أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

فلاحظ.

قوله في المقالة : ثمّ لا يخفى أيضاً أنّ الاحتياج ... إلخ (١).

تقدّم البحث عن ذلك تفصيلاً في حواشي ص ٢١١ (٢) ، فراجع.

قوله : نعم في المقام شيء آخر وهو أنّ كفاية ذلك المقدار ـ إلى قوله ـ بلا احتياج إلى إحراز استعداد البقاء في المستصحب ... الخ (٣).

لعلّ عدم إحراز استعداد البقاء هو عبارة أُخرى عن عدم إحراز الموضوع.

ثمّ إنّ هذا إنّما هو في الشكّ في بقاء الموضوع على نحو الشبهة الموضوعية مثل استصحاب عدالة زيد مع الشكّ في بقاء زيد ، دون ما لو كان على نحو الشبهة الحكمية كما لو احتملنا مدخلية التغيّر في موضوع النجاسة وقد زال التغيّر ، إذ لا يكون الشكّ في بقاء النجاسة من قبيل الشكّ في الاستعداد الذي هو عبارة عن الشكّ في المقتضي ، بل هو ممحّض لعدم إحراز الموضوع ، وليس هو من قبيل الشكّ في بقاء الموضوع. على أنّ هذا الشكّ في الاستعداد إنّما يتوجّه فيما لو كان المستصحب هو الصفة كعدالة زيد أو قيامه أو وجوب إكرامه ، دون ما لو كان المستصحب هو مفاد الجملة ، وما هو مفاد الجملة التامّة في قوله : بنحو يرجع معروض الوجوب المستصحب إلى مفاد الجمل التامّة إلخ (٤) ، أهو نفس النسبة الخبرية أو الانشائية بالمعنى الإسمي أو بالمعنى الحرفي ، أو غير ذلك ، هذا

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣٥.

(٢) وهي الحواشي المتقدّمة في الصفحة : ٩ ـ ٤٨.

(٣) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣٦.

(٤) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣٥.

١٢١

يحتاج إلى توضيح وشرح.

قوله : نعم بناءً على إمكان أحد الأمرين لا بأس بإحراز الاستعداد المزبور حتّى مع الشكّ في البقاء ... إلخ (١).

لا أظنّ أنّ أحداً يقول بإمكان انتقال العرض من معروضه إلى معروض آخر أو إمكان بقائه بلا معروض.

قوله : وإلى هذا البيان نظر المحقّق الطوسي قدس‌سره في وجه اعتبار الموضوع في الاستصحاب حيث تشبّث بذيل هذا المبنى العقلي (٢).

فهو لا يريد منع الاستصحاب من جهة استحالة انتقال العرض أو استحالة بقائه بلا موضوع كي يتوجّه عليه الإيراد باختصاص المحالية بالثبوت الحقيقي الواقعي ، بل إنّما يريد منعه من جهة كونه حينئذ من قبيل الشكّ في الاستعداد الراجع إلى الشكّ في المقتضي الراجع إلى سدّ باب الثبوت التعبّدي ، وهذا هو المراد بقوله : وبعده لا مجال لردّه بأنّ الكلام في البقاء التعبّدي لا البقاء الحقيقي كي يحتاج إلى إثبات مثل تلك المقدّمة العقلية فراجع كلامه (٣).

ولكن لا يخفى أنّ المتشبّث بذيل هذا المبنى العقلي هو الشيخ قدس‌سره ، والذي ردّه عليه بأنّ الكلام في البقاء التعبّدي لا الحقيقي هو صاحب الكفاية قدس‌سره قال في الكفاية : فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان ، والاستدلال عليه باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر لتقوّمه بالموضوع

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣٦.

(٢) نفس المصدر.

(٣) مقالات الأُصول ٢ : ٤٣٦.

١٢٢

وتشخّصه به غريب ، بداهة أنّ استحالته حقيقة غير مستلزم لاستحالته تعبّداً والالتزام بآثاره شرعاً الخ (١). ولعلّ العبارة غلط من الناسخ ، وأنّ الصحيح هو أن يقال : وإلى هذا البيان نظر الشيخ قدس‌سره ، إلخ ، وبعده لا مجال لردّ المحقّق الطوسي عليه بأنّ الكلام الخ ، هذا.

مضافاً إلى إمكان القول بأنّ عبارة الشيخ قدس‌سره تكاد تكون صريحة في أنّ المانع من الاستصحاب في موارد الشكّ في الموضوع هو لزوم أحد الأمرين ، أعني انتقال العرض من موضوعه إلى موضوع آخر ، أو بقاءه بلا موضوع ، فراجع قوله : ثمّ الدليل على اعتبار هذا الشرط ـ إلى قوله ـ وبعبارة أُخرى الخ (٢) ولا دخل لذلك بما أُفيد من كون المانع من الاستصحاب هو عدم إحراز الاستعداد.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا المانع وهو عدم إحراز الاستعداد لا يقف في قبال القول به ـ سواء كان القائل هو الشيخ قدس‌سره أو المحقّق الطوسي قدس‌سره ـ القول بإحراز الاستعداد بناءً على إمكان أحد الأمرين الخ ، لما عرفت من أنّ ذلك ممّا لا يظنّ أنّ أحداً يقول به ، نعم يقف في قباله أنّ مانعية عدم إحراز الاستعداد راجعة إلى مانعية كون الشكّ في المقتضي ، فمن يقول بجريان الاستصحاب في مورد الشكّ في المقتضي كصاحب الكفاية قدس‌سره (٣) لا ينبغي أن يكون عدم إحراز الاستعداد مانعاً عنده من جريان الاستصحاب ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٢٧.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٢٩٠ ـ ٢٩١.

(٣) كفاية الأُصول : ٣٩١.

١٢٣

قوله : بمعنى أنّ دليل الحاكم إمّا أن يتصرّف في موضوع دليل المحكوم بإدخال ما يكون خارجاً عنه أو باخراج ما يكون داخلاً فيه ، كقوله : « زيد عالم » أو « ليس بعالم » عقيب قوله : « أكرم العالم » ... الخ (١).

الأولى أن يمثّل للأوّل بقوله : « الطواف بالبيت صلاة » عقيب قوله : تجب الطهارة في الصلاة ، وللثاني بقوله : « لا شكّ لكثير الشكّ » عقيب مثل قوله : « من شكّ بين الثلاث والأربع فليبن على الأربع ».

قوله : بناءً على أن يكون الحرج والضرر من الحالات اللاحقة لنفس الأحكام لا لموضوعاتها كما أوضحناه في محلّه (٢).

فإنّه بناءً على ذلك يكون قوله : « لا ضرر » متصرّفاً في المحمول الذي هو الوجوب الوارد على الوضوء مثلاً ، لأنّ الضرر بعد أن أخذناه عنواناً لنفس الحكم الضرري يكون المرفوع ابتداءً هو الوجوب ، بخلاف ما لو أخذنا الضرر عنواناً للفعل الواجب ، فإنّ قوله : « لا ضرر » حينئذ لا يكون متصرّفاً ابتداءً في المحمول ، إذ لا يكون المرفوع ابتداءً هو الوجوب المذكور ، بل يكون المرفوع ابتداءً هو نفس الفعل ، ومعنى رفعه في عالم التشريع هو رفع حكمه الذي هو الوجوب ، فيكون من قبيل التصرّف في الموضوع ، نظير « لا شكّ لكثير الشكّ » بالنسبة إلى الدليل المتكفّل لحكم الشكّ.

قوله : بل سيأتي في مبحث التعادل والتراجيح أنّ الحكومة لا تختصّ بالأدلّة اللفظية بل تأتي في اللبّيات أيضاً ... إلخ (٣).

مثال ذلك حكومة حجّية خبر العدل على الاستصحاب بعد البناء على أنّ

__________________

(١، ٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٩٣.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٥٩٤.

١٢٤

حجّية كلّ منهما ببناء العقلاء أو الإجماع.

قوله : مع أنّه ليس في تحكيم المقيّد على المطلق والخاصّ على العام ما يقتضي شرح اللفظ بناءً على ما هو الحقّ عندنا من أنّ التقييد والتخصيص لا يوجب استعمال لفظ المطلق والعام ... الخ (١).

إذ لو كان المقيّد موجباً لشرح المطلق وبيان المراد منه ، لكان لفظ المطلق مستعملاً في المقيّد ، وهكذا الحال في الخاصّ بالاضافة إلى العام ، فتأمّل جيّداً.

قوله : والقسم الأوّل من الحكومة إنّما تكون فيما بين الأدلّة المتكفّلة لبيان الأحكام الواقعية ، والحكومة فيها حكومة واقعية ... الخ (٢).

كون الحكومة واقعية في مثل « الطواف بالبيت صلاة » واضح ، وكذا في مثل قوله : « النحوي ليس بعالم » بعد قوله : « أكرم العالم » ، ومثله قوله : « لا سهو في سهو » بناءً على أنّ المراد منه لا يجب سجود السهو في السهو الواقع في سجدتي السهو ، وأمّا مثل « لا شكّ للمأموم مع حفظ الإمام » فكونه من الحكومة الواقعية محل تأمّل ، بل الظاهر أنّ الحكومة فيه حكومة ظاهرية ، إذ ليس الحاكم ولا المحكوم من الأدلّة المتكفّلة للأحكام الواقعية ، بل إنّ كلاً من هذين الدليلين ـ أعني قوله : « لا شكّ للمأموم » وقوله : « من شكّ بين الثلاث والأربع » ـ لا يتكفّل إلاّ الحكم الظاهري ، بل إنّ الحكم هنا مسوق لجعل حجّية حفظ الإمام ، فهو من قبيل الأمارة بالنسبة إلى الأصل العملي. نعم قوله : « لا شكّ لكثير الشكّ » ليس بمسوق لجعل الحجّية ، بل ليس هو مسوقاً إلاّلمجرّد إلغاء شكّ كثير الشكّ وإخراجه عن حكم الشكّ المتعارف ، مع أنّ المحكوم عليه وهو « من شكّ بين

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٩٤.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٩٥.

١٢٥

الثلاث والأربع فليبن على الأربع » ليس متكفّلاً للحكم الواقعي ، فينبغي أن تكون الحكومة فيه أيضاً ظاهرية.

لكن يمكن أن نقول : إنّهاواقعية ، نظراً إلى أنّ مايستفاد من قوله : « لاشكّ لكثير الشكّ » من رفع حكم الشكّ المتعارف لا يكون إلاّرفعاً واقعياً ، بمعنى أنّه رفع للحكم الظاهري المجعول في حقّ الشاكّ وهو البناء على الأربع مثلاً رفعاً واقعياً.

ثمّ لا يخفى أنّه يمكن تحقّق الحكومة الظاهرية فيما يكون موسّعاً لموضوع الحكم كما في قاعدتي الطهارة والحل واستصحابهما بالنسبة إلى ما يشترط فيه الطهارة والحل ، فإنّ الحكومة في ذلك لا تكون إلاّحكومة ظاهرية ، خلافاً لما يظهر من الكفاية (١) من كون الحكومة في مثل ذلك تكون واقعية ، فراجع ما حرّرناه في ذلك في باب الإجزاء (٢). والظاهر أنّ الضابط المائز بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية هو أنّ الدليل الحاكم إن كان متكفّلاً للحكم الواقعي كانت الحكومة واقعية ، وإن كان متكفّلاً للحكم الظاهري كانت الحكومة ظاهرية.

قوله : والجامع بين الكل هو أنّ مفاد التعبّد بأحد الدليلين ( الذي هو الدليل الحاكم ) إن رجع إلى إثبات متعلّق الشكّ الذي أُخذ موضوعاً في الدليل الآخر ( الذي هو الدليل المحكوم ) فالدليل المثبت لمتعلّق الشكّ يكون حاكماً على الآخر ، سواء كان إثبات المتعلّق بتوسّط جعل الاحراز كما في الأمارات ، أو بتوسّط الحكم بالبناء العملي على بقاء الواقع في أحد طرفي الشكّ كما في الأُصول المحرزة ... الخ (٣).

قد يتأمّل في تحقّق هذا الضابط في حكومة استصحاب الطهارة أو النجاسة

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٨٦.

(٢) راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب الصفحة : ٣٨٢ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٥٩٦.

١٢٦

على مثل قاعدة الطهارة ، فإنّه كما يكون استصحاب النجاسة مثلاً مثبتاً لأحد طرفي الشكّ الذي هو موضوع قاعدة الطهارة ، فكذلك قاعدة الطهارة تكون مثبتة لأحد طرفي الشكّ الذي هو موضوع الاستصحاب ، وكما أنّ إثبات الاستصحاب لأحد طرفي الشكّ يكون بتوسّط الحكم بالبناء العملي على بقاء الواقع ، فكذلك قاعدة الطهارة تكون مثبتة لأحد طرفي الشكّ بتوسّط الحكم بالبناء العملي على الطهارة.

فالأولى في تقريب الحكومة المذكورة هو التشبّث بنظر حكومة الأمارة على كافّة الأُصول ، بأن يقال : إنّ الاستصحاب عبارة عن الأخذ باليقين السابق والمنع عن نقضه بالشكّ ، فيكون مرجعه إلى جعل حجّية اليقين من حيث البناء العملي ، ولأجل ذلك كان من الأُصول الاحرازية ، وإلاّ فمجرّد الأمر بالبناء العملي على بقاء المتيقّن السابق لا يكون موجباً لكونه إحرازياً.

وبالجملة : أنّ الاستصحاب هو عبارة عن الأخذ باليقين السابق ، ومرجعه إلى جعل حجّية اليقين ، لكن لا مطلقاً كالأمارات ليكون مثبته حجّة ، بل من حيث البناء العملي فقط على ما شرحناه في محلّه (١) في باب جعل الطرق وفي كيفية التوفيق [ بين ] الأحكام الواقعية والظاهرية ، وحينئذ يكون الاستصحاب محرزاً للواقع ، ويكون رافعاً للشكّ الذي هو موضوع باقي الأُصول ومنها قاعدة الطهارة.

ومنه يتّضح الوجه في حكومة الأصل السببي كاستصحاب طهارة الماء على الأصل المسبّبي كاستصحاب نجاسة الثوب النجس المغسول به ، لأنّ إحراز طهارة الماء بواسطة حجّية اليقين يكون رافعاً للشكّ في بقاء نجاسة الثوب وارتفاعها ، وإحراز بقاء نجاسة الثوب لا يزيل الشكّ في بقاء طهارة الماء إلاّعلى

__________________

(١) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب الصفحة : ٣٠١ وما بعدها.

١٢٧

الأصل المثبت ، فراجع ما حرّرناه في المباحث المشار إليها وفي مباحث الإجزاء إن شاء الله تعالى (١). لكن حكومة طهارة الماء على نجاسة الثوب لا تتوقّف على ذلك ، بل يكفي فيها مجرّد الحكم بطهارة الماء ولو استناداً إلى قاعدة الطهارة فيه ، فإنّها توجب الحكم بطهارة ما غسل فيه وسقوط استصحاب النجاسة في المغسول.

قوله : فإنّه إن أُريد من الحكم الظاهري مؤدّى الأمارة ، فالمؤدّى مشكوك لاحتمال مخالفة الأمارة للواقع ، وإن أُريد من الحكم الظاهري اعتبار الأمارة وحجّيتها ، فهو وإن كان متيقّناً للعلم بحجّية الأمارات ، إلاّ أنّ العلم بالحجّية لم يؤخذ غاية للتعبّد بالأُصول العملية ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ مؤدّى الأمارة المفروض تعلّق الشكّ به لاحتمال مخالفتها للواقع ليس هو حكماً ظاهرياً ، بل هو نفس الحكم الواقعي الذي دلّت عليه الأمارة ، غايته نحتمل أنّ الحكم الواقعي ليس هو على طبق مؤدّى الأمارة.

وبالجملة : أنّ المؤدّى بنفسه المفروض تعلّق الشكّ به ليس من الأحكام الظاهرية ، كما أنّ نفس حجّية الأمارة ليس حكماً ظاهرياً بل هو حكم واقعي أيضاً ، وحينئذ فمراد من قال إنّ متعلّق العلم في غاية الأُصول العملية هو الأعمّ من الحكم الواقعي والظاهري ليس هو المؤدّى ولا حجّية الأمارة ، بل مراده بالحكم الظاهري هو الحكم المجعول على طبق مؤدّى الأمارة سواء خالفت الواقع أو

__________________

(١) لم نعثر على بحث تقدّم الأصل السببي على المسبّبي في مباحث الإجزاء. وعلى أيّ حال فقد تقدّمت مباحث إجزاء الحكم الظاهري في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ص ٣٧٥ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٩٨.

١٢٨

طابقته ، فإنّ هذا الحكم بعد فرض العلم بحجّية الأمارة يكون معلوماً ومقطوعاً به.

نعم ، يرد عليه ما أُفيد من أنّ متعلّق العلم المأخوذ غاية هو الواقع نفسه الذي تعلّق بضدّه اليقين والشكّ ، لا الأعمّ منه ومن الحكم الظاهري على خلاف مؤدّى الأصل. مضافاً إلى ما عرفت في مبحث جعل الطرق والجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية من إنكار الحكم الظاهري بتاتاً ، وأنّه ليس في البين إلاّمجرّد جعل الحجّية ، ولعلّ ذلك ـ أعني إنكار الحكم الظاهري وأنّه ليس في البين إلاّ مجرّد جعل الحجّية ـ هو الأساس فيما أُفيد من حصر المراد بالحكم الظاهري بين الشيئين المذكورين أعني مؤدّى الأمارة وحجّيتها ، وإلاّ فلا ينبغي الريب في أنّه ليس شيء منهما هو المراد لمن زعم الورود مقرّباً له بهذا التقريب ، إذ ليس مراده من العلم بالحكم الظاهري إلاّ العلم بذلك الحكم المزعوم جعله في باب الطرق والأمارات فلاحظ.

قوله : هذا مع أنّ العلم بالحجّية لا يختصّ بباب الأمارات ، بل الأُصول أيضاً كذلك ، للعلم بحجّيتها ... الخ (١).

يمكن الجواب عنه بمثل ما أُفيد في الجواب عن التوهّم السابق ، فيقال : إنّ الأُصول وإن شاركت الأمارات في العلم بالحجّية ، إلاّ أنّ حجّية الأُصول لمّا كان موضوعها الشكّ كانت حجّية الأمارة رافعة له. نعم إنّ حجّية الأمارة لا ترفع الشكّ في الواقع الذي هو موضوع الأُصول ، وهو الايراد الأوّل ، فتأمّل.

قوله : إلاّ أنّه قد تقدّم أنّه يمكن المناقشة فيه بمنع تنقيح المناط القطعي ... الخ (٢).

قال في ذلك المبحث في الجزء الأوّل : وللمنع عن هذه الدعوى ( يعني

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٩٩.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٠١.

١٢٩

تنقيح المناط ) أيضاً مجال ، فإنّها موقوفة على استخراج المناط القطعي ، ولا سبيل إلى إثبات ذلك إلخ (١).

والوجه في هذا المنع واضح ، فإنّه بعد فرض كون الدليل ظاهراً في أنّ الاحراز الوجداني قيد في الموضوع ، لا يمكن تسرية الحكم الوارد على ذلك الموضوع إلى مورد الاحراز التعبّدي ، ومجرّد كون ذلك الاحراز المفروض كونه وجدانياً مأخوذاً على نحو الطريقية لا يوجب التسرية المذكورة.

قوله : بل عمدة الوجه في قيامها مقامه هو أنّ المجعول في الأمارات لمّا كان الاحراز والوسطية في الإثبات فتكون حاكمة على الدليل الذي أُخذ القطع في موضوعه ... الخ (٢).

قد حرّرنا في ذلك المبحث (٣) أنّ مجرّد جعل الاحراز للأمارة لا يوجب أن يترتّب عليها الأثر الشرعي المترتّب على الاحراز الوجداني ما لم يكن في البين ما يدلّ على تنزيل الاحراز التعبّدي منزلة الاحراز الوجداني ، وإنّما أقصى ما في جعل الاحراز للأمارة هو ترتّب آثار الواقع عليها ، لكن ذلك ليس بالجعل الشرعي بل إنّ الشارع بعد أن جعل الاحراز للأمارة ، وكان قيامها على النجاسة مثلاً موجباً لتحقّق الاحراز التعبّدي للنجاسة ، لحقها آثار الواقع لحوقاً قهرياً.

والحاصل : أنّ الآثار العقلية اللاحقة للعلم الوجداني من تنجيز الواقع تلحق الاحراز التعبّدي بعد جعله من قبل الشارع لحوقاً قهرياً ، وهذا بخلاف الآثار

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٤.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٠١.

(٣) لاحظ ما ذكره المصنّف قدس‌سره في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٨٠ وما بعدها إلى آخر الحاشية.

١٣٠

الشرعية اللاحقة للاحراز الوجداني ، فإنّها لا يمكن أن تترتّب بمجرّد جعل الاحراز للأمارة ما لم يتنقّح نفس موضوعها الذي هو الاحراز الوجداني ، أو يقوم دليل على أنّ ذلك الاحراز التعبّدي منزّل عند الشارع منزلة الاحراز الوجداني.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أُفيد بقوله : بل قد تقدّم أنّ حكومتها على الأدلّة المتكفّلة للأحكام الواقعية التي لم يؤخذ القطع في موضوعها إنّما تكون بتوسّط كونها محرزة لها ، فحكومتها على نفس القطع والاحراز الذي أُخذ في الموضوع أولى وأحرى (١) لما عرفت الاشارة إليه من أنّ قيام الأمارة بالقياس إلى القطع الطريقي الصرف لا يوجب حكومة على الأدلّة الأوّلية المتكفّلة للأحكام الواقعية ، بحيث إنّه يكون قيام الأمارة موجباً لجعل ولو ظاهرياً في قبال تلك الأحكام الواقعية ، وإلاّ لعاد محذور الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، بل إنّ قيام الأمارة على موضوع أو حكم لا يؤثّر شرعاً في ناحية الأدلّة الأوّلية لا تأثيراً واقعياً ولا ظاهرياً ، وإنّما أقصى ما في البين هو أنّ الشارع جعل لها صفة الاحراز وكوّنها علماً ، وبعد أن كوّنها علماً تتنجّز الواقعيات بها تنجّزاً قهرياً نظير تنجّزها بالقطع الوجداني ، فلا يكون ترتّب هذا الأثر العقلي عليها موجباً لأن يترتّب عليها الأثر الشرعي المجعول شرعاً للقطع ، فضلاً عن كون ترتّب الأثر الشرعي المذكور أولى وأحرى من ترتّب الأثر العقلي.

والحاصل : أنّ الحجّية والاحراز من الأحكام الوضعية القابلة للجعل الشرعي ، غايته أنّه لابدّ من ترتّب أثر عملي على هذا الجعل إخراجاً له عن اللغوية ، ويكفي في ذلك الأثر العملي ترتيب آثار الواقع عليه في موارد العلم الطريقي الصرف ، وأمّا آثار العلم الموضوعي المأخوذ في الموضوع فلا دليل على

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٠١.

١٣١

ترتّبه عليه وإن كان أخذه فيه على نحو الطريقية. نعم لو كان مرجع جعل الحجّية للأمارة هو تنزيلها منزلة العلم لكان لازمه ترتيب آثار العلم الموضوعي عليها ، فراجع ما حرّرناه في ذلك الباب.

ولا يخفى أنّ إنكار قيام الأمارة ـ بمجرّد دليل حجّيتها بعد البناء على أن ليس مفاده إلاّجعل صفة الاحراز لها ـ مقام القطع الموضوعي لا ينافي حكومتها على الأُصول ، لأنّ حكومتها عليها ليس بمنوط بقيامها مقام العلم الموضوعي المأخوذ غاية في الأُصول ، بل يكفي في حكومتها على الأُصول هو أنّ الاحراز التعبّدي يكون رافعاً لما هو موضوع الأُصول وهو الشكّ رفعاً تعبّدياً ، فإنّ جعل الاحراز تعبّداً عين رفع الشكّ تعبّداً.

وبذلك تندفع شبهة أنّ الاحراز التعبّدي وتكوين الأمارة علماً لا يرفع الشكّ الوجداني الذي هو موضوع الأُصول ، لما عرفت من أنّ جعل قيام الأمارة على النجاسة إحرازاً للنجاسة عبارة أُخرى عن الحكم بارتفاع الشكّ فيها ، وبه يرتفع موضوع الأُصول ارتفاعاً تعبّدياً ، من دون حاجة إلى أن تكون الأمارة قائمة مقام العلم الذي أُخذ غاية في الأُصول ، لأنّ هذه الغاية إنّما هي غاية للحكم المجعول بالأصل المفروض كون موضوعه هو الشكّ ، وبعد ارتفاع الموضوع لا نحتاج إلى قيام رافعه مقام غاية الحكم الوارد عليه.

وإن شئت فقل : إنّ هذه الغاية ليست أمراً آخر وراء الموضوع ، بل إنّ تلك الغاية ليست إلاّعبارة عن أنّ هذا الحكم يكون باقياً ما دام الشكّ ، وقد تقدّم في التنبيه الثاني (١) الراجع إلى جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المحرزة بالأمارات بل وبسائر الأُصول حتّى الاستصحاب نفسه ما له نفع في هذا المقام

__________________

(١) في المجلّد التاسع من هذا الكتاب الصفحة : ٢١٠ وما بعدها.

١٣٢

فراجعه بما علّقناه عليه وتأمّل.

قوله : ولذلك قد يشتبه الشيء بين كونه أمارة أو أصلاً عملياً ... الخ (١).

قال في الحاشية : فلو شكّ في كون الشيء أمارة أو أصلاً ـ إلى قوله ـ وحيث لم يعلم كونه أمارة لم يثبت إثباته للوازم والملزومات ، والأصل عدمها ، فتأمّل (٢).

وبنحو ذلك صرّح السيّد سلّمه الله في تحريره فقال : وإن شكّ في ذلك ـ إلى قوله ـ وأمّا الزائد عليه فهو مشكوك يرجع فيه إلى أصالة عدم الحجّية (٣) ولكن لو وصلت النوبة إلى الشكّ في الحجّية بالنسبة إلى اللوازم كان ذلك موجباً للقطع بعدم الحجّية ، لما حرّر في محلّه (٤) من عدم معنى محصّل لأصالة عدم الحجّية ، لكن يمكن تنزيل عبارة الحاشية ـ أعني والأصل عدمها ـ على أنّ المراد هو أصالة عدم تلك اللوازم ، لا أصالة عدم حجّية ذلك المشكوك كونه أمارة في إثبات تلك اللوازم ، فلاحظ.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٠٢.

(٢) فوائد الأُصول ٤ ( الهامش ) : ٦٠٢.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ١٩٥.

(٤) راجع حواشي المصنّف قدس‌سره المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٦٢ وما بعدها.

١٣٣

[ قاعدة اليد ]

قوله : وإمّا لأصالة عدم التذكية ، وكلّ منهما غير قابل لأن يملك ... الخ (١).

لا يخفى أنّه كان الأنسب ذكر يد المسلم في إثباتها التذكية كما ذكروا مطلق اليد في إثباتها الملكية وإن كانت يد كافر حتّى على اللحم بناءً على كونها أمارة وأنّ مثبتها حجّة ، إذ لا يبعد أن يقال : إنّ المستند في عدم ملكية الكافر للحم إذا كان هو أصالة عدم التذكية كان من قبيل اليد على ما كان غير قابل للملكية بواسطة الاستصحاب ، وحينئذ فعلى من يقول بأنّ اليد أمارة وأنّ مثبتها حجّة وأنّ اليد مقدّمة على استصحاب الوقفية أو استصحاب عدم حصول المسوّغ للنقل ، أن يقول بأنّ يد الكافر على اللحم تحكم بتذكيته ، لتوقّف التملّك على التذكية كتوقّفه على زوال الوقفية أو على عروض إحدى مسوّغات البيع في الوقف ، فتأمّل لإمكان الفرق بين المقامين ، ففي الوقف تجري اليد ويترتّب اللازم ، بخلاف مسألة التذكية ويد الكافر ، والفارق هو النصّ القائل : إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك فعليكم أن تسألوا (٢) الدالّ على إلغاء احتمال التذكية في يد الكافر.

ومن ذلك يظهر لك سقوط يد الكافر على اللحم في إثبات الملكية ولو قلنا بأنّ اليد أمارة وأنّ مثبتها حجّة. نعم يمكن القول بحجّية اليد المذكورة في إثباتها

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٠٣.

(٢) راجع وسائل الشيعة ٣ : ٤٩٢ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٧ ( مع اختلاف ).

١٣٤

الاختصاص وإن لم تكن مثبتة للملكية.

هذا كلّه لو قلنا بأنّ الكافر لا يرى ملكية الميتة كما هو غير بعيد ، إذ لا أظنّ أنّ ديناً من الأديان يسوّغ ملكيتها ، بل حتّى غير المتديّنين مثل عبدة الأصنام والطبيعيين فإنّهم يستقذرونها ، فإنّه حينئذ يكون ما تضمّنه النصّ المزبور على خلاف القاعدة ، لأنّ يد الكافر وإن لم تكن أمارة على التذكية إلاّ أنّها أمارة على الملكية ، ولازم كونه مالكاً للحم أنّه مذكّى ، لأنّ الفرض أنّه لا يرى ملكية الميتة وغير المذكّى ، أمّا الاختلاف بيننا وبينهم في كيفية التذكية فليس هو إلاّمن قبيل الاختلاف بيننا وبين العامّة في كيفيتها ، وعليه فلا يكون الفرق بين يد المسلم ويد الكافر إلاّفي أنّ الأُولى تكون أمارة على التذكية ابتداءً ، بخلاف الثانية فإنّها تكون أمارة على التذكية بواسطة إثباتها الملكية الملازمة للتذكية ، بل يمكن ادّعاء كون الأُولى كالثانية ، لكن النصّ لمّا منع من الأخذ من يد الكافر بلا فحص وسؤال التزمنا بعدم جريانها في المقام المذكور ، لعدم إمكان الحكم بالملكية ولو ظاهراً مع الحكم بعدم التذكية أو مع عدم الحكم بها المستفاد من وجوب السؤال.

أمّا لو فرضنا أنّهم يرون مالكية الميتة ، كانت يد الكافر على اللحم المزبور نظير يده على الخمر والخنزير في كونها أمارة على أنّه يملكه بحسب مذهبه من دون توقّف على التذكية ، وإن كنّا نحن لا نتمكّن من تملّكه منه بشراء ونحوه ، فلا تكون هذه الملكية التي هي على مذهبه ملازمة للحكم بالتذكية ، والنصّ المذكور لا ينفي هذه الملكية ، بل أقصى ما فيه هو عدم الحكم بكونه مذكّى ، إمّا لأنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية ، أو لأنّها ليست كيد المسلم في الأمارية على التذكية لتكون حاكمة على أصالة عدم التذكية.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا التفصيل الذي ذكرناه إنّما هو في لحم الميتة ، وأمّا

١٣٥

جلدها فلا يخفى أنّ كثيراً من المسلمين فضلاً عن الكافرين قائلون باستحلاله ولو بالدبغ ، ولكن مع ذلك تكون يده أمارة على التذكية بخلاف يد الكافر ، فراجع المسألة في كتاب الطهارة.

والفرق بين هذا الكافر الذي يرى جواز تملك الميتة وبين المسلم الذي يرى ذلك كما في الحنفي الذي يرى طهارة جلد الميتة بالدباغ أو يرى أنّ التسمية غير واجبة في التذكية ، هو أنّ الأوّل يحكم بمالكيته لما تحت يده ممّا يعلم أنّه ميتة كما نحكم بمالكيته للخمر والخنزير ، بخلاف الثاني فإنّه لو كان بيده جلد ميتة مدبوغ لا نحكم بأنّه يملكه ، وكذا لو علمنا أنّه لم يسمّ على تلك الذبيحة ، لكن لو لم يعلم الحال نحكم في الأوّل بمجرّد الملكية ولا نحكم بالتذكية ، بخلاف الثاني فإنّه يحكم فيه بالتذكية ، لأنّ مدرك حجّية يد المسلم على التذكية شبيه بأصالة الصحّة الجارية في حقّ المسلم دون الكافر احتراماً للمسلم بحمل يده على الصحّة الواقعية ، فنقول إنّه قد ذكّاه وقد سمّى على الذبيحة ولو من باب الاتّفاق.

ومنه يظهر لك الحكم في الذي يأخذه المسلم من يد الكافر ، فإنّا لو احتملنا في حقّه السؤال والفحص وأنّه لم يقدم على أخذه من الكافر إلاّبعد أن تحقّق عنده ما يكون قاطعاً لأصالة عدم التذكية ، صحّ لنا أخذه منه. أمّا لو علمنا بأنّه قد أقدم على شرائه منه من دون مسوّغ ومبرّر ، بل أقدم على ذلك مع فرض كونه مجرى لأصالة عدم التذكية ، فالظاهر سقوط يده في الاستناد إليها مقابل أصالة عدم التذكية الجارية في حقّنا كما هي جارية في حقّه.

ومن ذلك يظهر لك الإشكال في الجلود التي يجلبها المسلم من بلاد الكفرة مع علمنا بأنّ ذلك المسلم لم يتفحّص ، ولم يصدر عنه سوى أنّه اشتراه وجلبه من الكافر ووصل إلى يده من دون أيّ فحص قاطع عنده لأصالة عدم

١٣٦

التذكية التي هي جارية في حقّه.

والحاصل : أنّك أنت وذلك المسلم الجالب سواء في عدم الفحص والسؤال وأنّ كلاً منكما لم يصدر منه شيء سوى أنّ ذلك الجالب قد أقدم على الجلب والشراء من دون أيّ مبرّر ، وهذا بمجرّده لا يكون موجباً لانقطاع أصالة عدم التذكية في حقّك ، كما هي أيضاً غير منقطعة في حقّه ، فكيف يسوغ لك الشراء منه والحكم بأنّه مذكّى ، إلاّ أن يدّعى أنّ يد المسلم كالكرّ مطهّرة قهراً ، وهذا لا يساعده الذوق ، وإطلاق الأدلّة منصرفة عنه ، فلاحظ.

مضافاً إلى ما في ذلك ممّا هو بالتناقض أشبه ، فإنّ حكمه الظاهري هو كون ذلك الذي تحت يده ميتة وأنّه نجس وأنّه لا يملكه ، لكن يده المذكورة التي كان هذا حالها بالنسبة إليه تكون مطهّرة بالنسبة لك وموجبة لكونه بالنسبة إليك مالكاً ، وأنّ ما تحت يده مذكّى وأنّه طاهر ، هذا ممّا لا يقبله الذوق ، فلاحظ.

قوله : وليس في طريقة العقلاء ما يقتضي التعبّد بالملكية لصاحب اليد ... الخ (١).

تقدّم نظيره في مبحث الأصل المثبت (٢) ، وتقدّم أنّه لا مانع من التعبّد العقلائي الصرف ، وأنّ ترتيبهم آثار المتيقّن السابق في باب الاستصحاب من ذلك ، لو لم نقل بأنّ عملهم على ذلك من باب حجّية اليقين في خصوص ترتيب الآثار اللاحقة للمتيقّن.

وبالجملة : لا ريب في أنّ لنا أُصولاً عقلائية قد جرى عليها [ العقلاء ] مثل أصالة الصحّة وأصالة السلامة من العيب وأصالة الحقيقة ونحو ذلك من الأُصول

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٠٣.

(٢) راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب الصفحة : ٨٧ وما بعدها.

١٣٧

العقلائية التي جرى عليها العقلاء بحسب مرتكزاتهم الفطرية ، وإن كان ذلك لا يخلو عن منشأ من عادة وغلبة وناموس طبعي ونحو ذلك ، وكلّ ذلك لا يرجع إلى الكشف الظنّي كي يكون من باب الأمارة. ولو سلّمنا أنّ ذلك من باب الظنّ النوعي العقلائي فلا يلزمه أن يكون من قبيل الأمارة ، بل هو تابع لكيفية جريهم على مقتضى ذلك ، وهل هو من باب تتميم الكشف الناقص ليكون بمنزلة العلم الطريقي في ترتيب مطلق الآثار ، أو أنّه من باب مجرّد الجري العملي على طبق وجود الشيء الذي لا يقتضي إلاّمجرّد ترتيب الآثار اللاحقة لنفس ذلك الشيء دون مقارناته ولوازمه وملزوماته ، وهذا هو الفارق بين ما نسمّيه أمارة عندهم وما نسمّيه أصلاً عندهم ، وعليه يترتّب كونه مثبتاً للوازم وغير مثبت لها ، فراجع ما شرحناه في مبحث الأصل المثبت. والغرض هو أنّه ليس الميزان في الأصل هو كونه تعبّداً صرفاً لكي ينسدّ باب الأُصول العقلائية بالمرّة ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : لأنّ الغالب في مواردها كون ذي اليد مالكاً لما في يده ... الخ (١).

الظاهر أنّ خروج يد الاجارة والأمانة والعارية ونحوها عن عموم كون اليد أمارة على الملكية بالتخصّص ، نظير خروج هذه الأيدي عن عموم « على اليد ما أخذت » فإنّ هذه الأيدي في الحقيقة إنّما هي يد المالك ، ولأجل ذلك نقول بتقدّم استصحاب حال هذه اليد في كونها أمانة على ما تقتضيه اليد من مالكية العين ، لأنّ هذه اليد لمّا كانت في الحقيقة هي يد المالك الأصلي ، فهي إنّما تدلّ على مالكية المالك الأصلي ، ولا تدلّ على مالكية صاحب نفس هذه اليد ، فإنّ ما

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٠٣.

١٣٨

يكون أمارة على الملكية هو اليد الاستقلالية ، لا اليد التي هي وجود ظلّي ليد المالك الأصلي وهي آلة للمالك الأصلي.

ومن ذلك يظهر لك أنّا لا نحتاج في تقدّم استصحاب حال اليد إلى دعوى كون اليد التي هي أمارة الملكية هي اليد المالكية أو اليد التي لم يعلم حالها ، بل يكفينا نفس عموم كون اليد أمارة على المالكية ، فإنّه ظاهر في اليد الاستقلالية. وإن شئت فقل : إنّه ظاهر في اليد لصاحب اليد وهذه ليست يداً لصاحب اليد ، بل هي يد المالك.

لا يقال : فعلى هذا ينبغي أن لا يتمسّك باليد المشكوك كونها يداً مالكية أو يداً أمانية حتّى لو لم يكن حالها السابق معلوماً ، لأنّ التمسّك حينئذ يكون من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية في ناحية العام ، نظير التمسّك بعموم العالم في من شكّ في كونه عالماً.

لأنّا نقول : نعم ، ولكن ظهور اليد في حدّ نفسه قاضٍ بالاستقلالية ، وذلك كافٍ في دخوله تحت اليد المحكوم عليها بكونها أمارة على الملكية ، لكن هذا الظهور إنّما يتمشّى في اليد غير المسبوقة بالأمانيّة مثلاً ، وإلاّ كان استصحاب الأمانية قاطعاً لهذا الظهور ، فلاحظ وتأمّل.

ولكن لا يخفى أنّ هذه الطريقة في كيفية الحكومة وإن كانت أسهل من الطريقة المشار إليها ، أعني دعوى كون اليد الأمارة على الملكية هي اليد غير المعلومة الحال ، لصعوبة إقامة الدليل على هذا التقييد كما سيتّضح في الحواشي الآتية ، إلاّ أنّه لا يتأتّى في استصحاب الحال فيما لو كان مسبوقاً بالغصبية ، ويلحق به ما كان مسبوقاً بالأمانة الشرعية كاللقطة ونحوها ممّا لا يكون التأمين من ناحية

١٣٩

المالك.

أمّا طريقة شيخنا قدس‌سره من كون اليد الأمارة مقيّدة بعدم العلم فيحتاج إلى دليل ، ومجرّد كون موردها ذلك غير نافع في الحكومة ، والمفروض أنّ الأدلّة اللفظية لم تتكفّل بهذا التقييد ، وبناء العقلاء دليل صامت ، وأقصى ما نستحصله هو القدر المتيقّن ممّا جروا عليه وهو اليد المجهولة الحال ، وليس ذلك بملحق له بالتقييد اللفظي للسان الدليل كي يكون محلاً لصيغة الحكومة أو الورود ، وليس دعوى هذا القدر المتيقّن بأولى من دعوى كون القدر المتيقّن هو حجّية اليد عندهم في غير المسبوقة بالعدوان والأمانية ، لنستريح بذلك من دعوى الورود أو الحكومة لسقوطها بنفسها حينئذ في المورد المذكور وإن لم يجر فيه الاستصحاب ، هذا.

ولكن الذي يظهر من تحرير السيّد ( سلّمه الله تعالى ) هو الاعتماد على كلا الوجهين ، فإنّه قال : فإنّ اليد المعتبرة إنّما اعتبرت بما أنّها كاشفة عن الملكية نوعاً ، لما عرفت من أنّ الاستيلاء على الشيء من اللوازم الطبيعية المترتّبة على الملك ، ولا ريب أنّ الكاشفية النوعية إنّما تتحقّق فيما إذا لم يعلم حال اليد من حيث حدوثها ـ إلى أن قال ـ هذا مع أنّه على تقدير أماريتها في هذا الحال أيضاً إنّما تكون أمارة بما أنّها مشكوكة الحال ، واستصحاب عدم تبدّل حالها وبقائها على ما كانت عليه يكون حاكماً عليها ومثبتاً كونها غير ملك ، فيخرجها عن كونها مشكوكة الحال ـ إلى أن قال ـ فتلخّص ممّا ذكرناه عدم حجّية اليد فيما إذا علم حالها السابق من كونها حادثة على غير الملك باجارة أو عارية ونحوهما ، لعدم أماريتها على الملك في نظر العقلاء أوّلاً ، وحكومة الاستصحاب عليها ثانياً ،

١٤٠