أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

فرض مزاحمة بعضها لبعض ، فما هو المقدّم ، وفيما لو زاحمها غيرها من الواجبات الأُخر ، مثل ما لو زاحمت إزالة النجاسة عن المسجد مثلاً لبعض تلك الأجزاء ، فما هو المقدّم من ذلك ، وقد تعرّضنا لذلك في باب التزاحم ، ولا يبعد القول بسقوط تلك الأجزاء فيما لو زوحمت بمثل إزالة النجاسة عن المسجد ، فيما لو كان الوقت ضيّقاً لا يسعهما ، دون ما لو كان وقت الصلاة واسعاً ، فإنّ وجوب أجزائها يتحوّل إلى ما بعد هذا الفرد المزاحم على ما أوضحناه في باب التزاحم (١) ، فراجع.

وبتقريب أوضح : أنّه إذا لم يكن لنا إلاّمصلحة واحدة قائمة بالمجموع من الأجزاء والركوع ، أو كان لما عدا الركوع مصلحة خاصّة ، لكنّها متوقّفة على ضمّ الركوع إليها توقّفاً مطلقاً حتّى في حال عدم القدرة على الركوع ، لم يكن لنا في مقام الثبوت إلاّوجوب واحد متعلّق بالمجموع ، ولا وجه لوجوب آخر يتعلّق بما عدا الركوع عند عدم التمكّن منه ، إلاّ إذا كانت هناك مصلحة أُخرى فيما عدا الركوع تحدث عند تحقّق العجز عن الركوع ، مع فرض أنّه ليس في المجموع المركّب إلاّمصلحة واحدة قائمة بالمجموع ، وهذه الصورة المستثناة هي الصورة الثالثة.

أمّا لو كان لما عدا الركوع مصلحة خاصّة ، وكانت تلك المصلحة متوقّفة على وجود الركوع ، لكن ذلك التوقّف منحصر بما إذا تمكّن المكلّف من الركوع ، أمّا إذا لم يتمكّن منه فلا تكون مصلحة ما عداه متوقّفة على وجوده ، كان لنا في مقام الثبوت وجوبان ، أوّلي وهو المتعلّق بما عدا الركوع ، وثانوي وهو وجوب المجموع في خصوص حالة التمكّن من الركوع ، فيكون الحاصل هو إيجاب ما

__________________

(١) راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٤٠ و ١٧٩ و ٢٧٣.

٤٢١

عدا الركوع ، ثمّ إيجاب الصلاة مع الركوع عند التمكّن منه ، وهو محصّل تعدّد المطلوب ، ويكون وجوب المجموع المركّب من الركوع مشروطاً بالقدرة الشرعية على الركوع.

ولو كان الواقع بالعكس ، بأن كانت المصلحة الأوّلية منوطة بالركوع ، بمعنى أنّ لنا مصلحة واحدة قائمة بالمجموع المركّب من الركوع ، لكن لو عجز عنه كانت هناك مصلحة أُخرى ثانوية قائمة بما عداه ، كان محصّله هو وجوب الصلاة مع الركوع ، وإذا عجز عنه كان الواجب هو ما عدا الركوع ، وفي هذه الصورة يمكن القول بأنّ الوجوب الوارد أوّلاً على الصلاة مع الركوع غير مشروط بالقدرة الشرعية ، ويكون الوجوب الوارد على ما عداه مشروطاً بالعجز عن الركوع (١).

وقالب الصورة الأُولى هو أن يقول : صلّ مع الركوع مطلقاً ، وقالب الصورة الثانية هو صلّ وإن تمكّنت من الركوع فصلّ مع الركوع ، على وجه يكون كونها مع الركوع مقيّداً بحال التمكّن منه ، وقالب الصورة الثالثة هو صلّ مع الركوع وإن عجزت عنه فصلّ بلا ركوع ، هذا هو ما يتصوّر في مقام الثبوت.

وربما كان الواصل إلينا في مقام الاثبات هو أحد هذه القوالب ، وربما لم يصل إلينا شيء من هذه القوالب ، ولكن يكون الواصل إلينا هو قوله : صلّ ، مع وجود دليل آخر يقول : إنّ الركوع جزء من الصلاة ، أو أنّه واجب في الصلاة ، أو نحو ذلك من الأدلّة اللفظية ، التي لا يكون محصّلها إلاّ الاشارة إلى ذلك الأمر النفسي الضمني الوارد على الركوع في ضمن الأمر الوارد على الصلاة ، فإن كان

__________________

(١) ولا يخفى أنّ في هذه الصورة كما يتأتّى الاحتمال المذكور ، فيمكن أن يتأتّى في الصورة الأُخرى أعني القيدية المطلقة ، بأن يحتمل عند انتفاء قيد المصلحة الأُولى حدوث مصلحة جديدة [ منه قدس‌سره ].

٤٢٢

ذلك الدليل مقيّداً بحال التمكّن منه تنزّل على الصورة الثانية التي يكون مقتضاها وجود الأمر بما عداه عند عدم التمكّن ، وإن كان مطلقاً نزّلناه على الصورة الأُولى التي يكون مقتضاها عدم وجوب الباقي عند تعذّر الركوع ، إلاّ إذا دلّ دليل آخر على وجوبه الكاشف عن حدوث مصلحة جديدة تتعلّق بالباقي عند تعذّر الركوع ، ومع احتمال ذلك يكون المرجع هو البراءة ، وهذه هي الصورة الثالثة المختصّة بما إذا كانت مصلحة المجموع مصلحة واحدة قائمة بالمجموع ، فإنّها هي القابلة لاحتمال حدوث مصلحة جديدة تحدث عند العجز عن الركوع ، بخلاف الصورة الثانية من صورتي الأُولى ، أعني ما لو كان لخصوص ما عدا الركوع مصلحة خاصّة متوقّفة على الركوع توقّفاً مطلقاً ، فإنّها لا مجال فيها لاحتمال الأمر بالباقي بعد تعذّر الركوع كي نحتاج فيها إلى أصالة البراءة.

وبالجملة : مع إطلاق الدليل إن نزّلناه على الصورة الأُولى من الصورة الأُولى ، كان معه مجال لاحتمال التكليف بالباقي عند تعذّر الركوع ، بخلاف ما لو نزّلناه على الثانية منهما ، ولو دار الأمر بينهما كان للبراءة مجال أيضاً ، ولو كان ذلك الدليل مجملاً كان أيضاً للبراءة مجال ، فلاحظ وتدبّر (١)

__________________

(١) ولكن يمكن تأتّي هذا الاحتمال حتّى على الثانية ، فإنّ مصلحة ما عدا الركوع وإن توقّفت توقّفاً مطلقاً على الركوع ، إلاّ أنه من الممكن أن تحدث لما عدا الركوع مصلحة مختصّة بحال تعذّره تكون علّة في إيجابه ، وحينئذ تستوي الصورتان في هذا الاحتمال ، فينفتح باب الرجوع إلى البراءة في كلّ منهما.

وحيث قد ظهر لك أنّه عند كون القيدية مطلقة بكلّ من صورتيها ، يحتمل وجوب الباقي بوجوب جديد لمصلحة جديدة حادثة عند تعذّر الركوع مثلاً ، فيرجع في ذلك إلى أصالة البراءة ، تعرف أنّه عند تردّد الأمر بين كون القيدية مطلقة وكونها مقيّدة

٤٢٣

وتوضيح الأقسام : أنّه لو كان لما عدا الركوع مصلحة تخصّه ، لكنّها كانت متوقّفة على وجود الركوع توقّفاً مطلقاً ، كان مقتضاه الأمر بالصلاة المشتملة على الركوع بقول مطلق ، وهذه هي الصورة الأُولى. وإن كان التوقّف المذكور منحصراً بصورة التمكّن من الركوع ، كان مقتضاه هو الأمر بالصلاة المشتملة على الركوع إن تمكّن منه ، وإلاّ كان مأموراً بما عداه ، وهذه الصورة الثانية.

ولا مورد للبراءة في هاتين الصورتين. نعم يمكن احتمال ذلك في الصورة الأُولى ولو بعيداً ، بأن تكون هناك مصلحة أُخرى في الباقي تحدث عند عدم التمكّن من الركوع ، غير تلك المصلحة التي كانت مقيّدة مطلقاً بوجود الركوع.

وأمّا لو لم يكن في البين إلاّمصلحة قائمة بالمجموع ، كان مقتضاه الأمر

__________________

بحال التمكّن من الركوع ولم يكن لأصل الأمر إطلاق ، يكون وجوب الباقي محتملاً فينفى بالبراءة ، وإن كان على تقدير كون القيدية مقيّدة يكون وجوب الباقي غير حادث ، بل يكون موجوداً من أوّل الأمر ، لكنّا لمّا كنّا نحتمل إطلاق القيدية الملازم لعدم وجوب الباقي من أوّل الأمر ، وأنّه لو كان في البين وجوب في الباقي لكان حادثاً ، وأنّ ذلك ليس بملازم لاطلاق القيدية ، بل كان من باب الاحتمال ، كان وجوب الباقي عند التردّد في القيدية بين الاطلاق والتقييد مع فرض عدم إطلاق الأمر الأصلي مردّداً بين كونه موجوداً من أوّل الأمر ، وكونه حادثاً بحدوث تعذّر الركوع ، وبين العدم بحيث لا يكون موجوداً من أوّل الأمر كما هو قضية تقييد القيدية ، ولا حادثاً بحدوث العجز عن الركوع كما هو أحد الاحتمالين في إطلاق القيدية ، فأصالة البراءة تنفي كلاً من الاحتمالين أعني احتمال قيدية التقييد واحتمال الحدوث على تقدير إطلاق التقييد ، وتعيّن الاحتمال الآخر في إطلاق التقييد ، وأنّه عند تعذّر الركوع يسقط الأمر بالمركّب ولا يحدث وجوب جديد للباقي عند تعذّر الركوع. نعم يبقى الكلام في جريان قاعدة الميسور في مورد ثبوت إطلاق دليل التقييد ، وسيأتي [ في الصفحة : ٤٥٥ ] إن شاء الله تعالى الكلام عليه عند تعرّضه له في ص ٨٩ [ منه قدس‌سره ].

٤٢٤

بالمجموع من دون تقييد بالقدرة على الركوع ، كما هو الحال في الصورة الأُولى ، إلاّ أنّه في هذه الصورة التي هي الصورة الثالثة ، لا مانع من وجود مصلحة أُخرى تحدث عند العجز عن الركوع ، توجب أمراً جديداً متعلّقاً بالصلاة ما عدا الركوع مقيّداً بالعجز عن الركوع ، وعند احتمال ذلك يكون المرجع هو البراءة.

وحينئذ نقول : لو كان دليل الجزئية مطلقاً نزّلناه على الصورة الأُولى ، ويمكن دخول الصورة الثالثة فيه. ولو كان مقيّداً بحال التمكّن من الركوع نزّلناه على الصورة الثانية ، ويمكن أن تدخل فيه الثالثة عند حدوث مصلحة جديدة تقتضي إيجاباً جديداً للباقي ، فتأمّل.

والخلاصة في توجيه إطلاق الجزئية والشرطية ، أو تقييدهما بصورة القدرة بناءً على عدم جعل الجزئية والشرطية وإنكار التقييد في الأوامر الغيرية ، بل إنكاره في الأوامر النفسية الضمنية كما يستفاد من قول شيخنا قدس‌سره : فالقدرة إنّما تعتبر أيضاً في المجموع لا في الآحاد الخ (١) ، هو أن يقال : إنّه لو أُمر المكلّف بالصلاة ثمّ قيل له : صلّ متطهّراً ، الذي هو عبارة عن الأمر بالمجموع المركّب من الصلاة والطهارة لها ، فهذا القول ـ وهو قوله : صلّ متطهّراً ـ يدلّ على مدخلية الطهارة في ملاك الصلاة على وجه لا ملاك لها ولا يؤمر بها لو كانت فاقدة للطهارة ، فلو ألحقه بقوله : إن كنت قادراً على الطهارة ، كان ذلك عبارة أُخرى عن أنّه إن لم يكن قادراً على الطهارة لم يكن مأموراً بالصلاة متطهّراً ، وسقط ذلك الأمر خطاباً لا ملاكاً ، لكن لو جاء بالصلاة فاقدة للطهارة في ذلك الحال أعني في حال تعذّرها ، لم تكن خالية من الملاك ، لأنّ توقّف ملاكها وتوقّف الأمر بها على وجود الطهارة مشروط بالقدرة ، فلو كان هناك إطلاق في الأمر الأوّل أعني قوله صلّ ، كان كافياً في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٣.

٤٢٥

وجوب الباقي ، وإن لم يكن لنا ذلك الاطلاق ، كان المرجع إلى مثل قاعدة الميسور ، ولكن يكون ذلك الأمر بالباقي أمراً جديداً ، وكذا لو كانت الصلاة في نفسها خالية من الملاك ، وكان حدوث الملاك لها بانضمام الطهارة إليها في خصوص كون الطهارة مقدورة ، يكون الوجوب للباقي لو قلنا به وجوباً جديداً ، وإن أمكن إثباته بقاعدة الميسور بنحو من المسامحة ، هذا كلّه لو قال : صلّ متطهّراً إن كنت قادراً على الطهارة ، وهذا هو المعبّر عنه بكون دليل التقييد مقيّداً.

ولو جرّده من هذا القيد واقتصر على مجرّد قوله : صلّ متطهّراً ، كانت مدخلية الطهارة في ملاك الصلاة مطلقة ، وعند تعذّر الطهارة يسقط الأمر المتعلّق بالصلاة مع الطهارة خطاباً وملاكاً ، وكان مقتضاه عدم وجوب الباقي ، لكن لو دلّ دليل على وجوبه فهو وجوب آخر حتّى لو كان من قبيل اختلاف المرتبة ، بأن تكون الصلاة في حدّ نفسها ذات صلاح بعشر درجات ، لكن إذا وقعت مع الطهارة كانت بعشرين ، فهذا الوجوب المتعلّق بالصلاة مع الطهارة الناشئ عن صلاح عشرين يسقط عند تعذّر الطهارة ملاكاً وخطاباً ، ويحدث وجوب آخر متعلّق بالصلاة الفاقدة للطهارة.

والذي تلخّص : أنّ الأمر بالباقي لا يكون إلاّجديداً ، ويكون مبايناً للأمر بالمركّب ، غير أنّه بالنظر العرفي يكون بعض مراتبه ، على وجه يكون الفاقد ميسوراً للواجد ، ولو لاحظنا الدقّة وأنّ الأمر المتعلّق بالفاقد مغاير للأمر المتعلّق بالواجد ، وأنّه أمر جديد لا أنّه باقٍ من الأوّل ، ينسدّ باب قاعدة الميسور.

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّهم قصروا الكلام في هذا المقام على قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم » (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يسقط الميسور

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ / ٢٠٦ ( مع اختلاف يسير ) ، بحار الأنوار ٢٢ : ٣١.

٤٢٦

بالمعسور » (١) وقوله عليه‌السلام : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (٢) ولم يتعرّضوا لقاعدة العسر والحرج المستفادة من الآية الشريفة بضميمة رواية عبد الأعلى في المرارة على الإصبع ، وقوله عليه‌السلام : « إنّ هذا وشبهه يعرف من كتاب الله ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(٣) » (٤) فكانت الآية الشريفة نافية لوجوب الجزء المتعذّر ، ومثبتة لوجوب الباقي ، كما شرحناه في الفقه فيما علّقناه على العروة في وجوب المسح من الوضوء (٥) ، فراجع.

قوله : أمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا أمرتكم بشيء » الخبر ... الخ (٦).

روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خطب فقال : « إنّ الله كتب عليكم الحجّ ، فقام عكاشة ويروى سراقة بن مالك ، فقال : في كلّ عام يارسول الله ، فأعرض عنه حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثاً ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم ، والله لو قلت نعم لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتم ( ما تركتكم ) ، وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » (٧).

والظاهر أنّه لا يصحّ أن يكون المراد بالاستطاعة الاستطاعة العقلية ، لأنّ قوله : « لو وجب ما استطعتم » الخ ، يعطي الملازمة بين الوجوب وعدم

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ / ٢٠٥ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ / ٢٠٧.

(٣) الحج ٢٢ : ٧٨.

(٤) وسائل الشيعة ١ : ٤٦٤ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٥ ( مع اختلاف يسير ).

(٥) مخطوط لم يطبع بعدُ.

(٦) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٤.

(٧) بحار الأنوار ٢٢ : ٣١ ( مع اختلاف يسير ).

٤٢٧

الاستطاعة ، يعني أنّه لو وجب في كلّ عام مرّة لكان ذلك غير مستطاع ، فلو كان المراد من الاستطاعة هنا عدم القدرة العقلية ، لم تكن الجملة المذكورة صحيحة ، إذ ليس وجوب الحجّ في كلّ عام غير مقدور عقلاً. مضافاً إلى أنّه لا يصحّ ما رتّبه صلى‌الله‌عليه‌وآله على عدم الاستطاعة من قوله : « ولو تركتم لكفرتم » فإنّ ترك غير المقدور لا يوجب العصيان فضلاً عن الكفر ، فهاتان الجهتان مانعتان من حمل الاستطاعة في هذا المقام على القدرة العقلية ، وهما أيضاً مانعتان من حمل الاستطاعة على ما يقابل العسر والحرج ، فإنّ وجوب الحجّ في كلّ عام وإن كان فيه العسر والحرج بالنسبة إلى بعض المكلّفين ، إلاّ أنه لا عسر فيه بالنسبة إلى البعض الآخر ، وذلك كافٍ في عدم صحّة الجملة المتضمّنة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ولو وجب ما استطعتم » وهي الجهة الأُولى من الإشكال.

أمّا الجهة الثانية منه ، فهي واردة أيضاً على هذا التقدير ، لأنّ ترك ما فيه العسر والحرج لا يكون موجباً للعقاب ، لقوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) فكيف يصحّ أن يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ولو تركتم لكفرتم » فلابدّ أن يكون المراد من الاستطاعة في المقام الاستطاعة العرفية ، في قبال مشقّة التكليف وإن لم يكن حرجياً ، نظير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لولا أن أشقّ على أُمّتي لأمرتهم بالسواك » (١) إذ لا يتضمّن الأمر بالسواك إلاّمجرّد مشقّة التكليف ، من دون أن يكون في البين بالنسبة إلى غالب المكلّفين تكليف بغير المقدور أو بما فيه العسر والحرج ، وحينئذ فيكون محصّل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو قلت في كلّ عام لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم » هو أنّه لو أوجب عليهم الحجّ في كلّ عام لكان في ذلك مشقّة زائدة على مشقّة التكليف به في العمر مرّة ، ولو تركوه لأجل تلك

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ : ١٧ / أبواب السواك ب ٣ ح ٤.

٤٢٨

المشقّة غير البالغة حدّ عدم القدرة العقلية ، وغير البالغة لحدّ العسر والحرج ، لكان ذلك الترك منجرّاً إلى العصيان والتمرّد والطغيان ، وكان ذلك بالأخرة منتهياً إلى الكفر والارتداد.

ومن ذلك يظهر لك أنّ هذا الحديث الشريف أجنبي عن محلّ البحث بمراحل ، ولعلّ المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما استطعتم » هو عدم توطّن نفوسكم على الامتثال ، وأنّ نفوسكم لا تطيق الصبر على التكليف الزائد على الاتيان بالفعل مرّة ، على حذو قوله : ( إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ )(١).

وعلى كلّ حال ، فإنّ « ما » في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم » إمّا أن تكون موصولة أو ظرفية مصدرية ، فإن كانت موصولة كانت مفعولاً لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فاتوا » وحينئذ يتعيّن في « من » أن تكون بيانية أو تبعيضية ، وعلى هذا التقدير لا يستقيم جعلها بمعنى الباء ، وذلك واضح لا يكاد يخفى.

وإن جعلنا لفظ « ما » مصدرية ظرفية ، تعيّن في لفظ « من » أن تكون صلة لقوله : « ائتوا » على معنى الباء ، ولا يصحّ حينئذ جعلها بيانية ، وذلك واضح. وأيضاً لا يصحّ جعلها للتبعيض لو حمل الشيء على الكلّ ، لأنّ محصّله حينئذ هو أنّه إذا أمرتكم بشيء فاتوا بعضه ما دمتم مستطيعين ، وهذا غير مستقيم ، لأنّ التقييد بالاستطاعة إنّما يناسب الأمر بالاتيان بالكلّ ، لا الأمر بالاتيان بالبعض. نعم لو حمل الشيء على الكلّي صحّ جعل « من » للتبعيض ، ليكون المعنى فاتوا البعض من ذلك الكلّي مدّة استطاعتكم. والحاصل : أنّ حمل لفظة « من » على التبعيض من حيث الأجزاء لا يجتمع مع حمل لفظة « ما » على الظرفية المصدرية.

وعلى كلّ حال ، لو حملناها على المعنى الثاني أعني كون « ما » مصدرية

__________________

(١) محمّد ٤٧ : ٣٧.

٤٢٩

وكون « من » بمعنى الباء ، يكون المتحصّل : أنّه إذا أمرتكم بشيء فاتوا به ما دمتم مستطيعين له ، ويكون الحديث أجنبياً عن البحث ، وهو أنّه عند تعذّر بعض الأجزاء هل يجب الباقي. ولكن هل فيه دلالة على لزوم تكرار المأمور به ما دام المكلّف مستطيعاً ، أو لا دلالة له على ذلك ، لا يبعد القول الثاني ، إذ لا دلالة فيه على أزيد من لزوم الاتيان بالمأمور به عند الاستطاعة ، فيكون وزانه وزان قولك : ائت بالمأمور به إن كنت مستطيعاً.

ولو منعنا من ذلك وقلنا بأنّ التقييد بالظرفية المصدرية يعطي التكرار بخلاف التقييد بلفظ إن الشرطية ، فلا محيص من حمله على المعنى المستفاد من التقييد بإن الشرطية ، ولو من جهة الإجماع على عدم وجوب التكرار ، بل على عدم استحبابه إلاّفي بعض الموارد مثل الحجّ ، على أنّه لم يثبت أنّ المتكرّر هو الحجّ الأصلي ، أعني حجّة الإسلام ، نعم لو حملت لفظة « من » على التبعيض كانت دالّة على لزوم التكرار مدّة الاستطاعة.

وعلى كلّ حال ، أنّ ذلك بحث آخر هو خارج عمّا نحن بصدده ، ولا يفرق في هذا الذي ذكرناه بين كون الاستطاعة هي القدرة أو معنى آخر ممّا تقدّم ذكره.

هذا كلّه لو حملنا لفظ « ما » على الظرفية المصدرية ، ولو حملناها على الموصول وعلى كون « من » بيانية ، فهذه الجملة في حدّ نفسها وإن كانت صالحة للأفراد كما أنّها صالحة للأجزاء ، بأن يكون المراد بالموصول هو الأفراد المستطاعة ، أو المراد به هو الأجزاء المستطاعة ، لكن المورد موافق للأوّل ، وحينئذ فلا يمكن إرادة الثاني ـ أعني الأجزاء ـ إلاّبجعل المراد بالشيء هو الأعمّ من الكلّي والكل ، وجعل المراد من الموصول هو الأعمّ من الأفراد والأجزاء ، والظاهر أنّه لا مانع منه ، إذ لا يلزم من ذلك استعمال لفظ « من » في معنيين ، بل

٤٣٠

هي باقية على معناها الذي هو البيانية للموصول.

لكن هذا كلّه مبني على أنّ المراد من الاستطاعة الاستطاعة الراجعة إلى القدرة ، أو الراجعة إلى ما يقابل العسر والحرج ، وقد عرفت فيما تقدّم عدم ملائمته لصدر الحديث ، وحينئذ لابدّ أن يكون المراد بهذه الاستطاعة هي تلك الاستطاعة المذكورة في صدر الحديث الشريف ، وهي المقابلة لمشقّة التكليف ، يعني إذا أمرتكم بشيء فلا تتكلّفوا المشقّة الزائدة على أصل ما يقتضيه التكليف من الاتيان بصرف الطبيعة ، فإنّ التكليف بالطبيعة وإن كان فيه مشقّة الاتيان بها في أوّل دفعة ، إلاّ أن الاتيان بها ثانياً مشقّة أُخرى ، فيقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه اذا أمرتكم بشيء فافعلوا ذلك المقدار الذي لا يشتمل على المشقّة الزائدة على المشقّة في أصل التكليف.

وإن شئت قلت : إنّ المراد هو أنّه إذا أمرتكم بشيء فلا تشقّوا على أنفسكم بالتكرار ، بل افعلوا المقدار الذي يحصل به صرف الطبيعة ، وهو ذلك المقدار المستطاع لكم ، يعني الذي لا مشقّة فيه زائدة على أصل مشقّة التكليف بصرف الطبيعة ، فإنّ الأمر بصرف الطبيعة فيه مشقّة الإتيان بها ، وهذه المشقّة لازمة لكلّ أمر ، إلاّ أنكم اقتصروا عليها ولا تتكلّفوا مشقّة أُخرى أي مشقّة التكرار ، فسمّى الفعل الأوّل المأتي به مستطاعاً يعني لا مشقّة فيه ، ويكون تطبيق الاستطاعة عليه بمعنى عدم المشقّة ، من جهة عدم تكلّف المشقّة الأُخرى ، [ و ] الحاصل أنّ هذه الجهة عرفية لسانية يعرفها صاحب الذوق واللسان ، وإن كنت في مقام البيان عاجزاً عن أدائها.

وليس الحديث الشريف حاكماً بالتكرار كي يتكلّف في جوابه بالحمل على الاستحباب الذي لا يقولون به ، إلاّ إذا ورد به دليل يعتدّ به لأنّه من قبيل

٤٣١

الامتثال بعد الامتثال ، ويشهد بهذا الذي ذكرناه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » في قبال الأمر الذي لا يعطي إلاّمطلوبية صرف الطبيعة ، فقد تعرّض صلى‌الله‌عليه‌وآله للفرق بين الأمر والنهي ، وأنّ الأمر بالشيء لا يلزم إلاّبالاتيان بصرف الطبيعة ولو في ضمن فرد واحد ، ولا يقتضي تكلّف المشقّة بالاتيان بباقي الأفراد ، بخلاف النهي فإنّه يوجب الامتناع والاجتناب عن تمام الأفراد ، ولم يتعرّض فيه للاستطاعة ، إذ لا مشقّة في الترك كما هو واضح.

ومن ذلك كلّه يظهر لك الحال فيما لو قلنا بأنّ لفظة « ما » موصولة ، وأنّ لفظة « من » تبعيضية ، فإنّه بناءً على ذلك يكون المتحصّل أنّه إذا أمرتكم بشيء فاتوا من ذلك الشيء الذي تستطيعونه ، يعني الذي هو مصداق صرف الطبيعة ، ولا تتكلّفوا المشقّة بالتكرار الزائد على ما يقتضيه تعلّق الأمر بصرف الطبيعة ، فلا تشمل المركّب الذي تعذّر بعض أجزائه ، إلاّعلى حمل الاستطاعة على القدرة ، وحمل الشيء على الأعمّ من الكلّي ذي الأفراد أو الكل ذي الأجزاء.

ولا يخفى أنّ حمل لفظة « من » على التبعيض يجتمع مع كونها متعلّقة بقوله : « فاتوا » على حذو قوله عليه‌السلام : « أنزل الدنيا منزلة الميتة ، خذ منها ما يكفيك » (١) أو كونها متعلّقة بمستقر حال من الموصول. وينبغي أن يكون هذا الثاني ـ أعني جعلها متعلّقة بمحذوف حالاً من الموصول ـ هو المراد من كونها بيانية ، إذ ليس المراد بالبيانية هو بيان الجنس نظير قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ )(٢) لأنّ ضابط ذلك هو صحّة حذفها وقيام الضمير مقامها وجعل الجملة خبراً للموصول ، فيقال : ما في الأرض هو شجر ، وهذه لا يتأتّى

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ : ١٣٩ / ٦.

(٢) لقمان ٣١ : ٢٧.

٤٣٢

فيها الضابط المذكور ، بل المراد من البيانية هو جعل الجار والمجرور حالاً من الموصول مع حفظ التبعيض للفظة من ، فيكون محصّله فاتوا الذي تستطيعونه حالة كونه بعض المأمور به لكونه من جملة أفراده.

ويمكن جعلها بيانية صرفة ، لانطباق الضابط المذكور عليها ، فإنّ الضمير في قوله : « منه » لمّا كان راجعاً إلى المأمور به ، صحّ لك أن تقول : إنّ الذي يستطيعونه هو المأمور به ، لكون المأمور به هو صرف الطبيعة ، والفرد المستطاع هو عين المأمور به ، هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً ، والانصاف أنّه تطويل بلا طائل.

والذي ينبغي أن يقال أوّلاً : إنّ لفظة « ما » في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فاتوا منه ما استطعتم » لا يمكن حملها على كونها موصولة ، لأنّها حينئذ تكون مفعولاً به لقوله : « فاتوا » وهذا الفعل ـ وهو الاتيان ـ يتعدّى بنفسه إلى المأتي إليه ، وربما تعدّى إليه بواسطة إلى ، أمّا المأتي به فهو إنّما يتعدّى إليه بالباء ، سواء كان جوهراً مثل قولك : أتيت بالكتاب ، أو كان فعلاً من الأفعال مثل قولك : أتيت بالصلاة أو بالصيام مثلاً ، ولا يتعدّى هذا الفعل إلى المأتي به بنفسه ، فلا يقال : أتيت الكتاب أو أتيت الصيام ، بمعنى جئت به ، وحينئذ يكون المتعيّن في لفظة « ما » أن تكون ظرفية مصدرية ، وبذلك يبطل (١) كون لفظة « من » بيانية ، ويتعيّن حملها على

__________________

(١) ومن ذلك يظهر لك التأمّل في كثير من العبائر التي ظاهرها الجمع بين كون « من » بيانية وكون « ما » ظرفية مصدرية ، ومن ذلك عبارة الشيخ قدس‌سره حيث يقول في مقام المناقشة في دلالة الحديث المذكور : لاحتمال كون « من » بمعنى الباء أو بيانياً و « ما » مصدرية زمانية [ فرائد الأُصول ٢ : ٣٩٠ ].

ولا يخفى أنّ هذا ـ أعني عدم كون لفظة « ما » موصولة وأنّها ظرفية مصدرية ـ هو المانع من كون لفظة « من » بيانية ، لا أنّ المانع منها هو أنّ الضمير لا يكون بياناً كما في

٤٣٣

معنى الباء إن ثبت ذلك أو على التبعيض. ولو حملناها على معنى الباء تعيّن كون المراد بالشيء هو الكلّي لا الكل ، ولو حملناها على التبعيض فهو وإن كان في بادئ النظر يلتئم مع الكل والكلّي ، إلاّ أنه بعد التأمّل لا يلائم الكل ، لأنّ المعنى حينئذ : إذا أمرتكم بكلّ ذي أجزاء فاتوا ببعض تلك الأجزاء مدّة استطاعتكم ، ومن الواضح أنّ التقييد بالاستطاعة إنّما يكون بالنسبة [ إلى ] تمام الكلّ لا بالنسبة إلى بعضه ، وحينئذ يكون المتعيّن حملها على التبعيض من حيث أفراد الكلّي ، ويكون ذلك هو ما يقتضيه لفظ الحديث مع قطع النظر عن مورده.

ويبقى الكلام في دلالته على التكرار. ويمكن دعوى كونه أجنبياً عنه أيضاً ، بما احتملناه من كون عدم الاستطاعة في صدر الحديث كناية عن عدم موافقة نفوسهم للزيادة على ما يقتضيه أصل التكليف من المرّة ، بمعنى أنّ نفوسهم لا تطيق الصبر على ذلك ، فينجرّ ذلك إلى كفرهم وعنادهم ، نظير قوله تعالى : ( إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ ) وحينئذ يكون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فاتوا به أو منه ما استطعتم ، كناية عن الاكتفاء بالمرّة ، التي لا يكون لها أهميّة على وجه تكون نفوسكم لا تطيق الصبر عليها ، ويشهد بذلك مقابله وهو « إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ».

لا يقال : إنّ « أتى » تتعدّى إلى المأتي به بنفسها ، ولأجل ذلك لو زيدت عليه الهمزة تعدّى إلى مفعولين ، مثل : آتاك الله الخير ، فإنّ أصله أتيت الخير ، بمعنى أتيت بالخير ، ثمّ زيدت عليه الهمزة فصيّرت الفاعل وهو المخاطب مفعولاً أوّلاً ، وبقي المفعول وهو المأتي به ـ أعني الخير ـ مفعولاً ثانياً.

٤٣٤

لأنّا نقول : لو كان كذلك لكان محصّل الجملة الأصلية أتيت بالخير ، فيكون محصّلها بعد دخول الهمزة : إنّ الله جعلك آتياً بالخير ، وليس هذا بمراد ، إذ ليس المخاطب هو الآتي ، بل الآتي إنّما هو الخير ، والمخاطب مأتي إليه ، ليكون مفاد الأصل أنّك أتيت بالخير ، ويكون مفاده بعد دخول الهمزة أنّ الله جعلك آتياً بالخير ، بل الآتي إنّما هو الخير والمخاطب مأتي إليه ، ومحصّل الأصل أتاك الخير ، ومحصّله بعد الهمزة أنّ الله جعل الخير آتياً إليك ، فهذه الهمزة صيّرت الخير وهو الفاعل في الأصل مفعولاً أوّلاً ، والمفعول الأصلي الذي هو المخاطب مفعولاً ثانياً ، فكان مقتضى القاعدة تقديمه ، لقوله :

والأصلُ سبقُ فاعلٍ معنىً كَمَن

مِن « ألبسَن مَن زاركم نسجَ اليَمَن » (١)

لكن قدّم المفعول الأصلي وهو المخاطب لكونه ضميراً ، ومهما أمكن الاتّصال لا يجوز العدول عنه إلى الانفصال ، ولأجل [ ذلك ] قدّم على المفعول الأوّل في مثل قوله تعالى : ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ )(٢) وأصله ما أتاكموه الرسول ، وقدّم المخاطب لكونه أخصّ ، كما قال : وقدّم الأخصّ في اتّصال (٣) ، وكأنّه لمثل هذه الجهات جعل المفعول الأصلي نائباً في مثل ( أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ )(٤) ، وإلاّ كان مقتضى القاعدة أن يكون نائب الفاعل هو الفاعل في الأصل وهو الكتاب ، فلاحظ وتدبّر.

قال في القاموس وتاج العروس : وآتى إليه الشيء ـ بالمدّ ـ إيتاء : ساقه

__________________

(١) شرح ابن عقيل ١ : ٥٤١.

(٢) الحشر ٥٩ : ٧.

(٣) شرح ابن عقيل ١ : ١٠٦.

(٤) الإسراء ١٧ : ٧١.

٤٣٥

وجعله يأتي إليه ، وآتى فلاناً شيئاً إيتاء : أعطاه إيّاه ، ومنه قوله تعالى : ( وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ )(١) أراد ـ والله أعلم ـ أُوتيت من كلّ شيء شيئاً ، وقوله تعالى : ( وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ )(٢). وفي الصحاح : آتاه أتى به ، ومنه قوله تعالى : ( آتِنا غَداءَنا )(٣) أي ائتنا به (٤).

وقال في التاج ـ قبيل هذه العبارة ـ : وقوله تعالى : ( وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى ) أي لا يتعاطون ، انتهى.

قلت : قولهما : وآتى إليه الشيء ـ بالمدّ ـ إيتاء : ساقه وجعله يأتي إليه ، تصريح بما ذكرناه من أنّ معنى آتاه الله الخير ، صيّره وجعله يأتي إليه ، غير أنّهما عدّيا آتى إلى المأتي إليه بإلى ، لكن الغالب هو تعديته بنفسه ، فكان الأنسب على الأغلب أن يقولا : وآتاه الشيء ، بدل قولهما : وآتى إليه الشيء ، وهذا المعنى هو بعينه المراد في قولهم : آتى فلاناً شيئاً إيتاء ، فإنّ المراد ما عرفت من أنّه جعل الشيء آتيا إلى فلان ، وليس المراد هو ما تخيّلاه من أنّه أعطاه إيّاه. وهكذا الحال في قوله تعالى : ( وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) وكذلك الحال في قوله تعالى : ( وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) فإنّ مفعوله الآخر مقدّر ، والمراد والله العالم : يؤتون الفقير الزكاة ، أي يجعلونها واصلة إليه ، وليس المراد به يعطون ، وإن كان لازمه ذلك.

وعلى كلّ حال ، فليس المراد في قوله تعالى : ( يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) أنّهم يؤتون

__________________

(١) النمل ٢٧ : ٢٣.

(٢) المائدة ٥ : ٥٥.

(٣) الكهف ١٨ : ٦٢.

(٤) القاموس المحيط ٤ : ٢٩٧ ( لم يَرِد فيه تمام المقطع المذكور ). تاج العروس ١٠ : ٨ مادّة ( أتَى ). الصحاح ٦ : ٢٢٦٢ ( أتا ).

٤٣٦

بها ، ليكون من تعدية أتى إلى المأتي به بنفسه. وأمّا قوله تعالى : ( وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى ) فليس أيضاً من هذا القبيل ، أعني من قبيل تعدية الاتيان إلى المأتي به ، بل إنّه من قبيل تعديته إلى المأتي إليه ، فإنّ الصلاة في الآية مأتي إليها ، والمراد أنّهم لا يأتون إلى الصلاة.

ومنه يظهر الحال في قوله تعالى : ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ )(١) وقوله تعالى : ( وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً )(٢) فإنّ المراد في جميع ذلك هو المأتي إليه ، تنزيلاً للفاحشة وللبأس منزلة الشيء الموجود الذي يؤتى إليه ، وإن كان هو في الحقيقة من المأتي به ، كما تضمّنته الآية الأُخرى وهو قوله تعالى : ( يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ )(٣) الخ ، ومنه يظهر لك التأمّل فيما أفاده الأصفهاني في حاشيته على الكفاية ص ٢٩٨ (٤).

لا يقال : إنّ الفعل المأتي به وهو مثل الصلاة لو صحّ تعدية الاتيان إليه على معنى كونه مأتياً إليه ، فلِمَ لا تقولون بذلك في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فاتوا منه ما استطعتم » على الموصولية ، على معنى فاتوا منه إلى ما استطعتم.

لأنّا نقول : إنّ إرادة الاتيان إليه لا يناسب مورد الحديث ، لكن يناسب مورد الآية الشريفة ، لأنّ المنظور إليه في الآية الشريفة هو حضورهم صلاة الجماعة ، فكأنّها شيء موجود وهم لا يأتون إليه إلاّوهم كسالى ، لأنّ الغالب في الآية الشريفة هو النظر إلى هذه الجهة ، سيّما بمناسبة كونهم كسالى ، فإنّه يناسب فرض

__________________

(١) النساء ٤ : ١٥.

(٢) الأحزاب ٣٣ : ١٨.

(٣) النساء ٤ : ١٩.

(٤) نهاية الدراية ٤ : ٣٨٦.

٤٣٧

وجود الصلاة وهم يأتونها كسالى ، بخلاف مورد الحديث فإنّ مورده هو الاستطاعة والقدرة ، فهو إنّما يناسب الاتيان بالمستطاع ، لا الاتيان إلى المستطاع ، فإنّه ارتكاب تجوّز بلا جهة تدعو إليه ، هذا.

مضافاً إلى أنّ ما استطعتم لو كان مأتياً إليه ، لكانت صلته هي ما استطعتم الاتيان إليه ، أو ما استطعتم إتيانه ، لا ما استطعتموه كما هو ظاهر الحديث ، فإنّ العائد فيه إلى الموصول هو ضمير مفعول لاستطعتم ، والتقدير ما استطعتموه ، ولو كان الموصول هو المأتي إليه لكان الحاصل فاتوا إلى الذي استطعتم الاتيان إليه من ذلك الشيء.

واعلم أنّ صاحب الكفاية استظهر كون « من » تبعيضية ، لا بيانية ولا بمعنى الباء ، غير أنّه تردّد في كون التبعيض بحسب الأجزاء أو كونه بحسب الأفراد ، وجزم بأنّها في الحديث للثاني ، لكون مورده هو الأجزاء ، فقال : ودلالة الأوّل ( وهو حديث ما استطعتم ) مبنية على كون « من » تبعيضية لا بيانية ولا بمعنى الباء وظهورها في التبعيض وإن كان ممّا لا يكاد يخفى ، إلاّ أن كونه بحسب الأجزاء غير واضح ، لاحتمال أن يكون بلحاظ الأفراد. ولو سلّم فلا محيص عن أنّه هاهنا بهذا اللحاظ يراد ، حيث ورد جواباً عن السؤال عن تكرار الحجّ بعد أمره به ، فقد روي الخ (١). وبنحو ذلك صرّح في تحرير السيّد سلّمه الله عن شيخنا قدس‌سره (٢) ، لكنّه في هذا التحرير (٣) بنى على أنّ التبعيض إنّما يلائم إرادة الأجزاء ، وأنّ حملها على البيانية أو بمعنى الباء وإن كان بعيداً ، إلاّ أن مورد الحديث يعيّنه بعد فرض أنّه لا

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٧٠.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٥٣٦.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٥.

٤٣٨

يمكن إرادتهما معاً من لفظة « من » ، هذا.

ولكنّك قد عرفت أنّها في الحديث لا تكون إلاّللتبعيض ، وأنّه فيه لا تكون إلاّ للأفراد ، مع قطع النظر عن كون ذلك هو مورد الحديث ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : إذ ليس فيه ما يوجب حمله على الميسور من الأفراد ، بل ظاهره أنّ ميسور كلّ شيء لا يسقط بمعسوره (١).

هذا تعريض بما في الكفاية من قوله : حيث لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها ، لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العام بالمعسور منها (٢).

ولا يخفى أنّ كون الميسور بحسب الأفراد في قبال كونه بحسب الأجزاء ، إن كان المراد به أفراد العام البدلي ، فإن كان مع الاختلاف بين الميسور والمعسور في بعض القيود ، مثل أن يجب عليه إكرام عالم هاشمي وقد تعذّر عليه إكرام العالم الهاشمي ، وكان يمكنه إكرام عالم غير هاشمي ، فهذا على تقديره يكون داخلاً في تعذّر الشرط فيما لو كان المأمور به مشروطاً ومقيّداً بقيد خاص وتعذّر عليه الشرط.

وإن كان مع التساوي ، بأن كان الواجب عليه إكرام عالم وقد تعذّر عليه إكرام بعض العلماء ، مع فرض كون إكرام أحد الباقين ميسوراً ، فهذا ليس من الميسور والمعسور ، بل إنّه لم يجب عليه إلاّ إكرام شخص واحد من العلماء وقد تمكّن منه.

وإن كان المراد من الأفراد أفراد العام المجموعي ، بأن كان الواجب عليه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٥.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٧١.

٤٣٩

إكرام مجموع علماء البلد على نحو العام المجموعي ، بحيث يكون موجباً للارتباط بين الاكرامات في مقام الاطاعة والعصيان ، فهذا راجع إلى المركّب الارتباطي ، غايته أنّ أجزاءه متساوية في الدخول تحت عام واحد ، بخلاف باقي المركّبات فإنّ أجزاءها لا ترجع إلى عام واحد. ويبعد كلّ البعد أن يكون محطّ نظر صاحب الكفاية ونظر شيخنا قدس‌سرهما في مقام النفي والاثبات هذا النحو من الأفراد.

والظاهر أنّ مرادهما من الأفراد هي أفراد العام الانحلالي ، كما إذا وجب عليه إكرام كلّ عالم ولكن تعذّر عليه إكرام بعضهم ، وهذه الجهة من التحرير موجودة في كلمات الشيخ قدس‌سره (١) ، ولكن ربما يشكل على ذلك بأنّ الأفراد الانحلالية يكون كلّ واحد منها مكلّفاً به تكليفاً مستقلاً ، فلا يكون داخلاً تحت القاعدة ، إذ لا يتوهّم أحد أنّ تعذّر أحد التكليفين يكون موجباً لسقوط التكليف الآخر ، كي يكون صدور هذه الجملة في مقام دفع هذا التوهّم.

وتوضيح الحال : أنّه لا ريب في أنّ نفس ما هو ميسور غير ما هو معسور ، وإلاّ لم يكن ميسور ومعسور ، ولكن مع ذلك لابدّ من جهة جامعة توجب توهمّ أنّ سقوط المعسور يوجب سقوط الميسور ، لتكون الجملة دفعاً لذلك التوهّم كما في أفراد العام الانحلالي ، والجهة الجامعة الموجبة لذلك التوهّم هي دخولها تحت العام ، فيتوهّم أنّ مثل أكرم العلماء تكليف واحد ، وكما لو وجب الكل المركّب مثلاً من خمسة أجزاء ، فكان كلّ واحد من تلك الأجزاء واجباً ضمنياً ، فهاتيك الواجبات الضمنية لا يكون معسورها موجباً لسقوط ميسورها ، والقدر الجامع بينها الموجب لتوهّم السقوط هو الأمر بالكل.

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

٤٤٠