعدة الفراغ عليه ، لصدق مضي الصلاة فيما لو دخل في التعقيب أو الفعل المنافي ، هذا كلّه على القول بتعدّد القاعدتين.

أمّا على القول بالوحدة كما هو مسلك شيخنا قدس‌سره فالمدار فيه على الجامع بين القاعدتين ، والذي يظهر من هذا التحرير (١) أنّ الجامع هو مفاد ذيل رواية زرارة وذيل رواية إسماعيل بن جابر ، وحينئذ لابدّ في القاعدتين من الدخول في الغير ويقع الكلام في أنّ ذلك الغير هو مطلق الغير ، أو هو المترتّب الشرعي ، أو مطلق المترتّب ولو كان عادياً.

لكن الذي ينبغي أن يقال : إنّ جميع ما تضمّنته تلك الروايات بعد ضمّ بعضها إلى بعض ، وبعد البناء على أنّها تومئ إلى مطلب واحد ، لا يكون الجامع إلاّ ما هو أخصّها مضموناً ، وذلك هو مفاد رواية زرارة ورواية إسماعيل بن جابر الظاهرتين في اعتبار الدخول في الغير ، وكون ذلك الغير مترتّباً شرعاً على المشكوك ، سواء في ذلك قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز ، ومن الواضح أنّ قاعدة الفراغ لا يعتبر فيها الدخول في الغير المترتّب شرعاً ، وإلاّ لانسدّ باب قاعدة الفراغ في الصلاة ، فلابدّ حينئذ من أخذ الغير في قوله : « وقد دخلت في غيره » مطلق الغير وإن لم يكن مترتّباً شرعياً ، سواء كان هو في قاعدة التجاوز أو كان هو في قاعدة الفراغ ، هذا.

ولكن الذي يظهر من تحرير السيّد سلّمه الله أنّه لا جامع بين القاعدتين ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٥.

٣٠٧

وإنّما هو حكم واحد حاصله هو الفراغ من الشيء ، ولكن في خصوص موارد قاعدة التجاوز أعني الأجزاء حيث إنّها محتاجة إلى العناية والتنزيل منزلة نفس المركّب ، وكان ما يدلّ على تلك العناية حاكماً على ذلك الحكم الكبروي أعني عدم الاعتناء بالشكّ في الشيء بعد الفراغ منه ، وموجباً لتوسعة موضوعه إلى أجزاء ذلك المركّب بجعلها شيئاً ولو تنزيلاً ، وكان ذلك الدليل الحاكم قد اعتبر في تنزيل الشكّ في الجزء منزلة الشكّ في الشيء أن يكون الشكّ فيه بعد تجاوز محلّه ، انحصر مورد قاعدة التجاوز بتجاوز المحل والدخول في الغير مع بقاء الحكم الكبروي ـ أعني عدم الاعتناء بالشكّ في الشيء بعد مضيّه والفراغ منه ـ من هذه الجهة بحاله. ثمّ بعد أن كانت الكبرى واحدة فعلينا أن ننظر في دليلها ، وهو مختلف فبعضه يكتفي بالفراغ مثل الموثّقة ، وبعضه يعتبر الدخول في الغير والتجاوز عن المحلّ المقرّر مثل رواية زرارة « إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره » الخ ، وحينئذ لابدّ من الجمع ، ثمّ أخذ في كيفية الجمع وأخيراً أفاد أنّ المطلق منصرف إلى خصوص مورد القيد بل هو القدر المتيقّن ، فراجعه من ص ٤٧٠ إلى ص ٤٧١ (١).

وحاصل ذلك أو توضيحه بضمّ ما حرّرته عن شيخنا قدس‌سره : هو أنّه ليس لنا إلاّ كبرى قاعدة الفراغ ، وموردها الأوّلي هو الشكّ في المركّب بعد مضيّه والفراغ عنه ، أمّا الأجزاء فيحتاج دخولها في هذه الكبرى إلى تحقّق تنزيلين ، الأوّل اعتبار كون الجزء شيئاً في حين أنّه في حدّ نفسه لم يكن شيئاً ، وإنّما هو مندكّ في الشيء الذي هو المركّب ، والثاني اعتبار تجاوز محلّه إلى الجزء الذي بعده مضيّاً لذلك الجزء وفراغاً عنه في حين أنّه لم يتحقّق مضيّه والفراغ منه ، لأنّه في حدّ

__________________

(١) حسب الطبعة القديمة ، راجع أجود التقريرات ٤ : ٢٢٠ وما بعدها.

٣٠٨

نفسه مشكوك الوجود ، وبعد هذين التنزيلين يدخل في الكبرى الكلّية القائلة إنّ كلّ شيء قد مضى وقد فرغت منه فلا تعتن بالشكّ فيه ، وحينئذ لابدّ من النظر إلى دليل نفس تلك الكبرى الكلّية ، وأنّه هل يكفي في الحكم الذي تضمّنته ـ الذي هو عدم الاعتناء بالشكّ فيه ـ مجرّد الفراغ منه ومضيّه أم لابدّ من الدخول في الغير ، وهل هو كلّ مغاير أو هو مختصّ بما يكون مترتّباً شرعاً على ذلك المشكوك ، هذه خلاصة ما أفاده قدس‌سره حسبما حرّرته عنه قدس‌سره.

ولا يخفى أنّه بناءً على ذلك يكون الدليل المتكفّل للتنزيلين حاكماً على تلك الكبرى حكومة توجب توسعة موضوعها ، لكن بعد تمامية التنزيل لا يكون مفاد انطباق الكبرى عليه إلاّمجرّد عدم الاعتناء بالشكّ من دون تعرّض لإثبات وجود المشكوك ، فمن شكّ بعد فراغه من الصلاة في أنّه هل ركع فيها أم لا ، لا يكون حكمه إلاّمجرّد عدم الاعتناء بالشكّ ، لا أنّه يكون مجرى لكلّ من قاعدة التجاوز القائلة « بلى قد ركعت » وقاعدة الفراغ القائلة : لا تعتن بالشكّ بعد الفراغ ، لتكون قاعدة التجاوز حاكمة على قاعدة الفراغ ، من جهة أنّ الشكّ في المركّب الذي هو موضوع قاعدة الفراغ مسبّب عن الشكّ في وجود الجزء الذي هو موضوع قاعدة التجاوز ، فإذا جرت في حقّه قاعدة التجاوز القائلة « قد ركعت » تكون حاكمة على قاعدة الفراغ حكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي.

وبالجملة : أنّه بناءً على هذا الوجه لا يكون لنا إلاّكبرى واحدة ، ولا وجه للقول حينئذ بأنّ مفاد قاعدة التجاوز هو الاثبات وإحراز وجود المشكوك أخذاً من قوله عليه‌السلام : « بلى قد ركعت » ومفاد قاعدة الفراغ هو مجرّد عدم الاعتناء بالشكّ ليكون الأوّل من الأُصول الاحرازية والثاني من الأُصول غير الاحرازية ، ويكون الأوّل حاكماً على الثاني عند اجتماعهما ، بل إنّ جميع هذه الكلمات ينسدّ التكلّم

٣٠٩

بها علينا ، إذ لا يكون لنا إلاّحكم واحد على موضوع كلّي ، غايته أنّ موضوع ذلك الحكم يختلف ، فتارةً يكون شكّاً في الشيء بعد تجاوزه بالوجدان ، وأُخرى يكون شكّاً فيه بعد تجاوزه بالتعبّد ، ويكون الحكم على كلّ منهما واحداً ، سواء طرأ الشكّ بعد الفراغ من الصلاة ، أو طرأ الشكّ في أثناء الصلاة بأن شكّ في الركوع بعد ما سجد ، فإنّ الركوع حينئذ شيء قد تجاوزه ، غايته أنّه شيء تجاوزه بالتعبّد والتنزيل ، وحكمه هو عين ذلك الحكم الذي يتوجّه عندما يشكّ في الركوع بعد الفراغ من الصلاة ، أو عندما يشكّ في بعض شرائطها أو موانعها بعد الفراغ منها ، فلابدّ إمّا أن نقول إنّ مفاد ذلك الحكم هو إثبات الوجود والاحراز في المقامين كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى في التنبيه الآتي ، وإمّا أن نقول بأنّ مفاده في المقامين مجرّد عدم الالتفات ، ولا محصّل حينئذ للقول بأنّه لو شكّ في الركوع بعد الفراغ من الصلاة تكون قاعدة التجاوز في حقّه حاكمة على قاعدة الفراغ ، فلاحظ وتدبّر. كما أنّه بناءً على هذا التوجيه ينسدّ علينا التفرقة في كثير من الفروع الآتية في الأبحاث الآتية ، من أنّ الفرع الفلاني تجري فيه قاعدة الفراغ ولا تجري فيه قاعدة التجاوز ، أو أنّه تجري فيه قاعدة التجاوز ولا تجري فيه قاعدة الفراغ.

ثمّ إنّ تلك الكبرى الكلّية لو كان موضوعها مقيّداً بالدخول في الغير ، إمّا لأنّ بعض مواردها كان مقيّداً بذلك ، وإمّا لأجل أنّ ذلك هو القدر المتيقّن منها ، فلا إشكال حينئذ في عدم اعتبار كون ذلك الغير مترتّباً شرعاً وإلاّ لانسدّ باب قاعدة الفراغ بالمرّة ، لأنّ ما يكون بعد الفراغ من الصلاة لا يكون مترتّباً شرعاً عليها إلاّ إذا كان مثل التعقيب ، أمّا الدخول في الجزء اللاحق كما في رواية زرارة ورواية إسماعيل بن جابر فليس ذلك قيداً في قاعدة الفراغ ، بل هو حسب

٣١٠

الفرض عبارة عن التنزيل الثاني الذي كان محقّقاً لموضوع قاعدة الفراغ في ناحية الشكّ في الجزء ، وحينئذ يكون الحاصل هو أنّه يشترط في انطباق قاعدة الفراغ على موارد الشكّ في الأجزاء الدخول في الجزء اللاحق ، وحاصله أنّه يعتبر في الموارد التنزيلية لقاعدة الفراغ الدخول في الجزء اللاحق الذي هو مترتّب شرعاً على الجزء السابق الذي هو متعلّق الشكّ ، وذلك عبارة أُخرى عن أنّه يعتبر ذلك في مورد قاعدة التجاوز الذي هو مورد تنزيلي لقاعدة الفراغ ، وأين هذا من دعوى أنّه يعتبر ذلك في نفس قاعدة الفراغ التي هي الكبرى الكلّية الأصلية التي لم يلاحظ فيها التنزيل ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ الدخول في الغير الذي كان إحدى جهتي التنزيل ، والذي كان محقّقاً للمضي والفراغ تنزيلاً في الأجزاء ، هو غير الدخول في الغير الذي كان هو القدر المتيقّن من قاعدة الفراغ ، والذي هو قابل للتكلّم في اعتبار ترتّبه شرعاً هو الأوّل دون الثاني ، فلاحظ.

ثمّ إنّه لم يتّضح الوجه في عدم إمكان الجامع بين الأفراد التنزيلية والأفراد الأصلية ، فإنّ التنزيل في جعل الجزء شيئاً بعد أن لم يكن في حدّ نفسه شيئاً ، وفي جعل التجاوز عن محلّه بمنزلة التجاوز عن نفسه ليكون مصداقاً لما قد مضى وما قد فرغ منه ، إن كان موجباً للتصرّف في الموضوع بالتوسعة بحيث يكون شاملاً واقعاً لما هو مورد التنزيل ، كان ذلك عبارة أُخرى عن وجود الجامع بين الأفراد التنزيلية والأفراد الأصلية ، وكانت القضيتان قضية واحدة ، وفي الحقيقة لا تكون لنا إلاّقضية واحدة واقعية شاملة لكلا الفردين ، إذ ليس في لبّ الواقع منزّل ولا منزّل عليه ، وإنّما كان ذلك في مقام الاثبات.

وإن لم يكن ذلك التنزيل موجباً لتوسعة الموضوع ، بل كان أقصى ما فيه هو

٣١١

جعل المماثل ، فيكون الحاصل أنّ هذا الفرد محكوم أيضاً بمثل ذلك الحكم ، لم تكن قضيتنا قضية واحدة ، بل كانت لنا قضيتان طوليتان في مقام الإثبات وقضيتان عرضيتان متباينتان في مقام الثبوت ، وعلى هذه الطريقة من التنزيل ـ أعني طريقة جعل المماثل ـ لا يكون لنا جامع بين القضيتين لا في مقام الثبوت ولا في مقام الاثبات ، وحينئذ يبطل القول بأنّ مرجعهما إلى قضية واحدة ، فلاحظ وتدبّر.

تنبيه وتتميم : قد مرّت الاشارة بناءً على تعدّد القاعدتين إلى دعوى كون قاعدة التجاوز من الأُصول الاحرازية ، لتعرّضها لإثبات ما شكّ في وجوده مثل قوله : « بلى قد ركعت » بخلاف قاعدة الفراغ فإنّها من الأُصول غير الاحرازية لعدم تعرّضها لإثبات ما شكّ فيه ، ولأجل ذلك تكون الأُولى حاكمة على الثانية عند الاجتماع ، ولكن هذا المقدار من الفرق قابل للانكار ، فإنّ أدلّة قاعدة التجاوز وإن اشتمل بعضها على الإثبات مثل قوله « بلى قد ركعت » إلاّ أنّ الغالب منها لا تعرّض فيه لأزيد من عدم الاعتناء بالشكّ ، مثل رواية زرارة ورواية إسماعيل بن جابر.

كما أنّ روايات قاعدة الفراغ وإن كان الكثير منها خالياً من الاحراز ، إلاّ أنّ بعضها يفيد الاحراز مثل قوله عليه‌السلام : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ ». وعدم تعرّض الكثير من الروايات مثل قوله « فأمضه كما هو » ونحوه لذلك ، لا ينافي ما أفادته رواية « هو حين يتوضّأ » مضافاً إلى أنّ نفس موضوع الأصل وهو الشكّ في الشيء بعد مضيّه لا يخلو عن نظر إلى الواقع وجهة تعرّض له بإحراز ونحو أمارية ، وحينئذ فلا مانع من دعوى الاحرازية في كلا الأصلين ، وأمّا وجه الحكومة عند اجتماعهما فمنشؤه هو السببية والمسبّبية ، حيث إنّ الشكّ في مورد قاعدة الفراغ مسبّب عن الشكّ في مورد قاعدة التجاوز.

وفيه تأمّل ، فإنّه بعد كون الحكم في كلّ منهما إحرازياً لا وجه لحكومة

٣١٢

أحدهما على الآخر حتّى مع السببية والمسبّبية ، إلاّ إذا كان المسبّب من آثار السبب كما في استصحاب طهارة الماء مع استصحاب نجاسة ما غسل فيه ، وسيأتي التعرّض لذلك منه في المبحث الخامس (١).

قوله : بتنزيل التجاوز عن المحل منزلة التجاوز عن نفسه فأُضيف التجاوز إلى الجزء حقيقة ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ تنزيل التجاوز عن المحلّ منزلة التجاوز عن نفس الجزء وإن كان موجباً لكون نسبة التجاوز إلى نفس الجزء نسبة حقيقية ، لكنّه لا يخرجه عن كونه تجاوزاً مجازياً ، وهذا أحد موارد الترديد بين كون التنزيل في الفعل الذي هو التجاوز أو في متعلّق الفعل الذي هو المتجاوز عنه.

فالأولى أن يقال : إنّه نزّل محلّ الجزء منزلة الجزء نفسه ، وبعد هذا التنزيل نسب التجاوز إلى الجزء نسبة حقيقية ، وعلى كلّ حال فإنّ هذا البحث لفظي راجع إلى كيفية النسبة في قوله عليه‌السلام في رواية زرارة : « إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره » (٣) وفي قوله عليه‌السلام في رواية إسماعيل بن جابر : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره » (٤) وقد عرفت فيما قدّمناه أنّه لا دخل له بالجهة المطلوبة لشيخنا التي هي تطبيق كبرى قاعدة الفراغ المشتملة على ذكر المضي والفراغ ، فإنّ تلك الجهة اللفظية غير كافية في تطبيق تلك الكبرى بعد أن كان المضي والفراغ فيها فراغاً ومضيّاً وجدانياً ، الممتنع اجتماعه مع كون الجزء مشكوك

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٣٩ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٧.

(٣) وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٣ ح ١.

(٤) وسائل الشيعة ٦ : ٣١٧ ـ ٣١٨ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٤.

٣١٣

الوجود ، بل لابدّ في ذلك من دعوى كون الشارع قد نزّل التجاوز عن الجزء أو التجاوز عن محلّه منزلة الفراغ الذي لا يكون إلاّحكماً شرعياً لا أمراً لفظياً ، ومن الواضح أنّ هذا التنزيل لا دليل عليه ، إذ لم يطبّق على التجاوز عن الجزء أو عن محلّه أنّه مضي وفراغ ليكون مرجع هذا الحمل إلى أنّ الشارع نزّل التجاوز عن الجزء منزلة الفراغ عنه. ولو ثبت هذا التنزيل لكان كافياً في حكم الشارع بأنّ ذلك الجزء قد وجد ، لما عرفت من أنّ الفراغ عن الشيء يستدعي وجوده ، لعدم اجتماع الشكّ في وجود الشيء مع الحكم الشرعي بأنّه قد فرغ منه ، وحينئذ يكون هذا التنزيل مغنياً عن الحكم الذي تضمّنته كبرى القاعدة من عدم الاعتناء بالشكّ ، فتأمّل.

قوله : فإن كان ( يعني الجزء المشكوك ) ما عدا الجزء الأخير ، فلا إشكال في صدق التجاوز والمضي والفراغ عن العمل ، ولا يأتي فيه البحث عن اعتبار المحلّ العادي ، لأنّ التجاوز عمّا عدا الجزء الأخير إنّما يكون من التجاوز عن المحلّ الشرعي ، فإنّ المفروض اعتبار الترتيب بين الأجزاء ... الخ (١).

لكن ربما حصل الابتلاء بالمحلّ العادي في الأجزاء في الأثناء ، كما لو كان الشخص من عادته مثلاً في صلاته أنّه يقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر مثلاً سبع مرّات فيما بين السجدتين ، فرأى نفسه يقول ذلك وشكّ في السجدة الأُولى ، فبناءً على الاكتفاء بالمحلّ والغير العادي ينبغي القول بعدم التفاته لأنّه شكّ بعد تجاوز المحلّ العادي والدخول في المحلّ العادي ، وهكذا الحال فيما لو كان من عادته أنّه بعد فراغه من السجدة أو التشهّد وإرادته القيام أنّه ينقل ما

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٨.

٣١٤

جعله علامة لعدد الركعات من محلّ إلى محلّ آخر ، وقد نقل تلك العلامة وشكّ في السجود أو التشهّد. وهكذا الحال في الغير العقلي ، كحال نهوضه إلى القيام وقد شكّ فيما قبل ذلك من التشهّد أو السجود ، وهكذا في جميع ما هو من مقدّمات الأجزاء ، وسيأتي الكلام عن هذا الأخير في المبحث الرابع (١) إن شاء الله تعالى ، هذا.

ولكن الكلام في هذه الفروض إنّما ينفتح بناءً على كون قاعدة التجاوز قاعدة مستقلّة ، أمّا بناءً على مسلك شيخنا قدس‌سره من اندماجها في قاعدة الفراغ بعد تنزيل التجاوز من جزء إلى جزء آخر منزلة مضي ذلك الجزء والفراغ منه ، فينسدّ الكلام في هذه الفروض ، لأنّ هذا التنزيل إنّما ثبت من جزء إلى جزء ، دون ما لو كان الانتقال من محلّ الجزء إلى مثل هذه الأُمور العقلية والعادية ، إلاّ أن يدّعى تعميم التنزيل إلى ذلك وهو ـ أعني عموم التنزيل وشموله لمثله ـ ممنوع عند شيخنا قدس‌سره كما سيأتي منه في الأبحاث الآتية إن شاء الله.

قوله : إلاّ أنّه لمّا كان تحليلها التسليم كان محلّ التسليم قبل فعل المنافي ... الخ (٢).

لا يخلو هذا التوجيه لكون المنافي غيراً شرعياً وأنّ المحلّ الشرعي للتسليم قبله عن تكلّف ، ولعمري إنّ الالتزام بالاكتفاء بالغير العادي في تحقّق التجاوز كما مرّ فيما تقدّم من أمثلة العاديات الواقعة في أثنائها ممّا لا يكون منافياً لها أهون منه ، وأهون من ذلك هو الاكتفاء بقاعدة الفراغ من الصلاة ، ودخول هذه الصلاة التي شكّ في تسليمها بعد أن دخل في منافيها تحت ما مضى في قوله « كلّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٣٣ وما بعدها. وراجع الصفحة ٣٣٦ وما بعدها من هذا المجلّد.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٢٩.

٣١٥

ما شككت فيه ممّا قد مضى » لكن هذا الأخير مبني على تعدّد القاعدة ، وصدق مضي الصلاة على مثل ذلك كصدقه وجداناً على من شكّ في شيء منها بعد وقوع التسليم منه ، بناءً على ما تقدّم من كفاية الخروج من السلام وإن لم يدخل في فعل آخر مغاير لها.

لكن شيخنا قدس‌سره لمّا التزم بوحدة القاعدة وأنّه لابدّ في الغير الذي دخل فيه من كون ترتّبه شرعياً ، أراد إصلاح الفتوى بعدم الاعتناء بالشكّ في التسليم بعد الدخول في المنافي ، بأنّ هذا المنافي مترتّب شرعي على التسليم ، باعتبار كون محلّ التسليم شرعاً هو قبل فعل المنافي العمدي والسهوي ، ثمّ ألحق به المنافي العمدي فقط ، ثمّ تأمّل في هذا الالحاق ، نظراً إلى أنّ الكلام السهوي لمّا كان غير مبطل للصلاة لم يكن محلّ التسليم شرعاً مقيّداً بكونه قبل الكلام السهوي فلاحظ ، هذا.

ولكنّه قدس‌سره حسبما حرّرته عنه وإن وجّه الحكم بعد الاعتناء بهذا الوجه وهو كون المنافي داخلاً في الغير الشرعي ، نظراً إلى كون محلّ التسليم المخرج هو قبله فيكون من موارد قاعدة التجاوز ، بمعنى أنّه من الموارد التي تكون محتاجة لما مرّ ذكره من تنزيل التجاوز عن المحلّ الشرعي منزلة المضي بالنسبة إلى ذلك الجزء المشكوك ، إلاّ أنّه أخيراً وجّهه بما تقدّمت الاشارة إليه من صدق المضي والتجاوز بالنسبة إلى مجموع الصلاة ، وذلك عبارة أُخرى عن كون قاعدة الفراغ جارية في نفس المركب من دون توقّف على ذلك التنزيل الشرعي ، فكأنّه عدل عن التوجيه الأوّل كما صرّح به السيّد سلّمه الله فيما نقله عنه ، وذلك قوله : وهذا الوجه هو الذي بنينا عليه في الدورة السابقة ، ولكن الحق فساده ، فإنّ القدر المتيقّن من أدلّة قاعدة التجاوز هو الدخول في الغير المترتّب الذي هو من أجزاء

٣١٦

المركّب أو من ملحقاته ، وأمّا الدخول في مطلق الغير المترتّب فلا نظّن بشمول الغير المأخوذ في دليل الحاكم فضلاً عن القطع به الخ (١).

وحاصل ذلك هو عدم الاكتفاء بتجاوز المحلّ الشرعي والدخول في الغير الذي هو مترتّب على الجزء المشكوك وإن كان ترتّبه عليه شرعياً ، باعتبار أنّ التسليم محلّه شرعاً قبل ذلك المنافي ، إلاّ أنّه مع ذلك كلّه لا يدخل ذلك الجزء المشكوك تحت قاعدة عدم الاعتناء إلاّ إذا دخل في جزء آخر هو مثله في كونه جزءاً صلاتياً مستقلاً بالتبويب ، لأنّ هذا هو القدر المتيقّن من دليل التنزيل الحاكم على دليل عدم الاعتناء حكومة توجب توسعة موضوعه كما مرّت الاشارة إليه ، فراجع وتأمّل.

وعلى كلّ حال ، أنّ من شكّ في التسليم وقد رأى نفسه في حالة أُخرى هي مبطلة للصلاة لم يعتن ، لصدق المضي على الصلاة المذكورة. وهكذا الحال في غير الصلاة ممّا له نحو وحدة مثل الوضوء ، فإنّه لو شكّ في جزء منه أو خصوص الجزء الأخير بعد أن رأى نفسه في حالة أُخرى موجبة لفوات الموالاة ولو بتحقّق الجفاف ، على وجه لو اعتنى بذلك الشكّ كان عليه إعادة الوضوء من رأس ، فإنّه لو كان كذلك لم يعتن ، لعين ما ذكرناه في الصلاة من صدق المضي ، أمّا لو لم يكن ما دخل فيه موجباً للاعادة لو كان قد علم بترك ذلك المشكوك ، ولكنّه مع ذلك يصدق عليه أنّه حالة أُخرى ، كما لو شكّ في مسح رجليه وقد قام عن وضوئه وانصرف ماشياً ، أو دخل في عمل آخر من أعماله ولكن لم يكن مفوّتاً للموالاة المعتبرة في الوضوء ، على وجه لو علم بأنّه لم يمسح رجليه لم يكن عليه إلاّ مسحهما دون الاعادة ، فهل يكون دخوله في ذلك كافياً في صدق المضي على

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

٣١٧

وضوئه ، أم لابدّ من كون ذلك العمل مترتّباً على الوضوء عادة أو شرعاً كما لو شرع في الصلاة.

ولعلّ مثل ذلك يتصوّر في الصلاة ، كما لو شكّ في التسليم بعد أن رأى نفسه بيده القرآن يقرأه ، ونحو ذلك من الدعاء ، على وجه لو علم أنّه لم يسلّم لم تبطل صلاته ولم يجب عليه إلاّ التسليم ، مع فرض كون قراءته القرآن غيراً بالنسبة إلى الصلاة ، وإن كان هو غير مبطل لها لو وقع في أثنائها ولو عمداً ، ومثله لو كان ذلك بعد نزع عمامته أو عباءته ، فهل يكون ذلك كافياً في صدق المضي على صلاته ، أو لابدّ في ذلك من جريان عادته بإيقاعه بعد الفراغ من صلاته كما يظهر من هذا التحرير بقوله : لكن مع جريان العادة على التتابع والموالاة بين الأجزاء الخ (١) ، وكما يظهر من تحرير السيّد سلّمه الله وذلك قوله : ومن هذا البيان يظهر ـ إلى قوله ـ كالشكّ في غسل الجانب الأيسر من الغسل مع جريان العادة بغسل جميع الأجزاء مرّة واحدة ـ إلى قوله ـ فمن اغتسل في أوّل النهار وكان من عادته غسل تمام الأعضاء في مجلس واحد ، واتّفق أنّه شكّ في غسل الجانب الأيسر عند الغروب ، يصدق عليه أنّه شكّ في العمل بعد التجاوز عنه الخ (٢) ، وليس مراده إجراء قاعدة التجاوز في نفس غسل الجانب الأيسر ، بل إنّ مراده إجراء قاعدة الفراغ في نفس المركّب الذي هو مجموع الغسل ، ويظهر أنّ ذلك هو مراده قدس‌سره من قوله : لا أقول ـ إلى قوله قدس‌سره ـ بل أقول الخ.

وحاصل ذلك : هو أنّ الدخول في الغير يكون في مقامين :

الأوّل : مقام نفس الأجزاء عند الشكّ في وجودها الذي أفاد قدس‌سره أنّه يحتاج

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٣٠.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

٣١٨

إلى تنزيل الجزء منزلة الشيء ، وإلى تنزيل التجاوز عن محلّه والدخول في غيره منزلة مضيّه والفراغ منه ، والغير في هذه المرحلة لا يكون إلاّجزءاً شرعياً ، لما حقّقه من أنّ ذلك هو محطّ التنزيل الثاني ، ولا يكفي فيه العادي بل ولا العقلي.

المقام الثاني لمقام الدخول في الغير : هو الغير المقابل للمركّب الذي فرغ منه وكان الشكّ في غير جزئه الأخير ، وسيأتي منه قدس‌سره في البحث الثالث أنّه لابدّ من اعتبار الدخول في الغير لأنّه هو القدر المتيقّن وإن كانت بعض الروايات مطلقة ، ولا يعتبر في هذا الغير الترتّب الشرعي ولا الترتّب العادي ، بل يكفي مجرّد المغايرة وأنّه فعل آخر.

وهناك مقام ثالث للغير الذي دخل فيه بعد المركّب ، وذلك عند الشكّ في الجزء الأخير ، فإنّا سواء قلنا إنّه يعتبر الدخول في الغير في موارد قاعدة الفراغ أو لم نقل ، نقول إنّ المركّب الذي حصل الشكّ في جزئه الأخير لا يصدق عليه أنّه قد مضى إلاّبعد الدخول في الغير ، إذ لو لم يدخل في شيء أصلاً كان من قبيل الشكّ في المحلّ بالنسبة إلى ذلك الجزء الأخير ، ولا يخرج عن كونه شكّاً في المحل إلاّبأن يدخل في شيء آخر ، وحينئذ نقول : إنّ ذلك الشيء إن كان مبطلاً لذلك المركّب كفى في صدق المضي على ذلك المركّب ، وإن لم يكن في البين ترتّب شرعي ولا عادي ، أمّا إذا كان ذلك الغير غير مبطل للمركّب فلا يكفي مجرّد الدخول فيه في صدق المضي على ذلك المركّب إلاّ إذا كان ترتّب ذلك الغير على ذلك المركّب وبالأحرى كان ترتّبه على الجزء الأخير ترتّباً عادياً ، وهذا الترتّب المدّعى هنا اعتباره بالنسبة إلى ذلك الغير لا دخل له بالغير المذكور في المقام الأوّل ولا الغير المذكور في المقام الثاني ، فإنّ الغير في المقام الأوّل خاصّ بالترتّب الشرعي بل بخصوص الأجزاء المستقلّة بالتبويب ، والغير في المقام

٣١٩

الثاني يشمل كلّ غير وإن لم يكن مترتّباً على ذلك المركّب لا شرعياً ولا عادياً ، والغير في المقام الثالث لابدّ أن يكون مترتّباً على المركّب ترتّباً عادياً ، ونعني بالمقام الثالث هو ما لا يكون مبطلاً ، وحينئذ يكون المعتبر في الغير في موارد الشكّ في الجزء الأخير أحد الأمرين : من كونه مبطلاً للمركّب وإن لم يكن مترتّباً ترتّباً شرعياً ولا عادياً ، أو كونه مترتّباً عليه ترتّباً عادياً فيما لا يكون مبطلاً ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الغير الذي هو مبطل للمركّب يكون ترتّبه على المركّب ترتّباً عادياً وإن لم يكن شرعياً ، وحينئذ يكون الضابط في المقام الثالث هو الترتّب العادي ، سواء كان ذلك الغير المترتّب العادي مبطلاً أو كان غير مبطل فتأمّل.

ويمكن التفرقة بين الوضوء والصلاة وبين الغسل الترتيبي ممّا ليس له وحدة عرفية أو شرعية ، ففي الأوّل يكفي الترتّب العادي في صدق المضي على المركّب ، بخلاف الثاني. نعم لو دخل في الصلاة ونحوها ممّا يشترط فيه الفراغ من الغسل لا يبعد صدق المضي على الغسل ، لا من جهة إعمال قاعدة التجاوز في نفس الغسل أو الصلاة ، بل من جهة صدق المضي على الغسل الذي شرع فيما يترتّب عليه ، على وجه يكون الغسل مصداقاً لقاعدة الفراغ ، وأمّا في غير الدخول في الصلاة فصدق المضي على الغسل مشكل حتّى فيما اعتاد الاتيان بكلّ جزء من الغسل عقيب سابقه ، فإنّ ذلك الاعتياد لا يوجب الوحدة في المجموع المحقّقة للمضي والفراغ ، ألا ترى أنّ الحائض لو كان من عادتها أنّها تقضي ما فاتها من الصوم متوالياً ، لو شرعت في القضاء ثمّ بعد مدّة شكّت في إكمال ما كان عليها بعد فصل أيّام أفطرت فيها ، فهل ترى أن تجري قاعدة الفراغ في قضائها.

ومع ذلك كلّه يمكن أن يقال : إنّ المغتسل إذا كانت عادته جارية على

٣٢٠