أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

ويمكن المناقشة في هذا الفرق ، فإنّ الذات التي هي متعلّق الفعل المأمور به لابدّ أن يكون وجودها الخارجي شرطاً في فعلية ذلك الوجوب ، غايته أنّه في القضية الانحلالية الحقيقية يكون وجود كلّ شخص شرطاً في فعلية الحكم المتعلّق به ، وفي القضية التي يكون الموضوع فيها هو فرداً ما يكون وجود صرف الطبيعة شرطاً في فعلية أصل الحكم. ولعلّ ما أفاده من الفرق الذوقي بين الأُولى والثانية في وجوب الفحص في الثانية دون الأُولى ناشٍ عن أنّ وجود صرف الطبيعة يكون غالباً معلوماً ، فيكون تحقّق موضوع أصل الحكم معلوماً ، وهذا المقدار من العلم يكون موجباً لتنجّز التكليف وتوجّه المكلّف إلى الخروج عن عهدته وتطلّب مصداقه ، ليتحقّق باكرامه الفراغ عمّا علم اشتغال ذمّته به ، بخلاف القضية الأُولى التي يكون فيها كلّ مصداق موضوعاً مستقلاً للتكليف الخاصّ به.

وعلى أي حال ، فإنّ ما التزم به من أنّه لو لم يوجد صرف الطبيعة من العالم وأمكن إيجاده بالتعليم وجب ، لا يخلو من غرابة ، وأساسه هو اعتقاد كون وجود العالم في مثل أكرم عالماً مقدّمة وجودية واجبة التحصيل من باب مقدّمة الواجب المطلق. وقد تقدّم الكلام (١) على صورة الاضطرار إلى غير المعيّن في مسألة الشبهة الوجوبية عند الكلام على ذلك في الشبهة التحريمية ، ونقلنا هناك ما قيل أو يمكن أن يقال ، فراجع.

وعلى أي حال ، فإنّي لم أجد في كلمات الشيخ قدس‌سره في مسألة العلم الاجمالي في الشبهات الوجوبية تعرّضا لمسألة الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف المحتملة الوجوب ، إلاّما أفاده في آخر التنبيه الخامس الذي عقده للشبهة الوجوبية غير المحصورة ، بعد أن اختار فيها لزوم الجري على طبق العلم

__________________

(١) في الصفحة : ١٢٥ وما بعدها.

٢٢١

الاجمالي إلى أن يبلغ العسر والحرج ، فإنّه قال هناك ما هذا لفظه :

وهذا الحكم مطّرد في كلّ مورد وجد المانع من الاتيان ببعض غير معيّن من المحتملات ، ولو طرأ المانع من بعض معيّن منها ، ففي الوجوب كما هو المشهور إشكال ، من عدم العلم بوجود الواجب بين الباقي ، والأصل البراءة (١). وهل نظره في ذلك إلى طروّ الاضطرار بعد العلم ، أو إلى طروّه قبله ، فيه تأمّل وإشكال.

قال المحقّق الآشتياني قدس‌سره ـ بعد أن نقّح عدم الفرق بين الشبهة الوجوبية والتحريمية في موارد الاضطرار ـ : فما عن المشهور في الكتاب وإن لم نتحقّقه من إطلاق القول بوجوب الاحتياط فيما طرأ المانع عن المعيّن لا وجه له ، كالإشكال فيه عن شيخنا قدس‌سره ، إلاّ أن يحمل كلامهم على طروّ المانع بعد العلم الاجمالي (٢) فلاحظ كلماته من أوّلها إلى آخرها ، وراجع كلمات المرحوم الحاج آغا رضا قدس‌سره في حاشيته (٣) المفصّلة التي كتبها على هذا المقام من كلام الشيخ قدس‌سره ، فإنّه قد حرّر فيها ما حرّره في مبحث القبلة من كتاب الصلاة وزاد في آخرها ما يظهر منه التفصيل بين ما لو طرأ التعذّر قبل العلم الاجمالي ، وما لو طرأ بعده وبعد مضي مقدار من الوقت يمكنه فيه الأداء ، فلاحظ وتأمّل. وينبغي ملاحظة الجزء الثاني من المستمسك في مبحث القبلة ص ١٢٨ (٤) ، وقد نقلناه فيما تقدّم في أواخر

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٣٠٩.

(٢) بحر الفوائد ٢ : ١٤٧.

(٣) حاشية فرائد الأُصول : ٢٤٠.

(٤) مستمسك العروة الوثقى ٥ : ٢٠٢ ، وقد نقل المصنّف قدس‌سره بعض عبارات هذه التعليقة في الصفحة : ١٢٩ وربما يكون ما ذكره المصنّف قدس‌سره في الصفحة : ١٤٨ بقوله : أمّا هذه الجملة التي ذكرها ... الخ إشارة إلى هذه التعليقة.

٢٢٢

الاضطرار إلى غير المعيّن في الشبهة التحريمية.

قوله (١) : وهذا بخلاف الشبهة الوجوبية ، فإنّ المخالفة القطعية بترك جميع المحتملات بمكان من الامكان ... الخ (٢).

الذي ينبغي في الشبهة الوجوبية غير المحصورة هو النظر في ضابط عدم الحصر فيها ، فإن كان هو بلوغ الأطراف من الكثرة على وجه يكون احتمال الانطباق على هذا الطرف ضعيفاً لا يعتني به العقلاء ، بل يبنون على عدمه ، كما لو اشتبه العالم الذي يجب إكرامه في أطراف كثيرة تعدّ بالملايين ، كان العلم الاجمالي ساقطاً بالمرّة. وإن كان الضابط فيها هو عدم الحصر والضبط على وجه أنّ أيّ عدد يحصل عليه يحتمل أنّ وراءه أشخاصاً أُخر هم من جملة الأطراف أيضاً ، كان العلم الاجمالي أيضاً ساقطاً ، لعدم العلم بوجود العالم فيما ضبطه من الأفراد. وإن كان الضابط هو العسر والحرج في الحصول على الموافقة القطعية ، كان اللازم هو الاحتياط والجري على مقتضى العلم الاجمالي حتّى يبلغ العسر والحرج ، وهذا جارٍ حتّى لو لم تكن الأطراف كثيرة ، بل كانت مردّدة بين طرفين أو ثلاثة ولكن لم يمكنه الجمع بينهما للعسر والحرج أو لضيق الوقت ، فإنّ مقتضى ذلك هو الاحتياط حتّى يتحقّق العذر المانع. نعم في الفعلين الدفعيين كما في مثال صوم اليوم المعيّن أو الكون في المسجد في تمام اليوم لو اتّفق أنّه لا يمكنه الجمع بينهما ، فإنّه يكون في ذلك مخيّراً في ترك أحدهما وفعل الآخر من

__________________

(١) [ لا يخفى أنّ بين المتون التي حشّى عليها المصنّف قدس‌سره في هذه المباحث تقديماًوتأخيراً بحسب ترتيب الفوائد ، وقد آثرنا نقلها هنا على ما وجدناها في الأصل المخطوط ، فلاحظ ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٤٢.

٢٢٣

أوّل الأمر كما قد قدّمناه مراراً ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : الأمر الثاني : يظهر من الشيخ قدس‌سره التفصيل بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي في كيفية النية ... الخ (١).

قال الشيخ قدس‌سره : التنبيه الثاني : أنّ النية في كلّ من الصلوات المتعدّدة على الوجه المتقدّم في مسألة الظهر والجمعة ، وحاصله : أنّه ينوي في كلّ منهما فعلها احتياطاً لاحراز الواجب الواقعي المردّد بينها وبين صاحبتها تقرّباً إلى الله ، على أن يكون القرب علّة للاحراز الذي جعل غاية للفعل ، ويترتّب على هذا أنّه لابدّ من أن يكون حين فعل أحدهما عازماً على فعل الآخر ، إذ النيّة المذكورة لا تتحقّق بدون ذلك ، فإنّ من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصداً لامتثال الواجب الواقعي على كلّ تقدير ، نعم هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل له لا مطلقاً ، وهذا غير كافٍ في العبادات المعلوم وقوع التعبّد بها. نعم ، لو احتمل كون الشيء عبادة ـ كغسل الجنابة إن احتمل الجنابة ـ اكتفى فيه بقصد الامتثال على تقدير تحقّق الأمر به ، لكن ليس هنا تقدير آخر يراد منه التعبّد على ذلك التقدير ، فغاية ما يمكن قصده هنا هو التعبّد على طريق الاحتمال ، فهذا غاية ما يمكن قصده هنا ، بخلاف ما نحن فيه ممّا علم فيه ثبوت التعبّد بأحد الأمرين ، فإنّه لابدّ فيه من الجزم بالتعبّد (٢).

وقال فيما تقدّم من مسألة الظهر والجمعة ـ في جواب قوله : إن قلت : إذا سقط قصد التعيين لعدم التمكّن فبأيّهما ينوي الوجوب والقربة ـ قلت : له في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٣٦.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ( جملة : فهذا غاية ما يمكن قصده هنا ، لم ترد في بعض النسخ ومنها النسخة المعتمد عليها في الاستخراج ).

٢٢٤

ذلك طريقان ، أحدهما : أن ينوي بكلّ منهما الوجوب والقربة ، لكونه بحكم العقل مأموراً بالاتيان بكلّ منهما. وثانيهما : أن ينوي بكلّ منهما حصول الواجب به أو بصاحبه تقرّباً إلى الله ، فيفعل كلاً منهما فيحصل الواجب الواقعي ، وتحصيله لوجوبه ـ إلى أن قال ـ بل يقصد ( في كلّ منهما ) أنّي أُصلّي الظهر لوجوب الأمر الواقعي المردّد بينه وبين الجمعة التي أُصلّيها بعد ذلك أو صلّيتها قبل ذلك الخ (١).

وعلى كلّ حال ، ليس مراد الشيخ قدس‌سره هو أنّه يأتي بكلّ منهما بداعي احتمال وجوبه كما في الشبهة البدوية ، وأنّه يعتبر فيهما شيء زائد على داعي الاحتمال في الشبهة البدوية ، وهو أن يكون ناوياً للاتيان بطرفه بعده ، بل مراده شيء آخر هو أعلى من ذلك ، وهو شعبة من اعتبار الجزم بالنية ، وحاصله أنّه في الشبهة البدوية لا يكون في البين إلاّ احتمال الأمر بذلك الفعل ، فهو لا يمكنه إلاّ أن يأتي به بداعي الامتثال الاحتمالي ، وهذا بخلاف ما لو كان الأمر قطعياً وكان متعلّقه متردّداً بين الظهر والجمعة مثلاً ، فإنّ العلم بوجود الأمر بينهما وإن أوجب احتمال وجود الأمر بالظهر واحتمال وجود الأمر بالجمعة ، وحينئذ يأتي بالظهر بداعي الامتثال الاحتمالي لاحتمال وجود الأمر بها ، ويأتي بالجمعة بداعي الامتثال الاحتمالي لاحتمال وجود الأمر بها ، كما إذا كان احتماله لكلّ منهما على نحو الشبهة البدوية ، بحيث إنّه يحتمل وجود الأمرين معاً ، ويحتمل عدمهما معاً ، ويحتمل وجود أحدهما دون الآخر ، فهو في هذه الصورة لا يمكنه الفعل إلاّ بداعي الامتثال الاحتمالي ، لكنّه في صورة العلم الاجمالي بوجود الأمر مردّداً بينهما يكون الأمر المذكور قطعياً ، فيحتاج في امتثاله إلى الاتيان بداعي الامتثال القطعي ، بأن يأتي بالظهر بداعي الامتثال القطعي لذلك الأمر القطعي ، وهذا لا

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٢٨٩ ـ ٢٩١.

٢٢٥

يكون إلاّ إذا كان ناوياً أن يأتي بكلّ منهما بحيث يكون الداعي له على الاتيان بهما هو الامتثال القطعي لذلك الأمر القطعي ، فهو يأتي بالظهر ليكون الاتيان بها وبالجمعة بعدها امتثالاً قطعياً لذلك الأمر القطعي.

وبعبارة أُخرى : لابدّ أن يكون المحرّك له والباعث له على الفعلين هو حصول الامتثال القطعي وإن كان الامتثال في كلّ منهما احتمالياً ، فإنّ ذلك لا ينافي لزوم الامتثال القطعي.

وإن شئت فقل : إنّ الأمر القطعي الموجود في الواقع يستدعي قصد امتثاله ، بحيث يكون الداعي على العمل هو امتثال ذلك الأمر القطعي ، فلابدّ أن يتحرّك إلى الاثنين بداعي امتثال ذلك الأمر القطعي ، فلو لم يكن قاصداً امتثال ذلك الأمر القطعي ، بل كان قد أتى بالظهر فقط لعلّها أن تكون هي الواجبة واقعاً من دون قصد إلى الامتثال القطعي لذلك الأمر القطعي ، ولم يكن من قصده أن يأتي بعدها بالجمعة ، ثمّ بعد الفراغ منها تبيّن أنّها هي الواجبة لم يكن ذلك كافياً.

وهكذا الحال فيما لو كان قد أتى بها بداعي مجرّد الاحتمال ، ثمّ أتى بالأُخرى كذلك ، لم يكن ذلك كافياً مطلقاً حتّى لو كان في نيّته أنّه يفعل الثانية بعد الأُولى من باب مجرّد النيّة ، لا من باب أنّه من أوّل الأمر قاصد للامتثال القطعي ، بحيث إنّه لم يحرّكه على الاتيان بكلّ منهما إلاّمجرّد الاحتمال ، من دون أن يكون قاصداً بهما الامتثال القطعي لذلك الأمر القطعي ، بمعنى أنّه لم ينبعث عن ذلك الأمر القطعي ، بل انبعث في كلّ منهما عن الأمر الاحتمالى فيها ، لم يكن ذلك كافياً لأنّه لم يحصل منه من أوّل الأمر الجزم بالامتثال بالنسبة إلى ذلك الأمر المعلوم ، غايته أنّه بعد الفراغ منهما يحصل له القطع بأنّه قد أتى بما هو متعلّق ذلك الأمر ، لكن من دون تقدّم قصد جزمي إلى امتثاله وإطاعته.

٢٢٦

ومن ذلك يظهر لك أنّ كونه من أوّل الأمر ناوياً الاتيان بالثانية بعد الأُولى لازم أعمّ لما هو الواجب عليه ، وهو الانبعاث القطعي عن ذلك الأمر القطعي ، إذ لم يحصل بذلك إلاّمجرّد الانبعاث الاحتمالي عن الأمر الاحتمالي كما سيتّضح لك شرح ذلك إن شاء الله تعالى (١).

وبعبارة أُخرى : لابدّ أن يقصد امتثال ذلك الأمر الواقعي الذي علمه ، غايته أنّه عن قصده امتثال ذلك الأمر الواقعي يترشّح قصد هذه لاحتمال كونها هي التي تعلّق بها ذلك الأمر ثمّ قصده لتلك لاحتمال كونها هي التي تعلّق بها الأمر ، ويكون الأصل في القصد هو قصد الامتثال القطعي لذلك الأمر القطعي ، وبدونه لا يحصل الجزم بالامتثال بالنسبة إلى ذلك الأمر الواقعي بمعنى أنّه لم ينبعث عن ذلك الأمر ، بل إنّما انبعث إلى هذه عن احتمال وجود أمر بها ، وإلى تلك عن احتمال وجود أمر بها ، وهذا وحده إنّما يكفي فيما لم يكن له علم بوجود أمر واقعي يبعثه فعلاً إلى امتثال نفسه.

وقد أجاب عنه شيخنا قدس‌سره فيما حرّره عنه السيّد سلّمه الله بقوله : فإنّ الانبعاث في محلّ البحث لا يمكن أن يكون عن شخص الأمر على كلّ تقدير ، ضرورة أنّ كلّ تكليف إنّما يدعو إلى متعلّقه دون غيره ، فالاتيان بمجموع الأطراف لا يمكن أن يكون بدعوة الأمر المعلوم بالضرورة ، وأمّا الاتيان بكلّ واحد واحد منها فهو أيضاً من جهة عدم العلم بتعلّق التكليف به ، لا يمكن أن يكون بداعويته ، فلم يبق إلاّ التنزّل إلى الانبعاث عن احتماله في كلّ طرف ، من دون أن يكون الامتثال في بعض الأطراف مرتبطاً به في الطرف الآخر. نعم عدم قصد الامتثال اليقيني من أوّل الأمر فضلاً عن قصد العدم نوع من التجرّي بعد

__________________

(١) في الصفحة : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٢٢٧

الفراغ عن تنجيز العلم الاجمالي ، لكنّه أجنبي عمّا هو محطّ كلامه قدس‌سره (١). وإلى ذلك أشار في هذا التحرير بقوله : وليس المحتملان بمنزلة فعل واحد مرتبط الاجزاء حتّى يقال : العلم بتعلّق التكليف بالفعل الواحد قصد امتثال الأمر المعلوم الخ (٢).

ولكن مع ذلك يمكن الفرق بين ما نحن فيه وبين الشبهة البدوية بما لا يرجع إلى ما يكون عدم القصد فيه تجرّياً ، فإنّه في الشبهة البدوية لا يكون سوى الاحتمال الصرف ، فلا يكون الغاية فيه إلاّ احتمال الامتثال ، بخلاف ما نحن فيه حيث إنّ الأمر موجود وجداناً فيمكنه الاشارة إليه ، ويجعل الغاية من فعله الظهر مثلاً هو امتثاله لذلك الأمر لو كان متعلّقاً بها وهكذا الحال في فعل الجمعة ، على وجه يتحرّك إلى فعل الظهر وإلى فعل الجمعة بعدها عن نفس ذلك الأمر ، ولا يلزم منه أن يكون فعلهما معاً بقصد واحد وإرادة واحدة ، لكي يرد عليه أنّه من قبيل الاتيان بمجموع الأطراف بدعوة الأمر المعلوم ، والمفروض أنّه لا يدعو إلى المجموع وإنّما يدعو إلى واحدة منهما ، بل يكون هناك إرادتان وقصدان يتعلّق أحدهما بفعل الظهر والآخر بفعل الجمعة ، وكلّ من هذين القصدين بداعي امتثال ذلك الأمر الموجود ، لاحتمال كونه متعلّقاً بذلك المقصود فعله ، فلا يكون ذلك من قبيل الامتثال الاحتمالي ، بل من قبيل الامتثال القطعي ، غايته أنّ الاحتمال واقع في الممتثل به ، وبذلك ينفرد عن الشبهة البدوية ، فإنّ الامتثال فيها احتمالي صرف.

والحاصل : أنّ الأمر فيما نحن فيه يكون بوجوده العلمي محرّكاً ، ولكن

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٨٤ ـ ٤٨٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٣٧.

٢٢٨

حيث تردّد متعلّقه بينهما فهو يتحرّك إلى كلّ واحدة منهما لاحتمال كون ذلك الأمر المعلوم متعلّقاً بها ، وهذا بخلاف الشبهة البدوية فإنّ الأمر لا يكون محرّكاً بوجوده العلمي ، وإنّما يكون المحرّك هو وجوده الاحتمالي.

والخلاصة : هي أنّه في صورة العلم الاجمالي يكون ذلك الأمر الموجود مولّداً في نفس المكلّف إرادة امتثال ذلك الأمر والتحرّك عنه بداعي الحصول على امتثاله ، وهذا المقدار من توليد الارادة المذكورة في نفس المكلّف يشترك فيه الأمر المعلوم تفصيلاً والأمر المعلوم إجمالاً ، ولكن في الأمر المعلوم بالاجمال يتولّد في نفس المكلّف عن تلك الارادة الأُولى إرادتان هما من قبيل إرادة الامتثال الاحتمالي ، تتعلّق إحداهما بأحد الفعلين لاحتمال كونه هو الذي تعلّق به ، وأنّه هو المحقّق لما قد رغب فيه العبد من الحصول على تلك الغاية المعلومة وهي امتثال ذلك الأمر المعلوم ، وتتعلّق الأُخرى بالآخر كذلك ، ويكون كلّ من الارادتين والقصدين ناشئاً عن ذلك القصد الأوّلي وهو امتثال ذلك الأمر المعلوم ، ويكون ذلك القصد الأوّلي مستمرّاً مع كلّ من القصدين إلى الفراغ من الفعلين.

وهذا بخلاف ما لو لم يكن عالماً إجمالاً بوجود ذلك الأمر ، بل كان يحتمل وجود أمر متعلّق بصلاة الظهر ، ويحتمل أيضاً وجود أمر متعلّق بصلاة الجمعة مع احتمال عدم وجود أمر أصلاً ، فإنّه أيضاً تنقدح في نفسه إرادة امتثال احتمالي في ناحية صلاة الظهر ، وإرادة امتثال احتمالي في ناحية صلاة الجمعة ، لكنّهما لا تكونان ناشئتين عن إرادة امتثال لأمر قطعي ، إذ لا قطع له بالأمر ، فلو أراد الاطاعة لم يتمكّن إلاّمن هاتين الارادتين الاحتماليتين.

أمّا في صورة العلم الاجمالي فهو متمكّن من الارادة القطعية التي تنقدح في

٢٢٩

نفسه وجداناً عند علمه بذلك الأمر ، وعن تلك الارادة القطعية تنشأ الارادتان الاحتماليتان ، فإذا اعتبرنا الاطاعة الجزمية ببرهان أنّ الأمر يقتضي الانبعاث عن نفسه ، كان من الضروري أن نقول إنّه لابدّ من اعتبار التحرّك عن ذلك الأمر ، وأنّه لابدّ أن تتولّد في نفس العبد إرادة امتثال نفس ذلك الأمر ، وهي إرادة جزمية خالية من شائبة الاحتمال ، غايته أنّه يقع الاحتمال فيما يتولّد عن تلك الارادة الجزمية من الارادتين الاحتماليتين.

فنحن إن قلنا إنّ هذا الأمر الواقعي المعلوم بالاجمال عاجز عن أن يولّد إرادة امتثاله في حقّ المكلّف ، كان محصّله أنّ هذا الأمر لا يقتضي الامتثال ، فيكون العلم الاجمالي به ساقطاً لا أثر له ، وذلك عبارة أُخرى عمّا تقدّم نقله عن المحقّق الخونساري في أوّل المبحث الثالث ص ٤٠ (١). وحيث قد أبطلنا ذلك القول كان من الضروري أن نقول : إنّ ذلك الأمر المعلوم صالح لأن يولّد إرادة امتثاله في حقّ المكلّف ، ولا ريب أنّ تلك الارادة إرادة جزمية ، وإذا انقدحت إرادة امتثال ذلك الأمر في نفس المكلّف ، كان من الضروري أن تتولّد في نفسه الارادتان الاحتماليتان ، وتكون تلك الارادة الجزمية مستمرّة مع الارادتين إلى ما بعد الفراغ عن متعلّق كلّ منهما.

وهذا بخلاف الشبهة البدوية بالنسبة إلى كلّ من الفعلين ، فإنّه لو فرضنا وجود أمر واقعي متعلّق بالظهر أو أمر واقعي متعلّق بالجمعة ، أو فرضنا وجود الأمرين معاً ، فإنّ ذلك الأمر بوجوده الواقعي عاجز عن أن يولّد في نفس المكلّف إرادة متعلّقة بامتثاله ، بحيث يكون امتثاله بوجوده العلمي داعياً ومحرّكاً على إرادة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٢٤ ، راجع أيضاً الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٢٠٨ من هذا المجلّد.

٢٣٠

الفعل المتعلّق به ، كما هو الشأن في الدواعي في كونها بوجودها الواقعي الخارجي معلولات للأفعال وبوجودها التصوّري العلمي عللاً لتعلّق الارادة بتلك الأفعال ، بل أقصى ما فيه هو أن يتولّد في حقّ المكلّف إرادة الفعل ناشئة عن داعي الامتثال بوجوده الاحتمالي لا بوجوده العلمي.

وإن شئت فقل : لا معنى لكون الأمر بوجوده الواقعي داعياً لارادة المكلّف ، وحينئذ فعدّ الأمر داعياً لارادة المكلّف عبارة تسامحية ، وفي الحقيقة أنّ الداعي هو امتثاله واطاعته ، فإنّها ـ أعني الاطاعة والامتثال ـ هي الداعي ، لما عرفت من شرح حقيقة الداعي على الفعل ، وأنّه ما يكون بوجوده الواقعي معلولاً للفعل وبوجوده العلمي التصوّري باعثاً وحاملاً للمكلّف على إرادة الفعل ، لما يتصوّره من ترتّبه على الفعل وأنّه من فوائد فعله. وإنّما صحّ لهم ذلك التسامح في قولهم : إنّ الأمر يكون داعياً للمكلّف ، باعتبار كونه مولّداً لذلك الداعي في نفس المكلّف. ومحصّل اعتبار الجزم بالنيّة هو أن يكون الاتيان بالعمل بداعي ما علمه من ترتّب الاطاعة والامتثال ، في قبال كون الاتيان به بداعي احتمال ترتّب الطاعة والامتثال ، ففي صورة كون الأمر معلوماً تفصيلاً يكون ذلك الداعي وهو الامتثال معلوماً بالتفصيل ، وفي صورة كونه محتملاً يكون الوجود الاحتمالي للامتثال المذكور هو المحرّك له على العمل.

ومن ذلك يظهر لك : أنّ مسألة الدوران بين الاطاعة التفصيلية والاطاعة الاحتمالية ليست من قبيل الدوران بين الأقل والأكثر ، بل هي من قبيل المتباينين ، لأنّ الامتثال هو الداعي والمحرّك على الارادة بوجوده التصوّري ، هل يكون المعتبر في ذلك الوجود التصوّري هو الوجود الجزمي العلمي ، أو يكفي الوجود الاحتمالي ، وهما متباينان. فقيل بتعيّن الأوّل ، وقيل بالتخيير بينه وبين الثاني ،

٢٣١

فيكون النزاع من الدوران بين التخيير والتعيين. نعم قيل إنّ العقل يحكم بالتخيير ، إذ لا يفرّق بين الاطاعتين ، وهي دعوى تحتاج إلى إثبات.

وعلى أيّ حال ، لا يكون المقام من قبيل الأقل والأكثر ، إلاّ إذا قلنا إنّ المحرّك هو نفس الأمر بوجوده الواقعي سواء كان معلوماً أو كان محتملاً ، فتكون ذات الأمر هي الباعثة والمحرّكة والداعية ، سواء كانت معلومة أو كانت مشكوكة ، فمن لا يقدّم الاطاعة التفصيلية يكتفي بكون العمل حاصلاً بداعوية الأمر سواء كان معلوماً أو كان مشكوكاً ، ومن يقول بتقدّم الاطاعة التفصيلية يعتبر زيادة على داعوية ذات الأمر أن يكون وجود ذلك الأمر الذي هو بذاته داعيك على الفعل معلوماً لديك ، فيكون المقام من قبيل الأقل والأكثر. لكن قد عرفت أنّه لا محصّل لكون ذات الأمر داعياً ومحرّكاً ، وإنّما الداعي والمحرّك هو امتثاله ، وهو بوجوده العلمي أو بوجوده الاحتمالي ، فلا يكون المقام من قبيل الأقل والأكثر ، بل يكون من قبيل المتباينين ، ويكون النزاع من قبيل النزاع في التعيين والتخيير ، وقد شرحنا ذلك مفصّلاً في أوائل القطع عند الكلام على الامتثال الاجمالي (١) ، فراجع.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه في صورة العلم الاجمالي بالأمر لابدّ أن يكون امتثال ذلك الأمر المعلوم هو المحرّك له ، فلو كان من قصده عند الاتيان بالظهر هو الامتثال الاحتمالي ، لم يكن ذلك نافعاً في صحّة الاطاعة عقلاً حتّى لو انكشف له بعد الفراغ منها أنّها هي المأمور به ، إذ لم يكن المحرّك له حينئذ هو امتثال ذلك الأمر الذي علمه ، بل كان المحرّك له هو احتمال الامتثال.

وإن شئت فقل : إنّ المحرّك له هو احتمال الأمر ، بمعنى كون المحرّك له هو الوجود الاحتمالي لذلك الأمر ، والمفروض أنّ ذلك الأمر موجود في خزانة

__________________

(١) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٨١ وما بعدها.

٢٣٢

نفسه ، ولم يتحرّك عن وجوده العلمي ، وإنّما تحرّك عن الوجود الاحتمالي لخصوص الأمر بالظهر فاتّفق أنّ ذلك الاحتمال صادف الواقع ، وإنّما نقول بكفايته في الشبهة البدوية لعدم التمكّن إلاّعن التحرّك عن الوجود الاحتمالي ، وهذا بخلاف العلم الاجمالي فإنّه يمكنه فيه التحرّك عن الوجود العلمي فتكون إطاعته جزمية ، فلو اتّفق بعد الفراغ من الظهر انكشاف كونها هي الواجبة فقد حصل على الاطاعة الجزمية ، أعني كون التحرّك عن تلك الارادة الصادرة عمّا علمه من الأمر ، وقد عرفت أنّها مستمرّة مع كلّ من الارادتين الاحتماليتين ، وهذا بخلاف ما لو اقتصر على مجرّد تلك الارادة الاحتمالية ، فإنّه لا يكفيه ذلك ولو بعد تبيّن أنّها هي الواجبة بعد الفراغ من الظهر ، فإنّها ـ أعني الظهر ـ قد جاءت عارية من ذلك المقدار من الجزم الذي كان المكلّف متمكّناً منه ، بل لو أتى بالظهر بذلك الاحتمال ثمّ جاء بعدها بالجمعة بذلك الاحتمال ، لم يكن ذلك كافياً ما لم يكن قد تحرّك عن ذلك الأمر الذي علمه ، بل لو كان من قصده من أوّل الأمر الاتيان بالجمعة بعد الاتيان بالظهر ، ولم يكن تحرّكه إليهما ناشئاً عن ذلك الأمر الذي علمه ، لم يكن ذلك كافياً ، فلاحظ وتأمّل لتعرف أنّ نيّة الاتيان بالجمعة بعد الاتيان بالظهر لازم أعمّ بالنسبة إلى المطلوب الحقيقي ، أعني قصد الانبعاث عن ذلك الأمر الذي علمه ، إذ ربما كان من نيّته الاتيان بالجمعة بعد الاتيان بالظهر ، ولا يحصل ما هو المطلوب الذي هو الانبعاث عن الأمر المعلوم بقصده امتثال ذلك الأمر.

ومن ذلك يظهر لك : أنّ الاكتفاء في المقام بمجرّد الاتيان بكلّ من الفرضين المحتملين بداعي الاحتمال أردأ من الاكتفاء بالاطاعة الاحتمالية في [ فرض ] التمكّن من تحصيل العلم بما هو الواجب ، وذلك لأنّ المفروض هو تحقّق

٢٣٣

الوجود العلمي للأمر وعدم التحرّك عنه. ولا يقاس ما نحن فيه بما لو احتمل على نحو الشبهة البدوية وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، واحتمل أيضاً على نحو الشبهة البدوية وجوب صلاة أوّل الشهر ، وكان ذلك قبل الفحص ، ولكن لا يمكنه الفحص فعلاً لأنّ الوقت لا يسع ذلك ، فإنّه حينئذ يجب عليه الاحتياط بفعل كلّ من الدعاء وصلاة أوّل الشهر ، لكن لا ربط لأحدهما بالآخر بحيث إنّه عند الأوّل ينوي أن يأتي بالثاني ، وذلك للفرق الواضح بين هذا المثال وما نحن فيه ، لأنّه في هذا المثال لا يعلم بوجود أمر يلزمه التحرّك عنه ، بخلاف ما نحن فيه ، فتأمّل.

ثمّ إنّه يمكن أن يدّعى أنّ جريان ما ذكرناه في الشبهة الموضوعية كما في تردّد القبلة أولى وأوضح منه في الشبهات الحكمية كما في الظهر والجمعة ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : الأمر الرابع : لا إشكال في أنّ الاستصحاب وارد على قاعدة الاشتغال والبراءة ، سواء توافقا في المؤدّى أو تخالفا ... الخ (١).

لا إشكال في ورود الاستصحاب على قاعدة الاشتغال لو تخالفا ، وكذا في وروده على البراءة لو تخالفا أيضاً ، وإنّما الإشكال في صورة التوافق ، كما في مورد استصحاب عدم الحكم بالنسبة إلى البراءة ، وكما في مورد استصحاب الحكم بالنسبة إلى قاعدة الاشتغال. والضابط في عدم جريان الاستصحاب في مثل هذه الموارد هو أنّه إذا لم يترتّب على المستصحب إلاّنفس مفاد البراءة العقلية أو نفس قاعدة الاشتغال ، لم يكن الاستصحاب جارياً ، وذلك كما نحن فيه فيما لو أُريد من استصحاب بقاء القدر المشترك بين وجوب صلاة الظهر ووجوب

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٢٩.

٢٣٤

صلاة الجمعة ، هو لزوم الاتيان بالجمعة بعد الفراغ من صلاة الظهر تحصيلاً للفراغ اليقيني ، فإنّه لا يكون الاستصحاب في مثل ذلك إلاّمن قبيل التعبّد بوجود ما هو محرز بالوجدان.

وبالجملة : إن أُريد من الاستصحاب المذكور هو الحكم بوجوب صلاة الظهر كان من الأُصول المثبتة ، وإن أُريد منه لزوم الاتيان بها لأنّ ذلك هو مقتضى بقاء القدر المشترك بين الوجوبين ، بحيث إنّه لا يترتّب على بقاء القدر المشترك بين الوجوبين إلاّلزوم الاحتياط بالاتيان بصلاة الظهر لاحتمال كونها هي الواجبة ، فهذا هو ما ذكرناه من كونه من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

وهكذا الحال في مقابلة استصحاب عدم الوجوب بالبراءة العقلية ، فإنّه لا ريب في حكومته عليها ، كما لو شكّ المكلّف في توجّه تكليف عليه لأجل الشكّ في صدور سببه أو تحقّق شرطه مع فرض عدم جريان الأصل في السبب أو الشرط ، فإنّه يجري فيه استصحاب عدم الوجوب ويكون الوجوب محكوماً بالعدم ، فلا يبقى معه مورد للبراءة العقلية. نعم ، إذا فرض أنّه لم يترتّب على استصحاب العدم إلاّمجرّد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، لم يكن الاستصحاب المذكور جارياً ، لكونه من قبيل إحراز ما هو وجداني بالتعبّد كما تقدّم ويأتي إن شاء الله في مسألة الأقل والأكثر (١) من عدم جريان استصحاب عدم التكليف الثابت في حال الصغر ، فراجع وتأمّل.

ومن هذا القبيل استصحاب عدم الحجّية ، فإنّه لا يترتّب عليه إلاّحكم العقل بقبح التشريع ، الذي يكون موضوعه مجرّد عدم الاحراز الذي هو الأعمّ من

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٨٦ ـ ١٨٨.

٢٣٥

إحراز العدم ، بناءً على ما تقدّم في محلّه (١) من كون حكم العقل بقبح التشريع من قبيل ذي الملاك الواحد ، إذ لو كان من ذي الملاكين ، بأن كان للعقل حكم واقعي في مورد إحراز عدم الحجّية وحكم احتياطي في مورد عدم الاحراز ، لكان استصحاب عدم الحجّية جارياً وموجباً لحكم العقل بالقبح حكماً واقعياً ، وبه يرتفع موضوع حكمه الطريقي الاحتياطي الذي يكون موضوعه عدم الاحراز.

قوله : فإنّه لو أُريد من الاستصحاب استصحاب شخص التكليف المعلوم بالاجمال ، فقد عرفت في الأمر الأوّل أنّ الاستصحاب الشخصي لا يجري مع العلم بزوال أحد فردي المردّد ، لأنّ الشكّ فيه يرجع إلى الشكّ في حدوث الفرد الباقي ، لا في بقاء الفرد الحادث على ما تقدّم بيانه ، وإلاّ لزم ترتيب آثار بقاء الفرد المردّد على ما هو عليه من الترديد ، ولازم ذلك هو وجوب الاتيان بكلّ ... الخ (٢).

الأولى أن يقال : إنّه إن أُريد من استصحاب شخص التكليف استصحاب بقاء نفس وجوب صلاة الظهر ، بحيث إنّه يترتّب عليه الاتيان بها بداعي وجوبها المحرز بالاستصحاب ، ففيه أنّ الشكّ إنّما هو في حدوث وجوبها لا في بقائه. وإن أُريد منه استصحاب الشخص المردّد بين الوجوبين ، ففيه أنّ الشخص لم يكن متيقّناً ، لأنّ الخصوصية خارجة عن حيّز اليقين ، وإنّما المتيقّن هو عنوان أحدهما ، وإن كان لا ينفكّ عن الخصوصية ، لكن لمّا لم تكن الخصوصية البدلية داخلة في حيّز اليقين لم تكن داخلة في المنع عن نقض اليقين.

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٥٩ ـ ٣٦١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٣١.

٢٣٦

ومع قطع النظر عن ذلك نقول : إنّه إن أُريد من استصحاب بقاء الفرد المردّد إثبات وجوب الباقي كان الأصل المذكور مثبتاً ، وإن أُريد من الحكم ببقاء ذلك الفرد المردّد هو لزوم الاتيان بالفرد الباقي لأنّه أحد الفردين ، كان من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالأصل ، هذا كلّه.

مضافاً إلى أنّ استصحاب الفرد المردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع لا يجري في حدّ نفسه ، لأنّ الشكّ إنّما هو في حدوث ما يبقى لا في بقاء ما حدث ، نعم قبل الاتيان بأحد الفردين يمكن استصحاب الفرد المردّد فيما لو شكّ في أنّه أتى بهما أو لم يأت بشيء منهما.

وأمّا ما أُفيد من الايراد عليه بأنّ لازمه الاتيان بكلا الفردين ، فيمكن دفعه بأنّه وإن كان الأثر المترتّب على بقاء الفرد المردّد هو الاتيان بكلا الفردين ، إلاّ أنه لمّا كان قد أتى بالفرد السابق كان له الاكتفاء بالاتيان بالفرد الباقي ، فتأمّل فإنّ هذا إنّما يتمّ فيما لو كان العلم الاجمالي حاصلاً قبل فعل أحدهما ، وأمّا لو كان حصوله بعد فعل أحدهما ففيه إشكال تعرّضنا له في حاشية ص ١٥٣ (١) من مباحث الاستصحاب ، فراجع.

قوله : ولا يقاس ما نحن فيه على ما إذا علم بمتعلّق التكليف تفصيلاً وشكّ في امتثاله ، حيث إنّه يجري استصحاب بقاء التكليف بلا كلام ... الخ (٢).

الأولى أن يقال : إنّ للعقل في باب الاطاعة حكمين :

أحدهما : الحكم بلزوم الاطاعة بعد إحراز تنجّز التكليف ، سواء كان تنجّزه

__________________

(١) وهي الحاشية الآتية في المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٠٨ ومابعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٣٣.

٢٣٧

بالعلم التفصيلي كأن يعلم بوجوب صلاة الظهر ، أو كان بالأمارة أو الاستصحاب القائمين على وجوب صلاة الظهر ، أو كان بالعلم الاجمالي كما في مورد العلم بوجوب أحد شيئين عليه أحدهما صلاة الظهر ، أو كان ذلك من قبيل الاحتمال في الشبهة الحكمية قبل الفحص ، فإنّ حكم العقل في جميع هذه الموارد بلزوم الاتيان بصلاة الظهر إنّما هو من باب حكمه بلزوم الاطاعة وقبح المعصية ، بمعنى أنّ مثل هذه الأُمور تكون حجّة على اشتغال الذمّة الموجب لحكم العقل بلزوم تفريغها.

الحكم الثاني للعقل : هو الحكم بلزوم الفراغ اليقيني بعد إحراز تنجّز التكليف بأحد الطرق السابقة.

وملاك الحكم الأوّل هو لزوم الطاعة بعد إحراز تنجّز التكليف في قبال عدم الطاعة رأساً ، وملاك الحكم الثاني هو لزوم اليقين بالفراغ عمّا كان قد تنجّز في قبال الاكتفاء باحتمال الفراغ.

وحينئذ نقول : إنّه لو علم تفصيلاً بوجوب صلاة الظهر عليه وشكّ في أنّه أتى بها ، فمع قطع النظر عن الاستصحاب يكون العقل حاكماً بلزوم الاتيان بها ، لكن ذلك من قبيل النحو الثاني ، وبالنظر إلى الاستصحاب يكون العقل أيضاً حاكماً بلزوم الاتيان بها ، لكن ذلك من قبيل النحو الأوّل ، لأنّ استصحاب بقاء التكليف يحرز بقاء اشتغال ذمّته فيتبعه حكم العقل بتفريغها ، ويترتّب على ذلك أنّه مع قطع النظر عن الاستصحاب يأتي بها بعنوان الاحتمال والاحتياط ، بخلاف نتيجة الاستصحاب فإنّه يأتي بها بداعي أمرها المحرز البقاء.

وبالجملة : أنّ الاستصحاب في مثل ذلك يسقط موضوع حكم العقل بالاشتغال وطرد الاكتفاء بالاحتمال ، بل إنّه يولّد حكماً آخر أعلى من ذلك ، وهو

٢٣٨

حكم العقل بلزوم الفراغ عمّا اشتغلت به الذمّة ، وهذا حكم آخر غير الحكم الحاصل بأصالة الاشتغال ، وإنّما يكون الاستصحاب ساقطاً إذا لم يترتّب عليه أثر إلاّ الحكم الحاصل بأصالة الاشتغال الذي هو الحكم الثاني.

ومنه يظهر لك أنّه لو علم إجمالاً بوجوب أحد الأمرين الظهر أو الجمعة ، وحصل له الشكّ في الاتيان بهما ، فإنّ الظاهر أنّه يجري في حقّه استصحاب بقاء التكليف ، ويترتّب عليه الحكم الأوّل ، وهو حكم العقل بلزوم الاطاعة ، وبه يرتفع موضوع الحكم الثاني وهو لزوم الفراغ اليقيني.

ومن ذلك يظهر لك أنّ العمدة في جريان الاستصحاب وعدمه هو ما أُفيد في الأمر الثالث ، وأمّا ما أُفيد في الأمر الثاني فيمكن القول بعدم الحاجة إليه ، لما عرفت من أنّ الحكم الثاني للعقل فيما ذكرناه من المثال وإن ترتّب على إحراز نفس الحدوث والشكّ في الامتثال ، لكن لمّا كان الاستصحاب يجري ويثبت البقاء ، كان حاكماً على ذلك الحكم العقلي ، وكان محقّقاً لموضوع الحكم الأوّل من حكمي العقل.

ومنه يظهر لك التأمّل فيما لو أتى بصلاة الجمعة وحصل له الشكّ في أنّه هل أتى بصلاة الظهر بعدها ، فإنّه يمكن أن يجري في حقّه استصحاب وجوب صلاة الظهر ، بمعنى أنّها لو كانت هي الواجبة فهو يشكّ في إسقاط أمرها.

ومن ذلك يتّضح لك الجواب عمّا ربما يتوجّه على جريان الأُصول الاحرازية المثبتة للتكليف في موارد العلم الاجمالي بارتفاع التكليف في بعضها ، كما لو علم بطهارة أحد الاناءين المعلومي النجاسة ، فإنّه يتوجّه على استصحاب النجاسة في كلّ منهما بأنّه لا أثر لهذا الاستصحاب ، لأنّ المكلّف يلزمه الاجتناب عنهما للعلم الاجمالي بنجاسة أحدهما ، فلا يترتّب على استصحاب النجاسة في

٢٣٩

كلّ منهما أثر عملي ، إذ لا يترتّب على هذين الاستصحابين إلاّلزوم الاجتناب عن كلا الاناءين وذلك حاصل بالعلم الاجمالي بوجود النجس بينهما.

وهكذا الحال فيما لو علم بوجوب المغرب والعشاء وقد فعل إحداهما ولا يعلمها بعينها ، فإنّه يلزمه الاتيان بهما للعلم الاجمالي ببقاء الوجوب في أحدهما ، فلا يترتّب على استصحاب الوجوب في كلّ منهما أثر عملي.

والجواب : أمّا عن مسألة الاناءين المعلومي النجاسة ، فلأنّه يكفي في صحّة استصحاب نجاسة كلّ منهما الحكم بنجاسة ملاقي أحدهما ، فإنّه ملاق للنجس بحكم الاستصحاب فيحكم بنجاسته ، بخلاف ما لو اقتصرنا على العلم الاجمالي فإنّه لا يكون إلاّمن قبيل ملاقي أحد طرفي الشبهة المحصورة ، فلا يحكم بنجاسته. وأمّا مسألة المغرب والعشاء بعد العلم بأنّه قد أتى بواحدة منهما ولا يعلمها بعينها ، فيكفي في استصحاب وجوب كلّ منهما ترتّب الاتيان بما جرى فيه الأصل بعنوان كونه واجباً لا بعنوان الاحتياط ، إذ لو بقينا نحن والعلم الاجمالي ببقاء وجوب إحداهما وإن كان مقتضاه هو الاتيان بهما ، إلاّ أنه إنّما يأتي بكلّ واحدة منهما حينئذ بعنوان احتمال الوجوب لا بعنوان كونها واجبة ، وحينئذ يترتّب الأثر العملي على استصحاب الوجوب في كلّ منهما ، وهو الاتيان بها بعنوان الوجوب الثابت بالاستصحاب.

نعم ، بناءً على عدم جريان الأُصول الاحرازية في مورد العلم الاجمالي بالخلاف في بعضها ، يحصل التعارض بين الاستصحابين ، أعني استصحاب النجاسة في كلّ من الاناءين أو استصحاب بقاء الوجوب في كلّ من الفريضتين ، وبعد التساقط نبقى نحن والعلم الاجمالي ، فلا يحكم بنجاسة الملاقي لأحد الاناءين ، ولا يمكن الاتيان بكلّ من الفريضتين بعنوان الوجوب. وهذا كلام وقع

٢٤٠