أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

وبناءً على هذا الوجه يكون الحديث شاملاً للأفراد والأجزاء ، ولا يحتاج في شموله للأجزاء إلى التسامح العرفي ، بل يكون الحديث جارياً حتّى لو بقي جزء واحد ، لكن الشأن كلّ الشأن في ظهور الحديث في إرادة هذا المعنى ، لامكان أن يكون المراد منه هو ورود الميسور والمعسور على شيء واحد يكون له ميسور ومعسور ، وذلك أنّه يكون ببعض مراتبه معسوراً وببعض مراتبه ميسوراً ، فالمرتبة الميسورة من ذلك الواجب لا تسقط بسقوط المرتبة المعسورة منه ، وحينئذ يختصّ مفاده بالمركّبات ، فيكون الاختلاف بين ميسور ذلك المركّب ومعسوره اختلافاً في المرتبة ، فإنّ الأمر بالمركّب له مرتبة عليا وهي الأمر بالكل ، وأنزل منها وهي الأمر بالبعض ، فإنّه مرتبة من الأمر المتعلّق بالكل ، فالأمر واحد وإنّما اختلفت مرتبة المأمور به.

وحينئذ يصحّ لنا أن نقول : إنّ ذلك الأمر الواحد أو إنّ ذلك المأمور به الواحد لا يسقط الميسور منه بالمعسور ، وهذا إنّما يكون إذا كان أحدهما بحسب النظر العرفي عين الآخر ، وأنّه لا اختلاف بينهما إلاّبحسب المرتبة القريبة الموجبة لكون المعسور عين الميسور ، بحيث يصدق عليه أنّه ميسور ذلك المركّب ، ولا تشمل القاعدة أفراد العام الانحلالي إلاّبعناية وحدة الأمر بالعام ، وكون البعض من أفراده مرتبة من مراتب ذلك الأمر بالعام ، أو مرتبة من ذلك العام المأمور به ، وهذه عناية بعيدة لا يركن إليها إلاّبدليل قوي ، وحينئذ يكون المتعيّن هو كون هذه الجملة الشريفة مسوقة لبيان أنّ المرتبة الميسورة من المأمور به لا تسقط بسقوط المرتبة المعسورة منه ، وينحصر ذلك بالمركّبات.

ولا يبعد ظهور الجملة في المعنى الأوّل لأنّه هو المنساق منها عرفاً ، وأمّا المعنى الثاني فهو محتاج إلى دقّة نظر ، على وجه لا يكون هو المنسبق إليه بالنسبة

٤٤١

إلى كافّة أهل اللسان ، بل يمكن أن يقال : إنّ هذه الجملة لم تكن مسوقة للتشريع أو لبيان حكم شرعي ، بل هي بالمواعظ وكلمات الحكمة أشبه منها بمقام التشريع.

وعلى كلّ حال ، لو قلنا إنّ المراد منها هو المعنى الثاني يكون الجامع هو الأمر بالمركّب في الجملة ، ويكون المتحصّل أنّه إذا كان لذلك الجامع مرتبة عليا ومرتبة ثانية هي أقلّ منها ، وكان الأمر في أوّل الوهلة متعلّقاً بالعليا ، تكون قاعدة الميسور موسعة لذلك الأمر ، وموجبة لتسريته إلى المرتبة الثانية عند تعذّر المرتبة الأُولى ، كما في الأمر بغسل الثوب مثلاً الغسل الموجب لنقاوته التامّة من الأوساخ ، فإذا تعذّر ذلك لم يسقط غسله بما هو أقلّ من ذلك ولو بالماء المجرّد ، لقوله عليه‌السلام : « لا يسقط الميسور بالمعسور » (١) وحينئذ تدخل فيه المركّبات التي تعذر بعض أجزائها باعتبار أنّ المرتبة الأُولى من ذلك المركّب هي المركّب التامّ ، والمرتبة الثانية هي الفاقد لبعض الأجزاء ، ولأجل ذلك لابدّ من كون الباقي ممّا يصدق عليه ذلك الجامع ، بحيث يعدّ أنّه ميسور له.

وهذا التقريب بعينه جارٍ في « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (٢) ، فإنّ الظاهر أنّ كلاً من « ما لا يدرك » وما « لا يترك » واردان على موضوع واحد يكون هو القدر الجامع ، فلابدّ في موردها من وجود القدر الجامع في البين ، ويكون ذا مرتبتين قد تعذّرت الأُولى منهما ولم يمكن إدراكها ، فلا يكون تعذّرها وعدم إدراكها موجباً لسقوطه بالمرّة بحيث إنّه يكون ذلك موجباً لتركه بكلّه ، فلابدّ أيضاً من كون الباقي ممّا يصدق عليه في ذلك الحال ذلك القدر الجامع ، وغاية ما استفدته من

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ / ٢٠٥ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ / ٢٠٧.

٤٤٢

شيخنا قدس‌سره في وجه ذلك في خصوص قاعدة « ما لا يدرك » ، هو أنّه يعتبر في صدقها أن يكون الباقي ممّا أدرك من المركّب ، وإذا كان على وجه يعدّ كونه مبايناً له لا يصدق عليه أنّه ممّا أُدرك من ذلك المركّب.

ولكنّ في النفس منه شيئاً ، وهو أنّ الشيء الواحد الذي هو نقطة المقابلة بين « ما لا يدرك » وما « لا يترك » ، غير نقطة المقابلة بين الميسور والمعسور ، فإنّ الشيء الواحد ولو باعتبار مراتبه قابل للانقسام إلى الميسور والمعسور ، وحينئذ صحّ لنا أن نقول : إنّ الميسور من ذلك الشيء لا يسقط بسقوط المعسور منه ، وهذا بخلاف مفاد « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » ، فإنّ نقطة المقابلة فيه هو المركّب ، ولا يلزم أن يكون ذلك المركّب صادقاً على كلّ واحد من الطرفين ، إذ ليس مفادها إلاّ أن ذلك المركّب إذا لم تدركه بتمامه لا تتركه بتمامه ، فيكون وزانه وزان أنّ المركّب إذا لم تقدر على تمام أجزائه لا يكون ذلك موجباً لسقوط باقي الأجزاء منه ، هذا.

ولكن التحقيق أنّ نقطة المقابلة بينهما واحدة وهي المركّب. نعم إنّ التقابل في « ما لا يدرك » إنّما هو بين الكل والبعض ، فإنّ محصّله هو أنّ عدم إدراك الكل بتمامه لا يوجب ترك الكل بتمامه ، بحيث تترك جميع أجزائه حتّى الأجزاء المدركة. وحاصل ذلك أنّ عدم التمكّن من الموجبة الكلّية لا يسوّغ السالبة الكلّية ، بل تكون السالبة الكلّية ممنوعاً عنها بمقتضى قوله : « لا يترك كلّه » ، وإذا كانت السالبة الكلّية ممنوعاً عنها ، كان محصّل ذلك هو الأمر بالموجبة الجزئية ، فكأنّه قال : لا تتركه كلّه بل ائت ببعضه الذي تدركه وتقدر عليه. فيكون محصّله هو المقابلة بين الكل والبعض ، وهو صادق على ما إذا كان الذي يدركه بعضاً من الكل أيّ بعض كان ، بخلاف قاعدة الميسور فإنّ المقابلة فيها بين الميسور

٤٤٣

والمعسور من الشيء الواحد ، فلابدّ في الميسور من كونه مصداقاً لكونه ميسوراً من ذلك الشيء.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ قوله « كلّه » في الفقرتين ، وإن كان هو النائب عن الفاعل لا تأكيداً لضمير مستتر في « لا يدرك » و « لا يترك » إلاّ أنه يستفاد منه عرفاً أنّه بمنزلة التأكيد ، فكأنّه قال : الشيء الذي لا يكون هو مدركاً كلّه لا يكون هو متروكاً كلّه.

وبعبارة أُخرى : أنّ الشيء الذي كان الموصول كناية عنه يكون محفوظاً في المقامين ، بمعنى أنّ الشيء الذي لم يمكن أن يدرك بتمامه لا وجه لتركه بتمامه ، فموضوع الحكم بعدم الترك هو ذلك الشيء ، فلابدّ من حفظه ، فتأمّل.

والإنصاف : أنّ العرف يساعد على هذه الجهة التي أفادها قدس‌سره ، لكن لا على نحو التضييق في قاعدة الميسور ، بل الأمر في قاعدة « ما لا يدرك » أوسع في الجملة من ذلك ، وإن لم تكن تلك التوسعة بحدّ توجب شمولها لما إذا لم يبق إلاّ الجزء الضعيف الضئيل.

قوله : والمراد من عدم سقوط الميسور عدم سقوطه بما له من الحكم الوجوبي أو الاستحبابي ـ إلى قوله ـ عن عموم القاعدة ... الخ (١).

هذا إشكال راجع إلى أنّ القاعدة إمّا أن تكون مختصّة بالواجبات ، ولا يمكن القول به ، وإمّا أن تكون شاملة للمستحبّات فلابدّ أن يكون مفادها الجامع ، فلا تدلّ حينئذ على وجوب الباقي في الواجبات. وتفصيل ذلك : هو أنّ « لا يسقط » قد سلّط على نفس الميسور ، فلابدّ أن يكون نفي سقوطه كناية عن طلبه ، فإن كان طلب الباقي وجوبياً اختصّت القاعدة بالواجبات ولم تشمل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٥.

٤٤٤

المستحبّات ، وإن كان المراد بطلب الباقي المكنّى عنه بعدم السقوط هو مطلق الطلب ، شملت المستحبّات ، ولكن لا تدلّ في الواجبات على أزيد من أنّ الباقي مطلوب في الجملة ، فلا تكون دالّة على وجوبه.

والجواب عنه : أنّ عدم السقوط لم ينسب إلى نفس الميسور ، كي نضطرّ إلى صرف التعبّد الشرعي إلى نفس ذلك العدم ونجعله كناية عن طلب الباقي ، بل إنّ عدم السقوط منسوب إلى الباقي باعتبار حكمه ، فيكون ذلك ـ أعني عدم سقوط الحكم ـ هو مركز التعبّد ، لأنّه عبارة عن الحكم ببقاء حكم الميسور ، سواء كان ذلك الحكم وجوبياً أو كان استحبابياً ، فتكون القضية شاملة للواجبات والمستحبّات ، وتكون دالّة على بقاء وجوب الباقي في الواجبات ، وعلى بقاء استحباب الباقي في المستحبّات.

ولا يخفى أنّ نسبة عدم السقوط إلى الميسور باعتبار حكمه لا يتعيّن فيها سلوك طريقة مجاز الحذف ، بأن نقول بتقدير الحكم مضافاً إلى الميسور ، ونقول إنّ المراد لا يسقط حكم الميسور ، بل يمكننا الأخذ بها من دون تقدير على نحو المجاز أو الاستعارة ، وأنّ نسبة عدم السقوط إلى الميسور إنّما هي بلحاظ حكمه نظير نفي الضرر لو جعلناه بمعنى الفعل الضرري ، فإنّ نفيه حينئذ يكون كناية عن نفي حكمه ، وهذا ما يقوله صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّه نفي للحكم بلسان نفي الموضوع.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره في المقام ، فإنّه قدس‌سره أوّلاً ذكر الإشكال وأجاب عنه بما يرجع إلى أنّ نسبة عدم السقوط إلى الميسور باعتبار حكمه ، فيكون كناية عن عدم سقوط حكمه ، ثمّ قال : لا أنّها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقائه على عهدة المكلّف كي لا يكون له دلالة على

٤٤٥

جريان القاعدة في المستحبّات على وجه ( وهو ما لو جعلناه كناية عن طلب الباقي وجوباً ) أو لا يكون له دلالة على وجوب الميسور في الواجبات على آخر ( وهو ما لو جعلناه كناية عن طلب الباقي بمطلق الطلب ) فافهم (١).

فإنّ الترديد بين هذين الوجهين إنّما يكون لو جعلنا مركز التعبّد في نفي سقوط الميسور هو طلب الميسور ، بأن يكون نفي سقوطه كناية عن طلبه ، وأمّا لو جعلناه كناية عن بقائه على عهدة المكلّف ، كان مركز التعبّد هو بقاء حكمه كما قرّرناه في دفع الإشكال.

وبالجملة : أنّ قوله : وبقائه على عهدة المكلّف ، لا موقع لها في تقرير هذا الإشكال ، بل تكون هي جواباً عنه ، هذا. مضافاً إلى أنّ البقاء على العهدة مختصّ بالواجبات ، ولعلّ قوله : فافهم ، إشارة إلى هاتين الجهتين.

قوله : وأمّا قوله عليه‌السلام : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (٢) فلا يبعد أيضاً أن يكون المراد من الموصول الأعمّ من الكل والكلّي ... الخ (٣).

لم يتعرّض لشبهة الشمول للمستحبّات ، مع أنّ جريانها في هذا الحديث أقوى من جريانها في حديث الميسور ، حيث إنّ نفس « لا يترك » حكم شرعي بعدم جواز الترك الذي هو عبارة عن وجوب الفعل ، فلا تشمل [ إلاّ ] الواجبات ، سواء كانت لفظة « لا » في قوله : « لا يترك » نافية أو ناهية ، وقد تعرّض في الكفاية (٤) لهذه الشبهة وسجّلها ولم يجب عنها بما أُجيب به عن الشبهة في حديث

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٧١ ـ ٣٧٢.

(٢) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ / ٢٠٧.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٥.

(٤) كفاية الأُصول : ٣٧٢.

٤٤٦

الميسور ، فراجع.

نعم ، في تحرير السيّد سلّمه الله أشار إلى الجواب عنها بنحو الجواب عن الشبهة في حديث الميسور فقال : وأمّا الرواية الثانية فظهورها في عدم سقوط الممكن من الكل بما له من الحكم الاستحبابي أو الوجوبي بتعذّر بعضه في غاية القوّة (١).

ولا يخفى أنّ هذا إنّما يتمّ في حديث الميسور بما عرفت من جعل عدم سقوطه كناية عن عدم سقوط حكمه ، والظاهر أنّه لا يتأتّى في هذا الحديث المقصور على المنع عن الترك والنهي عنه الذي هو عبارة عن وجوب الباقي ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا النهي إرشاد إلى بقاء الحكم ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : بل ربما يقال بظهوره في خصوص الكل المركّب من الأجزاء ولا يشمل الكلّي ، ولكنّه ضعيف ، فإنّه لا موجب لاختصاص الموصول بالكل ، بل يعمّ الكلّي أيضاً ... الخ (٢).

لم يتّضح المراد من الكلّي ، فإن كان هو الكلّي المجموعي كان راجعاً إلى المركّب ، لكون التكليف حينئذ واحداً ، وكأنّه لأجل ذلك قال في الكفاية : وأمّا الثالث فبعد تسليم ظهور كون الكل في المجموعي لا الأفرادي الخ (٣) ، وإن كان المراد بالكلّي الانحلالي ، فلا يخفى أنّه خلاف ظاهر قوله : « كلّه » ، فإنّها ظاهرة في المركّب ، ويلحق به الكلّي المجموعي.

لكن عبارة السيّد سلّمه الله ظاهرة في المعنى الأوّل ، فإنّه قال : واحتمال

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٣٦.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٣) كفاية الأُصول : ٣٧٢.

٤٤٧

اختصاصها بموارد العام المجموعي حتّى يكون مفادها عدم سقوط الأفراد الممكنة بتعذّر غيرها في غاية البعد ، بل شمولها لها إنّما هو باعتبار تعلّق الحكم بالمركّب أيضاً ، فإنّ المفروض أنّ متعلّق الحكم فيها هو المجموع المركّب من الأفراد المتعدّدة (١).

والحاصل : أنّه لا يبعد أن تكون هذه العبائر تعريضاً بما في الكفاية ، لكن قد عرفت أنّ عبارته لم تكن بصدد المقابلة بين المركّب والعام المجموعي ، وإنّما كانت بصدد المقابلة بين العام المجموعي والعام الأفرادي ، ودعوى أنّ حديث « لا يترك » محتمل الاختصاص بالعام الأفرادي ، وحينئذ يتعيّن الجواب عن مطلب الكفاية بما عرفت من أنّ العام الأفرادي خلاف ظاهر لفظ « كلّه » ، فلا يدخل في عموم الحديث فضلاً عن كونه هو المراد ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وقيل إنّه يأخذ من بلل سائر الأعضاء أو من ماء آخر ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ فرض الكلام إنّما هو في صورة كون المكلّف غير متمكّن من المسح ببلّة الوضوء لحرّ ونحوه ، ففرض الأخذ من بلل سائر الأعضاء خارج عمّا هو محلّ الكلام ، فإنّ ذلك ـ أعني جواز الأخذ من بلل سائر الأعضاء عند الجفاف ـ ممّا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال فيما إذا لم توجد البلّة على سائر الأعضاء وكان الهواء حارّاً مثلاً ، على وجه لا يمكن أن تبقى بلّة الوضوء على يده ولا على سائر أعضائه ، فهل يسقط أصل المسح ولا يجب عليه إلاّ الغسلتان ، أو أنّ الساقط هو المسح بالبلّة ، فلا يلزمه إلاّ المسح بيده ولو مع جفافها ، أو أنّ الساقط هو كون البلّة بلّة

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٣٦.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٧.

٤٤٨

وضوء ، فيأخذ من ماء جديد ، أو أنّه لا يشرع له الوضوء في هذه الصورة وينتقل إلى التيمّم. والمنشأ في هذه الوجوه أو الأقوال هو جريان قاعدة الميسور وتعيين مجراها ، أو أنّها لا تجري أصلاً ، فيلزمه الانتقال إلى التيمّم.

والحاصل : أنّ الواجب أوّلاً هو أصل المسح ، وأن يكون بالبلّة ، وأن تكون البلّة بلّة وضوء ، وحيث قد تعذّر الأخير وجب الانتقال إلى ما قبله ، وهو المسح بالبلّة ولو من ماء آخر إن صدق عليه أنّه ميسور المسح ببلّة الوضوء ، وإلاّ وجب الانتقال إلى ما قبله وهو المسح بدون بلّة إن صدق عليه أنّه ميسور المسح ببلّة الوضوء ، وإلاّ وجب الانتقال إلى ما قبله وهو الوضوء بدون مسح إن صدق عليه أنّه ميسور الوضوء ، وإلاّ انتقل إلى التيمّم لأنّه على هذا التقدير غير متمكّن من الوضوء. ولا يبعد الأوّل ، أعني لزوم المسح بماء جديد والاكتفاء به ، وهو مغنٍ عن الاحتياط فيما قبله ، أعني المسح بدون بلّة ، إذ يبعد أن يكون جلب بلّة جديدة من ماء آخر مضرّاً بالمسح على تقدير القول بلزوم المسح وسقوط كونه بالبلّة.

ومن ذلك يظهر أنّه لو أراد الاحتياط مسح بالماء الجديد ثمّ تيمّم ، من دون حاجة إلى تكرار المسح مرّة بيده الجافّة وأُخرى بماء جديد ، ولعلّ ما في العروة ـ ونحوه في الوسيلة (١) ـ من قوله : والأحوط المسح باليد اليابسة ثمّ بالماء الجديد ثمّ التيمّم أيضاً (٢) ، وكتب عليه شيخنا قدس‌سره : هذا الاحتياط لا يترك (٣) ، ناظر إلى

__________________

(١) وسيلة النجاة : ٣ / المبحث الثالث من مباحث الوضوء.

(٢ و ٣) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٣٨٩ مسألة ٣١ / فصل : في أفعال الوضوء.

٤٤٩

احتمال كون المسح بالماء الجديد مضرّاً على القول بأنّ الساقط هو المسح بالبلّة ، فتأمّل.

لكنّه قدس‌سره قال فيما حرّرته عنه : ففي مورد التمكّن من المسح بماء جديد وجهان ، وجوب المسح بالماء الجديد ، وهو مبني على عدم ركنية ماء الوضوء ، وسقوط الوضوء والانتقال إلى التيمّم ، وهو مبني على ركنيته ، ولضعف الوجه الثاني قولاً ودليلاً يكون الأوّل هو الأقوى ، ولكن لوجود هذا القول ـ أعني القول بالوجه الثاني ـ ذكرنا في رسائلنا العملية : أنّ الأحوط هو الجمع وإن كان الاحتياط ضعيفاً ، إلاّ أنا ذكرناه تبعاً لجملة من الفقهاء ، انتهى.

نعم ، لو لم يكن له ماء جديد ، يكون الاحتياط بالجمع بين المسح باليد المجرّدة والتيمّم ، كما أفاده فيما حرّرته عنه قبل هذه العبارة فراجع (١) ، ومع ذلك فلا يبعد أن يكون نظر المحتاطين بالجمع بين الثلاثة ـ كما في النجاة (٢) والعروة ـ إلى ما ربما يستفاد من المنع عن الأخذ بماء جديد من كونه مبطلاً للوضوء ، ولعلّه لأجله قال العلاّمة قدس‌سره فيما حكاه عنه في الجواهر عن تحريره : ولو جفّ ماء الوضوء لحرارة الهواء المفرطة جاز البناء ، ولا يجوز استئناف ماء جديد للمسح. ونحوه ما عن النهاية (٣).

قال العلاّمة قدس‌سره في التحرير في ذيل مسألة الموالاة : ولو جفّ ماء الوضوء

__________________

(١) مخطوط لم يطبع بعدُ.

(٢) قال في النجاة : ولو فرض عدم إمكان حفظ نداوة الوضوء لشدّة حرّ أو غيره مسح بدونها ، والأحوط المسح بعد ذلك بماء جديد ثمّ التيمّم [ منه قدس‌سره ، راجع نجاة العباد : ٣٦ / الأوّل من مباحث الوضوء ].

(٣) جواهر الكلام ٢ : ١٩٤ ، نهاية الإحكام ١ : ٤٩.

٤٥٠

لحرارة الهواء المفرطة جاز البناء ، ومع إفراط حرارته يغسل متوالياً بحيث لو اعتدل لم يحكم بجفاف السابق حينئذ ، ولا يجوز استئناف ماء جديد للمسح (١).

وهذه العبارة وإن لم تكن صريحة في المنع عن الماء الجديد في خصوص هذه الصورة ، لاحتمال كونها بياناً لحكم مستقل ، إلاّ أن عبارته في المنتهى صريحة في ذلك ، فإنّه قال : الرابع : لو جفّ ماء الوضوء لحرارة الهواء المفرطة ، جاز البناء دون استئناف ماء جديد للمسح ، لحصول الضرورة المبيحة للترخّص (٢) وليس مراده بقوله : دون استئناف ماء جديد ، مجرّد نفي الوجوب ، بل المراد به نفي الجواز ، لكونه في مقابل قوله : جاز البناء ، بل هو قيد له ، بمعنى أنّه يجوز له البناء مقيّداً بعدم استئناف ماء جديد. ولكن نقل في مفتاح الكرامة عن بعض النسخ لفظ « الواو » مكان لفظة « دون » (٣).

قال السيّد ( سلّمه الله تعالى ) في تحريره عن شيخنا قدس‌سره : ومن هنا يظهر دلالة الرواية الثالثة أيضاً ، فإنّ الظاهر منها أنّ الميسور من الشيء لا يسقط بما له من الحكم وجوبياً أو استحبابياً بتعسّر غيره ، فيدلّ على وجوب الباقي ، بل الظاهر منها الشمول للواجب البسيط أيضاً إذا كان له مراتب ، وأنّ تعسّر المرتبة العالية منه لا يوجب سقوط غيرها من المراتب التي تعدّ ميسورة منه (٤).

إنّ اختلاف المراتب لا يتأتّى في الواجب البسيط ، بل لابدّ من أن يكون في

__________________

(١) تحرير الأحكام ١ : ٨٢.

(٢) منتهى المطلب ٢ : ١١٧.

(٣) مفتاح الكرامة ١ : ٤٤٠.

(٤) أجود التقريرات ٣ : ٥٣٦.

٤٥١

البين تركيب ولو من القيود والشروط كي يكون الفاقد لبعض تلك القيود مرتبة ثانية لما هو الواجد لتمام القيود ، وقد مثّل لمثل ذلك في تحرير الشيخ رحمه‌الله بالقيام ، فقال : فإنّ القيام مثلاً الذي أخذ جزءاً للصلاة له معنى عرفي ، وهي الهيئة المقابلة لهيئة الجلوس والمشي والاضطراب الفاحش ، وله خصوصيات أُخر اعتبره الشارع فيه ، من الاستقرار والاعتماد على الأرض والانتصاب وغير ذلك ، فلو تعذّر الاعتماد على الأرض أو الاستقرار يصدق على الباقي المتمكّن منه أنّه ميسور المتعذّر الخ (١) ولعلّ ذلك هو المراد لتحرير السيّد ( سلّمه الله تعالى ) من الواجب البسيط إذا كان له مراتب ، لكنّك قد عرفت أنّ هذا حينئذ ليس من الواجب البسيط.

قوله : وأمّا الموضوعات الشرعية فتشخيص الركن عن غيره والميسور عن المباين في غاية الإشكال ، فإنّ كون الركعتين أو الثلاث ميسور الأربع ... الخ (٢).

لم يتّضح الوجه في هذا التفصيل وما هو المراد من الموضوعات الشرعية ، فإن كان المراد عدم الاطّلاع على الملاك في مثل عدد الركعات وفي مثل المسح في الوضوء ، فذلك حاصل في مثل القيام ، وأنّ الاعتماد والاستقرار هل يكونان من قبيل الركن بحيث يكون الملاك متوقّفاً عليهما أو لا.

والإنصاف : أنّ باب الملاك شيء وباب المأمور به شيء آخر ، ونحن في مقام التعذّر وصدق الميسور تابعون لصورة المأمور به ، وعن حكم العرف بأنّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٧.

٤٥٢

هذا ميسور ذاك نستكشف الملاك ، وعلى الشارع التقييد والإخراج فيما لو عدّه العرف ميسوراً وكان في الواقع غير وافٍ بالملاك ، كما أنّ عليه الحكم بالإدخال فيما تخيّله العرف أنّه ليس بميسور وكان في الواقع وافياً بالملاك ، ولعلّ هذا هو المراد من التخطئة في عبارة الكفاية (١) فراجعها.

قوله : ثمّ إنّه لا فرق في القاعدة بين الأجزاء والشرائط ... الخ (٢).

قد يقال بالفرق بناءً على أنّ المراد من الميسور والمعسور هي الأجزاء والأفراد ، بدعوى أنّ ذلك إنّما يكون في الأجزاء لكون كلّ جزء واجباً في ضمن الكل ، بخلاف الشرائط فإنّها لا تجب ضمنياً ، فتأمّل.

قوله : وأمّا التمسّك بالاستصحاب على وجوبه ... الخ (٣).

الأولى إيكال الكلام على الاستصحاب المذكور إلى محلّه من تنبيهات الاستصحاب (٤) ، فإنّه سيأتي إن شاء الله تعالى بيان أنّ المستصحب ليس هو الوجوب الوارد على المجموع حتّى يحتاج إلى تكلّف هذه المسامحات ، من كون القيد من قبيل العنوان أو أنّه من قبيل العلّة المحدثة أو العلّة المبقية ونحو ذلك ، بل إنّ المستصحب هو نفس الوجوب الذي كان وارداً على الباقي في ضمن تعلّقه بالكل. نعم يأتي أيضاً إن شاء الله الكلام على أنّه هل يعتبر أن لا يكون الجزء المفقود ممّا له الدخل في قوام المركّب ، أو أنّه لا يعتبر فيه ذلك. وعلى كلّ حال

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٧٢.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٨.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٨.

(٤) راجع فوائد الأُصول ٤ : ٥٥٦ وما بعدها ، وحواشي المصنّف قدس‌سره على ذلك تأتي في المجلّد العاشر من هذا الكتاب في الصفحة : ٤٤٢ وما بعدها.

٤٥٣

فإنّ هذا الأمر على تقدير اعتباره لا ربط له في التسامح في القيد ، وأنّه بحسب النظر العرفي ليس من قبيل العنوان.

قوله : وإجماله أنّ الوصف العنواني الذي أُخذ موضوعاً في ظاهر الدليل ـ إلى قوله ـ وأُخرى يكون معرّفاً ... الخ (١).

وذلك كما لو قال : أكرم هؤلاء الذين في المسجد ، فإنّ هذا العنوان معرّف على وجه لو خرجوا من المسجد لكان إكرامهم واجباً أيضاً ، ولكن هذه المسامحة لا دخل لها بما نحن فيه ، كما أنّ كون العنوان علّة أو كونه موضوعاً لا دخل له فيما نحن فيه ، بل إنّ المسامحة فيما نحن فيه من طريق آخر نظير مسألة كرّية الماء ، فالمستصحب هو الوجوب الوارد على الكل ، وذهاب بعض الأجزاء كذهاب بعض أجزاء الماء الذي كان مجموعه كرّاً في صحّة التسامح ، وإطلاق القول بأنّ هذا المركّب كان واجباً كاطلاق القول بأنّ هذا الماء كان كرّاً ، هذا أحد تقريبات إجراء الاستصحاب ، وله تقريبات أُخر ذكرت في التنبيه الثالث عشر من تنبيهات الاستصحاب (٢) ، منها : استصحاب وجوب الأجزاء المتيسّرة حينما كانت في ضمن الكل ، بالتسامح بين الوجوب الضمني الذي كان لها في ضمن الجميع والوجوب النفسي لها حينما تعذّر بعض ذلك الجميع ، بدعوى كون النظر العرفي هو وحدة الوجوب ، إلى غير ذلك من التوجيهات المبنية على تسامح عرفي خارج عن التسامح في كون العنوان معرّفاً ، أو كونه علّة وواسطة ومن الجهات التعليلية ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٩.

(٢) راجع الهامش (٤) المتقدّم في الصفحة السابقة.

٤٥٤

قوله : إذ إطلاق دليل القيد لا يقتضي أزيد من ثبوت القيد حتّى عند العجز عنه ، وهذا لا ينافي قيام دليل آخر على وجوب الخالي عن القيد عند تعذّره ... الخ (١).

لا يبعد أن يكون هذا مبنيّاً على ما تقدّمت الاشارة إليه (٢) في ملحق حاشية ص ٨٦ من أنّه عند إطلاق دليل التقييد بكلا صورتيه وإن كان الاطلاق نافياً لبقاء الوجوب عند تعذّر القيد ، إلاّ أنه لا مانع من حدوث ملاك آخر عند تعذّر القيد يكون موجباً لايجاب الباقي ، وأنّه عند الوصول إلى هذا الاحتمال يكون المرجع هو البراءة ، لكن لو قام دليل على ذلك الوجوب الجديد لم يكن معارضاً ومنافياً لما يقتضيه إطلاق التقييد من انتفاء أصل الحكم الوارد على الكل لانتفاء صلاحه ، فإنّ وجود المصلحة الجديدة الباعثة على الوجوب الجديد لا ينافيها ذلك الاطلاق ، إلاّ أن الشأن كلّ الشأن في وجود ما يدلّ على الوجوب الجديد ، وقاعدة الميسور لا تدلّ على وجوب جديد ، بل أقصى ما فيها هو بقاء الوجوب السابق بنحو من التسامح ، فهي إنّما تجري فيما إذا لم يكن في البين إطلاق التقييد ، بل كان دليل التقييد مجملاً من هذه الجهة لتكون قاعدة الميسور كاشفة عن تقييد القيدية الملازم لعدم الركنية ، أمّا مع إطلاق القيدية الكاشف عن كون القيد ركناً فلا مورد فيه لقاعدة الميسور ، كما أنّها لا تجري فيما لو كان لأصل الوجوب إطلاق مع فرض عدم الاطلاق في دليل التقييد ، لأنّ إطلاق أصل الوجوب دليل على بقائه عند تعذّر ما تعذّر من الأجزاء أو الشرائط.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٩.

(٢) في هامش الصفحة : ٤٢٣.

٤٥٥

والخلاصة : هي أنّه لو كان في البين إطلاق لدليل التقييد كان هو المرجع وكان مقتضاه سقوط الباقي عند تعذّر القيد كما في مثل « لا صلاة إلاّبطهور » (١) ومعه لا وجه للرجوع إلى قاعدة [ الميسور ] ، لثبوت أنّ الفاقد ليس بصلاة ، فكيف يكون ميسوراً. نعم ، يمكن أن يقوم دليل خاصّ على وجوب الباقي ، وذلك مطلب آخر غير قاعدة الميسور. ولو لم يكن في البين إطلاق لدليل التقييد وكان هناك إطلاق لدليل الأمر كان هو المرجع لا قاعدة الميسور ولا غيرها.

ثمّ بعد عدم تحقّق الاطلاق من الطرفين يكون المرجع هو القواعد مثل قاعدة الميسور بعد فرض تحقّق التسامح ، وأنّه يصدق على الباقي أنّه الميسور من الواجب المركّب ، ومعها لا وجه للرجوع إلى الاستصحاب ، بل تكون هي حاكمة عليه. نعم مع قطع النظر عنها يكون المرجع هو الاستصحاب بنفس التسامح الذي صحّحنا به قاعدة الميسور ، بأن يقال : إنّ الصلاة كانت واجبة والآن بعد تعذّر الجزء الفلاني تبقى على وجوبها ، والتسامح في جعل الفاقد عين الواجد ، فيقال إنّه كان واجباً والآن كما كان ، وبعد فرض عدم تمامية هذا التسامح يكون المستصحب هو الوجوب الوارد على الأربعة الذي كان في ضمن الخمسة ، فإنّه إن كان الخامس ركناً كان ذلك الوجوب ممّا لا يبقى ، وإن لم يكن ركناً كان ممّا يبقى ، فيكون استصحابه من قبيل استصحاب الفرد المردّد بين مقطوع الارتفاع ومقطوع البقاء كالبقّة والفيل. ثمّ بعد فرض كونه ممّا لا يبقى لكن احتملنا قيام وجوب آخر مقامه عند ارتفاعه ، فيكون من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، وبعد طي هذه المراحل يكون المرجع هو البراءة من وجوب الباقي أو

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١.

٤٥٦

أصالة الاشتغال.

قوله : إذا دار الأمر بين سقوط الجزء أو الشرط ، بأن تعذّر جمعهما في الامتثال ... الخ (١).

التفصيل في هذا المقام هو أن يقال : إنّهما إن كانا على نحو الركنية فلا شبهة في سقوط الواجب ، وإن كان أحدهما ركناً والآخر غير ركن تعيّن للسقوط ما هو غير الركن ، وإن كان كلّ منهما غير ركن ، فإن كان الشرط شرطاً لنفس الجزء المذكور فقط تعيّن سقوط الشرط ، لدوران الأمر بين سقوطه وحده أو سقوطه مع مشروطه وهو الجزء ، ولا ريب أنّ الأوّل أولى ، لجريان قاعدة الميسور في نفس الجزء ، وفي الحقيقة ليس هذا من الدوران بين الجزء والشرط ، بل هو من قبيل تعذّر شرط الجزء. نعم لو أمكن إيجاد كلّ من الجزء وشرطه بدون الآخر ولم يمكن الجمع بينهما ، كان من قبيل الدوران بين الجزء أو شرطه ، لكنّه فرض محال ، إذ لا يمكن الاتيان بشرط الجزء بدون الجزء.

وإن كان الشرط شرطاً لتمام المركّب ، فإن كان الشرط مستمراً من أوّل العمل إلى آخره ، وكان محلّ الجزء في أثناء العمل ، تعيّن ترك الجزء إن كان الفرض على وجه لو أخذ بالشرط من أوّل العمل تعذّر عليه عند الوصول إلى محلّ الجزء العدول عن الشرط والاتيان بالجزء مجرّداً ، لأنّ وجوب الشرط في ظرفه على هذا الفرض يكون بلا مزاحم. وإن كان الفرض على وجه لو وصل إلى محلّ الجزء يتمكّن من العدول عن الشرط والاتيان بذلك الجزء مجرّداً عن الشرط ، فإن كان على وجه لو أتى بالجزء المجرّد يتمكّن من تحصيل الشرط في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٠.

٤٥٧

باقي الأجزاء ، كان في الحقيقة من قبيل الدوران بين الجزء وشرطه ، وإن كان لو أتى بالجزء مجرّداً لا يتمكّن من تحصيل الشرط لباقي الأجزاء اللاحقة ، كان الحكم فيه هو الحكم في الفرض الآتي ، وهو ما لو كان الجزء في أوّل العمل وكان الشرط شرطاً لتمام العمل ، ودار الأمر بين ترك الجزء والاتيان ببقية الأجزاء واجدة لشرطها وبين الاتيان بذلك الجزء وترك الشرط في تمام العمل حتّى ذلك الجزء ، فبالنسبة إلى ذلك الجزء يدور الأمر بين تركه وشرطه أو ترك شرطه فقط ، وقد تقدّم تعيّن الثاني ، وحينئذ يتعيّن سقوط الشرط في باقي الأجزاء ، لكنّه مشكل ، لأنّه من الدوران بين المحافظة على الجزء وإسقاط شرطه وشرط الجميع ، والمحافظة على شرط الجميع وإسقاط الجزء هو وشرطه ، فلا وجه لتقدّم الجزء على شرط الجميع.

نعم ، لو كان الشرط ركناً في ذلك الجزء وإن لم يكن ركناً في تمام ذلك العمل ، ففي هذه الصورة يتعيّن ترك الجزء والاتيان بباقي الأجزاء واجدة لشرطها ، وكذا لو لم يكن ركناً في ذلك الجزء لكن كان ركناً في أحد الأجزاء اللاحقة ، وكان ذلك الجزء ركناً في أصل العمل ، فإنّه حينئذ يكون الشرط ركناً في أصل العمل وقد تقدّم حكمه.

وإن كان الشرط شرطاً لتمام العمل ولكن لم يكن مستمرّاً من أوّل العمل إلى آخره ، بل كان محلّه مقارناً لبعض الأجزاء ، فإن كان محلّه عند فعل ذلك الجزء تعيّن ترك الشرط ، وإن كان محلّه متقدّماً على ذلك الجزء أو متأخّراً عنه ، تعيّن ترك المتأخّر منهما ، وكذا إن لم يكن الشرط شرطاً لنفس ذلك الجزء بل كان شرطاً لما قبله أو لما بعده ، فإنّه إن كان محلّه متقدّماً على الجزء المذكور أو متأخّراً

٤٥٨

عنه ، تعيّن تقديم ما هو المتقدّم منهما ، وإن كان محلّه مقارناً لمحلّ نفس ذلك الجزء ، وكان ذلك الشرط ممّا يمكن بقاؤه عند ترك ذلك الجزء ، كان من دوران الأمر بين ترك الجزء أو ترك الشرط ، ولعلّ كلام الشيخ قدس‌سره في الرسائل (١) منحصر في هذه الصورة ، فراجع وتأمّل.

قوله : الفرع الثاني : إذا كان للمركّب بدل اضطراري كالوضوء ... الخ (٢).

الذي حرّرته عن شيخنا قدس‌سره في هذا المقام هذا نصّه : والذي ينبغي أن يقال هو أنّ الفعل الاضطراري لو دلّ الدليل على بدليته ولو بقاعدة الميسور كان مقدّماً على التيمّم ، إلاّ أنه لم يثبت ذلك في باب الوضوء إلاّفي مورد الجبيرة لأخبار الجبيرة ، ولا يمكن التعدّي عنها إلى غيرها ، وإن كانت رواية عبد الأعلى متضمّنة لقوله عليه‌السلام : « إنّ هذا وشبهه يعرف من كتاب الله ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(٣)(٤) إلاّ أنه لمّا كان لفظ « الشبه » مجملاً لم يمكن التعدّي عنه إلى غير مورد الجبيرة حتّى في الرمد والجرح المكشوف ، وحتّى في الحاجب الذي لا يمكن إزالته لضيق الوقت كالقير ونحوه ، بل حتّى ما جاور الجبيرة ممّا لا يمكن وضع الماء عليه إن اتّفق ذلك ، والمسألة في غاية الإشكال ، ومحلّ الكلام عليها في الفقه.

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٣٩٨.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦١.

(٣) الحجّ ٢٢ : ٧٨.

(٤) وسائل الشيعة ١ : ٤٦٤ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٥ ( مع اختلاف يسير ).

٤٥٩

قوله : بقي من أقسام الشكّ في المكلّف به ما إذا اشتبه الواجب بالحرام ، كما إذا علم بوجوب أحد الشيئين وحرمة الآخر واشتبه الواجب بالحرام ... الخ (١).

الظاهر أنّ دوران الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر مع اشتباههما تارةً يكون لأجل العلم بتوجّه الخطابين واشتبه المطلوب تركه بالمطلوب فعله ، إمّا من جهة الشبهة الموضوعية كما لو اشتبه المرتدّ الفطري بالمؤمن ، وكما لو اشتبهت الزوجة المحلوف على وطئها بالأجنبية ، أو بالزوجة المحلوف على ترك وطئها ، وإمّا من جهة الاشتباه في الحكم ، كما لو ورد أمر ونهي وتردّد الأمر في أنّ متعلّق الأوّل هو الفعل الفلاني ومتعلّق الثاني هو الفعل الآخر ، أو أنّ الأمر بالعكس.

وأُخرى يكون دوران الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، لأجل العلم بخطاب واحد مردّد بين الأمر والنهي مع التردّد في متعلّق ذلك الخطاب بين المتباينين ، يعني أنّ ذلك التكليف الذي هو المردّد بين الأمر والنهي هل هو متعلّق بهذا الفعل ، أو أنّه متعلّق بذلك الفعل الآخر ، إمّا على نحو الشبهة الحكمية أو على نحو الشبهة الموضوعية. وعلى أي حال ، فيكون الأمر في كلّ واحد من المشتبهين من قبيل الدوران بين المحذورين ، ومقتضاه التخيير العقلي في كلّ واحد من ذينك المشتبهين ، وفي إدراجه فيما ذكرناه من دوران الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر مع اشتباههما تسامح ، فإنّه من دوران الأمر بين الايجاب والتحريم في كلّ منهما.

وعلى كلّ حال ، ففي النحو الأوّل أعني ما لو كان هناك تكليفان أمر ونهي ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٣.

٤٦٠