أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

هو الحكم بعدم الموت ، فكذلك محصّل الحكم ببقائها من الجهة الثانية هو الحكم بعدم الفسق ، وكما أنّ الحكم ببقاء العدالة من جهة عدم الموت لا يكون متوقّفاً على الحكم ببقاء العدالة من جهة عدم الفسق ، فكذلك الحكم ببقاء العدالة من جهة عدم الفسق لا يكون متوقّفاً على الحكم ببقائها من جهة عدم الموت.

وبالجملة : أنّ شكّنا في بقاء العدالة من ناحية احتمال طروّ الفسق وإن لم يكن إلاّمع فرض القابلية أعني الحياة ، إلاّ أنّا بعد أن حصل لنا الشكّ في بقاء العدالة من جهة احتمال طروّ الفسق على تقدير الحياة ، أمكننا الحكم ببقائها من هذه الجهة وإن لم نرتّب عليه لازم بقائها وهو الحياة ، وليس الاستصحاب مقيّداً بتقدير ليقال إنّه لا يكون فعلياً منجّزاً قبل إحراز الحياة ، ويكون استصحاب العدالة فعلياً بعد استصحاب الحياة ليلزم الطولية بين الاستصحابين ، كما أنّه ليس المستصحب هو العدالة المقيّدة بالحياة ليقال إنّها غير قابلة للاستصحاب لعدم إحراز قيدها الذي هو الحياة ، بل هي أعني الحياة ظرف للعدالة المستصحبة ، بمعنى أنّ العدالة في ظرف كانت مورداً لليقين وقد صارت هي ـ أعني العدالة في ظرف الحياة ـ مورداً للشكّ ، فنحن نستصحب العدالة التي هي في ظرف الحياة ، بمعنى أنّ هذا الشخص تحقّقت له العدالة في حياته ونحن الآن نشكّ في بقاء تلك العدالة في حياته ، فبحكم الاستصحاب نقول إنّ عدالته في حياته باقية.

والأوضح أن نقول : إنّ عدالته باقية طول حياته ، ولعلّ هذا هو المراد من كون التقدير المذكور هو المأخوذ في القضية الحقيقية كما في تحرير السيّد سلّمه الله عن شيخنا قدس‌سره (١) ، هذا غاية ما أمكنني توضيحه في جريان الاستصحاب في الصورة الأُولى وفي الصورة الثانية.

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٨٣.

٤١

ولكن النفس لا تكاد تكون قانعة بذلك ، أمّا الصورة الأُولى فلما نراه بالوجدان من كون نسبة الحياة إلى العدالة كنسبة القابلية ، فيكون الشكّ في الحياة موجباً للشكّ في بقاء العدالة ، ويكون الشكّ في العدالة في طول الشكّ في الحياة لا في عرضه ، لما عرفت من الطولية بين الحياة والعدالة ، وليسا من قبيل العرضيين المتلازمين.

وفيه إشكال من جهة أُخرى وهي أنّ نسبة الحياة إلى العدالة كنسبة الموضوع إلى الحكم ، ولا يصحّ استصحاب الحكم الذي هو العدالة مع الشكّ في بقاء الموضوع الذي هو الحياة ، وهذه الجهة جارية ومانعة من استصحاب العدالة حتّى فيما لو كانت عدالة الشخص تمام الموضوع للحكم الشرعي.

وأمّا في الصورة الثانية فلقضاء الوجدان بعدم معقولية الشكّ في بقاء العدالة وعدم طروّ الفسق ما لم تكن الحياة محرزة ، فلا يكون استصحاب العدالة إلاّ متأخّراً في الرتبة عن استصحاب الحياة ، غايته أنّه متأخّر عنه في الصورة الأُولى برتبة واحدة ، وفي الصورة الثانية برتبتين ، وذلك مانع من التئام الموضوع المركّب من الحياة والعدالة ، لأنّه إنّما يتمّ ذلك فيما لو كان إحراز أحدهما في عرض إحراز الآخر ، وقد عرفت أنّ استصحاب العدالة على تقدير الحياة لا محصّل له ، وكون القضية تعليقية لا أثر له في المقام من كون المستصحب فعلياً ، فلاحظ وتدبّر.

وأمّا ما أفاده العلاّمة الأصفهاني قدس‌سره في حاشيته (١) ممّا يظهر منه استدراك البقاء في باب الاستصحاب وأنّ المدار على وحدة القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة ، بأن يكون متعلّق شكّه هو نفس القضية التي تعلّق بها يقينه ، ولا يعتبر

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٢٢٦.

٤٢

في صحّة الاستصحاب كون الشكّ متعلّقاً بالبقاء بحيث يكون شاكّاً في بقاء القضية كي يمتنع استصحاب بقاء قيام زيد عند الشكّ في بقاء حياته.

فلا يخفى ما فيه ، فإنّ لازمه جريان استصحاب [ الحكم ] الشرعي عند الشكّ في بقاء الحياة ، إذ لو جرّدنا المسألة من جهة البقاء لكانت قضيّتنا المتيقّنة وهي وجوب الإنفاق المتعلّق به عين القضية [ المشكوكة ] وينبغي مراجعة كلامه خصوصاً ما ذكره في الأمر الأوّل من الأُمور التي عدّدها بقوله : منها ، فلعلّ المراد له مطلب آخر غير هذا الذي استظهرناه ، فراجع مطلبه من أوّله إلى آخره وتأمّل فيه حقّ التأمّل ، فإنّ هذا الذي استظهرناه لا أظنّه يلتزم به ، بل لا أظنّه أن يقوله أحد ، وإلاّ لسقط البحث الآتي الراجع إلى أنّ المدار في الوحدة على ماذا.

وللمرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم اليزدي قدس‌سره في غرره كلام في هذا المقام عقده بعنوان التنبيه الحادي عشر (١) ، ومحصّل ما أفاده هو أنّ الشكّ في بقاء قيام زيد تارة يكون مع العلم ببقاء نفس زيد وأُخرى مع الشكّ في بقاء زيد ، وهذا تارةً يكون منشأ الشكّ فيه في بقاء قيامه هو الشكّ في بقاء نفس زيد ، وأُخرى يكون كلّ من بقاء زيد وبقاء قيامه مشكوكاً بشكّ مستقل ، فكانت الأقسام ثلاثة.

ثمّ إنّ موضوع الحكم الشرعي وهو وجوب التصدّق مثلاً تارةً يكون هو نفس قيام زيد وأُخرى يكون موضوع الحكم المذكور هو قيام زيد على تقدير وجود زيد (٢)

__________________

(١) الصحيح : في التنبيه العاشر ، راجع درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٥٧٣.

(٢) نصّ عبارته في كيفية أخذ الموضوع هو قوله : والقضية الموضوعة للحكم الشرعي في نحو قيام زيد يمكن تصوّرها على قسمين : أحدهما أن يكون الموضوع ثبوت هذا

٤٣

فلو كان الموضوع هو الأوّل أعني نفس قيام زيد ، وقد كان متحقّقاً قبل هذا ، جرى استصحابه وترتّب الحكم الشرعي المذكور في الصور الثلاث ، أعني صورة العلم ببقاء زيد والشكّ في بقاء قيامه ، وصورة الشكّ في بقاء زيد الموجب للشكّ في بقاء قيامه على وجه لو كان زيد باقياً لكان قيامه باقياً قطعاً ، وإنّما حصل لنا الشكّ في بقاء قيامه لأجل شكّنا في بقاء ذاته ، لأنّ انعدام ذات زيد موجب لانعدام قيامه ، وصورة الشكّ في بقاء كلّ من الذات وقيامه بشكّ مستقل لكلّ منهما على وجه نحتمل بقاء زيد وانعدام قيامه ، لاشتراك هذه الصور في تقدّم العلم بتحقّق موضوع الحكم وهو نفس قيام زيد وتأخّر الشكّ في بقاء الموضوع وهو نفس القيام ، فيتّحد الموضوع في القضية المتيقّنة مع الموضوع في القضية المشكوكة ، وإنّما كان الاختلاف بين هذه الصور فيما هو المثير للشكّ في بقاء نفس الموضوع الذي هو قيام زيد.

أمّا لو كان الموضوع على النحو الثاني أعني المركّب من وجود زيد وقيامه ، ففيما لو كان بقاء وجود زيد معلوماً لا شبهة في استصحاب بقاء قيامه ، ويكون من قبيل إحراز أحد جزأي الموضوع بالأصل وهو بقاء قيام زيد وإحراز جزئه الآخر وهو بقاء نفس وجود زيد بالوجدان ، ويتّحد الموضوع في القضيتين المتيقّنة والمشكوكة ، أمّا إذا كان بقاء وجود زيد مشكوكاً لم يجر الاستصحاب ، سواء كان الشكّ في بقاء قيامه ناشئاً عن الشكّ في بقاء وجوده أو كان السبب والمنشأ فيه شيئاً آخر ، وعلّل عدم جريان الاستصحاب في الصورتين بقوله : فلا يمكن

__________________

المفهوم كما إذا قال : إذا تحقّق قيام زيد في الخارج فافعل كذا. وثانيهما أن يكون الموضوع ثبوت القيام لزيد على فرض وجوده في الخارج كما هو مفاد قولك : إن كان زيد قائماً فافعل كذا [ منه قدس‌سره ].

٤٤

استصحاب القيام لعدم إحراز موضوعه ، نعم لو كان الأثر مرتّباً على وجوده وقيامه على تقدير الوجود يمكن إجراء الاستصحابين لإحراز جزأي الموضوع فيما إذا كان كلّ منهما مشكوكاً مستقلاً ، ولا يكفي استصحاب وجود المحل فيما إذا كان الشكّ في القيام مسبّباً عن الشكّ فيه ، فإنّ إحراز المسبّب بواسطة إجراء الأصل في طرف السبب يكون فيما كان المسبّب من الآثار الشرعية ، دون مثل القيام وأمثاله.

ثمّ قال في أثناء إيراده على صاحب الكفاية قدس‌سرهما فيما استظهره منه من جواز استصحاب قيام زيد وإن كان الشكّ مسبّباً عن الشكّ في وجود زيد مطلقاً على أيّ نحو فرض موضوع الحكم الشرعي ، فقال : وأنت خبير بأنّ الموضوع لو كان القيام لزيد بعد ملاحظة الوجود لم يكن في المثال مشكوكاً حتّى يستصحب ، والذي هو مشكوك ليس له أثر شرعي كما هو المفروض ـ إلى أن قال ـ ولو كان المشكوك قيام زيد وكان الشكّ مستنداً إلى الشكّ في وجود زيد ، فإن كان موضوع الحكم الشرعي تحقّق هذا المفهوم ـ أعني قيام زيد ـ يصدق أنّه شكّ في بقاء ما هو موضوع لحكم الشارع ، وإن كان في هذه الصورة موضوع الحكم الشرعي ثبوت القيام لزيد بعد تحقّقه ، فهذا المعنى ليس مشكوكاً فيه للعلم بقيامه بعد تحقّقه ، والمعنى المشكوك فيه ـ أعني قيام زيد ـ ليس بموضوع للحكم الشرعي (١).

والذي يتلخّص من كلامه : أنّ أخذ قيام زيد موضوعاً للحكم الشرعي يكون على ثلاثة أنحاء : الأوّل : هو ثبوت نفس هذا المفهوم. النحو الثاني : هو

__________________

(١) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٥٧٤ ـ ٥٧٦.

٤٥

ثبوت القيام لزيد على فرض وجوده في الخارج. النحو الثالث : هو كون الموضوع وجود زيد وقيامه على تقدير وجوده. ولم أتوفّق لمعرفة الفرق بين هذه الأنحاء ، فإنّ الأوّل إن رجع إلى كون الموضوع هو نفس قيام زيد من دون نظر إلى مدخلية وجود زيد وإن كان ذلك غير منفكّ عنه ، حصل الفرق بينه وبين الأخيرين ، لكن يبقى الفرق بينهما ، فإنّ تقدير الوجود في الثاني إن كان دخيلاً في الموضوع رجع إلى الثالث ، وإن لم يكن دخيلاً فيه رجع إلى الأوّل. ومنه يظهر أنّ قوله : نعم لو كان الأثر مرتّباً على وجوده وقيامه على تقدير الوجود ، لا يخلو من تكرار ، ولو فرضنا أنّ لقوله : « على تقدير الوجود » معنى آخر لحصلت لنا صورة رابعة وهي كون الموضوع هو المركّب من وجود زيد وقيامه ، فإنّها حينئذ تغاير المركّب من وجوده وقيامه على تقدير الوجود.

وعلى كلّ حال ، فلو كان موضوع الأثر هو قيام زيد على النحو الأوّل ، إنّما يجري فيه الاستصحاب لو كان معلوم البقاء ، أمّا لو كان زيد مشكوك البقاء وكان الشكّ في بقاء قيامه ناشئاً عن الشكّ في بقائه ، أو كان كلّ منهما مشكوكاً بشكّ مستقل ، ففيه تأمّل ، فإنّه يجري فيه ما أفاده في أخذ الموضوع على النحو الثاني في الصورتين بقوله : فلا يمكن استصحاب القيام لعدم إحراز موضوعه.

وأمّا ما أفاده على الوجه الثالث من التفكيك بين الصورتين ، ففيما كان كلّ منهما مشكوكاً أجرى الاستصحابين ، وفيما كان الشكّ في بقاء القيام مسبّباً عن الشكّ في بقاء زيد ، لم يجر الاستصحاب في القيام لأنّه غير مشكوك ، ولا في وجود زيد لأنّه ليس له أثر شرعي.

ففيه : أنّ نفس قيام زيد وإن لم يكن مشكوكاً بنفسه إلاّ أنّه مشكوك بواسطة

٤٦

الشكّ في بقاء محلّه ، وحينئذ يكون حاله حال ما لو كان كلّ منهما مشكوكاً في إجراء الاستصحابين ، وكأنّه يريد أنّ وجود زيد في النحو الأوّل لا يكون جزءاً لموضوع الحكم الشرعي ولا يكون موضوعاً للقيام ، وعلى النحو الثاني يكون موضوعاً للقيام ، ويزيد عليه الثالث أنّه أخذ فيه من موضوع الحكم الشرعي ، ولأجل ذلك صحّح على الأوّل استصحاب قيام زيد على جميع الصور لعدم تأتّي الإشكال في إحراز موضوع القيام فيها ، ومنعه في الثاني في صورتي الشكّ في بقاء زيد لعدم إحراز موضوع القيام المانع من استصحاب القيام ، ولم يمنعه على الثالث في صورة ما إذا كان كلّ منهما مشكوكاً بشكّ مستقل ، لأنّ استصحاب وجود زيد يجري لكونه جزء الموضوع للحكم الشرعي ، وبه يحرز موضوع القيام الذي يراد استصحابه. ولا يخفى ما فيه من عدم خروج وجود زيد عن كونه موضوعاً ومحلاً للقيام الذي أُخذ موضوعاً للحكم الشرعي. ثمّ إنّه في الثالث كيف يلتئم موضوع الحكم الشرعي مع كون الاستصحاب في الثاني وهو قيام زيد على تقدير وجوده متوقّفاً على الاستصحاب في الأوّل ليكون محرزاً لما هو الموضوع في المستصحب الثاني.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الحاجة إلى الاستصحابين إنّما هي فيما لو أُخذ الموضوع للحكم الشرعي مركّباً ، بخلاف ما لو لم يكن ذلك الموضوع إلاّقيام زيد ، وحينئذ فلا يتوجّه عليه ما أفاده العلاّمة الإصفهاني في حاشيته بما ذكره بعد قوله : والجواب (١). نعم يرد عليه ما ذكره أخيراً من منع كون العدالة مشكوكة كما أوضحناه ، فراجع.

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٢٢٨.

٤٧

قوله : إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الشكّ في المحمول الأوّلي أو المحمول المترتّب لا يحصل غالباً بل دائماً مع بقاء القضية المتيقّنة على ما كانت عليها من الخصوصيات المحتفّة بها ... الخ (١).

فيما لو كان الشكّ في المحمول الأوّلي لا يكون الاستصحاب إلاّ موضوعياً ، وسيأتي أنّ الغالب فيه هو وحدة القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة ، بل إنّ المحمول المترتّب لا يكون الاستصحاب فيه غالباً إلاّ موضوعياً. نعم لو كان ذلك المحمول المترتّب من مقولة الأحكام الشرعية كان الاستصحاب فيه حكمياً ، والغالب فيه عدم الاتّحاد بين القضيتين.

قوله : وأمّا الاستصحابات الموضوعية فالغالب فيها اتّحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقّنة ... الخ (٢).

لابدّ أن يكون ذلك في موارد الشبهات الموضوعية ، إذ لو كانت الشبهة مفهومية كما مرّ في مثال الشكّ في أنّ موضوع النجاسة هو مادّة الكلب أو صورته النوعية ، وكما في مثل الخشب المتنجّس ، لم يكن الاستصحاب الموضوعي جارياً ، أمّا الحكمي فجريانه موقوف على المسامحة التي هي محلّ الكلام.

قوله : كما في استصحاب كرّية الماء إذا نقص منه مقدار يشكّ في بقائه على الكرّية ... الخ (٣).

الوجه في هذه المسامحة هو أنّ الذي كان كرا هو المجموع ، والباقي وإن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٧٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٧١.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٥٧١.

٤٨

كان هو الأغلب لكنّه بعضه ، بحيث إنّا من أوّل الأمر لو لاحظنا هذا الباقي حال كونه موجوداً في ضمن المجموع لكان مشكوك الكرّية ، ولكن العرف في خصوص انفصال ذلك الجزء عن المجموع يرى أنّ معروض الكرّية هو نفس هذا الموجود بحيث إنّه بواسطة عدم اعتنائه بذلك المنفصل لقلّته يرى أنّ المجموع باقٍ لم ينفصل منه شيء ، ومقتضى ذلك أنّه لو كان الماء كثيراً جدّاً وقد ذهب منه دفعة واحدة الكثير أيضاً وقد شكّ في كرّية الباقي ، هو عدم جريان الاستصحاب في مثل ذلك إذا كان النقص دفعياً ولو بمثل انجماد الأغلب دفعة واحدة ، كما أنّه لابدّ في إجراء الاستصحاب من إحراز كون الباقي هو معظم الماء ، فلو نقص الماء ولم يعلم أنّ الباقي كان هو المعظم ، بأن كان الماء في صندوق مثلاً ولم يعلم بأنّ الذي نزل منه هل كان قليلاً لا يضرّ بالوحدة ، أو أنّه كان كثيراً بحيث إنّ الباقي كان هو القليل ، لم يمكن إجراء الاستصحاب لتوقّفه على الوحدة المتوقّفة على التسامح المزبور ، والمفروض توقّف ذلك التسامح على الاطّلاع على المقدار الباقي (١)

__________________

(١) ثمّ إنّ ممّا يكثر الابتلاء به في هذه الأزمنة هو مشروع إسالة الماء إلى البلدة بالصورة الموجودة من كون المخزن في صندوق عال جدّاً ويتفرّع منه في أنابيب توصل الماء إلى الدور ، وربما انفصل بعض تلك الأنابيب عن المخزن وكان الباقي من محلّ الانفصال إلى أن يصل الانبوب إلى الدار قليلاً لا يبلغ كرّاً ، وحينئذ فلو شكّ في حدوث الانفصال لم يمكن إجراء الاستصحاب في اتّصال هذا الواصل إلى الدار ، إذ ليس الأثر مترتّباً على اتّصال هذا الماء بالمادّة الموجودة في المخزن العام ، وإنّما الأثر مترتّب على الكرّية ، فيعود محذور استصحاب الكرّية من عدم اتّصاف هذا الموجود من الماء بالكرّية حتّى لو تمّ ما أُفيد من التسامح العرفي ، للعلم اليقيني بأنّ هذا الموجود أقلّ من الكرّ بكثير ، فلا يمكن القول بأنّ هذا

٤٩

أمّا ما لو أُريد استصحاب وجود الكرّ في هذا الماء فهو خارج عمّا نحن فيه من التسامح العرفي وراجع إلى الأصل المثبت ، لأنّ موضوع الأثر وهو كون هذا الماء كرّاً لا يترتّب عليه إلاّبالملازمة.

قوله : لأنّ الشكّ في بقاء الحكم مع بقاء الموضوع على ما كان عليه من الخصوصيات لا يمكن إلاّفي باب النسخ ... الخ (١).

كان الأنسب استثناء باب الغاية والرافع كما سيأتي ذلك منه (٢) ، بل إنّ النسخ كما حرّرناه في محلّه (٣) من قبيل الرافع.

__________________

الموجود من الماء المتّصل من الدار إلى محلّ الشكّ في الانفصال كان كرا ولو بتلك المسامحة العرفية.

ومن جملة ما لا تجري فيه المسامحة المخزن الخاصّ الذي يجعلونه في الدار في محلّ عال كسطحها ، وبعد امتلائه يقطع عن الاتّصال بالمخزن العام ولا يزال أهل الدار مستسقين من ذلك المخزن الخاصّ مع فرض الشكّ في نقصانه عن الكرّية بكثير ، فإنّ مثل ذلك لا يجري فيه التسامح العرفي أيضاً ، وهذا أشكل من المسألة السابقة التي ربما يتوهّم فيها جريان استصحاب الاتّصال بخلاف هذه المسألة.

ومثل هذه المسألة ما لو حصل العلم بانفصال البلدة عن المخزن العام لأجل حدوث عيب فيه يقتضي إصلاحه وعمارته ، فيكون الاعتماد في العاصمية حينئذ على مجموع الماء الموجود في شبكة الأنابيب ، فلو حصل الشكّ في عروض نقصانه عن الكرّية لم يمكن الاعتماد في استصحاب بقاء الكرّية لذلك المقدار على دعوى المسامحة العرفية ، إذ الفرض أنّه ربما يكون الباقي أقلّ قليل على وجه لا يمكن القول بأنّ هذا المقدار كان كرّاً ، فلاحظ وتأمّل [ منه قدس‌سره ].

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٧١ ـ ٥٧٣.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٧٦.

(٣) راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب الصفحة : ٣٨٩ وما بعدها.

٥٠

قوله : فإنّه كثيراً ما يطلق لفظ الكرّ والفرسخ والحقّة وغير ذلك من ألفاظ المقادير والأوزان على ما ينقص عن المقدار والوزن أو يزيد عنه بقليل ... الخ (١).

يمكن أن يقال : إنّ محطّ هذه المسامحة العرفية ليس هو في إطلاق المقدار المعيّن على الناقص بقليل ، بل هو في عدم الاعتناء بالناقص لقلّته ، مثلاً لو كانت الحقّة عبارة عن ثمانين مثقالاً ، وكانت هناك كمية من الحنطة تبلغ ثمانية وسبعين مثقالاً ، فإنّهم إنّما يطلقون الحقّة على تلك الكمية من الحنطة لأجل عدم اعتنائهم بما نقص منها من المثقالين لقلّتهما ، فكأنّهم يرون ذلك الموجود بتلك المسامحة غير ناقص عن المقدار المقرّر في الحقّة ، لا أنّهم يتسامحون في نفس المقدار الكلّي المقرّر ، وإلاّ لكان مقدار الحقّة عندهم هو الأعمّ من الثمانين مثقالاً وما ينقص ، ولأجل ذلك لو سألتهم عن كلّي الثمانية والسبعين مثقالاً لقالوا إنّه ليس بحقّة ، وتسامحهم مقصور على الكمية الموجودة ، وهذا كاشف عن أنّ هذا التسامح ليس في المصداق بحيث إنّهم يوسعونه ابتداءً إلى الناقص ، بل إنّ تسامحهم إنّما هو في عدم الاعتناء بالنقص الوارد على تلك الكمية الموجودة ، فلا يكون هذا التسامح إلاّمن قبيل التسامح السابق في مسألة الكرّية فيما لو نقص من الماء الموجود شيء قليل لا يعتنى به.

نعم ، إنّ هذا التسامح لا ينفعنا في من وجبت عليه حقّة ودفع ثمانية وسبعين مثقالاً ، لأنّه لا يوجب التوسعة في معنى الحقّة حتّى عند العرف ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه بعد عدم اعتنائهم بالناقص لقلّته يطلقون الحقّة عليه مجازاً ، والاطلاق المجازي لا ينفعنا ، وإنّما ينفعنا ذلك التسامح ـ أعني عدم اعتنائهم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٧٤.

٥١

بالناقص لقلّته ـ في خصوص باب الاستصحاب ، لأنّه بواسطة عدم اعتنائهم بذلك النقص يرون أنّ ما كان متّصفاً بالحقّة سابقاً بعد أن نقص منه مقدار لا يعلم أنّه أوجب نقصه عن الثمانين هو موجود فعلاً.

والحاصل : أنّ تسامح العرف وإطلاقهم الوزن الخاصّ على ما ينقص عنه قليلاً إنّما هو من قبيل إطلاقهم الأسد على الرجل الشجاع لا يكون إلاّمن قبيل المجاز غير النافع في باب الأحكام ولا في الاستصحاب ، وأمّا تسامحهم في استصحاب كرّية هذا الماء فليست مبنية على هذا النحو من التجوّز ، بل هي مبنية على دعواهم أنّ هذا الموجود يصدق عليه أنّه كان كرّاً باعتبار قلّة ما نقص منه فكأنّه هو بعينه الذي كان موجوداً ، وليس هذا النحو من التسامح براجع إلى مرحلة التجوّز في الاطلاق ، بل هي من أنظارهم العرفية الموجبة لوحدة القضيتين ، نظير ما لو ارتفع التغيّر فيقولون إنّ هذا الماء كان نجساً ، مع أنّ الذي كان هو النجس هو الماء الذي كان متغيّراً ، ولأجل ذلك لا يرون الاتّحاد فيما لو كان الماء كثيراً جدّاً وانفصل عنه أغلبه دفعة بحاجز فعلي ولم يبق إلاّ القليل النسبي الذي يشكّ في كرّيته ، كما تقدّم فيما لو تعذّر المعظم من أجزاء الصلاة.

وكذلك الحال فيما لو كان أزيد من الكرّ بقليل ولكن أُخذ منه ما أوجب نقصه عن الكرّية ولو قليلاً ، فإنّ هذه الدعوى من الوحدة لا تكون حينئذ نافعة مع فرض النقصان عن الكرّ ، لأنّهم حينئذ إنّما يطلقون عليه الكرّ مجازاً ، بخلاف صورة الشكّ في بقاء الكرّية فإنّهم بعد دعواهم الاتّحاد يريدون أن يقولوا إنّ هذا الماء كان كرّاً حقيقياً والآن أيضاً هو كرّ حقيقي بحكم الاستصحاب.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الفرق بين المسامحتين كما تقدّمت الاشارة إليه

٥٢

فيما علّقناه على ص ٢٠٧ (١). وحاصل الفرق هو أنّ العرف لا تسامح لهم إلاّفي عدم الاعتناء بالنقصان القليل ، لكن يترتّب على تسامحهم المذكور أمران :

الأوّل : أنّهم يطلقون اسم المقدار على ذلك الناقص ، وهذا القدر من نتيجة التسامح لا عبرة به عندنا ، ولأجل ذلك لا نعتمد على هذه المسامحة فيما لو علم النقصان.

الثاني : أنّ الشيء كيف ما كان مقداره إذا نقص منه الشيء القليل يكون باقياً بتمامه لا أنّ الباقي بعضه. وبعبارة أُخرى : أنّهم بعد عدم التفاتهم إلى ذلك الطفيف الذي نقص من الشيء وعدم اعتنائهم به وعدم عدّه نقصاناً منه يرون أنّ تلك الذات موجودة لم ينقص منها شيء ، فلو كان ذلك الشيء قبل أن يذهب منه ذلك المقدار القليل موصوفاً بصفة مثل الكرّية ونحوها ، وكان ذهاب ذلك القليل موجباً للشكّ في بقاء تلك الصفة له كانت تلك المسامحة محقّقة لما نطلبه من اتّحاد موضوع المتيقّن مع موضوع المشكوك ، بأن نقول إنّ هذا الشيء كان موصوفاً بالصفة الكذائية والآن نشكّ في بقاء تلك الصفة لذلك الشيء فنستصحبها له ، فكان عدم اعتناء العرف بذلك المقدار من النقص مصحّحاً لأن نقول إنّ بقاء تلك الصفة لذلك الشيء مشكوك ، مع فرض أنّ ذلك الشيء الذي هو المجموع من الباقي والناقص لم يكن موجوداً بالدقّة ، لأنّ الحقيقة أنّي لم أشكّ في بقاء كرّية المجموع ، وإنّما شككت في كرّية بعضه وهو الباقي ، ومن الواضح أنّ كرّية هذا البعض لم تكن متيقّنة سابقاً ، لكن بعد المسامحة العرفية القاضية بأنّ ذلك المجموع باق ببقاء ذلك الأغلب الباقي ، تكون الكرّية المتيقّنة

__________________

(١) راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب الصفحة : ٤٦١ وما بعدها.

٥٣

والكرّية المشكوكة واردتين على شيء واحد ، فتكون الوحدة المزبورة نتيجة عدم اعتنائهم بذلك الناقص.

قوله : أمّا أوّلاً : فبأنّ الرجوع إلى العقل إنّما يستقيم في المستقلاّت العقلية ... الخ (١).

لكن بالرجوع إليه فيها يتنقّح ما هو الموضوع ، ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب لعدم بقاء الشكّ حينئذ ، بل قد عرفت في محلّه أنّه لا معنى لشكّ العقل في موضوع حكمه. نعم قد يشكّ في بقاء الموضوع العقلي على نحو الشبهة الموضوعية ، لكن الجاري حينئذ هو بقاء الموضوع لا الحكم.

قوله : وإن أُريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في معرفة معنى موضوع الدليل وتشخيص مفهومه فهو صحيح إلاّ أنّه لا يختصّ بالمقام ... الخ (٢).

بل يمكن أن يقال : إنّ ذلك أعني الرجوع إلى العرف فيما يستفاد من موضوع الدليل لا دخل له بباب الاستصحاب ، بل هو راجع إلى الاجتهاد فيما يستفاد من الدليل الاجتهادي الدالّ على الحكم ، مثلاً الرجوع إلى العرف في الدليل الدالّ على حرمة الغناء إنّما هو في معنى الغناء ، وأنّ المراد به ما هو ، وذلك لا دخل له بباب الاستصحاب ، مضافاً إلى أنّ هذا المقدار من الرجوع لا يمكن أن يقابل بالرجوع إلى نفس الدليل ، فإنّا إنّما نرجع إلى الدليل بواسطة ما يفهم عرفاً منه ، فلا يكون أحدهما إلاّعين الآخر.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٧٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٧٥.

٥٤

قوله : لا بلحاظ مقام تعيين أصل الموضوع حتّى يقال إنّ تعيين الموضوع إنّما يكون بيد الشرع وليس للعقل والعرف إلى ذلك سبيل ... الخ (١).

العقل وإن لم يكن له سبيل إلى تعيين موضوع الحكم الشرعي ، إلاّ أنّ العرف له سبيل إلى تعيينه كما عرفت من أنّ معاني المفاهيم الواردة في موضوعات القضايا الأحكامية إنّما تؤخذ من العرف ، نعم إنّ ذلك ـ أعني أخذ معاني تلك المفاهيم من العرف ـ لا دخل له بباب الاستصحاب.

قوله : فما يظهر من كلام الشيخ قدس‌سره من أنّ انتفاء بعض الخصوصيات يوجب العلم بارتفاع الموضوع عقلاً ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، بل أقصى ما يقتضيه هو الشكّ في بقاء الموضوع لاحتمال أن يكون لتلك الخصوصية دخل في الموضوع ... الخ (٢).

هذا الإشكال إنّما يرد على الشيخ قدس‌سره لو نسبنا الاختلاف إلى الواقع ، أمّا إذا نسبناه إلى اليقين والشكّ فلا إشكال في تغيّر الموضوع عقلاً ، فإنّ القضية المتيقّنة لو كانت هي نجاسة الماء المتغيّر كان الموضوع لتلك القضية المتيقّنة بما أنّها متيقّنة هو الماء المتغيّر ، فإذا زال تغيّره كان موضوع القضية المشكوكة هو الماء غير المتغيّر ، فلو اعتبرنا الاتّحاد العقلي فلا ريب في عدم جريان الاستصحاب ، لأنّ الموضوع في القضية المتيقّنة مغاير للموضوع في القضية المشكوكة ، بل مقتضى حصول القطع بالاختلاف بين القضيتين وأنّ اليقين إنّما تعلّق بنجاسة الماء المتغيّر وقد زال تغيّره ، هو القطع بعدم بقاء القضية المتيقّنة ، وحينئذ لا ينفعنا

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٧٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٧٦.

٥٥

الاتّحاد العرفي أو الاتّحاد بحسب دليل الحكم ، حيث إنّ مفاد الاستصحاب هو الحكم ببقاء القضية المتيقّنة عند الشكّ في بقائها ، ومع دخول التغيّر تحت اليقين نكون قاطعين بعدم بقاء القضية المتيقّنة بما أنّها متيقّنة.

فلابدّ حينئذ من إخراج التغيّر عن موضوع القضية المتيقّنة ، فإنّ المتيقّن إنّما هو نجاسة الماء في حال التغيّر ، وهذا هو الذي كشفه اليقين السابق ، أمّا أنّ التغيّر جزء من الموضوع أو أنّه أجنبي عنه ، فذلك ممّا لم يدخله اليقين ، وهو أجنبي عن موضوع قضيتنا المتيقّنة بما أنّها متيقّنة ، ولازم ذلك هو اتّحاد موضوع قضيتنا المتيقّنة مع موضوع قضيتنا المشكوكة وحدة عقلية ، بمعنى أنّ نفس ما كان منكشفاً لنا قد صار مشكوكاً ، وذلك هو نجاسة ذات الماء ، فإنّ دخول التغيّر لم يكن داخلاً في ذلك المنكشف الذي هو نجاسة الماء.

نعم ، إنّ ذلك وحده لا ينفع ، فإنّ الانكشاف إنّما اعتبر لا لذاته بل لكونه طريقاً إلى الواقع ، ونحن نحتمل مدخلية التغيّر في ذلك الواقع الذي انكشف لنا وهو نجاسة الماء ، ولأجل ذلك يحصل لنا الشكّ في اتّحاد هذه القضية المشكوكة مع القضية الواقعية التي انكشفت لنا ، وإذا تطرّق لنا هذا الاحتمال فلابدّ من إحراز الاتّحاد في موضوع القضيتين ، القضية الواقعية التي انكشفت لنا والقضية المشكوكة ، وذلك إمّا بنظر العقل أو العرف أو بحسب لسان الدليل ، فيكون الحاصل هو أنّ يقيننا السابق إنّما كشف لنا نجاسة الماء في حال تغيّره على الإجمال ، من دون أن تنكشف لنا حالة التغيّر وهل هي جزء من الموضوع أو أجنبية عنه ، وحينئذ لم نحرز حقيقة الموضوع في قضيتنا المتيقّنة ، فأوجب ذلك الشكّ في اتّحاده مع ما هو موضوع قضيتنا المشكوكة ، ولأجل ذلك نقول : إنّ هذه البيانات لا تخلو من إجمال ، فإنّا إذا فرضنا التردّد في موضوع قضيتنا المتيقّنة

٥٦

كيف نرجع في كيفية اتّحاده مع الموضوع في القضية المشكوكة إلى العقل أو لسان الدليل أو العرف ، وسيأتي إن شاء الله تعالى توضيح ذلك في الحاشية الآتية على ص ٢١٦ (١).

قوله : فإنّ عدم الرافع والغاية ليس من قيود الموضوع وحدوده ليرجع الشكّ في وجودهما إلى الشكّ في بقاء الموضوع ، بل ينعدم الموضوع بوجود الغاية والرافع قهراً ، فالرافع ما يكون وجوده معدماً للموضوع لا أنّ عدمه قيد فيه ، وكيف يمكن أن يكون الموضوع مقيّداً بما يوجب إعدامه ـ إلى قوله ـ فالشكّ في بقاء الحكم لأجل الشكّ في وجود الرافع أو الغاية لا يرجع إلى الشكّ في الموضوع ، بل يشكّ في الحكم مع بقاء الموضوع على ما كان عليه عقلاً ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ غاية الحكم وكذا رافعه ليسا من حدود الموضوع ، فالشكّ فيهما سواء كان من قبيل الشكّ في وجود الغاية أو في وجود الرافع ، أو كان في رافعية الموجود أو في كونه غاية ، لا يكون إلاّمع بقاء الموضوع بحاله ، ولكن هذا النحو من الرافع أو الغاية لا يكون موجباً لاعدام الموضوع ، كيف ولو كان معدماً له لكان الشكّ فيه شكّاً في بقاء الموضوع ، ومعه لا يجري استصحاب الحكم وهو خلاف المطلوب. أمّا إذا أُخذت الغاية غاية للموضوع ، فلا ريب في كونها من حدود الموضوع وإن لم يكن عدمها قيداً فيه ، إلاّ أنّ الموضوع المغيّى بغاية لا ريب في انتهائه بحصول تلك الغاية ، فيكون الشكّ فيها موجباً للشكّ في بقاء الموضوع ، ومعه لا يجري استصحاب الحكم ، بل الابتلاء بمسألة الغاية أعظم من

__________________

(١) وهي الحاشية الآتية في الصفحة ٨٦.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٧٧.

٥٧

الابتلاء بالقيد ، لأنّ ذلك يمكن جريان الاستصحاب فيه إذا كان مورداً للتسامح العرفي ، بخلاف مسألة غاية الموضوع فإنّ التسامح العرفي لا مورد له فيها ، وأمّا الرافع فلا أتخطّر فعلاً رافعاً تكون رافعيته بالقياس إلى موضوع الحكم ، وإنّما يكون الرافع رافعاً للحكم.

ويمكن أن يمثّل لرافع الموضوع بخلط الماء المطلق بما يوجب رفع إطلاقه. ويمكن أن يمثّل له بطهارة الماء القليل ، فإنّها وإن كانت حكماً شرعياً إلاّ أنّها موضوع لحكم شرعي وهو جواز شربه ورفعه الحدث والخبث ، ورافع هذا الموضوع هو ملاقاته للنجاسة.

ويمكن أن يمثّل لغاية الموضوع بطهارة الماء الكثير فإنّها مغياة بالتغيّر بالنجاسة ، ومثل الزوجية في العقد المنقطع التي هي موضوع لجواز الوطء فإنّها مغياة بالأجل. وأمّا الطلاق البائن في النكاح الدائم فهو من قبيل الرافع ، وهكذا الفسخ في باب العقود. ومنه يظهر لك التأمّل في قوله : فالرافع ما يكون رافعاً للموضوع (١).

ثمّ لو تصوّرنا كون الرافع رافعاً للموضوع فلا ريب في عدم بقائه بعد حصوله ، فذلك كاف في المنع من الاستصحاب عند الشكّ فيه ، ويكون حاله حال غاية الموضوع ، وإن لم يمكن أن يكون ذلك الموضوع مقيّداً بما يوجب إعدامه الذي هو ذلك الرافع ، بأن يكون عدم ذلك الرافع قيداً في ذلك الموضوع ، لأنّ الرافع لا يمكن اجتماعه مع الموضوع في الزمان ، ولأجل عدم إمكان إجتماعه

__________________

(١) نصّ العبارة في الفوائد هكذا : فالرافع ما يكون وجوده معدماً للموضوع. كما تقدّم مصدره في الصفحة السابقة.

٥٨

في الزمان لا يمكن أن يكون عدمه قيداً في الموضوع ، إلاّ أنّ حال رافع الموضوع بالنسبة إلى المنع من الاستصحاب عند الشكّ فيه أسوأ من حال قيد الموضوع ، فإنّ باب القيد يدخله التسامح العرفي بخلاف باب رافع الموضوع.

والحاصل : أنّ الجمع بين كون الرافع والغاية رافعين للموضوع وكون الشكّ فيهما موجباً للشكّ في الحكم مع بقاء الموضوع على ما كان عليه عقلاً ، لا يمكن بل هو أشبه بالتهافت أو التناقض ، نعم إنّ الشكّ في غاية الحكم ورافعه يكون موجباً للشكّ في بقاء الحكم مع بقاء موضوعه ومع وحدة القضية المتيقّنة مع المشكوكة وحدة عقلية ، إلاّ أنّ ذلك الرافع وهاتيك الغاية لا دخل لهما في عالم موضوع الحكم بحيث يوجبان رفعه وانعدامه ، فلاحظ وتأمّل.

ولكن هذه الجمل الراجعة إلى أنّ الرافع رافع للموضوع ومعدم له ونحوها في الغاية لم أجد لها ذكراً في باقي التقارير.

والخلاصة : هي أنّ الغاية والرافع إن أُخذا بالقياس إلى الحكم نفسه فلا إشكال في وحدة القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة بحسب الموضوع ، وإن أُخذا بالقياس إلى الموضوع نفسه كان استصحاب الحكم في مورد الشكّ في وجود رافع موضوعه أو غاية موضوعه من قبيل الاستصحاب في مورد الشكّ في بقاء الموضوع. وهكذا الحال في الشكّ في رافعية الموجود أو كونه غاية للموضوع ، وهو أسوأ حالاً من تبدّل الحالة من التغيّر إلى عدمه ، لأنّ ذلك يمكن التخلّص منه بالتسامح العرفي ، بخلاف ما نحن فيه. نعم يكون الاعتماد فيما نحن فيه على استصحاب الموضوع نفسه ، بخلاف باب تغيّر الحالة فإنّه لا يجري فيه استصحاب الموضوع ، فلاحظ.

٥٩

قوله : ثمّ لا يخفى عليك أنّ المراد بالرافع في المقام ما يقابل المانع لا ما يقابل المقتضي ، فإنّ الرافع يستعمل في معنيين ، أحدهما ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : ومرادنا بالرافع في المقام هو الأمر الوجودي الذي يكون هادماً لأثر المقتضي فيكون بمنزلة المانع ، غير أنّ المانع يكون مزاحماً للمقتضي في تأثيره ، فتكون مرتبته قبل التأثير ، والرافع المراد في هذا المقام يكون أمراً وجودياً رافعاً لأثر المقتضي وهادماً لتأثيره ، فتكون مرتبته بعد تأثير المقتضي أثره ، وهذا بخلاف الرافع فيما تقدّم في المختار من عدم جريان الاستصحاب في مورد الشكّ في المقتضي وجريانه في خصوص الشكّ في الرافع ، فإنّ المراد بالرافع في ذلك المقام ما هو الأعمّ منه في هذا المقام ، فالمراد به في ذلك المقام في مقابل الشكّ في المقتضي الذي عرفت أنّه عبارة عن كون الموجود بحسب عمود الزمان مرتفعاً بنفسه ، من دون أن يكون في البين حادث وجودي أو انعدام موجود ، والمراد بالرافع المقابل له هو كون الموجود باقياً في عمود الزمان لو لم يحدث في الكون حادث وجودي أو انعدام موجود ، فذلك الحادث الكوني عدمياً كان أو وجودياً يكون رافعاً للحادث السابق. مثال الأمر الوجودي الحدث بالنسبة إلى الطهارة منه ، ومثال الأمر العدمي انعدام التغيير بالنسبة إلى نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة ، فإنّ الشكّ في بقاء النجاسة في مثل ذلك يكون من قبيل الشكّ في الرافع لا من قبيل الشكّ في المقتضي ، انتهى.

قلت : فيكون الضابط في الشكّ في المقتضي هو أن يكون الموجود السابق مشكوك البقاء ولو لم يحدث حادث من الحوادث الكونية من وجود معدوم أو انعدام موجود ، بل كان الشكّ في بقائه في عمود الزمان ممحضاً من جهة ذاته

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٧٧ ـ ٥٧٨.

٦٠