أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

ولا جواب له إلاّ أنّ هذا الأثر ليس من آثار نجاسة المغسول ، بل إنّه يترتّب قهراً على بقاء نجاسة المغسول إلى ما بعد غسله لا أنّه يترتّب عليه شرعاً ، فلا يمكن أن يكون رافعاً لموضوع الأصل في ناحية الماء ، بخلاف ارتفاع نجاسة المغسول بالنسبة إلى الماء فإنّ المستصحب في الماء إن كان هو طهارته كان ذلك ـ أعني ارتفاع نجاسة المغسول ـ من آثاره الشرعية ، وإن كان المستصحب في ناحية الماء هو نفس كونه رافعاً للنجاسة كان ارتفاع نجاسة ذلك الثوب عين ذلك المستصحب. وعلى أيّ حال ، يكون الأصل في ناحية الماء رافعاً شرعاً لموضوع الأصل في ناحية المغسول ، بخلاف الأصل في ناحية المغسول ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الشكّ في بقاء طهارة الماء لم يكن متولّداً عن غسل الثوب فيه ، بل هو في حدّ نفسه كانت طهارته مشكوكة البقاء ، بخلاف الشكّ في بقاء نجاسة الثوب فإنّه متولّد عن غسله في ذلك الماء الذي كانت طهارته مشكوكة البقاء ، وحينئذ يكون الشكّ في بقاء طهارة الماء سابقاً في الرتبة على الشكّ في بقاء نجاسته ، فيكون الأصل الجاري فيه هو المقدّم على الأصل الجاري في ناحية الثوب دون العكس ، وإن قلنا بأنّ كلاً منهما يكون رافعاً لموضوع الآخر بناءً على حجّية الأصل المثبت ، لكن ذلك إنّما يتمّ لو فرض أنّهما في رتبة واحدة ، والمفروض كما عرفت تقدّم الأوّل رتبة على الثاني ، فيكون هو الرافع لموضوع صاحبه ، فلاحظ وتأمّل.

لا يقال : لو كان الثوب في حدّ نفسه قبل غسله في ذلك الماء مستصحب النجاسة كان حاله حال الماء في كونه مشكوك البقاء في حدّ نفسه.

لأنّا نقول : فرض المسألة أنّه لا يحتمل تأثير الثوب على الماء وإنّما المحتمل تأثير الماء على الثوب ، وحينئذ ففي الصورة المزبورة يكون

٥٢١

المستصحب بعد الغسل هو النجاسة الاستصحابية التي كانت قبل الغسل ، ولا ريب أنّ الشكّ في بقاء تلك النجاسة الاستصحابية لا يتولّد إلاّعن غسله بذلك الماء.

والخلاصة : هي [ أنّ ] التأثير المحتمل إنّما هو في جانب الماء ، فإنّه لو كانت طهارته باقية كانت رافعة لنجاسة الثوب ، ولو لم تكن طهارة الماء باقية بأن صادف أنّه نجس في الواقع كان موجباً لنجاسة الثوب ، على وجه لو كانت النجاسة في الثوب استصحابية وكان ذلك الاستصحاب مخطئاً ، كانت نجاسة الماء واقعاً موجبة لتنجّس الثوب ، أمّا من جانب الثوب فإنّ فرض المسألة هو أن لا تكون نجاسته موجبة لتنجّس الماء المغسول به ، إمّا لكونه كثيراً وإمّا لكون الغسل به كان بصبّ الماء عليه من الآنية الموجود فيها ، ولم يكن الحكم بنجاسة الماء إلاّمن جهة الكاشفية ، بمعنى أنّا لو حكمنا ببقاء نجاسة الثوب لكان ذلك ملازماً لكون ذلك الماء نجساً في الواقع ، إذ لو كان طاهراً لم تكن نجاسة الثوب باقية.

وحينئذ نقول : إنّ احتمال بقاء طهارة الماء لم يكن ناشئاً عن غسل الثوب فيه ، بل هو ـ أعني الماء ـ في حدّ نفسه محتمل الطهارة ، فيجري فيه الاستصحاب أو القاعدة من دون توقّف على ما في ناحية الثوب ، أمّا الثوب فسواء كان في حدّ نفسه مقطوع النجاسة أو كان هو مستصحب النجاسة ، لا تكون تلك النجاسة القطعية أو المستصحبة محتملة الزوال والبقاء إلاّبعد غسله في ذلك الماء ، لكون هذا الاحتمال متولّداً عن غسله فيه ، فيكون الشكّ في الماء سابقاً في الرتبة على الشكّ في ناحية الثوب ، ويكون الحكم في الماء رافعاً للشكّ في ناحية الثوب ، بخلاف الشكّ في ناحية الثوب فإنّ الشكّ فيه لمّا كان متأخّراً رتبة عن الشكّ في

٥٢٢

الماء لكونه مسبّباً ومعلولاً له ، كان الحكم فيه باستصحاب تلك النجاسة التي كانت له قبل الغسل متأخّراً عن الحكم بطهارة الماء ، فلو قلنا إنّ استصحاب تلك النجاسة التي كانت للثوب قبل الغسل مثبتة للازمها وهو نجاسة الماء ، لم يكن ذلك الحكم صالحاً لأن يرفع الشكّ في طهارة الماء ، لما عرفت من تأخّره رتبة عنه.

وبالجملة : أنّ استصحاب طهارة الماء رافع للشكّ في نجاسة الثوب ، وأمّا استصحاب نجاسته فهو وإن خلي في حدّ نفسه لكان رافعاً للشكّ في طهارة الماء بناءً على الأصل [ المثبت ] ، إلاّ أنّ الحكم في الأوّل لمّا كان سابقاً في الرتبة على الحكم في الثاني ، كان الحكم في الأوّل رافعاً لموضوع الثاني قبل أن تصل إلى درجته ليكون بعد تحقّقه رافعاً لموضوع الحكم في الأوّل ، فكلّ من الحكمين وإن كان في حدّ نفسه رافعاً لموضوع الآخر إلاّ أنّ الأوّل لمّا كان سابقاً في الرتبة كان هو الرافع لموضوع صاحبه دون العكس.

قوله : وإن شئت قلت ـ إلى قوله ـ وبعبارة أوضح ... الخ (١).

لا يخفى أنّ كلاً من هذين التقريرين يتوقّف على الحكومة ، وما أُفيد من قوله : إنّ قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشكّ » (٢) لا يمكن أن يعمّ الأصل السببي والمسبّبي في عرض واحد جمعاً (٣) يمكن التأمّل فيه ، فإنّه مع قطع النظر عن الحكومة المذكورة يكون كلّ من الأصلين جارياً ، ويكون حالهما حال الأصلين في من توضّأ بمائع مردّد بين الماء والبول في جريان كلّ من استصحاب الحدث

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٨٧.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٦٨٧.

٥٢٣

وطهارة الأعضاء.

قوله : وعلى الثاني فإمّا أن يقوم دليل من الخارج على عدم إمكان الجمع بين المستصحبين كتتميم الماء النجس كرّاً ... الخ (١).

لكن بقي مورد واحد من موارد التعارض على رأيه قدس‌سره خارجاً عن هذه الأقسام ، وهو ما إذا لم يلزم من العمل بالأصلين مخالفة عملية للتكليف المعلوم ولكن كان الأصلان إحرازيين ، كما في الاناءين المعلومي النجاسة إذا طهّر أحدهما ولم يعلم بعينه ، فإنّه على رأي الشيخ قدس‌سره (٢) يجري استصحاب النجاسة في كلّ منهما فلا يكون بينهما تعارض ، لكن على رأي شيخنا قدس‌سره يكون ذلك في باب التعارض ، وحينئذ يمكن القول بإدخاله تحت هذا القسم بجعل العلم بالانتقاض في أحد الطرفين من قبيل الدليل الخارج الموجب لعدم إمكان الجمع بينهما هذا ، ولكن هذا التقسيم إنّما هو تقسيم الشيخ نفسه ، وسيأتي في آخر البحث من شيخنا قدس‌سره (٣) الاستدراك عليه بجعل الأقسام خمسة.

قوله : كما لو توضّأ المكلّف بمائع مردّد بين البول والماء غفلة فإنّ ... الخ (٤).

لا يخفى أنّه بعد الفراغ عن عدم جريان قاعدة الفراغ في هذا الفرع لما تقدّم من انحفاظ صورة العمل ، يكون الجاري في هذا الفرع هو استصحاب الحدث وطهارة الأعضاء. نعم إنّه لا يمكنه إعادة الوضوء بالماء الطاهر للعلم بعدم الأمر

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٨٧.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٤٠٧ ( الهامش ) و ٤١٣.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٦٩٦.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٦٨٨.

٥٢٤

بذلك الوضوء ، إمّا لكونه متوضّئاً أو لأنّ أعضاءه نجسة ، كما تقدّمت الاشارة إلى ذلك في مباحث قاعدة الفراغ فراجع (١) ، وسيأتي منه قدس‌سره (٢) أنّ هذا المثال خارج عن تعارض الاستصحابين.

قوله : وإمّا أن يكون لأحد المستصحبين أثر شرعي في زمان الشكّ دون الآخر ، كما في دعوى الموكّل التوكيل في شراء العبد ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية ... الخ (٣).

بحيث كان الوكيل قد اشترى الجارية فأنكر الموكّل التوكيل في شرائها وادّعى أنّه وكله في شراء العبد ، فإنّ القول حينئذ هو قول الموكّل لأصالة عدم التوكيل في شراء الجارية ، ولا يعارضها أصالة عدم التوكيل في شراء العبد ، لعدم الأثر في توكيله في شرائه ، لأنّ المفروض أنّ الوكيل قد اشترى الجارية ولم يشتر العبد. وفي بعض التقريرات إبدال المثال بما لو كان العلم الاجمالي بعد خروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء. وعلى أي حال ، يكون هذا النوع خارجاً عن تعارض الاستصحابين.

قوله : وتقدّم أيضاً أنّه لا وجه للالتزام بالمصلحة السلوكية ، بل الحقّ هو أنّ المجعول في باب الأمارات نفس الطريقية والوسطية في الاثبات من دون أن يكون في العمل بها مصلحة سوى مصلحة الواقع عند الاصابة ... الخ (٤).

الذي يظهر من هذه العبارة هو [ أنّ ] الالتزام بالمصلحة السلوكية إنّما يكون

__________________

(١) راجع الصفحة : ٤٢٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٩٤ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٦٨٨.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٦٨٩.

٥٢٥

لو لم نقل بجعل الحجّية والطريقية ، بل قلنا بجعل الأحكام الظاهرية على طبق مؤدّيات الأمارات ، إمّا بتنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، أو بتنزيل قيامها منزلة العلم بالواقع ، أو غير ذلك ممّا لا يرجع إلى جعل الحجّية والطريقية ، أمّا لو قلنا بما اخترناه من أنّ المجعول هو نفس الطريقية والحجّية ، فلا حاجة إلى الالتزام بالمصلحة السلوكية.

وفيه تأمّل ، فإنّ الالتزام بالمصلحة السلوكية إنّما هو لدفع الشبهة القائلة بأنّ جعل الطرق والأمارات يكون موجباً للوقوع في المفسدة أو تفويت المصلحة ، ومن الواضح تأتّي هذا الإشكال على القول بجعل الحجّية كتأتّيه على الأقوال الأُخر ، فإذا كان الجواب عن الشبهة على تقدير أحد الأقوال الأُخر بالالتزام بالمصلحة السلوكية ، كان على أرباب هذا القول ـ أعني جعل الحجّية ـ أن يجيبوا عن هذه الشبهة بالالتزام بالمصلحة السلوكية ، أو بنحو آخر من قبيل أنّ موارد الاصابة في الأمارات أكثر منها في القطع ونحو ذلك ممّا يتأتّى على جميع الأقوال.

ثمّ لا يخفى أنّ مورد الأمارة إمّا أن يكون من قبيل ما انسدّ فيه باب العلم بمعنى أنّ المكلّف في مورد تلك الأمارة لا يتمكّن من تحصيل العلم بالحكم الواقعي فيه ( ولعلّ هذا هو المراد ممّا أُفيد بقوله : وأمّا في صورة انسداد باب العلم (١) يعني انسداده في ذلك المورد الخاصّ لا الانسداد الكلّي (٢) ) وإمّا أن يكون باب العلم منفتحاً فيه.

فإن كان الأوّل لم يكن في البين تفويت للواقع كما أفاده بقوله : والمقدار

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٨٩.

(٢) وإن كان الذي يظهر ممّا أُفيد في جعل الطرق أنّ المراد هو الانسداد الكلّي [ منه قدس‌سره ].

٥٢٦

الذي يدركه المكلّف من إصابة الأمارة للواقع خير جاءه من قبل التعبّد بها (١) ، ولكن لابدّ من تقييده (٢) بعدم تمكّن ذلك المكلّف من الاحتياط في المورد المذكور ، وإلاّ لكان العمل بالأمارة أيضاً مورداً للشبهة المذكورة ، واحتيج إلى الجواب عنها بالمصلحة السلوكية أو أكثرية الاصابة.

وإن كان الثاني ، وهو فرض تمكّن المكلّف من تحصيل العلم ، فالظاهر أنّه لابدّ في دفع الشبهة فيه من الالتزام بالمصلحة السلوكية ، أو دعوى اطّلاع الشارع على أكثرية موارد الاصابة في باب الأمارات من موارد الاصابة في تحصيل العلم والعمل على طبقه بعد فرض عدم التمكّن من الاحتياط.

ولكن الذي يظهر من الكتاب هو أنّه يكفي في المصلحة السلوكية مجرّد التسهيل على المكلّفين كما هو كذلك فيما تقدّم (٣) من بحث جعل الطرق. وفيه تأمّل فإنّ مجرّد التسهيل لا يصحّح تفويت المصلحة ، إلاّ أن نقول إنّ في نفس التسهيل مصلحة يتدارك بها ما يفوت على المكلّف من مصلحة الواقع لو عمل بالأمارة.

ولا يخفى أنّ القائلين بالمصلحة السلوكية لا يريدون بها إلاّهذا المعنى أعني كون سلوك هذه الأمارة مشتملاً على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع عندما تكون تلك الأمارة مخطئة ، سواء كانت تلك المصلحة قائمة بالتسهيل أو كانت قائمة في تصديق العادل مثلاً والاعتناء بشأنه ، وليس المراد أنّ تلك

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٨٩.

(٢) لكن شيخنا حيث إنّ مفروض كلامه إنّما هو الانسداد الكلّي الذي لا يكون إلاّبعد سقوط الاحتياط ، كان هو قدس‌سره في غنى عن هذا التقييد [ منه قدس‌سره ].

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٩٣ ـ ٩٤.

٥٢٧

المصلحة تكون كاسرة لمصلحة الواقع الذي خالفته ليعود محذور التصويب ، بل إنّ المراد أنّ الواقع باقٍ على ما هو عليه من الحكم الواقعي والصلاح الواقعي ، لكن لمّا كان المكلّف لم يحصل على تلك المصلحة الواقعية وقد فاتته بواسطة ركونه إلى الأمارة التي جعلها الشارع حجّة عليه ، كان على الشارع الحكيم أن يتدارك له ما فاته من المصلحة بمصلحة أُخرى ، فالتدارك شيء وكون مصلحة الواقع منكسرة بواسطة المصلحة السلوكية شيء آخر.

ومن ذلك يظهر لك أنّ القول بهذا المقدار من المصلحة السلوكية لا يوجب اندراج الأمارتين المتعارضتين في باب التزاحم ، فإنّه بناءً عليها لا تخرج الأمارتان المذكورتان عن كون حجّيتهما من باب الكشف والطريقية [ و ] عن كونهما متدافعين ومتنافيين من حيث الحكاية عن الواقع الذي هو ملاك التعارض والتساقط ، غايته أنّ هذه الأمارة التي تكون حجّيتها من باب الكشف والحكاية عن الواقع لو عمل بها المكلّف وفوّتت عليه مصلحة الواقع ، كان على الشارع الحكيم أن يتدارك ما فاته بمصلحة أُخرى ، وهذا المقدار لا يوجب انقلاب حجّيتها من الطريقية إلى السببية المعبّر عنها بالموضوعية ، بمعنى أنّ ما قامت الأمارة على وجوبه يكون قيام الأمارة على وجوبه أو تعنونه بما قامت الأمارة على وجوبه يكسبه صلاحاً يزاحم صلاح الواقع أو فساده لو كان ذلك الفعل محرّماً في الواقع مثلاً أو كان غير واجب ، وحينئذ فينحصر التزاحم والتخيير به ، ولا يتأتّى في السببية السلوكية.

ولكن سيأتي منه قدس‌سره في باب التعادل والتراجيح (١) المنع من كونه من باب التزاحم.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦١ ـ ٧٦٢.

٥٢٨

ومن ذلك كلّه يظهر لك الخدشة فيما أُفيد في صدر البحث بقوله : فإنّ الأمارات المتعارضة بناءً على السببية فيها إنّما تندرج في صغرى التزاحم ، سواء قلنا بالسببية الباطلة التي ترجع إلى التصويب ، أو قلنا بالسببية الصحيحة التي توافق مسلك المخطّئة الخ (١) ، فإنّه قد ظهر لك أنّه بناءً على سببية المخطّئة التي هي الالتزام بالمصلحة السلوكية الراجعة إلى لزوم تدارك ما يفوت المكلّف من مصلحة الواقع ، لا يخرجها عن باب التعارض ويدرجها في باب التزاحم.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الجواب عن النقض الذي في الحاشية (٢) على ما أُفيد في المتن ، من دعوى اختصاص الأُصول بصورة الانسداد ، فإنّ الأُصول الجارية في الشبهات الموضوعية وإن كانت في مورد الانفتاح لعدم لزوم الفحص فيها ، إلاّ أنّا لو التزمنا بالمصلحة السلوكية فيها لم يكن ذلك موجباً لدخولها في باب التزاحم وأصالة التخيير. نعم هذا النقض وارد على المتن باعتبار التزامه بأنّ الالتزام بالمصلحة السلوكية موجب لدخول المسألة في باب التزاحم وجريان أصالة التخيير ، فتأمّل.

قوله : وأمّا الأُصول العملية ـ إلى قوله ـ فلا تندرج في صغرى التزاحم ... الخ (٣).

لا يخفى أنّه يتأتّى في الأُصول العملية ما تأتّى في الأمارات من شبهة تفويت المصالح الواقعية ، ولابدّ في الجواب عن هذه الشبهة فيها بنحو ما تقدّم ، فإنّها وإن كانت في فرض انسداد باب العلم في مجاريها ، إلاّ أنّه مع إمكان

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٨٨.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٩٠ ( الهامش ٢ ).

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٦٩٠ ـ ٦٩١.

٥٢٩

الاحتياط كما هو المفروض تكون الشبهة فيها جارية ، فلابدّ من الجواب عنها بالالتزام بالمصلحة السلوكية.

لا يقال : في الأُصول التي تارةً تكون نافية وأُخرى مثبتة مثل الاستصحاب ، يمكن الجواب عن الشبهة فيه بما تقدّم (١) من اطّلاع الشارع على أكثرية موارد إصابته الواقع ، وإنّما يتعيّن الالتزام بالمصلحة السلوكية في خصوص ما يكون نافياً محضاً ، مثل أصالة البراءة ونحوها من الأُصول النافية.

لأنّا نقول : إنّا قد فرضنا أنّ الأُصول لا تجري إلاّبعد انسداد باب العلم في مواردها ، ولذلك نقول بلزوم الفحص عن الأدلّة الاجتهادية قبل إجراء الأُصول العملية الجارية في الشبهات الحكمية ، فلا معنى للقول حينئذ بأنّ موارد الاصابة في الأُصول أكثر منها في موارد العلم ، بل يتعيّن الجواب حينئذ بما نجيب به عن الأُصول النافية من الالتزام بالمصلحة السلوكية التداركية ، والمراد بها هنا هو أنّ الشارع لاحظ خطأ جملة من هذه الأُصول وفوات مصلحة الواقع بالركون إليها ، ومع ذلك حكم بها وأعرض عن الاحتياط المحصّل للواقع ، فلابدّ أن يكون في الركون إليها مصلحة يتدارك بها ما يفوت المكلّف بالركون إليها من المصالح الواقعية. ويقرّب ذلك بما حرّر في محلّه في بحث جعل الأحكام الظاهرية وعدم المنافاة بينها وبين الأحكام الواقعية.

ولعلّ هذا الذي حرّرناه راجع إلى ما حرّرته عنه قدس‌سره بقولي عنه : فإنّ غاية ما يتوهّم هو أنّ سلوك الأصل مع التمكّن من تحصيل الواقع بالاحتياط مفوّت لمصلحة الواقع.

وفيه : أنّ التمكّن من الاحتياط ليس مثل التمكّن من تحصيل العلم ، فإنّ

__________________

(١) في الصفحة : ٥٢٧.

٥٣٠

مجرّد التمكّن من تحصيل العلم موجب لتحصيله ، بخلاف التمكّن من الاحتياط فإنّه لا يوجب الاحتياط إلاّبموجب شرعي نعبّر عنه بمتمّم الجعل ، ويستكشف منه أهميّة ذلك الواقع على وجه يحتاج إلى جعل الاحتياط الذي هو متمّم الجعل ، ففي مورد عدم الدليل على الاحتياط يستكشف منه عدم تلك الأهمية على الوجه المذكور ، بل تكون الارادة الواقعية غير مقتضية للتأثير إلاّفي حال قيام الحجّة عليها ، وبذلك أجبنا عن الاستدلال على القول بالاحتياط في الشبهات البدوية بما حاصله أنّ المصلحة التي اقتضت جعل التكليف تكون مقتضية لجعل الاحتياط وإلاّ لفاتت المصلحة الواقعية ، انتهى.

وتوضيح المبحث بنحو أخصر : هو أنّ المدار في الاحتياج إلى المصلحة السلوكية على إمكان الاحتياط وعدمه ، فإن كان الاحتياط ممكناً كان جعل الطرق والأمارات وكذلك جعل الأُصول العملية مفوّتاً للواقع وموجباً للوقوع في المفسدة أو تفويت المصلحة ، فلابدّ من الالتزام بالمصلحة السلوكية سواء كان باب العلم منفتحاً أو كان منسدّاً. وإن [ كان ] الاحتياط غير ممكن كنّا في غنى عن المصلحة السلوكية ، فتكون الصور في جعل الطرق أربعاً ، كما أنّها في جعل الأُصول أربع أيضاً.

أمّا صور جعل الطرق ، فالأُولى منها : أن يكون باب العلم منفتحاً ويكون الاحتياط ممكناً ، وفي هذه الصورة لابدّ من المصلحة السلوكية.

الثانية : أن يكون باب العلم منفتحاً ويكون الاحتياط غير ممكن. وفي هذه الصورة لا حاجة إلى الالتزام بالمصلحة السلوكية ، لإمكان كون موارد الخطأ في العلم الذي يحصّله المكلّف أكثر منه في الأمارات ، هذا لو رجعنا إلى تحصيل العلم ، ولو رجعنا إلى التخيير فكذلك أيضاً يمكن أن يكون موارد خطأ التخيير

٥٣١

أكثر من موارد خطأ الطرق.

الثالثة : أن يكون باب العلم منسدّاً ويكون الاحتياط غير ممكن ، وفي هذه الصورة لا حاجة إلى الالتزام بالمصلحة السلوكية ، لأنّ وظيفته تنحصر بالتخيير ، ولعلّ موارد الخطأ فيه أكثر منه في الأمارات.

الرابعة : أن يكون باب العلم منسدّاً ويكون الاحتياط ممكناً ، وفي هذه الصورة لابدّ من الالتزام بالمصلحة السلوكية كما في الصورة الأُولى.

وأمّا صور جعل الأُصول ، فالأُولى منها : أن يكون باب العلم منسدّاً كما لو كانت الشبهة حكمية ، لأنّها حينئذ لا تجري الأُصول فيها إلاّبعد الفحص والعجز عن تحصيل العلم بالواقع أو ما يقوم مقام العلم به ، ولكن يكون الاحتياط ممكناً ، وفي هذه الصورة لابدّ من الالتزام بالمصلحة السلوكية.

الثانية : أن يكون باب العلم منسدّاً ويكون الاحتياط غير ممكن ، وفي هذه الصورة لا حاجة إلى الالتزام بالمصلحة السلوكية ، لكون المسألة حينئذ من الدوران بين المحذورين ، والوظيفة الأوّلية فيها هي التخيير ، ولا مورد فيها لمثل البراءة ونحوها. نعم ربما يجري فيها الاستصحاب في أحد الطرفين دون الآخر ، ولكن لا داعي حينئذ إلى الالتزام بالمصلحة السلوكية ، لإمكان كون موارد الاصابة فيه أكثر من موارد إصابة التخيير.

الثالثة : أن يكون باب العلم بالواقع منفتحاً كما في موارد الشبهات الموضوعية بناء على عدم وجوب الفحص فيها ، ولكن يكون الاحتياط ممكناً ، وفي هذه الصورة لابدّ من الالتزام بالمصلحة السلوكية.

الرابعة : أن يكون باب العلم منفتحاً ولكن لا يكون الاحتياط ممكناً ، فيكون الحال فيها كالصورة الثانية في كونها من الدوران بين المحذورين وأنّ

٥٣٢

الأصل النافي لا يجري فيها ، وإنّما يجري الاستصحاب في أحد الطرفين لو اتّفق كونه مورداً له ، ولعلّ موارد الخطأ فيه أقلّ من موارد الخطأ في العلم إن رجعنا إلى العلم ، كما هي أقل من موارد خطأ التخيير أيضاً لو رجعنا إليه ، وهذا واضح في الاستصحاب المثبت لأحد الطرفين ، وأمّا النافي لأحدهما فهو لا يزيد في النتيجة على التخيير ، أمّا تقديمه على تحصيل العلم فلابدّ أن نقول إنّه لأجل مصلحة سلوكية.

ثمّ بعد ما عرفت من هذه الصور وما عرفت من أنّه لا يكفي مجرّد التسهيل في المصلحة السلوكية ، وأنّ المصلحة السلوكية لا توجب الاندراج في صغرى التزاحم والتخيير ، يظهر لك التأمّل في هذا التحرير الذي أُفيد في الكتاب ، فتأمّل.

قوله : لأنّ التعبّد بالأُصول العملية إنّما يكون في ظرف انسداد باب العلم وعدم التمكّن من إدراك الواقع ، لأنّها وظيفة الشاكّ والمتحيّر الذي ... الخ (١).

لا يخفى أنّه قد تقدّم منه قدس‌سره في مباحث الاشتغال (٢) في تقريب القول بالتخيير في تعارض الأُصول أنّ في ذلك تقريبين : أحدهما هذا الذي أفاده هنا ، وهو قياس المسألة بباب التزاحم بناءً على السببية ، وأجاب عنه هناك بما أجاب به هنا من عدم تصوّر السببية في باب الأُصول العملية. والوجه الثاني هو قياس المسألة بباب العام الذي خرج منه فردان واحتملنا كون خروج كلّ منهما مقيّداً ببقاء الآخر ، وقد تقدّم منه قدس‌سره في ذلك البحث الجواب عنه بالفرق بين البابين ، لكن قد علّقنا عليه هناك بما حاصله المنع من الفرق المشار إليه ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٩٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦ ـ ٢٩.

٥٣٣

فراجع (١).

قوله : وما ذكره الشيخ قدس‌سره من إمكان إدراج الاستصحابين المتعارضين في باب التزاحم إذا فرض أنّ العمل بأحد الاستصحابين يقتضي سلب القدرة وعدم التمكّن من العمل بالآخر مجرّد فرض لا واقع له ، بل الظاهر أن يكون من المستحيل ... الخ (٢).

قال الشيخ قدس‌سره : نعم مثال هذا في الاستصحاب أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين امتنع شرعاً أو عقلاً العمل بكليهما من دون علم إجمالي بانتقاض أحد المستصحبين بيقين الارتفاع ، فإنّه يجب حينئذ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر ، فيكون الحكم الظاهري مؤدّى أحدهما. وإنّما لم نذكر هذا القسم في أقسام تعارض الاستصحابين لعدم العثور على مصداق له ، فإنّ الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها من جهة اليقين بارتفاع أحد المستصحبين ، وقد عرفت أنّ عدم العمل بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها العجز ، لأنّه نقض اليقين باليقين ، فلم يخرج عن عموم « لا تنقض » عنوان ينطبق على الواحد التخييري (٣).

وقد يمثّل لذلك بما إذا وجب إنقاذ العادل وكان هناك غريقان كلّ منهما مستصحب العدالة ، فإنّ العمل بالاستصحاب في أحدهما الذي هو زيد مثلاً يكون موجباً لسلب القدرة عن العمل به في الآخر.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّه في المثال يكون كلّ من الاستصحابين جارياً في حدّ

__________________

(١) راجع المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٨٣ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٦٩١.

(٣) فرائد الأُصول ٣ : ٤١١ ـ ٤١٢.

٥٣٤

نفسه ، ولا يكون جريان الاستصحاب في أحدهما سالباً للقدرة على إجرائه في الآخر ، بل يجري كلّ من الاستصحابين ويثبت بذلك وجوب الانقاذ في كلّ منهما وإنّما يقع التزاحم بين الأثرين أعني وجوب إنقاذ زيد ووجوب إنقاذ الآخر ، ومع التساوي يكون المكلّف مخيّراً بين الانقاذين.

قوله : فإنّ الترجيح إن كان لأجل موافقة أحد المتعارضين لأصل عملي آخر ، فالأصل المعارض يعارض كلاً من الأصلين المتعارضين مع اتّحاد رتبتهما ... الخ (١).

إن كان هذان الأصلان المتوافقان في موردين كما في إناءين وإناء ثالث علم بوقوع نجاسة إمّا فيهما معاً أو في خصوص ذلك الثالث ، فلا يكون ذلك من باب الترجيح ولا من باب أصل في مقابل أصلين ، بل يكون الأصل في الثالث معارضاً لأصل واحد وهو استصحاب الطهارة في الاثنين. وإن كانا في مورد واحد كان ذلك غير معقول إلاّفي صورة كون أحد الأصلين حاكماً على الآخر ، كما في مورد يكون مورداً لاستصحاب الطهارة حتّى في مثل أصالة الحل وأصالة البراءة الشرعية المستفادة من حديث الرفع ، فإنّ الأُولى حاكمة على الثانية كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى (٢). فلو كان في الطرف الآخر أصل يعارضه فيسقط الأصل الحاكم بالمعارضة ، ويكون المورد بعد سقوطه مورداً للأصل المحكوم الذي هو قاعدة الطهارة ، إلاّعلى مبنىً له قدس‌سره في مثل ذلك من الالتزام بسقوط كلّ من الحاكم والمحكوم في رتبة واحدة ، وعلى كلّ حال لا يكون ذلك من باب الترجيح.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٩١.

(٢) في الحاشية الآتية.

٥٣٥

قوله : المجعول في باب الأُصول العملية وإن كان هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ ، إلاّ أنّه تارة يكون المجعول هو البناء العملي على ثبوت الواقع في أحد طرفي الشكّ وتنزيله على منزلة الواقع ، وأُخرى يكون المجعول مجرّد تطبيق العمل ـ إلى قوله ـ ويدخل في القسم الثاني البراءة والاحتياط وأصالة الحل والطهارة ... الخ (١).

في كون الاحتياط من قبيل ما كان المجعول فيه مجرّد تطبيق العمل على طبق أحد طرفي الشكّ تأمّل ، خصوصاً في الاحتياط الموجب للتكرار ، فإنّ الظاهر أنّه من قبيل تطبيق العمل على كلا طرفي الشكّ ، والأمر في ذلك سهل ، إلاّ أنّ جعل الأُصول التنزيلية من قبيل الأُصول الاحرازية يمكن المنع عنه.

والأولى في التقسيم هو جعل الأقسام ثلاثة : أُصول إحرازية ، وأُصول تنزيلية ، وأُصول لا إحرازية ولا تنزيلية. والأوّل هو الاستصحاب ونحوه من قاعدتي الفراغ والتجاوز وأصالة الصحّة ، والثاني هو قاعدة الحل والطهارة بناءً على كون مفادهما هو تنزيل المشكوك الحلّية منزلة الحلال الواقعي ومشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي ، ويقابل أصالة الحل قاعدة الحرمة في الأموال والنفوس والفروج ، بأن يكون مفاد قاعدة الحرمة في الأموال مثلاً هو الحكم على المال المشكوك الحرمة والحلّية بالحرمة ، بأن يقال إنّ كلّ مال هو حرام عليك حتّى تعرف الحلال بعينه.

وعلى كلّ حال ، فإنّ مفاد أصالة الحل هو تنزيل ما هو مشكوك الحلّية منزلة الحلال الواقعي في ترتيب أثر الحلّية حتّى يعرف أنّه حرام ، وهكذا الحال في قاعدة الطهارة ، فيكون مفادهما التنزيل منزلة الحلال الواقعي والطاهر الواقعي ، لا

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٩٢.

٥٣٦

الحكم على المشكوك بأنّه حلال ليكون مفادهما جعل الحكم في مورد الشكّ ، غايته أنّها تكون حلّية لاحقة للشيء بعنوانه الثانوي الذي هو الشكّ ، في قبال الحلّية المجعولة له بعنوانه الأوّلي أعني كونه غنماً مثلاً أو ماءً ، فإنّها بناءً على ذلك تتضمّن حكماً واقعياً ثانوياً ، وتكون من هذه الجهة ملحقة بالأصل غير الاحرازي وغير التنزيلي.

وبالجملة : لا ينبغي الريب في بطلان هذا الوجه في قاعدتي الطهارة والحل وقاعدة الحرمة في الأموال والنفوس والأعراض ، إذ لا يمكن الالتزام بلازمه ، حيث إنّه إذا كان مفاد قاعدة الطهارة هو جعل الحكم في مورد الشكّ بأن تكون متضمّنة للطهارة الثابتة للشيء بعنوانه الثانوي ، لم تكن نافعة في جواز الإقدام على الوضوء بالماء المشكوك الطهارة إن كان الشرط هو خصوص طهارة الماء الثابتة له بعنوانه الأوّلي ، وإن كان الشرط هو الأعمّ من الطهارة الثابتة له بعنوانه الأوّلي والطهارة الثابتة له بعنوانه الثانوي ، كان لازمه صحّة الوضوء واقعاً لو تبيّن بعد الفراغ منه نجاسة ذلك الماء ، وكلّ منهما لا يمكن الالتزام به ، فلابدّ حينئذ من القول بأنّ مفادها هو التنزيل ، فتكون أصلاً تنزيلياً فائدته جواز الاقدام في مثل الفرض ، وأنّه لو تبيّن الخلاف بعد الفراغ كان عليه الاعادة لانكشاف الخطأ في ذلك الأصل ، وذلك واضح.

ثمّ إنّ هذه الأُصول التنزيلية تشارك الأُصول غير الاحرازية وغير التنزيلية في عدم قيامها مقام القطع الطريقي ، كما أنّها تشاركها في إمكان جريانها في أطراف العلم الاجمالي إذا لم يلزم منه المخالفة العملية ، كما لو علمنا بحرمة أحد المالين وحلّية المال الآخر ، فإنّ أصالة الحرمة المقابلة لأصالة الحل تجري في كلّ من الطرفين ، ولا يجري فيها الإشكال الذي يجري في الأصل الاحرازي مثل

٥٣٧

استصحاب النجاسة في كلّ من الاناءين اللذين علم بتطهّر أحدهما.

نعم ، ينفرد هذا الأصل التنزيلي مثل أصالة الحل عن الأصل غير التنزيلي مثل البراءة التي يتكفّلها حديث [ الرفع ] في جريانه في مسألة اللباس المشكوك المأخوذ من حيوان ذكّيناه وشككنا في أنّه حرام الأكل مثل الأرنب أو أنّه حلال الأكل مثل الغنم ، فإنّه يجوز الصلاة في شعره اعتماداً على قاعدة الحل ، بناءً على أنّ الشرط هو كونه مأخوذاً ممّا يحلّ أكل لحمه لا كونه غنماً ، بخلاف ما لو اعتمدنا في جواز الاقدام على أكل لحمه على حديث الرفع ، فإنّ مجرّد البراءة الشرعية ورفع الحرمة المجهولة لا يصحّح جواز الصلاة في شعره ما لم يحكم عليه بأنّه حلال كما هو مفاد قاعدة الحل.

وبالجملة : أنّ قاعدة الحل تكون نافعة في المقام كما ينفعنا الأصل الاحرازي الذي هو استصحاب الحلّية لو كان جارياً ، بخلاف الأصل غير الاحرازي الذي هو مثل مفاد حديث الرفع فإنّه لا ينفعنا في جواز الصلاة في شعره وإن أمكننا الإقدام على أكل لحمه.

ثمّ لا يخفى أنّه يمكن القول بأنّ قاعدة الحل في مثل ذلك حاكمة على البراءة الشرعية ، لأنّها بتكفّلها تنزيل المشكوك منزلة الحلال الواقعي تخرج المورد عن كونه ممّا لا يعلم حكمه من حيث الحلّية والحرمة ، هذا كلّه في شرح حال الأُصول التنزيلية.

وأمّا الأُصول الاحرازية مثل الاستصحاب فهي في الحقيقة بمنزلة الأمارة من جهة كونها بنفسها كاشفة عن الواقع كشفاً ظنّياً نوعياً ولو باعتبار غلبة بقاء ما كان متيقّن الحدوث ، غايته أنّ حجّية ذلك الكشف مقصورة على الآثار اللاحقة لنفس المتيقّن التي يكون رفع اليد عنها نقضاً لليقين به ، فلا يتعدّى عنها إلى الآثار

٥٣٨

العقلية واللوازم الاتّفاقية ، وبذلك تنفرد عن الأمارات فإنّ حجّيتها غير مقصورة على آثار خصوص ما قامت عليه الأمارة ، كما أنّها تنفرد عن الأمارة بكون موضوعها هو الشكّ بخلاف الأمارات ، فهي ـ أعني الأُصول الاحرازية ـ أمارات لكنّها مبتورة الطرفين ، بمعنى أنّ موضوعها مقيّد بالشكّ بخلاف موضوع الأمارات ، والحكم فيها وحجّيتها مقصورة على آثار نفس ما أدّت إليه دون لوازمه غير الشرعية ، وهي من الجهة الأُولى تكون محكومة للأمارة ، ومن الجهة الثانية لا يكون مثبتها حجّة ، ومن حيث إنّها تشترك مع الأمارة في اشتمالها على الكشف النوعي والاحراز الظنّي النوعي وأنّ الشارع أبقى لها ذلك الاحراز تكون حاكمة على بقية الأُصول ، سواء كانت تنزيلية مثل قاعدة الطهارة والحل أو كانت غير تنزيلية مثل قاعدة البراءة والاحتياط ، كما أنّ الأُصول التنزيلية تشارك الأُصول الاحرازية في كونها حاكمة على الأُصول غير التنزيلية ، وتشارك الأُصول غير التنزيلية في كونها محكومة للأُصول الاحرازية ، فتأمّل.

قوله : كطهارة البدن وبقاء الحدث ... الخ (١).

لو توضّأ غفلة بمائع مردّد بين الماء والبول مثلاً ممّا لا تجري فيه قاعدة الطهارة المسوّغة للوضوء لعدم إحراز الشرط الذي هو الإطلاق ، ولا تجري فيه قاعدة الفراغ لفرض انحفاظ صورة العمل ، يكون المرجع هو استصحاب طهارة الأعضاء وبقاء الحدث ، لكنّه لا يمكنه أن يتوضّأ قبل غسل أعضاء وضوئه ، لعلمه بأنّ هذا الوضوء الذي يأتي به لا يكون مأموراً به ، لأنّه إمّا أن يكون على أعضاء نجسة ، أو يكون قد امتثل الأمر بالوضوء ، وحيث إنّه يجب عليه الوضوء للصلاة وهو متوقّف على تطهير أعضائه ، كان ذلك التطهير واجباً عليه من باب المقدّمة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٩٤.

٥٣٩

لتحصيل التمكّن من امتثال الأمر بالوضوء ، فيلزمه تطهير أعضائه وإن كانت هي محكومة بالطهارة في حدّ نفسها. وفيه تأمّل واضح ، لأنّ الحكم بطهارة أعضائه محصّل للشرط.

وهل يمكنه الاتيان بالوضوء باحتمال الأمر الاستحبابي التجديدي ، فينفعه حينئذ ذلك الوضوء لأنّ الوضوء التجديدي لو صادف الحدث واقعاً يكون رافعاً له؟ وتقريب ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة : وهي أنّ من كان مستصحب الحدث وإن كان حكمه هو كون الوضوء واجباً عليه ، إلاّ أنّه لمّا كان يحتمل خطأ ذلك الاستصحاب فهو يحتمل أنّه في الواقع متوضّئ ، وحينئذ هو يحتمل أنّه مورد للأمر التجديدي الاستحبابي ، فله أن يأتي بالوضوء التجديدي من باب الاحتياط في ذلك الأمر الاستحبابي المحتمل ، بأن يأتي بالوضوء بداعي احتمال الأمر الاستحبابي التجديدي ، فإنّه وإن كان مستصحباً للحدث إلاّ أنّ هذا الاستصحاب لا يمنعه من الجري على طبق الاحتياط في ذلك الأمر الاستحبابي باحتمال الخطأ في ذلك الاستصحاب ، وبعد الفراغ من ذلك الوضوء يقطع بارتفاع حدثه ، لأنّه إن كان في الواقع متوضّئاً قبله كان ذلك الوضوء الثاني تجديدياً ، وإن لم يكن في الواقع متوضّئاً يكون ذلك الوضوء الذي احتاط فيه للأمر التجديدي رافعاً لحدثه ، ففيما نحن فيه يكون الحال كذلك ، بأن يأتي بالوضوء بداعي احتمال الأمر التجديدي ، فيتخلّص بذلك عن شبهة القطع بأنّ هذا الوضوء الذي يأتي به غير مأمور به.

وفيه تأمّل ، فإنّا وإن قلنا إنّ الوضوء التجديدي رافع للحدث لو صادف محلّه ، لكنّه إنّما يكون رافعاً إذا كان بعنوان التجديد ، بأن كان قاطعاً بأنّه متوضّئ ولكنّه جدّد الوضوء استحباباً ، ثمّ بعد الفراغ منه علم أنّه لم يكن قد توضّأ سابقاً ،

٥٤٠