أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

قوله : المبحث السادس : يعتبر في قاعدة الفراغ والتجاوز أن يكون الشكّ في صحّة العمل راجعاً إلى كيفية صدوره وانطباقه على المأمور به بعد العلم بمتعلّق التكليف بأجزائه وشرائطه وموانعه موضوعاً وحكماً ، فلو كان الشكّ في الصحّة لأجل الشكّ في متعلّق التكليف من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية (١) لا تجري فيه قاعدة التجاوز والفراغ ، بل لابدّ من الرجوع إلى ما تقتضيه الأُصول العملية حسب اختلاف المقامات ... الخ (٢).

قد تقدّم أنّ قاعدة الفراغ راجعة إلى أصالة التمامية في العمل ، وحيث إنّ ذلك العمل الذي تجري فيه قاعدة الفراغ من الأفعال المركّبة الاختيارية ، كان محصّلها هو أنّ المكلّف إذا أقدم على عمل مركّب من مجموع أجزاء وشرائط ، وتعلّقت به إرادته ، فالأصل ـ أعني القاعدة المذكورة ـ عبارة عن أنّه أتى به بتمام ما فيه من الأجزاء والشرائط ، فهذا الأصل لا يتحقّق إلاّبعد فرض تعلّق الارادة بالمجموع ، ولا تتعلّق الارادة بالمجموع إلاّبعد الالتفات إلى جميع ما يعتبر فيه من الأجزاء والشرائط ، وبعد هذا كلّه لا يكون تركه لبعض الأجزاء والشرائط إلاّ نسياناً.

__________________

(١) مثال الشبهة الموضوعية هو أن يقطع بالجنابة فيغتسل ويصلّي ثمّ يحصل له الشكّ الساري في الجنابة ، فلو كان مسبوقاً بالحدث الأصغر كانت صلاته باطلة ، ولا تجري في حقّه قاعدة الفراغ ، إذ ليس له شكّ في ناحية نفس العمل ، وإنّما كان يشكّ في ناحية الأمر الواقعي ، وكذلك الحال في الصورة المزبورة لو تيمّم لأجل ضيق الوقت مثلاً أو لكون الماء مضرّاً له ، ولا يكون بالنسبة إلى التيمّم من قبيل الخطأ في التطبيق ، لأنّ التيمّم الذي هو بدل الغسل مخالف في الحقيقة لما هو بدل عن الوضوء ، ومع اختلاف الهوية لا تدخل المسألة في وادي الخطأ في التطبيق [ منه قدس‌سره ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٤٧.

٤٠١

فالقاعدة إنّما هي عبارة عن طرد احتمال الترك الناشئ عن النسيان والغفلة عن الجزء والشرط بعد فرض العلم بوجوبه والالتفات إلى لزومه ، فلابدّ في جريانها من فرض العلم بالحكم والالتفات إليه حين الشروع في العمل ، بل لابدّ من الالتفات إلى الموضوع ، بمعنى أنّ الشكّ في تحقّق الاستقبال إنّما يكون مورداً لقاعدة الفراغ بعد فرض علم المكلّف بلزوم الاستقبال في الصلاة وأنّه شرط في صحّة الصلاة ، بل لابدّ أيضاً من الالتفات إلى جهة القبلة وأنّها هي هذه الجهة المعيّنة ، ليكون احتمال عدم تحقّق الاستقبال منه عند الصلاة ناشئاً عن احتمال النسيان للاستقبال حال الصلاة مع فرض علمه بوجوبه وأنّه إلى هذه الجهة ، فإنّه بعد الفراغ عن إحراز هاتين الجهتين لا يكون تركه للاستقبال إلاّعن نسيانه له وغفلته عنه عند الصلاة ، بخلاف ما لو كان جاهلاً بوجوب الاستقبال أو كان جاهلاً بجهة القبلة ، فإنّ احتمال تركه للاستقبال في هاتين الصورتين بعد الفراغ من الصلاة لا يكون ناشئاً عن احتمال نسيانه ، بل يكون ناشئاً عن الجهل بوجوبه أو عن الجهل بجهة القبلة.

والحاصل : أنّه لا محصّل لهذه القاعدة إلاّطرد احتمال النسيان وإثبات التذكّر والاتيان كما أُفيد في البحث الآتي في بيان الوجه في عدم جريانها في مورد احتمال الترك العمدي ، فيكون حاصل هذه القاعدة هو إثبات قصد الشرط مثلاً والاتيان ونفي السهو عنه ونسيانه ، ومحصّل ذلك هو نفي خصوص الترك السهوي وإثبات التمامية بإثبات قصد الفعل والاتيان به ، فلو أجريناها في من صلّى غفلة إلى جهة لا يعلمها فعلاً وكان حين الصلاة جاهلاً بالقبلة ، كان محصّلها هو إثبات الاستقبال الناشئ عن عدم القصد وطرد احتمال تركه المفروض أنّه لم ينشأ إلاّعن الجهل بالقبلة ، وذلك هو خلاف ما عرفت من ملاك هذه القاعدة الذي

٤٠٢

هو إثبات تذكّر الشرط وطرد احتمال تركه الناشئ عن نسيانه له حين العمل.

وهذا المعنى هو الذي جرى عليه البناء العقلائي ، وهو المستفاد من روايات الباب ولو بقرينة الرواية المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (١) وقوله عليه‌السلام في رواية محمّد بن [ مسلم ] في من شكّ بعد الفراغ بين الثلاث والأربع : « وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك » (٢) وفي نسخة مستطرفات السرائر : « أقرب منه للحفظ بعد ذلك » (٣).

وما أُفيد من كون ذلك من قبيل الحكمة محلّ تأمّل وإشكال ، لأنّ الظاهر أنّ ما يكون من قبيل الحكمة لابدّ أن يكون من قبيل العلل الغائية ، مثل رفع الأرياح ومنع اختلاط المياه ، وكون المكلّف حين العمل أذكر منه حين يشكّ ليس من قبيل العلّة الغائية ، بل هو من قبيل الأخذ بما تقتضيه إرادته المتعلّقة بمجموع العمل وعدم الاعتناء باحتمال تركه نسياناً ، والبناء على أنّه قد كان ذاكراً للشرط ، وأنّه لم يكن ناسياً له ، من دون فرق في ذلك بين القول بكون ذلك البناء على نحو الأمارة ، أو كونه على نحو الأصل العملي الاحرازي أو الأصل غير الاحرازي ، وسواء كان المحرز هو تمامية العمل وعدم نقصانه بالسهو والنسيان ، أو كون المحرز هو الاتيان بالجزء أو الشرط.

ولو سلّمنا كونه حكمة فلا يكون ذلك إلاّبمعنى أنّ هذا المعنى ـ وهو الأذكرية ـ في حال العمل هو الملاك والعلّة في البناء على التمامية ، أو في البناء على إحراز التمامية ، أو في البناء على إحراز المشكوك ، أو في كون الإرادة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٢٤٦ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٧ ح ٣.

(٣) السرائر ٣ : ٦١٤.

٤٠٣

المتعلّقة بالمجموع مع نفي احتمال النسيان أمارة شرعية أو عقلائية على وجوده أو على تحقّق التمامية ، وحينئذ فلا أقل من كون الأذكرية المفروض كونها هي الملاك والعلّة في ذلك الحكم قرينة على ما ذكرناه من أنّه ليس مفاد ذلك الحكم إلاّ طرد احتمال الترك النسياني ، دون غيره من احتمالات الترك ، وحينئذ تكون هذه القرينة موجبة لاختصاص القاعدة بالمورد المذكور ، أعني ما لو كان احتمال ترك الجزء أو الشرط مستنداً إلى احتمال نسيانه بعد العلم بلزومه والالتفات إلى ذلك حكماً وموضوعاً.

ومنه يظهر أنّ هذا المعنى الذي شرحناه هو الأساس فيما أُفيد من أنّه لابدّ في جريان القاعدة من العلم بمتعلّق التكليف حكماً وموضوعاً ، وانحصار مجراها بخصوص الشكّ في مطابقة المأتي به لما هو المأمور به.

قوله : وثالثة يشكّ في صحّة العمل وفساده بعد الفراغ منه ، مع أنّ المكلّف قبل العمل كان ملتفتاً إلى أنّه لا يجوز له الدخول في العمل لكونه شاكّاً في أنّه واجد لشرط صحّة العمل أو فاقد له ، وكان حكمه قبل العمل على خلاف ما تقتضيه قاعدة الفراغ والتجاوز ، كما إذا كان قبل الصلاة مستصحب الحدث ثمّ غفل وصلّى ، وهذا الوجه يتصوّر أيضاً على وجهين : أحدهما أنّه بعد الصلاة يحتمل أن يكون قد توضّأ قبل الصلاة بعد ما شكّ في الطهارة. ثانيهما : أنّه لا يحتمل ذلك ، بل يعلم أنّه لم يتوضّأ قبل الصلاة بعد ما شكّ في الطهارة ... الخ (١).

فعلى الصورة الأُولى لا تكون صورة العمل محفوظة ، وعلى الثانية تكون صورة العمل محفوظة.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٤٨.

٤٠٤

ثمّ إنّ لازم الصورة الأُولى هو أن لا يكون دخوله في الصلاة منحصراً في الغفلة ، بل هو بعد الصلاة يحتمل أن يكون قد التفت وتوضّأ كما يحتمل أنّه لم يلتفت ولم يتوضّأ وقد صلّى بلا أن يحدث وضوءاً ، وحينئذ يدخل في الضابط الذي ذكرناه من أنّ احتمال تركه للوضوء في هذه الصورة يكون ناشئاً عن احتمال السهو عن لزوم الوضوء عليه ، كما أنّه يحتمل أن يكون قد التفت وتوضّأ ، وحينئذ يكون مجرى لقاعدة التجاوز.

وهذا بخلاف الصورة الثانية ومثالها أن يكون قبل الزوال ملتفتاً أنّه كان في الصباح محدثاً واحتمل أن قد توضّأ فجرى في حقّه استصحاب الحدث ، ثمّ لمّا دخل [ الزوال ] غفل عن ذلك كلّه ولم يتوضّأ ودخل في الصلاة غفلة ، وبعد الفراغ يكون عالماً بأنّه لم يلتفت إلى وجوب الوضوء عليه وأنّه كان غافلاً عنه ، وأنّه قد ترك ذلك الوضوء الذي كان لازماً عليه بحكم الاستصحاب السابق الذي هو في ظرفه غير محكوم لقاعدة التجاوز ، وإنّما أقصى ما عنده هو احتمال خطأ استصحابه السابق ، وأنّه كان قد توضّأ قبل التفاته إلى حدثه السابق ، يعني أنّه يحتمل أنّه قد توضّأ فيما بعد الصباح إلى أوان شكّه في بقاء حدثه كما أنّه يحتمل أنّه لم يتوضّأ ، ومن الواضح أنّ تركه ذلك الوضوء لم يكن داخلاً في الترك السهوي لشرط هذه الصلاة عند إقدامه عليها بعد الزوال ، فلا تطرده قاعدة الفراغ ، بل يكون مقتضى ذلك الاستصحاب السابق غير المحكوم لقاعدة الفراغ هو كون صلاته بلا وضوء ، وأنّها كانت مع الحدث فتلزمه الاعادة.

والظاهر جريان هاتين الصورتين فيما إذا لم يكن قبل العمل ملتفتاً إلى شيء من حاله ، لكنّه بعد الفراغ من الصلاة التفت إلى أنّه كان في الصباح محدثاً وشكّ في إيجاده الوضوء إلى ما قبل الزوال من جهة احتماله طروّ شيء مشروط

٤٠٥

بالطهارة وأنّه قد توضّأ من أجله لا من أجل هذه الصلاة ، فتارةً يحتمل أنّه قد التفت بعد الزوال وتوضّأ للصلاة ، وأُخرى لا يحتمل ذلك بل يعلم من نفسه أنّه قد دخل في الصلاة ولم يتوضّأ لها لكنّه يحتمل أنّه قد أوجد الوضوء قبل الزوال لأجل غاية أُخرى.

والظاهر أنّ الحكم في هاتين الصورتين هو الحكم في الصورتين السابقتين ، أمّا الأُولى فواضح ، وأمّا الثانية فلأنّ استصحابه حدثه من الصباح إلى حين الصلاة وإن لم يكن جارياً في حقّه قبل الصلاة ، وإنّما جرى في حقّه بعد الصلاة لأنّه لم يكن قبل الصلاة ملتفتاً إلى الحدث والشكّ في بقائه ، وإنّما التفت إلى ذلك بعد الصلاة ، ومقتضى ذلك هو حكومة قاعدة الفراغ على الاستصحاب الجاري بعد الفراغ ، إلاّ أنّ نفس القاعدة لا تجري في حقّه ، لما ذكرناه من أنّ تركه لذلك الوضوء المحتمل لغاية أُخرى لم يكن داخلاً في الترك السهوي لشرط هذه الصلاة عند إقدامه عليها.

والفرق بين الصورتين أنّه في الأُولى يحتمل الخطأ في استصحابه السابق لاحتماله الوضوء ، سواء كان ذلك الوضوء المحتمل لأجل غاية أُخرى أو كان لنفس هذه الصلاة ، وفي هذه الصورة إنّما يحتمل الخطأ في استصحابه الحالي الجاري في حقّه بعد الفراغ ، فإن كان الوضوء المحتمل على تقدير وقوعه إنّما أوقعه لهذه الصلاة جرت في حقّه قاعدة الفراغ ، وإن كان قد أوقعه لأجل غاية أُخرى لم تجر فيه قاعدة الفراغ ، وكان استصحاب الحدث جارياً في حقّه.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الحال في الفرع الذي يذكرونه في باب الاستصحاب ، وأنّه يعتبر فيه فعلية الشكّ وأنّه لا يكفي فيه الشكّ التقديري ، وذلك هو ما لو كان عالماً بالحدث ثمّ غفل وصلّى وبعد الفراغ التفت ، فإنّه إن كان

٤٠٦

بعد الفراغ قد علم بأنّه لم يتوضّأ فقد علم بفساد صلاته ، وإن كان يحتمل بأنّه قد توضّأ ودخل في الصلاة ليكون المراد من الغفلة بعد الصلاة احتمال أنّه قد غفل عن الوضوء ، كانت قاعدة الفراغ جارية في حقّه.

نعم ، لو قلنا إنّه يكفي الشكّ التقديري ، وكان في الواقع محكوماً في حال غفلته باستصحاب الحدث ، لم تكن قاعدة الفراغ رافعة وحاكمة على ذلك الاستصحاب الواقعي.

لا يقال : إنّه قد احتمل الآن بعد الفراغ من الصلاة أنّه قد توضّأ لها ، وأنّه لا يكون تركه للوضوء إلاّمن قبيل النسيان والغفلة عن شرط هذه الصلاة ، فتشمله القاعدة ويسقط الاستصحاب بحكومتها عليه وإن كان في الواقع جارياً قبلها.

لأنّا نقول : إنّ هذا تقريب للاستصحاب الجاري بعد الصلاة ، والذي هو محلّ الإشكال هو الاستصحاب الجاري قبلها بالنظر إلى الشكّ المقدّر قبلها (١).

ثمّ لا يخفى أنّ الصور الأربع التي ذكرناها لما إذا كان المنجّز هو استصحاب الحدث ، تجري بتمامها فيما إذا كان المنجّز هو تعارض الحالتين وتساقط الاستصحابين ، كأن تتعاقب عليه حالتان الحدث والوضوء ، فيكون حكمه بعد التعارض والتساقط هو لزوم الوضوء للصلوات الآتية ، ثمّ يدخل في الصلاة وبعد الفراغ منها يحتمل أنّه قد توضّأ ، أو يعلم أنّه لم يتوضّأ إلى آخر الصور الأربع. والظاهر اتّحاد هذه الصور مع صور استصحاب الحدث في الحكم ، فتأمّل جيّداً.

ونظير قاعدة الفراغ من هذه الجهات قاعدة التجاوز فيما لو شكّ في الجزء

__________________

(١) ينبغي مراجعة العروة ص ١٠١ م ٣٨ [ راجع العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٣٧٢ / المسألة : ٣٩ ] ومراجعة ما حرّرناه هناك في التعليق عليها [ منه قدس‌سره ].

٤٠٧

وهو في محلّه ثمّ غفل ودخل في جزء آخر ، فإنّه إن علم أنّه لم يصنع شيئاً لم تجر في حقّه قاعدة التجاوز ، وإن احتمل أنّه بعد أن شكّ أتى بالمشكوك في محلّه جرت القاعدة في حقّه.

قوله : ولا دافع لهذا الاحتمال إلاّ استصحاب الحدث المستصحب ... الخ (١).

قد يقال : إنّ هذا منافٍ لما تقدّم منه قدس‌سره في مبحث الاستصحاب من قوله : فلا معنى للتعبّد باستصحاب بقاء المستصحب ـ إلى قوله ـ وهذا غير استصحاب المستصحب الخ (٢) فإنّ الذي يظهر منه هناك هو أنّ المستصحب هو اليقين السابق الوجداني دون اليقين التعبّدي الحاصل بالاستصحاب ، وبناءً عليه يكون هذا الاستصحاب ـ أعني استصحاب الحدث السابق المتيقّن وجداناً ـ موجوداً قبل الصلاة ، فلا يتمّ ما أفاده هنا من كونه محكوماً لقاعدة الفراغ.

ويمكن الجواب : بأنّ ميزان الحكومة هو الشكّ ، وحيث إنّ الشكّ في إيجاد الوضوء حال الغفلة قد وجد بعد الصلاة ، يكون الاستصحاب الجاري فيه محكوماً لقاعدة الفراغ ، وإن كان المستصحب والمتيقّن فيه هو الحدث السابق ، بل وإن كان اليقين هو اليقين السابق ، إلاّ أنّه لمّا كان الشكّ وحكمه حاصلين بعد الفراغ كان الاستصحاب فيه محكوماً لقاعدة الفراغ ، فلاحظ وتأمّل.

والمتحصّل : هو أنّ المكلّف إمّا أن يكون عالماً بالحدث وإمّا أن يكون مستصحباً له وإمّا أن يكون ممّن تواردت عليه الحالتان ، ثمّ في هذه الصور الثلاث غفل وصلّى ويعلم أنّه لم يصنع شيئاً في حال غفلته ، فالظاهر أنّه في جميع هذه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٥٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٠٥.

٤٠٨

الصور تكون صلاته محكومة بالبطلان ، ولا تجري في حقّه قاعدة الفراغ. أمّا لو احتمل أنّه في حال غفلته قد توضّأ ، فالظاهر صحّة صلاته لقاعدة الفراغ ، إلاّ إذا قلنا بأنّه يكفي في الاستصحاب الشكّ التقديري ، وحينئذ يكون في الواقع قد جرى في حقّه استصحاب الحدث في الصورة الأُولى ، واستصحاب الحدث المستصحب في الصورة الثانية ، واستصحاب حكم العقل بلزوم الوضوء في الصورة الثالثة ، ولا تجري في حقّه قاعدة الفراغ لعدم حكومتها على الحكم الظاهري الجاري في حقّه واقعاً قبل الدخول في الصلاة. ولكن لازم ذلك سقوط قاعدة الفراغ في باب الوضوء ، لأنّ الشكّ فيه بعد الصلاة دائماً مقرون بالغفلة قبل الصلاة وأنّه يحتمل أنّه في حال غفلته قد توضّأ ، ولا يبقى لها مورد إلاّمورد الشكّ الساري ، بأن يكون أقدم على الصلاة قاطعاً بالوضوء ثمّ بعد الفراغ شكّ في ذلك الوضوء بنحو الشكّ الساري ، وإلاّ ما لو تردّد بعد الصلاة في أنّه هل التفت وتوضّأ أو أنّه لم يلتفت وصلّى بلا وضوء ، لكنّه راجع إلى الصورة المفروضة ، لأنّ احتمال وضوئه في حال غفلته لا يكون إلاّبأن يحتمل أنّه التفت وتوضّأ ، لأنّ الوضوء لا يكون إلاّمع الالتفات. نعم فيما لا يتوقّف على الالتفات وكان يمكن وقوعه في حال الغفلة مثل التستّر ربما يحصل فيه الفرق بين الصورتين ، فتأمّل.

قوله : أمّا الوجه الأوّل من الوجه الثاني وهو ما إذا لم يعلم المكلّف بعد الفراغ صورة العمل وكيفية وقوعه ، كما إذا لم يعلم الجهة التي صلّى نحوها ... الخ (١).

الظاهر أنّ هذا الوجه هو الوجه الثاني من الوجه الثاني لا الأوّل منه ، وكأنّه غلط من الناسخ ، وكذا قوله فيما سيأتي : وأمّا الوجه الثاني من الوجه الثاني ، فإنّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٥٠.

٤٠٩

الصحيح هو أن يقول : وأمّا الوجه الأوّل من الوجه الثاني.

ثمّ لا يخفى أنّه لو لم يكن حين الصلاة عارفاً بجهة القبلة ولكنّه غفل وصلّى إلى جهة وبعد الفراغ احتمل أنّه صلّى إلى القبلة ولكنّه لم يعلم الجهة التي صلّى إليها ، لا يكون داخلاً فيما ذكرناه من ضابط قاعدة الفراغ وهو كون عدم الاستقبال ناشئاً عن نسيان للاستقبال ، فلا تجري في حقّه قاعدة الفراغ ، لأنّ عدم تحقّق الاستقبال منه لم يكن عن نسيان له ، كما أنّ احتمال تحقّق الاستقبال منه لم يكن ناشئاً عن احتمال أنّه قصد الاستقبال ، بل على تقدير تحقّق الاستقبال منه يكون اتّفاقياً من باب المصادفة الاتّفاقية ، سواء كان بعد الفراغ قد علم جهة القبلة أم لم يكن قد علمها وبقي على حاله قبل الشروع في الصلاة من التردّد فيها بين الجهات ، بل لو كان قبل الصلاة عالماً بجهة القبلة ولكنّه غفل وصلّى إلى جهة وبعد الفراغ لم يعرف الجهة التي صلّى إليها لم تجر في حقّه قاعدة الفراغ ، لأنّه لمّا كان حين تحقّق الصلاة منه غافلاً عن الاستقبال لا يكون تحقّقه منه إلاّمن باب الاتّفاق ، كما أنّ عدم تحقّقه منه لا يكون عن نسيان له ، بل كان عن غفلة عنه.

والحاصل : أنّه بعد [ أن ] كان عالماً بأنّه قد غفل عن إيقاع صلاته إلى القبلة لم يمكن أن يحكم عليه بعدم الغفلة وبقصد الاستقبال وتحقّقه منه بالارادة ، بل يكون تحقّقه منه على تقديره من باب الاتّفاق والمصادفة الاتّفاقية للقبلة ، لا المصادفة القصدية.

قوله : أو لم يعلم أنّه حرّك الخاتم في يده أو لم يحرّكه (١).

لا يخفى أنّه لو كان حين الشروع في الوضوء عالماً وملتفتاً إلى أنّ في يده خاتماً ، وبعد الفراغ من الوضوء شكّ في تحريكه الموجب لإيصال الماء إلى ما

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٥٠.

٤١٠

تحته ، تكون قاعدة الفراغ جارية في حقّه بلا كلام ، ولا يبعد إلحاق صورة احتمال الالتفات بهذه الصورة أعني صورة العلم بالالتفات.

وإنّما محلّ الكلام هو ما إذا لم يكن عالماً بالخاتم ، أو كان عالماً به لكنّه غفل عنه عند الوضوء ، وبناءً على الضابط الذي ذكرناه لا تجري في حقّه قاعدة الفراغ ، لأنّ عدم غسله لما تحت الخاتم لم يكن ناشئاً عن نسيان له ، بل كان ناشئاً عن عدم العلم بالخاتم أو عدم التفاته إليه حين الوضوء ، ولو كان قد حرّكه لم يكن تحريكه له ناشئاً عن قصد إلى التحريك وإلى إيصال الماء إلى ما تحته ، بل كان اتّفاقياً من باب المصادفة الاتّفاقية بأن يكون قد حرّكه غير ملتفت إلى تحريكه ، لأنّ قصده إلى التحريك يتوقّف على علمه بوجود الخاتم وعلى الالتفات إليه ، والمفروض أنّه حين الوضوء لم يكن عالماً بذلك أو لم يكن ملتفتاً إليه ، وفي بعض الروايات ما ربما يشعر أو يدلّ على جريان قاعدة الفراغ في بعض صور هذه المسألة ، وقد ذكر في الحدائق (١) هذه الروايات في باب الغسل ، وذكرها الحاج آغا رضا قدس‌سره في باب الوضوء (٢) فراجع الأوّل ص ٢٣٧ والثاني ص ١٨٢.

قوله : أو لم يعلم مطابقة عمله لفتوى من يجب عليه تقليده ... الخ (٣).

لمّا كان فرض الكلام هو ما لم يعلم صورة العمل لابدّ من فرض المسألة أنّه قد صلّى ولم يعلم بأنّه قد أتى بالسورة أو لم يأت بها ، فبعد الفراغ لا تجري في حقّه قاعدة الفراغ ، إذ لم يكن تركه للسورة ناشئاً عن نسيانها ، بل كان ناشئاً عن الجهل بوجوبها ، سواء كان قد علم بعد الفراغ بأنّ فتوى من يجب عليه تقليده هي

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٣ : ٩٠ ـ ٩١.

(٢) مصباح الفقيه ( كتاب الطهارة ) ٣ : ٥٩ ـ ٦٢.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٦٥٠.

٤١١

وجوب السورة أو لم يعلم بذلك ، بل لو كان قد علم قبل الصلاة بوجوب السورة ولكنّه غفل عن ذلك عند الصلاة ، بحيث إنّه على تقدير عدمها يكون عدمها مستنداً إلى الغفلة عن وجوبها ، وعلى تقدير الاتيان بها يكون الاتيان بها لا عن قصد واختيار وإرادة بل من باب المصادفة الاتّفاقية ، لم تكن قاعدة الفراغ جارية في حقّه على حذو ما ذكرناه (١) في مسألة القبلة.

ومن ذلك كلّه يظهر الحال فيما لو علم بأنّه فيما سبق من صلواته كان تاركاً للسورة ، لكنّه فعلاً يحتمل أنّ فتوى من يجب عليه تقليده هي عدم وجوب السورة فإنّه لا تجري في حقّه قاعدة الفراغ وذلك واضح ، وهو داخل في الوجه الأوّل من الوجه الثاني وهو ما لو علم صورة العمل.

ومنه أيضاً ما إذا علم أنّه صلّى إلى هذه الجهة المعيّنة ولم يكن عالماً بالقبلة لا قبل العمل ولا بعد الفراغ منه ، إذ لو كان بعد الفراغ قد عيّن جهة القبلة وأنّها غير الجهة التي صلّى إليها كانت صلاته باطلة بلا إشكال.

ومنه أيضاً ما لو علم أنّه لم يحرّك الخاتم في يده إمّا لنسيان التحريك أو لعدم علمه بوجود الخاتم أو لعدم التفاته إلى وجوده حين الوضوء ، ولكنّه مع ذلك يحتمل وصول الماء تحته من باب الاتّفاق الخارج عن إرادته واختياره ، فإنّ جميع هذه الفروع لا تجري فيها قاعدة الفراغ ، لما شرحناه من أنّ عدم تحقّق الشرط أو الجزء لم يكن ناشئاً عن نسيان ، بل كان ناشئاً عن الجهل بالقبلة أو الجهل بوجود الخاتم أو عدم الالتفات إليه حين الوضوء.

وهكذا الحال فيما لو علم أنّه قد حرّك الخاتم ولكن كان يحتمل عدم وصول الماء إلى ما تحته ، فإنّه بالأخرة يرجع إلى كون الوصول من باب

__________________

(١) في الصفحة : ٤٠٢.

٤١٢

المصادفات الاتّفاقية ، وهو من أمثلة هذا القسم دون سابقه كما ربما يظهر من عبارة الكتاب ، لكن المراد من قوله : لأنّ الشكّ في وصول الماء تحت الخاتم بعد تحريكه (١) ليس هو أنّه قد حرّكه ولكن يشكّ في وصول الماء إليه بذلك التحريك ، بل المراد أنّه قد شكّ في وصول الماء تحت الخاتم بواسطة شكّه في التحريك ، فقوله « بعد » متعلّق بالوصول لا بالشكّ ، والشكّ متعلّق بالمجموع المركّب من وصول الماء المعلول للتحريك ، والمنشأ في هذا الشكّ هو الشكّ في العلّة.

قوله : وحاصل الكلام ... الخ (٢).

يستفاد من مجموع ما أُفيد أنّ الضابط في جريان القاعدة وعدمه هو انحفاظ صورة العمل وعدم انحفاظه ، فإن كانت صورة العمل محفوظة كأن يعلم بأنّه قد صلّى إلى هذه الجهة المعيّنة وقد شكّ في كونها القبلة مع فرض أنّه بعد صلاته لم يعيّن جهة القبلة ، أو صلّى بلا سورة أو مع المشكوك وقد شكّ في الفتوى هل هي وجوب السورة وبطلان الصلاة مع المشكوك أم لا ، أو صلّى في المشكوك غفلة وقد علم بعد الفراغ أنّ الفتوى هي عدم جواز الصلاة فيه ، فإنّه و [ إن ] احتمل صحّة صلاته لاحتمال كون ذلك الذي صلّى فيه من المأكول أو القطن مثلاً ، فإنّ حاله حال من صلّى إلى جهة معيّنة مع أنّه بعد الفراغ يحتمل أنّها القبلة.

وهكذا الحال في من علم بأنّه لم يحرّك خاتمه ولكن احتمل وصول الماء إليه من باب الاتّفاق ، أو علم بأنّه حرّكه لكن احتمل أنّ ذلك التحريك لا يكفي في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٥١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٥١.

٤١٣

إيصال الماء ، أو علم بأنّه توضّأ من هذا المائع ولكن شكّ في كونه ماء مطلقاً ، كلّ ذلك وما كان من قبيله لا تجري فيه قاعدة الفراغ ، إذ لا يكون الشكّ في ذلك ممحّضاً للشكّ في العمل ، بل يكون الشكّ في ذلك راجعاً إلى جهة أُخرى هي غير ناحية نفس العمل وإن أوجب الشكّ في تلك الناحية الشكّ في العمل ، ولأجل ذلك يكون الشكّ في تلك الناحية موجوداً حتّى لو لم يعمل ، فإنّ كون هذه الجهة التي صلّى إليها قبلة مشكوك ، سواء وقعت منه الصلاة أو لم تقع ، ولأجل ذلك يكون الشكّ في أمثال ذلك شكّاً في انطباق المأمور به على المأتي به لا في مطابقة المأتي به للمأمور به ، والمستفاد من قاعدة الفراغ هو كون موردها من قبيل الشكّ في مطابقة المأتي به للمأمور به (١).

__________________

(١) لا يخفى أنّا لو قلنا بأنّ من صلّى إلى جهة معيّنة وشكّ بعد الفراغ في كونها قبلة لا تجري في حقّه قاعدة الفراغ ، لزمنا أن نقول بأنّ من صلّى في ساعة معيّنة وبعد الفراغ شكّ في دخول الوقت في تلك الساعة أنّه لا تجري في حقّه قاعدة الفراغ ، سواء كان حين الشكّ عالماً بدخول الوقت وقد شكّ في مبدأ دخوله وأنّه كان داخلاً عند الصلاة أو كان حين شكّه المذكور شاكّاً أيضاً في دخول الوقت.

ومنه يظهر لك أنّ التفصيل بين الصورتين كما بنى عليه في العروة في مباحث الوقت [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٢ : ٢٨٠ / المسألة ٧ ] لابدّ أن يكون مبنياً على أنّه لا مانع من جريان قاعدة الفراغ في مثل الشكّ في كون الجهة المعيّنة التي صلّى إليها قبلة ، فإنّه بناءً على ذلك يتأتّى التفصيل بين الصورتين ، ففي الثانية لا تجري قاعدة الفراغ لأنّها فرع إحراز الاشتغال على وجه لو لم يكن المرجع هو قاعدة الفراغ لكان المورد مورد الشكّ في فراغ الذمّة ، والمفروض في هذه الصورة أنّه حتّى الآن لم يحرز اشتغال ذمّته بالصلاة ، وهكذا الحال في كلّ ما يكون الشكّ في الصحّة من جهة الشكّ في حصول شرط التكليف ، كما لو شكّ في مقارنة حجّه للاستطاعة مع فرض

٤١٤

__________________

شكّه في ذلك فعلاً ، أمّا مع العلم بحدوث الشرط ولكن لم يعلم مبدأه ، كأن علم فيما نحن فيه أنّه فعلاً في الوقت ولكن شكّ في أنّ صلاته كانت فيه أو كانت سابقة عليه ، فلا مانع من إجراء قاعدة الفراغ في حقّه ، والسيّد قدس‌سره وإن علّل الحكم بعدم جريانها في الصورة الأُولى بأنّه لا يقدر فعلاً على الاتيان بالصلاة الذي هو جارٍ في جميع موارد الشكّ في الصحّة كالشكّ في الطهارة ونحوه ، إلاّ أنّ مراده هو ما ذكرناه من أنّ المانع هو عدم إحراز التكليف فعلاً.

ولا يخفى أنّ لازم ذلك هو أنّه لو بقي مدّة ثمّ علم بدخول الوقت لكن بنحو الشكّ الساري إلى صلاته على وجه يحتمل أنّه كان قبل ذلك قد دخل الوقت ، هو الالتزام بجريان القاعدة ، بمعنى أنّه لم يمكن إجراؤها قبل مضي تلك المدّة ، وكان المورد مورد استصحاب عدم دخول الوقت القاضي بفساد تلك الصلاة ، إلاّ أنّه بعد مضي تلك المدّة ينعكس الأمر وتجري قاعدة الفراغ ويسقط الاستصحاب المذكور لحكومتها عليه.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ هذه الصورة ـ أعني صورة ما لو كانت الساعة التي وقعت فيها الصلاة معيّنة ـ خارجة عمّا أفاده في العروة ، وأنّ ما أفاده في العروة ناظر إلى ما لو علم الوقت الذي هو أوّل الزوال في الساعة السادسة مثلاً ، ولكن شكّ في أنّ صلاته هل وقعت قبل ذلك أو وقعت بعده.

وفيه تأمّل ، لأنّ العبارة مطلقة ، بل يمكن أن يقال : إنّ المتعارف منها هو الصورة الأُولى وأنّه عند فراغه من الصلاة شكّ في كونها في الوقت مع علمه بأنّه فعلاً في الوقت ، ولا أقل من القول بأنّه كان على شيخنا قدس‌سره الاشارة إلى هذا التفصيل في الحاشية لكونه قدس‌سره مانعاً من إجراء قاعدة الفراغ في مثل مسألة القبلة ، فراجع وتأمّل.

ولا يخفى أنّ الذي يظهر من السيّد قدس‌سره في بحث القبلة أنّه لا يجري قاعدة الفراغ فيما لو صلّى إلى جهة معيّنة وشكّ في كونها هي القبلة ، فإنّه قال في مسألة ١٧ : إذا صلّى من

٤١٥

وهذا بخلاف ما لو لم تكن صورة العمل محفوظة ، بأن يكون قد صلّى ولم يعلم إلى أيّ جهة قد صلّى مع فرض كونه عند صلاته غير عالم بجهة القبلة ، وفرض كونه بعد الصلاة قد علم بها ، فإنّ شكّه حينئذ ممحض للشكّ في نفس العمل ، وأنّه هل هو منطبق على المأمور به أم لا ، لأنّ هذا الشكّ لم يكن إلاّفي ناحية العمل ، بحيث إنّه لولا ذلك العمل لم يكن الشكّ المذكور موجوداً ، فتجري فيه قاعدة الفراغ بناءً على هذا الضابط الذي أفاده قدس‌سره. نعم بناءً على الضابط الذي ذكرناه في صدر المبحث لا تجري فيه القاعدة المذكورة.

ولا يخفى أنّه في هذه الصورة لو كان بعد الفراغ غير عالم بالقبلة بل بقي على حاله السابق جاهلاً بها ، كان ملحقاً بما كانت صورة العمل فيه محفوظة ، لأنّ كلّ جهة يفرض أنّها قد وقعت إليها صلاته تكون تلك الجهة في حدّ نفسها مع قطع النظر عن وقوع الصلاة فيها ممّا يشكّ في كونها هي القبلة ، فلابدّ أن تكون هذه الصورة خارجة عن مورد حكمه قدس‌سره بالصحّة ، إذ لو كانت هذه الصورة محكومة بالصحّة أيضاً لكان اللازم هو الحكم بالصحّة في من كانت وظيفته الصلاة إلى أربع جهات ، وقد أتى بواحدة منها ونسي الجهة التي صلّى إليها مع بقائه على حاله من الجهل بجهة القبلة. نعم لو كان بعد الفراغ من الصلاة قد عيّن

__________________

دون الفحص عن القبلة إلى جهة غفلة أو مسامحة يجب إعادتها إلاّ إذا تبيّن كونها القبلة مع حصول قصد القربة منه [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٢ : ٣٠٩ ـ ٣١٠ ]. فإنّ قوله : إلى جهة غفلة ، لو لم يكن ظاهره الاختصاص بكون تلك الجهة معيّنة ، فلا أقل من كونه شاملاً لذلك ، وكذلك قوله : يجب إعادتها ، لو لم يكن مختصّاً بخصوص صورة الشكّ بكونها القبلة ، فلا أقل من كونه شاملاً له ولصورة تبيّن العلم بكونها غير قبلة ، فلاحظ وتأمّل [ منه قدس‌سره ].

٤١٦

جهة القبلة ولكنّه نسي الجهة التي صلّى إليها ، كانت صلاته المذكورة بناءً على ما أفاده قدس‌سره مجرى لقاعدة الفراغ ، لدخول هذه الصورة تحت الضابط الذي أفاده ، وهو كون صورة العمل غير محفوظة عنده مع فرض أنّه قد عيّن جهة القبلة بعد الفراغ من صلاته.

ولا يخفى أنّ الملاك في الحكم بصحّة الصلاة فيما لو كان بعد الفراغ قد عيّن جهة القبلة ـ وهو احتمال انطباق المأتي به على المأمور به ـ متحقّق فيما لو لم يكن قد عيّن جهة القبلة بعد الفراغ ، لأنّ تلك الصلاة التي قد فرغ منها ولم يعلم أنّها إلى أيّ جهة وقعت يحتمل مطابقتها لما هو المأمور به واقعاً ، وهو الصلاة إلى القبلة الموجودة بين تلك الجهات.

وكيف كان ، فلا يخفى أنّ هذا الضابط ـ أعني انحفاظ صورة العمل وعدمه ـ جارٍ حتّى في النحو الثالث أعني مسألة استصحاب الحدث والصلاة ، فإنّه إن احتمل أنّه قد توضّأ لم تكن صورة العمل وهو الصلاة محفوظة عنده ، وإن علم بأنّه لم يتوضّأ ولم يكن في البين إلاّ احتمال خطأ استصحابه كانت صورة عمله محفوظة ، ولم يكن شكّه راجعاً إلى ذلك العمل وممحضاً فيه ، بل كان ذلك الشكّ ناشئاً عن الشكّ في بقاء حدثه السابق ، وهذا الشكّ موجود سواء كان قد صلّى أو لم يكن قد صلّى ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى أنّه لم يكن شاكّاً في مطابقة عمله للمأمور به ، وإنّما كان شاكّاً في انطباق المأمور به على الفعل المأتي به.

قوله : أو صلّى في الثوب المعيّن المشكوك كونه من المشكوك ... الخ (١).

المراد بالثوب الذي هو من المشكوك هو مثل الفاصونة التي يحتمل كونها

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٥١.

٤١٧

من صوف ما لا يؤكل لحمه ، فهذا الثوب المعيّن الذي صلّى فيه غفلة إن كان من المشكوك الذي هو الفاصونة لم تجر فيه قاعدة الفراغ إذا كان بعد الفراغ غير عالم بالفتوى ، بدعوى احتمال الصحّة لاحتمال أنّ الفتوى هي جواز الصلاة فيه ، وكذا لو كان قد علم بعد الفراغ بأنّ الفتوى هي عدم جواز الصلاة فيه ، فإنّه لا تجري فيه قاعدة الفراغ بدعوى احتمال الصحّة لاحتمال كون ذلك الثوب من المأكول.

وهكذا الحال لو كان عالماً قبل الصلاة بأنّ الفتوى هي عدم جواز الصلاة فيه ، ولكنّه غفل وصلّى فيه ، فلا تجري في حقّه قاعدة الفراغ بدعوى احتمال الصحّة لاحتمال كون ذلك الثوب من المأكول.

وكذا لو كان الثوب المعيّن الذي صلّى فيه مردّداً بين القطن والفاصونة ، فيكون من المشكوك كونه من المشكوك ، إلاّ أنّه ليس بفرض آخر زائد على الفروض المذكورة ، لأنّ المشكوك كونه من المشكوك ليس بخارج عن كونه مشكوكاً ، فلا فرق في هذه الصور بين كون الثوب الذي صلّى فيه من الفاصونة أو كونه مردّداً بين القطن والفاصونة ، ولعلّ الغلط من الناسخ ، وأنّ الصحيح هو صلّى في الثوب المعيّن المعلوم كونه من المشكوك. وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الصور كلّها من قبيل ما تكون صورة العمل فيه محفوظة ، فتدخل تحت ضابط عدم جريان قاعدة الفراغ.

وأمّا صور كون العمل غير محفوظ الصورة فهي أن يكون له أثواب متعدّدة بعضها من القطن وكان بعضها الآخر من صوف ما لا يؤكل لحمه أو كان من الفاصونة ، وقد صلّى غفلة في أحدها ، وبعد الفراغ لم يعلمه بعينه ، لكنّه بعد الفراغ قد تميّز عنده ما هو القطن عن غيره ، فإنّه في هذه الصورة تجري في حقّه قاعدة الفراغ ، لأنّه نظير ما لو صلّى غفلة إلى جهة وبعد الفراغ لم يعلمها بعينها ،

٤١٨

وقد عرف جهة القبلة بعد الفراغ ، ويكون داخلاً فيما تجري فيه القاعدة وهو ما يكون صورة العمل غير محفوظة بعد الفراغ.

أمّا إذا لم يكن بعد الفراغ قد ميّز القطن عن غيره فلا تجري فيه القاعدة ، لأنّ كلّ واحد من هذه الأثواب لو كان هو الذي قد صلّى فيه لم يكن الشكّ في الصحّة راجعاً إلى نفس العمل ، بل كان راجعاً إلى الشكّ في جهة أُخرى ، لأنّ المفروض أنّ كلّ واحد من هذه الأثواب لا يعلم كونه ممّا يؤكل ، فيكون حاله حال ما لو صلّى إلى جهة ولا يعلمها فعلاً بعينها ولم يكن قد عيّن بعد الفراغ جهة القبلة ، وقد عرفت أنّه لا تجري فيه هذه القاعدة بناءً على الضابط الذي أفاده قدس‌سره ، ولكنّك قد عرفت الإشكال على عدم جريان القاعدة في ذلك ، لما عرفت من أنّ الملاك في جريانها هو احتمال مطابقة المأتي به لما هو المأمور به واقعاً ، وذلك متحقّق في الصورة المفروضة ، لاحتمال مطابقة تلك الصلاة التي فرغ منها على ما هو المأمور به الذي هو الصلاة إلى القبلة الموجودة بين الجهات ، وقد عرفت أيضاً أنّ القاعدة لو كانت جارية في ذلك لكان لازمها جريان قاعدة الفراغ في من كانت وظيفته الصلاة إلى أربع جهات وصلّى إلى جهة ونسيها ولم يكن بعدُ قد عيّن جهة القبلة ، ولا أظن أنّه قدس‌سره يلتزم في مثل ذلك بجريان قاعدة الفراغ.

نعم ، بناءً على ما أفاده قدس‌سره ـ فيما لو كان قد صلّى إلى جهة لا يعلمها فعلاً وقد عيّن جهة القبلة فعلاً ـ من جريان قاعدة الفراغ ، يلزمه أن يجري قاعدة الفراغ فيما لو كانت وظيفته الصلاة إلى أربع جهات وقد صلّى إلى واحدة ونسيها وقد عيّن بعد ذلك جهة القبلة. وهكذا في من كانت وظيفته تكرار الصلاة في الثياب التي هي أطراف العلم الاجمالي ، أو كانت وظيفته تكرار الوضوء من المائعين اللذين يعلم بكون أحدهما مطلقاً والآخر مضافاً ، وبعد الفراغ من العمل الأوّل نسي

٤١٩

الثوب الذي صلّى فيه أو المائع الذي توضّأ منه ، وقد تعيّن بعد ذلك عنده الثوب الذي تجوز فيه الصلاة أو المائع المطلق ، فإنّه بناءً على هذا الذي أفاده في تلك المسألة ينبغي أن يُجري قاعدة الفراغ في ذلك.

ثمّ لا يخفى أنّه يرد على من اكتفى في جريان قاعدة الفراغ باحتمال المصادفة الاتّفاقية حتّى فيما لو كانت صورة العمل محفوظة ، أنّ لازم ذلك هو جريان القاعدة في من كانت وظيفته التكرار وقد فرغ من واحد معيّن من الأعمال ، ومقتضى جريانها هو سقوط لزوم الاتيان بالباقي ، حيث إنّ القاعدة لو جرت تنقّح موضوع الامتثال ، فيسقط العلم الاجمالي ، كما أنّها تحكم بتحقّق الامتثال في مورد العلم التفصيلي ، فإنّ من صلّى وقد شكّ بعد الفراغ في نقصان ركن منها تكون قاعدة الفراغ منقّحة للامتثال وفراغ ذمّته ممّا اشتغلت به اشتغالاً تفصيلياً ، ولازم ذلك أنّ من كانت وظيفته الصلاة إلى أربع جهات أن يقتصر على واحدة منها.

وكذلك يرد عليه أن تجري قاعدة الفراغ في حقّ من توضّأ غفلة بمائع مردّد بين البول والماء الطاهر المطلق ، فينبغي أن يحكم بصحّة وضوئه وطهارة أعضائه مع أنّهم يقولون إنّه محكوم باستصحاب الحدث وطهارة الأعضاء ، ولأجل ذلك يستشكلون من وضوئه بعد هذا الشكّ ، فإنّه حينئذ يعلم بأنّ وضوءه الثاني غير مأمور به إمّا لنجاسة أعضائه أو لكونه على وضوء ، ولو أجروا قاعدة الفراغ لسلموا من هذا الإشكال.

ولو وسّعوا المطلب إلى الشبهات الحكمية كما في من صلّى مدّة من عمره بلا سورة والآن لا يعلم بوجوب السورة ـ كما تقدّم ذكره في الأمثلة ـ مع فرض كون احتمال وجوبها منجّزاً ، لأنّه قبل الفحص أو قبل التقليد أو قبل السؤال ممّن

٤٢٠