أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

وحصل التردّد في المتعلّق لتردّده بين المتباينين شبهة حكمية أو موضوعية ، لا يمكن التخيير إلاّبين فعل أحدهما وترك الآخر ، دون التخيير بين تركهما معاً أو فعلهما معاً ، لأنّ ذلك مستلزم للمخالفة القطعية ، بخلاف النحو الثاني وهو ما لم يكن في البين إلاّتكليف واحد مردّد في نفسه بين الايجاب والتحريم ، واتّفق الاشتباه في متعلّقه بأن تردّد بين المتباينين ، إمّا على نحو الشبهة الحكمية أو على نحو الشبهة الموضوعية ، فإنّه كما يجوز التخيير فيه بين فعل أحدهما وترك الآخر يجوز التخيير فيه بين فعلهما معاً وتركهما معاً ، فيكون فيه المكلّف مخيّراً بين الجهات الأربع : فعلهما معاً ، وتركهما معاً ، وفعل الأوّل وترك الثاني ، وبالعكس.

قوله : هذا ، ولكن الحكم بالتخيير بقول مطلق لا يخلو من إشكال ، بل ينبغي ملاحظة مرجّحات باب التزاحم ، فيقدّم الموافقة القطعية للأهمّ منهما وإن استلزم ذلك المخالفة القطعية للآخر ... الخ (١).

هذا ما أفاده شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في الدورات السابقة ، ولكنّه قدس‌سره في الدورة الأخيرة يظهر منه المنع من تقديم الأهمّ ، بدعوى كون ذلك خارجاً عن باب التزاحم ، لأنّ ذلك إنّما هو في التكليف الواصل ، ليكون شاغليته للمكلّف تعجيزاً مولوياً عن الآخر ، دون مثل هذه المسائل ، من دون فرق في ذلك بين هذه المسألة ومسألة دوران الأمر بين المحذورين في الفعل الواحد ، فإنّ التدافع بين الحكمين في أمثال هذه المسائل كما أنّه لم يكن من باب التعارض ، فكذلك ليس هو من باب التزاحم ، لأنّ ملاك التزاحم هو كون أحد التكليفين شاغلاً مولوياً عن الآخر ، وبواسطة شاغليته للمكلّف يكون سالباً لقدرته على الآخر ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه قسم ثالث وهو ما يكون التدافع ناشئاً عن تناقض الحكمين مع اشتباه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٣.

٤٦١

متعلّقهما الموجب لعدم التمكّن من تحصيل الموافقة القطعية لكلّ منهما ، لأنّ الموافقة القطعية لأحدهما ملازمة للمخالفة القطعية للآخر ، وحينئذ فيدور الأمر فيه بين الموافقة القطعية لأحدهما المقرونة بالمخالفة القطعية للآخر ، وبين الموافقة الاحتمالية لكلّ منهما ، والعقل حاكم بلزوم الثاني وطرح الأوّل ، وتكون النتيجة كما أفاده الشيخ قدس‌سره (١) من التخيير بين ترك أحد الفعلين وفعل الآخر.

ومن ذلك يتّضح لك أنّه لا ينحصر التدافع بين الحكمين بباب التعارض وباب التزاحم ، بل إنّ في البين قسماً ثالثاً وهو ما نحن فيه. والحاصل أنّ نسبة العلم الاجمالي إلى كلّ من الحكمين على حدّ سواء ، وأهميّة أحدهما لا توجب انحصار التنجّز به ، هذا حاصل ما فهمته من إفاداته قدّس الله سرّه وعطّر رمسه.

ولكنّه إنّما يتمّ في أصل مسألة دوران الأمر بين المحذورين وما يلحق بها ، وهو النحو الثاني ممّا ذكرناه ، لإمكان القول بأنّ أهميّة الايجاب مثلاً لا توجب تنجّزه ، وهذا سهل ، لأنّه لو التزم بجانب الايجاب لم يلزم منه المخالفة القطعية لتكليف آخر منجّز ، بخلاف النحو الأوّل ، فإنّ كلّ واحد من الايجاب والتحريم منجّز بالعلم الاجمالي في متعلّقه المردّد بين المتباينين ، غايته أنّ إطاعة كلّ واحد من هذين التكليفين مزاحمة بعصيان الآخر ، فهو لا يقدر على الجمع بين الاطاعتين ، وتكون إطاعة كلّ منهما مقرونة بمخالفة الآخر ، فينبغي الترجيح بما هو أهمّ.

ثمّ إنّه قدس‌سره كان قبل هذا يستدلّ على لزوم الترجيح بالأهمية بما هو المعلوم من مذاق الفقهاء أنّهم لا يسوّغون الإقدام على قتل الشخصين اللذين يعلم كون أحدهما مؤمناً والآخر مرتدّاً فطرياً ، ولا الاقدام على وطء كلا المرأتين اللّتين

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٤٠٣.

٤٦٢

يعلم كون إحداهما زوجة محلوفة الوطء والأُخرى أجنبية ، وما ذلك إلاّمن جهة الترجيح بالأهمية المستفادة من حكم الشارع بالاحتياط في مثل ذلك في الشبهات البدوية.

ثمّ بعد أن اختار حسبما نقلنا موافقة الشيخ قدس‌سره من عدم جريان الترجيح بالأهمية لعدم كون المقام من قبيل التزاحم ، أجاب عن أمثال هذين الفرعين بأنّ لزوم الترك في كلّ من الطرفين لم يكن للأهمية ، بل لأجل أنّ الأصل في الدماء والفروج الحرمة في مقام الشبهة ، ولو كانت مقرونة بالعلم الاجمالي بالايجاب أو التحريم.

وإن شئت فقل : إنّ العلم الاجمالي المردّد بين ذينك الشخصين أو الامرأتين يكون منحلاً ، لأنّ أحد الطرفين ممّا يجري فيه الأصل المثبت للتكليف ، وهو أصالة الحرمة في الدماء وكذا في الفروج ، والآخر في حدّ نفسه مجرى للأصل النافي.

وبالجملة : أنّ احتمال التحريم في باب الدماء والفروج منجّز ، سواء كان في قباله احتمال الاباحة أم كان في قباله احتمال الوجوب فقط ، ويستوي في ذلك باب دوران الأمر بين المحذورين الصرف وما ألحقناه به ، وهو المثال الثاني ، بل وكذلك المثال الأوّل الذي هو محلّ الكلام.

أمّا بقية المرجّحات في باب التزاحم فمنها ما يكون أحد التكليفين مشروطاً بالقدرة العقلية والآخر مشروطاً بالقدرة الشرعية ، فلا يبعد جريانها في باب دوران الأمر بين المحذورين وفيما نحن فيه ، مثاله في المحذورين ما لو دار الأمر في زوجته الواحدة المعيّنة بين كونها متروكة الوطء لمدّة أربعة أشهر أو كونها منذورة الترك في هذه الليلة ، فهو مردّد بين وجوب وطئها الآن وحرمة

٤٦٣

وطئها ، والأوّل مشروط بالقدرة العقلية والثاني مشروط بالقدرة الشرعية (١) ، فهل يحكم فيه بالتخيير أم يتعيّن الوطء (٢).

ومثاله فيما نحن فيه ما لو علم أنّه قد نذر ترك وطء إحدى زوجتيه في هذه الليلة ، وأنّ إحداهما أيضاً واجبة الوطء هذه الليلة ، لأنّها قد مضى عليها أربعة أشهر ، فهل يلزمه وطء إحداهما وترك الأُخرى ، أم يتعيّن عليه وطؤهما وإن لزم مخالفة النذر ، لأنّه مشروط بالقدرة الشرعية ، ووجوب الوطء بعد أربعة أشهر مشروط بالقدرة العقلية.

ومن أمثلة ذلك في المحذورين ما لو كانت جاريته الواحدة مردّدة بين كونها قد نذر التصدّق بها وكونها مرهونة أو كونها أُمّ ولد ، بناءً على ما أفاده قدس‌سره (٣) في بيع أُمّ الولد من كون حقّ أُمّ الولد ، وكذلك الرهانة مقدّماً على نذر التصدّق ، لكونه مشروطاً بالرجحان أو بالقدرة الشرعية ، بخلافهما.

ومثاله فيما نحن فيه ما لو كانت إحدى جاريتيه منذور التصدّق بها والأُخرى أُمّ ولد أو مرهونة.

وكذلك لو كانت جاريته الواحدة مردّدة بين كونها مرهونة وقد حلّ الأجل فوجب البيع وبين كونها أُمّ ولد ، ولو كانت إحداهما مرهونة وقد حلّ الأجل والأُخرى أُمّ ولد واشتبها.

ومن المرجّحات في باب التزاحم ما لو كان أحد التكليفين موسّعاً والآخر مضيّقاً ، فإنّ الثاني يقدّم على الأوّل في باب التزاحم. مثاله في المحذورين لو دار

__________________

(١) [ في الأصل : بالقدرة العقلية ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٢) [ في الأصل : أم يتعيّن الترك ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٣) منية الطالب ٢ : ٣٢٢ وما بعدها.

٤٦٤

الأمر في جاريته المعيّنة بين كونها منذورة الوطء في هذا الاسبوع مرّة واحدة ، أو أنّها منذورة الترك في هذه الليلة ، فالأوّل من قبيل الموسّع والثاني من قبيل المضيّق.

ومثاله فيما نحن فيه لو نذر وطء إحدى زوجتيه في هذا الاسبوع ونذر ترك الأُخرى في هذه الليلة واشتبها.

ومن المرجّحات في باب التزاحم كون أحد التكليفين أهمّ من الآخر ، فيقدّم الأهمّ على المهمّ في باب التزاحم. مثاله في المحذورين لو كان الغريق الواحد مردّداً بين كونه فلاناً المسلم فيجب إنقاذه ، أو فلاناً الكافر فيحرم إنقاذه ، وقلنا إنّ وجوب إنقاذ المسلم أهمّ من حرمة إنقاذ الكافر فيما لو كان إنقاذ المسلم ملازماً لإنقاذ الكافر.

ومثاله فيما نحن فيه فيما لو كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً واشتبها ، فهل يخيّر بين إنقاذ أحدهما وترك الآخر ، أو يتعيّن عليه إنقاذهما معاً؟ الظاهر الثاني. ولو استشكلت في المثال بكون حفظ المسلم من باب الدماء ، فأبدل المثال بقرآن وقابله بكتاب ضلال. أمّا الاستشكال في كون وجوب إنقاذ المسلم أهمّ من حرمة إنقاذ الكافر بمسألة التترّس ، فإنّ جوابه واضح ، فإنّ مسألة التترس مختصّة بباب الجهاد فيما لو توقّف الفتح على ذلك ، أو توقّف حفظ جيش المسلمين على إعدام من تترّس به الكفّار من أسرى المسلمين ، دون ما نحن فيه ممّا لو توقّف إنقاذ المسلم الغريق على إنقاذ الكافر الحربي معه ، الذي يكون إنقاذه في حدّ نفسه محرّماً.

وخلاصة البحث : هو أنّه لا إشكال في التخيير في دوران الأمر بين المحذورين وفيما نحن فيه في الجملة ، فهل هذا التخيير بعد فقد المرجّحات

٤٦٥

المذكورة ، أو أنّه جارٍ مطلقاً وأنّ باب الترجيح منسدّ في المحذورين وفيما نحن فيه. وعلى أيّ حال ، لو قلنا بالترجيح فالتخيير في المقامين يكون منحصراً بصورة عدم المرجّح ، ولو قلنا بعدم الترجيح كان التخيير جارياً على كلّ حال في كلّ من المقامين ، وإذا انتهت المسألة إلى التخيير ففي مقام الدوران بين المحذورين صرفاً ينحصر التخيير بين فعل الشيء وتركه ، لكن في مقامنا ( كما لو علم المكلّف بأنّه قد توجّه إليه الأمر والنهي ولكنّه تردّد في أنّ متعلّق الأوّل هو شرب التتن والثاني هو شرب النبيذ ، أو أنّ الواقع بالعكس ) هل يكون التخيير بين الجهات الأربع ، فيتخيّر المكلّف بين فعلهما ، وتركهما ، وفعل الأوّل وترك الثاني ، وترك الأوّل وفعل الثاني.

والظاهر أنّه لا سبيل إلى الأوّلين ، فلا يجوز له فعلهما معاً ، كما أنّه لا يجوز له تركهما معاً ، بل يتعيّن عليه شرب الأوّل وترك الثاني ، أو ترك الأوّل وشرب الثاني ، فإنّ العلم بالوجوب المذكور علّة في المنع عن مخالفته القطعية ، ولنقل إنّه علّة في وجوب موافقته القطعية ، لكن ذلك ـ أعني كونه علّة لوجوب الموافقة القطعية ـ إنّما هو إذا لم يمنع منها مانع عقلي ، وعلى ذلك أسّسنا تبعيض الاحتياط في مورد سقوط الموافقة القطعية. وهكذا الحال في ناحية العلم بالتحريم.

وحينئذ نقول : إنّ العلم بكلّ من التكليفين يؤثّر فعلاً في حرمة المخالفة القطعية لكلّ منهما ، ويحكم العقل بالمنع من المخالفة القطعية لكلّ من التكليفين ، ولا يحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية لكلّ منهما ، لأنّها بنظره ممنوعة بواسطة كونها موجبة للمخالفة القطعية للآخر ، وبذلك يتعيّن التخيير في الوجهين الأخيرين دون الوجهين الأوّلين ، وذلك لا يبتني على كون العلم الاجمالي علّة في حرمة المخالفة القطعية ومقتضياً في وجوب الموافقة القطعية ،

٤٦٦

بل إنّه جار حتّى لو قلنا بأنّه علّة بالنسبة إليهما على حدّ سواء ، إذ لا إشكال على القولين في سقوط الموافقة القطعية عند حكم العقل بتعذّرها ، لعدم القدرة عليها أو لقبحها عقلاً لكونها موجبة لاختلال النظام ، كما قرّر في محلّه في مبحث الانسداد في إقامة البرهان على سدّ باب الاحتياط التامّ في جميع محتملات التكاليف ، وليس للموافقة القطعية خصوصية في ذلك ، بل إنّ المخالفة القطعية إذا لم تكن مقدورة لم يحكم العقل بقبحها من باب أنّه لا موضوع لحكمه حينئذ ، كما في دوران الأمر في الفعل الواحد بين المحذورين ، ولو فرض لنا مورد تكون المخالفة القطعية ممكنة ، لكن كان العقل حاكماً بحسنها وقبح تركها ، كانت ساقطة في مورد العلم التفصيلي فضلاً عن العلم الاجمالي ، فلو توقّف إنقاذ الغريق على سلوك قطعتين يعلم إجمالاً بغصبية إحداهما وجب سلوكهما كما يجب في مورد العلم التفصيلي.

فصار الحاصل : هو أنّا لو قلنا بأنّ ما نحن فيه ملحق بالتزاحم ، لكون الاحتياط ولزوم الموافقة القطعية في أحد التكليفين مزاحماً بالاحتياط في التكليف الآخر ، لأنّ الموافقة القطعية لأحدهما مقرونة بالمخالفة القطعية للآخر ، ولم يكن في البين أهميّة ، فهل عند التساوي وعدم الأهمية يكون المكلّف مخيّراً بين الموافقتين القطعيتين فيتخيّر بين فعلهما معاً وتركهما ، أو أنّه لا يكون له ذلك ، بل يتعيّن عليه فعل أحدهما وترك الآخر؟ الظاهر بل المتعيّن هو الثاني ، لأنّ العلم الاجمالي المردّد بين وجوب أحدهما وحرمة الآخر يوجب حكم العقل بالمنع من المخالفة القطعية ، لأنّ العلم الاجمالي علّة تامّة في حرمة المخالفة القطعية ، فالعقل كما يمنع من المخالفة القطعية للوجوب الموجود في البين ، فكذلك يمنع من المخالفة القطعية للتحريم الموجود في البين ، ولا تدافع ولا

٤٦٧

تزاحم بين هذين الحكمين العقليين. أمّا وجوب الموافقة القطعية للوجوب فلا يحكم بها العقل في المقام لوجود المانع ، وهو ابتلاؤها بما منع منه العقل وهو المخالفة القطعية للآخر ، وهكذا الحال في الموافقة القطعية لجانب التحريم ، وقد حقّق في محلّه أنّ العلم إنّما يوجب الموافقة إذا لم يكن في البين ما يمنع منها ، فهو نظير ما لو كان في البين مانع من وجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالي لعدم القدرة على ذلك ، فإنّ ذلك لا يوجب جواز المخالفة القطعية ، كما في من وظيفته تكرار الصلاة إلى الجهات الأربع واتّفق أن لم يكن قادراً عليها جميعاً ، فإنّ ذلك لا يوجب سقوط العلم الاجمالي بالمرّة ، فليس المانع من تجويز فعلهما معاً أو تركهما معاً هو مجرّد كون الموافقة الاحتمالية لأحدهما أولى من الموافقة القطعية المقرونة بالمخالفة القطعية للآخر ، كما ربما يظهر من الشيخ قدس‌سره (١) ، فإنّه وإن كان موافقاً في النتيجة لما ذكرناه ، إلاّ أنه أشبه شيء بالخطابة ، فالعمدة في المنع من ذلك هو ما ذكرناه من أنّ سقوط الموافقة القطعية لعدم القدرة عليها بسبب مقارنتها للمخالفة القطعية للآخر لا يوجب سقوط حرمة المخالفة القطعية ، فلا يجوز له فعلهما معاً أو تركهما معاً ، بل لا يكون التخيير إلاّفي فعل أحدهما وترك الآخر.

والظاهر أنّ هذه الطريقة جارية حتّى لو قلنا بأنّ العلم الاجمالي علّة تامّة بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، إذ لا إشكال في سقوطها حتّى على هذا القول فيما لو وجد المانع العقلي منها ، كما في صورة عدم التمكّن عقلاً من الموافقة القطعية ، وعلى هذا الأساس يبتني تبعيض الاحتياط في موارد تعذّره فتأمّل.

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٤٠٣.

٤٦٨

ولا يخفى أنّا وإن تصوّرنا الترجيح بالأهميّة وغيرها إلاّ أنه لا يبعد تمامية هذه الطريقة ، وهي توجب انسداد باب الترجيح بالأهميّة ، لأنّ الترجيح بالأهمية إنّما يكون في مورد ينحصر الأمر فيه بين إطاعة أحد التكليفين قطعاً وعصيان الآخر قطعاً ، كما في سائر موارد التزاحم ، أمّا ما نحن فيه فلم ينحصر الأمر فيه بين الموافقة القطعية لأحد التكليفين والمخالفة القطعية للآخر ، لإمكان التخلّص بفعل أحدهما وترك الآخر ، إلاّ أن يكون التحريم من قبيل الدماء والفروج ، فإنّ الاحتياط فيها يسدّ باب احتمال المخالفة ، فلا يجوز له قتل أحدهما ، بل يتعيّن عليه ترك قتلهما وإن أوجب ذلك الوقوع في مخالفة الواجب ، وحاصله : أنّ الاحتياط في الدماء مقدّم على مخالفة ما هو معلوم الوجوب إجمالاً ، بل حتّى لو كان الاحتياط موجباً لمخالفة الواجب التفصيلي ، فتأمّل.

وربما يقرّب جواز فعلهما معاً أو تركهما معاً ، بأنّ التزاحم بين الوجوب والحرمة تارةً يكون من قبيل حرمة الغصب ووجوب إنقاذ الغريق فيما لو توقّف إنقاذه على سلوك الأرض المغصوبة ، والجامع هو توقّف الواجب على فعل الحرام بأن يكون الحرام مقدّمة للواجب ، وأُخرى يكون من جهة اتّفاق ملازمة فعل الواجب لفعل الحرام ، من دون أن يكون في البين توقّف ومقدّمية ، وذلك مثل حرمة الاستدبار للجدي مثلاً ووجوب استقبال القبلة.

ففي النحو الأوّل لو كان الأهمّ هو الواجب سقط التحريم بالمرّة ، ولو كان الأهمّ هو الحرام سقط الوجوب بالمرّة أيضاً ، وكذا لو كانا متساويين فإنّه أيضاً يكون اللازم هو الترك لعدم المسوّغ للفعل (١)

__________________

(١) ويمكن أن يقال : إنّه لا مانع من الاستطراق ، لأنّ حرمته سقطت بمزاحمة الواجب ،

٤٦٩

أمّا النحو الثاني فهو وإن شاركه في أنّه عند أهمية الواجب يسقط التحريم وعند أهمية التحريم يسقط الواجب ، إلاّ أنه عند التساوي يتخيّر بين الفعل وإن كان مقروناً بعصيان الحرام ، أو الترك وإن كان مقروناً بعصيان الواجب ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ الموافقة لكلّ منهما مقرونة بالمخالفة للآخر.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ التخيير بين الفعل في ذلك النحو مع كونه مقروناً بالمخالفة للتحريم ، والترك مع كونه مقروناً بالمخالفة للواجب ، إنّما هو لعدم المندوحة ، لأنّه إن ترك فقد أطاع النهي لكنّه يكون مخالفاً للأمر ، وإن فعل كان الأمر بالعكس ، وليس في البين ما يتخلّص به عن هذا المحذور الذي هو الوقوع في مخالفة أحد التكليفين ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فإنّه يمكنه التخلّص من المخالفة القطعية لأحد التكليفين بعدم الاقدام على الموافقة القطعية للآخر ، فتأمّل جيّداً (١)

__________________

كما أنّه لا مانع من ترك الانقاذ بترك الاستطراق ، لأنّ وجوبه سقط بمزاحمة حرمة الاستطراق ، وحينئذ يجوز له أن يتركهما معاً ، كما يجوز له أن يفعلهما معاً. نعم لا يجوز له فعل الأوّل وترك الثاني بأن يستطرق ولا ينقذ [ منه قدس‌سره ].

(١) وربما يتوهّم أنّ حسن الموافقة القطعية للايجاب مثلاً مزاحم بقبح المخالفة القطعية للتحريم ، وحينئذ لو كان الأقوى هو قبح المخالفة القطعية سقطت الموافقة القطعية ، وبقي حرمة المخالفة القطعية ، وهي قاضية بالمنع من فعلهما والمنع من تركهما ، ولزوم الاتيان بأحدهما وترك الآخر كما ذكرتم.

أمّا لو كان حسن الموافقة القطعية أقوى من قبح المخالفة القطعية وجبت الأُولى وسقطت الثانية ، وحينئذ يكون العقل حاكماً بوجوب الموافقة القطعية لكلّ من الوجوب والحرمة ، وحيث إنّ ذلك لا يمكن كان المكلّف مخيّراً بين الموافقة القطعية

٤٧٠

__________________

للوجوب بفعلهما والموافقة القطعية للتحريم بتركهما.

وهكذا الحال لو كان حسن الموافقة القطعية لأحد التكليفين مساوياً لقبح المخالفة القطعية للتكليف الآخر ، فإنّه حينئذ يتخيّر بين الموافقة القطعية للوجوب وإن حصلت المخالفة القطعية للتحريم ، والموافقة القطعية للتحريم وإن حصلت المخالفة القطعية للوجوب ، وفي كلّ من هاتين الصورتين لا يسوّغ العقل له الموافقة الاحتمالية المقرونة بالمخالفة الاحتمالية للآخر ، بأن يفعل أحدهما ويترك الآخر.

وبتقريب آخر : أنّ العقل يحكم بوجوب الموافقة القطعية للوجوب ، كما أنّه يحكم بوجوب الموافقة القطعية للتحريم ، وهذان الحكمان من العقل كحكم الشارع بانقاذ هذا الغريق وإنقاذ ذلك الغريق الآخر ، وليس تعذّر الجمع بين الموافقتين القطعيتين إلاّكتعذّر إنقاذ كلا الغريقين ، فاللازم هو النظر إلى ما هو الأقوى ، فإن كانت الموافقة القطعية للوجوب هي الأقوى تعيّن عليه فعلهما ، وإن كانت الموافقة القطعية للتحريم هي الأقوى تعيّن عليه تركهما ، وعند التساوي يتخيّر بين الموافقتين القطعيتين كما يتخيّر بين الغريقين لو تساويا ، ولا يجوز له ترك الموافقتين القطعيتين كليهما بأن يفعل أحدهما ويترك الآخر ، كما لا يجوز له عند تساوي الغريقين تركهما معاً وعدم إنقاذ أحدهما.

هذا ما يمكن أن يتوهّم في المقام لتقريب القول بأنّه يتخيّر بين فعلهما وتركهما ، وأنّه لا يجوز له فعل أحدهما وترك الآخر ، ومرجع التقريب الأوّل إلى إيقاع التزاحم بين وجوب الموافقة القطعية لأحد التكليفين وحرمة المخالفة القطعية للآخر ، ومرجع التقريب الثاني إلى إيقاع التزاحم بين وجوب الموافقة القطعية في كلّ منهما لها في الآخر.

وهذه التوهّمات كلّها ناشئة عن تخيّل أنّ حكم العقل نظير حكم الشرع في كونه عن ملاك وحسن في المتعلّق ، ونحن وإن قلنا إنّ للعقل أحكاماً ، لكنّها لو قلنا بها فإنّما هي

٤٧١

__________________

التحسين والتقبيح ، مع إمكان القول بأنّه لا حكم في البين وإنّما هو من مجرّد الميل والتنفّر ، وهكذا الحال في حكمه بلزوم إطاعة المأمور به المعلوم الأمر تفصيلاً وعصيانه ، بناءً على أنّ ذلك من مقولة شكر المنعم وهو حسن وظلمه وهو قبيح.

أمّا حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال ، فليس هو من تلك المقولة قطعاً ، بل هو من مقولة الفرار عن العقاب المحتمل عند الاتيان بأحد طرفي العلم الاجمالي وترك الآخر ، وهذا الفرار من العقاب المحتمل لا يمكن صدوره في صورة كون ذلك الفرار الحاصل بفعلهما معاً موقعاً للمكلّف في العقاب المقطوع الحاصل من المخالفة القطعية ، لأنّ محصّل ذلك هو الالزام بالوقوع في عقاب أحد التكليفين فراراً من احتمال العقاب على التكليف الآخر لو كان المتروك هو الواجب الواقعي ، وحاصله أنّك لا تكتف بفعل أحدهما ، مخافة أن يكون الآخر المتروك هو الواجب الذي يتبعه العقاب ، فلابدّ لك أن تفعلهما فتعاقب قطعاً ، وحاصل ذلك : فرّ من العقاب المحتمل إلى العقاب المقطوع.

ولله درّ الشيخ قدس‌سره حيث أشار إلى هذا التفصيل بهذه الكلمة ، وهي قوله : والحكم فيما نحن فيه وجوب الاتيان بأحدهما وترك الآخر مخيّراً في ذلك ، لأنّ الموافقة الاحتمالية في كلا التكليفين أولى من الموافقة القطعية في أحدهما مع المخالفة القطعية في الآخر ، ومنشأ ذلك أنّ الاحتياط ( يعني وجوب الموافقة القطعية ) لدفع الضرر المحتمل لا يحسن بارتكاب الضرر المقطوع ، والله أعلم [ فرائد الأُصول ٢ : ٤٠٣ ].

ومن ذلك كلّه يظهر أنّ وجوب الموافقة القطعية ساقط في المسألة ، وليس في البين إلاّحرمة المخالفة القطعية ، ومقتضى ذلك هو التخيير بين فعل أحدهما وترك الآخر ، وأنّه لا يجوّز العقل تركهما معاً أو فعلهما.

هذا كلّه لو كان التزاحم في الأحكام العقلية في المقام الناشئة عن العلم الاجمالي ، أعني وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية لكلّ من الوجوب والتحريم

٤٧٢

__________________

المعلومين في البين ، وأمّا نفس الوجوب والتحريم فلا تزاحم بينهما في حدّ أنفسهما ، ولو جعلناه بينهما كان المقدّم هو الأقوى ، وسقط العلم الاجمالي بالآخر ، ولو تساويا فهل يسقط التكليفان ويسقط العلم بكلّ منهما ، أو يتخيّر بين التكليفين ويجعل العلم به هو المؤثّر؟ [ منه قدس‌سره ].

٤٧٣

[ خاتمة : في بيان ما يعتبر في الاحتياط والبراءة ]

قوله : المقام الأوّل : فيما يعتبر في العمل بالاحتياط ، والأقوى أنّه لا يعتبر في حسن الاحتياط عقلاً ... الخ (١).

هذه المباحث تقدّم الكلام عليها تفصيلاً في مباحث القطع ، فراجع ما حرّرناه هناك من منع عدم صحّة الاطاعة الاحتمالية في مورد التمكّن من تحصيل الاطاعة التفصيلية (٢).

ثمّ إنّا لو سلّمنا المنع من ذلك فإنّما هو عبارة عن المنع عن ترك الاطاعة التفصيلية مع فرض التمكّن منها والركون إلى الطاعة الاحتمالية. أمّا مع فرض كونه بانياً على الاطاعة التفصيلية ، غايته أنّه يقدّم ما هو مورد الاطاعة الاحتمالية على ما هو مورد الاطاعة التفصيلية ، بأن يأتي أوّلاً بالمحتمل الوجداني ثمّ بعده يأتي بما قامت الأمارة على وجوبه ، فلا مانع منه.

اللهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ المانع من الاطاعة الاحتمالية في مورد التمكّن من تحصيل الاطاعة التفصيلية وهو أنّ العقل لا يرى تلك الاطاعة إطاعة ، موجود فيما نحن فيه ولو كان بناء المكلّف على الاتيان بما قامت عليه الأمارة بعد ذلك ، لكنّه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٤.

(٢) راجع حاشيته المفصّلة في المجلّد السادس من هذا الكتاب الصفحة : ١٧٢ وما بعدها ، وكذا غيرها من حواشيه قدس‌سره في ذلك المبحث.

٤٧٤

محلّ تأمّل. ودعوى أنّ مقتضى حجّية الأمارة هو المنع من الأخذ بالاحتمال المذكور ، ممنوعة جدّاً.

أمّا أوّلاً : فلأنّها إنّما تمنع من الأخذ باحتمال الخلاف فيها ، وليس ذلك إلاّ الأخذ باحتمال عدم وجوب ما قامت الأمارة على وجوبه ، لا الأخذ باحتمال وجوب غيره ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه بالنظر إلى العلم الاجمالي بوجوب إحدى الفريضتين يكون قيام الأمارة على أنّها هي الجمعة نافياً لكونها صلاة الظهر.

وأمّا ثانياً : فلأنّ هذا المنع لا ينافي الاحتياط لأجل الاحتمال المذكور. وبعبارة [ أُخرى ] أنّ حجّية الأمارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة إنّما ينفي ويمنع من البناء على وجوب صلاة الظهر ، أمّا الاتيان بصلاة الظهر لأجل الاحتمال الوجداني من باب الاحتياط فلا يكون دليل الحجّية مانعاً منه.

وأمّا ثالثاً : فلما هو محقّق في محلّه من عدم تعرّض دليل الأمارة لأزيد من جعل الحجّية لها ، وليس في البين نهي شرعي عن الأخذ بخلاف مضمونها. نعم بعد فرض كونها حجّة شرعية يكون العقل حاكماً بلزوم تطبيق العمل على طبقها ، وأين ذلك من الحكم الشرعي بالمنع من الأخذ بخلاف مؤدّاها من باب الاحتياط مع فرض أنّه يأتي بمؤدّاها بعد ذلك.

وأمّا رابعاً : فلأنّ ذلك لو كان مانعاً لكان مانعاً منه حتّى بعد الاتيان بمؤدّاها ، وما أُفيد ـ على ما في تحريراتي ـ من أنّه بعد الاتيان بمؤدّى الأمارة يكون حكمها ساقطاً ، فلا مانع من الجري على طبق ذلك الاحتمال الاحتياطي ، يمكن الخدشة فيه ، لأنّا إذا فرضنا أنّ الأمارة مانعة شرعاً من الجري على خلاف مؤدّاها ، يكون هذا المنع باقياً حتّى بعد سقوط الأمر بمؤدّاها ، لأنّها على هذا

٤٧٥

الوجه توجب العمل على طبق مؤدّاها والمنع عن العمل على الاحتمال المخالف ، والساقط إنّما هو الجزء الأوّل ، أمّا الجزء الثاني من مفادها المفروض فيكون باقياً بعد سقوط الجزء الأوّل منه ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الحكم الثاني لا يكون إلاّمن جهة التبعية للأوّل ، فبعد سقوطه لا يبقى له مورد ، فتأمّل.

وأمّا ما في الحاشية (١) من الإشكال عليه بما حاصله : أنّ الاطاعة بالنسبة إلى صلاة الظهر لا تكون إلاّ احتمالية سواء تقدّمت أو تأخّرت ، فيمكن الجواب عنه بأنّه إنّما يتوجّه لو كان صورة المسألة هي أنّ صلاة الجمعة قامت الأمارة على وجوبها ، ومع ذلك يحتمل وجوب صلاة الظهر زائداً على صلاة الجمعة ، لكن ذلك أجنبي عن مفروض الكلام ، لأنّ مفروض الكلام إنّما هو العلم بأنّه ليس لنا إلاّ أمر واحد ، لكن حصل الترديد في متعلّقه هل هو الجمعة أو الظهر ، وقامت الأمارة على أنّه الجمعة ، وحينئذ فاطاعة ذلك الأمر الواقعي بالاتيان بصلاة الظهر تكون احتمالية في ظرف كونه متمكّناً من إطاعته التفصيلية بالاتيان بصلاة الجمعة ، فلو تمّ ما أُفيد من عدم الركون إلى الاطاعة الاحتمالية مع التمكّن من الاطاعة التفصيلية ، كان اللازم تأخير الاطاعة الاحتمالية لذلك الأمر الواقعي عن اطاعته التفصيلية ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ الاحتمال المتكلّم عنه في المقام إنّما هو بالقياس إلى الأمر ، لا بالقياس إلى الفعل المأتي به ، ومن الواضح أنّ الاحتمال بالنسبة إلى الأمر موجود في صورة العلم الاجمالي والتردّد بين المتباينين ، كما هو موجود في صورة الاحتمال البدوي ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ ( الهامش ) : ٢٦٦.

٤٧٦

قوله : قد خالف في حسن الاحتياط في العبادات جملة من الفقهاء تبعاً لقاطبة المتكلّمين ، بتوهّم أنّ الاحتياط فيها يستلزم الإخلال بقصد الوجه المعتبر في العبادة ... الخ (١).

الظاهر أنّ قصد الوجه وكذلك التمييز بأيّ معنى فسّرناهما لو سلّمنا اعتبارهما في العبادة ، لا يكون شيء منهما مانعاً عن الاحتياط في العبادة في الموارد التي يكون المكلّف عالماً بأنّ الطلب على تقديره لا يكون إلاّوجوبياً أو لا يكون إلاّ استحبابياً ، لوضوح أنّه مع قطع النظر عن اعتبار الاطاعة التفصيلية ، بحيث لو قلنا إنّها غير معتبرة في صحّة العبادة وأنّه يكفي في صحّتها الاطاعة الاحتمالية ، لم يكن اعتبار الوجه والتمييز مانعاً من صحّتها والاحتياط فيها في موارد احتمال الوجوب أو في مورد احتمال الاستحباب.

نعم في الموارد التي لا إشكال فيها من ناحية اعتبار الاطاعة التفصيلية ، كما لو علم بأنّها مطلوبة لكن تردّد في ذلك الطلب هل هو وجوبي أو استحبابي ، لم يكن الإشكال في صحّة الاحتياط فيها من ناحية اعتبار الاطاعة التفصيلية ، بل يكون الإشكال فيها من ناحية قصد الوجه والتمييز ، فيكون بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد مختصّاً بهذه الصورة ، أعني ما لو علم الطلب وتردّد بين الوجوب والاستحباب.

والحاصل : أنّ البحث عن اعتبار نيّة الوجه وكذلك التمييز إنّما يساق لأجل تصحيح الاحتياط في العبادة في مقام التردّد بين وجوب العمل واستحبابه بعد الفراغ عن إحراز تعلّق الطلب به ، سواء كان ذلك المتعلّق هو تمام العمل أو كان هو جزأه ، والبحث عن الاكتفاء بالاطاعة الاحتمالية في قبال اعتبار الاطاعة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٦.

٤٧٧

التفصيلية إنّما يكون مسوقاً للبحث عن تصحيح الاحتياط في الموارد التي يكون التردّد فيها بين الوجوب وعدمه ، سواء كان ذلك بالنسبة إلى تمام العمل أو كان بالنسبة إلى بعض أجزائه ، وسواء كان ذلك مقروناً بالعلم الاجمالي أو كان شبهة بدوية ، وأمّا التردّد في العمل بين الاستحباب وعدمه فهو من ذيول هذه المسألة ولواحقها ، فراجع ما حرّرناه عنه قدس‌سره في هذه المسائل وما علّقناه على ذلك التحرير في هذا المقام وفي مباحث القطع (١).

قوله : وأمّا إذا كانت غير محرزة كالأُصول الغير التنزيلية ... الخ (٢).

كما لو فرض أنّ أحد الفعلين المعلوم وجوب أحدهما بالاجمال مجرى لأصالة الاشتغال ، والآخر مجرى للأصل النافي ، كما لو كان بعد المغرب وعلم بأنّه إمّا لم يصلّ المغرب أو أنّه قد فاتته صلاة العصر ، فإنّ عليه أن يأتي بالمغرب لأصالة الاشتغال ، ولا يجب عليه قضاء العصر لكون الشكّ فيها بعد الوقت ، لكن لا مانع من الاتيان بها احتياطاً قبل المغرب أو بعدها. بل قد يقال : إنّ الأولى الاتيان بها قبل المغرب ، نظراً إلى أنّ فائتة اليوم يقدّم قضاؤها على الحاضرة ، بل ربما نقول بوجوب التقديم حتّى لو كان المثبت لبقاء المغرب الاستصحاب أو البيّنة ونحوها ، فتأمّل فإنّ هذا التقديم إنّما هو فيما لو كان كلّ منهما قد فاته ، بحيث إنّه لم يصلّ العصر كما أنّه إلى الآن لم يصلّ المغرب ، أمّا لو كان الفائت هو أحدهما فلا يتأتّى التقديم المذكور ، لأنّه إنّما يحتاج في الاتيان بالعصر لاحتمال أنّها هي الفائتة دون المغرب ، وعلى هذا التقدير يكون قد قدّم المغرب وأخلّ

__________________

(١) الظاهر أنّه قدس‌سره يقصد بذلك تحريراته المخطوطة عن شيخه قدس‌سره ، وعلى أيّ حال راجع حواشيه قدس‌سره في المجلّد السادس من هذا الكتاب : ١٦٦ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٦.

٤٧٨

بالترتيب غفلة ، فيكون وجوبه ساقطاً.

والأولى أن يمثّل لذلك بالعلم الاجمالي المردّد بين عدم الاتيان بالمغرب أو حدوث آية توجب صلاة الآيات ، والسرّ في عدم لزوم التقديم في هذه الصورة هو أنّ الأصل غير الاحرازي لا يكون العمل على طبقه إلاّمن باب الاحتياط ، فلا يكون مشتملاً على الاطاعة التفصيلية ، غايته أنّ الاحتياط معه لازم بخلاف ما قابله ، وهذا لا يوجب التقديم ، وأمّا ما أُفيد في وجهه فلا يخلو عن تأمّل أو تسامح.

قوله : وإن قلنا بالحكومة فحكمه حكم الأصل الغير المحرز من عدم وجوب ذلك ، ولا يخفى وجهه (١).

ولكن جريان إعمال الظنّ هنا من باب الحكومة ، الذي هو عبارة عن تبعيض الاحتياط بالأخذ بما هو المظنون من التكاليف وإسقاط الاحتياط في غير المظنون لا يخلو عن تأمّل ، فإنّ العلم الاجمالي الخاصّ بالمسألة الذي هو عبارة عن العلم بوجوب الظهر أو الجمعة ، يكون حاكماً بلزوم الاتيان بهما معاً ، ولا ينحلّ هذا العلم الاجمالي بكون أحد طرفيه مظنوناً ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : نعم ، يعتبر في حسن الاحتياط عقلاً عدم التمكّن من إزالة الشبهة ، فإنّ مراتب الامتثال عقلاً أربعة : الأوّل الامتثال التفصيلي ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ الذي له مساس بما نحن فيه من اعتبار الاطاعة التفصيلية في قبال الاكتفاء بالاطاعة الاحتمالية إنّما هو المرتبة الأُولى والمرتبة الرابعة ، فإنّ كلاً

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٦.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٦٩.

٤٧٩

من الامتثال الاجمالي والامتثال الظنّي ( بالظنّ غير المعتبر ) راجع إلى الاطاعة الاحتمالية. نعم هذه المراتب متأتّية في حكم العقل بلزوم الاطاعة والخروج عن عهدة التكليف بعد فرض تنجّزه ، فالمرتبة الأُولى هي الخروج القطعي ، والثانية هي الخروج الظنّي ، والثالثة هي الخروج الاحتمالي ، لكن الخروج الاجمالي يكون داخلاً في الخروج القطعي ، إذ لا يفرق العقل في الحكم بلزوم الخروج القطعي عن عهدة التكليف الأعمّ من التعبّدي والتوصّلي ، بين الخروج التفصيلي والخروج الاجمالي ، كما أنّه لا يبعد أن يكون الخروج الظنّي بالظن غير المعتبر في هذا الحكم العقلي في مرتبة الخروج الاحتمالي ، وحينئذ فلا تكون المراتب إلاّ اثنتين : الخروج القطعي والخروج الاحتمالي.

والحاصل : أنّه بناءً على تقدّم الاطاعة التفصيلية في باب العبادات على الاطاعة الاحتمالية ، لا يكون لنا إلاّمرتبتان : الاطاعة التفصيلية المقرونة بالعلم التفصيلي أو ما يقوم مقامه بأنّ هذا الذي يأتي به مأمور به ، والاطاعة الاحتمالية المقرونة باحتمال كونه مأموراً به.

نعم ، بعد تعذّر الاطاعة التفصيلية لو دار الأمر بين الاطاعة الظنّية بأن يأتي بما يظن كونه مأموراً به ، أو الاطاعة الاحتمالية بأن يأتي بالطرف الآخر الذي يحتمل أنّه مأمور به ، ربما يقال بتقدّم الأُولى على الثانية ، كما لو احتمل احتمالاً بدوياً وجوب أحد الفعلين وكان لا يمكنه الفحص ، أو كان بعد الفحص وكان لا يتمكّن من الجمع بينهما ، وكان أحدهما مظنون الوجوب والآخر محتمل الوجوب ، فتأمّل. هذا في الطاعة في باب العبادات.

وأمّا الاطاعة بالمعنى الأعمّ ، وهي التي يحكم بها العقل في مقابل العصيان والمخالفة التي تكون جارية في العبادات والتوصّليات ، فليس لها أيضاً إلاّمرتبتان

٤٨٠