أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

وخلاصة الفرق : أنّ العلم الاجمالي المسبوق بالاضطرار إلى المعيّن يكون وارداً على ما يصدمه ويحكم عليه ، بخلاف المسبوق بالاضطرار إلى غير المعيّن فإنّه مؤثّر أثره من وجوب الاجتناب على كلّ تقدير ، فلم يبق بأيدينا إلاّتحكيم دليل الاضطرار على الاطلاق الأحوالي في كلّ منهما ، وتكون هذه العملية من التحكيم متأخّرة في الرتبة عن تأثير العلم الاجمالي ، ويكون الحاصل حينئذ هو التبعيض (١).

لا يقال : بعد أن فرضتم سقوط الاطلاق بدليل الحرج ، لا تكون الميتة الواقعية الموجودة في البين حراماً في الواقع قبل الإقدام على إحدى السمكتين لحصول ما هو الشرط في كون الاجتناب عنها حرجياً ، وهو عدم الإقدام على طرفها الذي هو مباح واقعاً ، وحينئذ نقول : إنّه عند إقدامه على إحدى السمكتين يعلم تفصيلاً بأنّها غير محرّمة واقعاً ، لأنّها إن لم تكن هي الميتة فواضح ، وإن كانت هي الميتة ، فلأنّ فرض الإقدام عليها في ظرف ترك مقابلها ، وقد قرّرتم أنّه في ظرف ترك أحد الطرفين يكون الطرف الآخر مسلوب الحرمة حتّى لو اتّفق أنّه هو الميتة واقعاً ، بمعنى أنّ حرمة الميتة الموجودة في البين ووجوب الاجتناب عنها يكون مقيّداً بعدم الاجتناب عن تلك الأُخرى التي هي مباحة في الواقع ،

__________________

(١) هذا ولكن المطلب بعدُ لا يخلو عن إشكال ، فإنّ سقوط تأثير العلم الاجمالي في هذا الذي يختاره لسدّ ضرورته موقوف على كون العلم الاجمالي مانعاً من ارتكابه الطرف الآخر ، ولا يكون العلم مانعاً عن ارتكاب ذلك الطرف الآخر إلاّمن جهة كونه منجّزاً على كلّ حال ، سواء كان المعلوم في الطرف الآخر أو كان في هذا الطرف الذي يختاره ، فكان سقوط تأثير العلم الاجمالي في هذا الطرف الذي يختاره متوقّفاً على تأثيره التنجيز فيه [ منه قدس‌سره ].

١٢١

فقبل الإقدام على إحداهما تكون الميتة الواقعية الموجودة في البين غير محرّمة واقعاً ، لحصول الشرط في ارتفاع الحرمة في كلّ منهما لو كانت هي الميتة واقعاً ، وعند الإقدام على إحداهما لا يكون مقدماً إلاّعلى ما هو مباح واقعاً ، إمّا بذاته أو بواسطة ارتفاع حرمته بسبب الحرج الآتي من ناحية ترك الأُخرى المتحقّق قبل الإقدام على الأُخرى. وحينئذ نقول : بعد فراغه من أكل الأُولى يكون الشكّ في حرمة الباقية بدوياً ، لأنّها إن لم تكن هي الميتة فلا شبهة في إباحتها ، وإن كانت هي الميتة وإن كانت هي محرّمة في الواقع إلاّ أنها حرمة آتية من الإقدام على السابقة ، لما عرفت من أنّ الميتة الموجودة قبل الإقدام على الأُولى ليست بحرام ، وحيث إنّ ذلك غير محرز للمكلّف ، كانت أصالة البراءة في حرمتها جارية بلا معارض ، لعدم كون ذلك من قبيل الشكّ في السقوط ، بل هو من قبيل الشكّ في حدوث الحرمة في الثانية بعد الإقدام على الأُولى.

نعم ، لا يتأتّى الإشكال المزبور فيما لو كانت الشبهة وجوبية ، كما لو فرض تعسّر الجمع بين الصلاة والصوم وعلم إجمالاً بوجوب أحدهما ، فإنّه بناءً على كون الساقط هو إطلاق الوجوب الواقعي الوارد على أحدهما لما إذا أتى بالآخر ، يكون الشرط في وجوب كلّ منهما حاصلاً قبل الإقدام على أحدهما ، فيلزمه الاحتياط بالإقدام على أحدهما وترك الآخر ، لكونه حرجياً حينئذ.

لأنّا نقول : أوّلاً : أنّه قبل الإقدام على إحدى السمكتين وإن كانت الميتة الواقعية مباحة في الواقع ، لتحقّق ما هو الشرط في سقوط حرمتها ، إلاّ أنه مع ذلك يعلم إجمالاً بأنّ إحدى السمكتين تكون محرّمة عليه عند الإقدام على الأُخرى ، وهذا المقدار من العلم الاجمالي المتعلّق بحرمة إحداهما على تقدير الإقدام على الأُخرى كافٍ في لزوم الاجتناب عن الثانية بعد ارتكاب الأُولى ، لاحتمال كونها

١٢٢

هي الميتة المنجّزة حرمتها عليه بذلك العلم الاجمالي المتعلّق بحرمة إحداهما على تقدير الإقدام على الأُخرى.

ومن ذلك يتّضح لك فساد ما ذكر في الإشكال من جريان أصالة البراءة من حرمة الثانية بلا معارض ، فإنّ أصالة البراءة من حرمتها المعلّقة على الإقدام على الأُولى كانت ساقطة بالتعارض قبل الإقدام على الأُولى ، لما عرفت من أنّه قبل الإقدام على الأُولى كان عالماً بحرمة كلّ منهما على تقدير الإقدام على الأُخرى ، فتكون الأُولى في ذلك الحين أيضاً مجرى لأصالة البراءة من حرمتها على تقدير الإقدام على الثانية.

ونظير ذلك ما لو علم إجمالاً بوجوب أحد الفعلين كالقيام والصدقة معلّقاً على الآخر ، بأن يكون قد علم أنّه وجب عليه إمّا القيام إن حصلت منه الصدقة ، أو الصدقة إن حصل منه القيام ، فإنّه قبل الإقدام على أحدهما وإن لم يكن أحدهما واجباً عليه في الواقع ، وكان عند الإقدام على القيام شاكّاً في وجوب الصدقة ، إلاّ أنّ ذلك العلم الاجمالي السابق كافٍ في الحكم بتنجّزها عليه وعدم جريان البراءة فيها ، لسقوطها سابقاً بالمعارضة مع أصالة البراءة من القيام على تقدير الصدقة.

لكن ذلك لا يخلو من تأمّل ، لإمكان أن يقال : إنّه قبل الإقدام على شيء منهما لا تجري في حقّه البراءة في كلّ من الطرفين ، إذ لا أثر لها إلاّعند تحقّق الشرط لذلك الواجب المشروط. نعم بعد القيام وبعد الإقدام على الصدقة أيضاً يلزمه القيام ثانياً ، وهو كافٍ في حصول البراءة اليقينية.

وقد يقال : لا حاجة إلى القيام ثانياً ، بل يكون إقدامه على الصدقة بعد القيام الأوّل كافٍ في الخروج من عهدة كلا التكليفين ، لأنّ الواجب عليه إن كان هو الصدقة على تقدير القيام فقد حصلت ، وإن كان هو القيام على تقدير الصدقة فقد

١٢٣

حصل أيضاً ، بناءً على أنّ المراد من وجوب القيام على تقدير الصدقة هو وجوبه على تقدير اتّفاق حصولها في هذا اليوم مثلاً ، فيكفي في الخروج عن عهدته اتّفاق وجوده ولو قبلها ، فتأمّل.

وثانياً ، وهو العمدة في حلّ الإشكال المزبور : أنّه ليس مجرّد ترك المباح هو الموجب لاسقاط حرمة الميتة واقعاً ، لما عرفت من الإشكال عليه فيما تقدّم ، وحاصله أنّ ترك الحرام وإن كان حرجياً عند ترك المباح ، إلاّ أن ذلك الحرج لا يوجب سقوط حرمة ذلك الحرام ، بل يوجب بحكم العقل إلزام المكلّف بالإقدام على ذلك المباح ليرتفع الحرج في ترك الحرام ، بل إنّ الترك الموجب لاسقاط حرمة الميتة لكونها معه حرجية هو الترك الذي يلزم به المكلّف ، وهو ترك المباح الناشئ عن انسداد باب وجوده في وجهه ، من جهة العلم الاجمالي بوجود الميتة والجهل بها عيناً ، الموجب لحكم العقل عليه بلزوم ترك كلّ منهما ، وبعد أن صار ترك المباح لازماً على ذلك المكلّف ، يكون إطلاق حرمة الميتة وشموله للزوم تركها في حال ترك الطرف الآخر حرجياً فيرتفع ، فلم يكن ارتفاع حرمة الميتة واقعاً بازاء مجرّد كون المكلّف تاركاً لطرفها ، بل بازاء كونه ملزماً بترك ذلك الطرف على وجه ينسدّ عليه باب وجود ذلك الطرف إلى آخر الأبد ، فلا يكفي في ارتفاع حرمة الميتة مجرّد أنّه تارك للطرف قبل الإقدام عليها ، بل لابدّ فيه من كون المكلّف تاركاً للطرف إلى آخر الأبد ، ويكون باب وجوده منسدّاً في وجهه ولو من جهة العلم الاجمالي ، إذ لو تسنّى له وجوده لم يكن تحريم تلك الميتة حرجياً عليه ، وحينئذ نقول : إنّ صحّة ارتكابه للأُولى يتوقّف على كون تركها حرجياً ، ولا يكون حرجياً إلاّمن جهة لزوم ترك الأُخرى عليه ، وأنّه ملزم بذلك الترك من ناحية حكم العقل الناشئ عن العلم الاجمالي ، وهذه الجهة باقية بحالها بعد فراغه

١٢٤

من الأُولى ، فلو أراد أن يرتكب الثانية بعد ذلك يكون ممنوعاً بذلك العلم الاجمالي السابق الذي ألزمه بتركها ، وأوجب حرجية ترك الأُولى وسوّغ له الإقدام عليها.

وبالجملة : أنّ جواز ارتكابه للأُولى مشروط بانسداد باب وجود الثانية ، فإن كان في الواقع وفي علم الله تعالى لا يقدم على الثانية إلى آخر الأبد ، صحّ له الإقدام على الأُولى ، ويكون ارتفاع الحرمة الواقعية عن الميتة الواقعية مشروطاً بكونها حرجية ، ولا تكون حرجية إلاّبعد كونه ملزماً بترك طرفها ، فالقول بأنّ إلزامه بترك الثانية بعد الأُولى إلزام جديد خلف لكون الاجتناب عن الميتة حرجياً عليه ، لأنّ حرجية الاجتناب عنها هو عين كونه ملزماً بحكم العقل بترك طرفها ، فتأمّل فإنّ في النفس شيئاً من ذلك.

والذي يهوّن الخطب هو قلّة الجدوى لهذا المبحث ، لما عرفت من أنّ الإشكال فيه إنّما هو في الشبهات التحريمية دون الوجوبية ، ويمكننا أن نقول إنّ دليل العسر والحرج لا يجري في المحرّمات ، فيكون البحث فيها حينئذ ساقطاً بالمرّة.

أمّا الشبهات الوجوبية فهي غالباً يكون الطرفان تدريجيي الحصول ، مثل أن يعلم إجمالاً وجوب الظهر أو الجمعة ، وقد اتّفق أنّ المكلّف يعسر عليه الجمع بينهما ، فهذا العلم يؤثّر أثره من تنجّز الطرفين فيلزمه الاتيان بهما ، لكنّه عند فراغه من الجمعة مثلاً تسقط عنه الظهر ، لأنّ الواجب الواقعي إن كان هو الجمعة فقد أدّاه ، وإن كان الواجب الواقعي هو الظهر فهي في هذا الحال يعسر عليه الاتيان بها ، فيسقط وجوبها لأجل العسر والحرج.

نعم ، لو اتّفق مثل هذا العلم الاجمالي بالنسبة إلى فعلين يكون أوّلهما

١٢٥

وآخرهما متطابقين ، كما لو [ علم ] بوجوب صوم هذا اليوم أو وجوب بقائه طول ذلك اليوم في مسجد الكوفة مثلاً ، واتّفق عسر الجمع بينهما ، ففي مثل ذلك نحتاج إلى ارتكاب تلك الطريقة المبنية على التقييد ، بأن نقول إنّ مقتضى العلم الاجمالي هو الاتيان بهما ، لكنّه يقول إنّ الواجب الواقعي لو كان هو الصوم مثلاً لكان إيجابه عليه في حال بقائه في مسجد الكوفة حرجاً عليه ، فيكون مرتفعاً في حال بقائه في مسجد الكوفة ، فعند كونه في مسجد الكوفة يرتفع وجوب الصوم عليه لكونه حرجياً في ذلك [ الحال ] ، وحينئذ لابدّ أن يكون وجوب الصوم عليه مقيّداً بأن لا يكون في مسجد الكوفة ، وهكذا الحال بالنسبة إلى كونه في مسجد الكوفة ، وتكون النتيجة أنّ كلاً منهما لو كان هو الواجب الواقعي لكان وجوبه مقيّداً بعدم الاتيان بالآخر ، ومحصّله هو التخيير ، الموافق عملاً لتبعيض الاحتياط ، بعد فرض أنّه بالنظر إلى العلم الاجمالي ملزم بكلّ منهما ليكون إيجاب الصوم مثلاً عليه مقيّداً بعدم الاتيان بالآخر ، وأنّ الآخر وهو الكون في مسجد الكوفة وإن كان في الواقع مباحاً على هذا التقدير ، أعني كون الواجب الواقعي هو الصوم ، لكنّه مع ذلك هو ملزم بأن يأتي بذلك الآخر بسائق العلم الاجمالي ، فيكون الحاصل أنّك عند إتيانك بالكون في مسجد الكوفة لكونك ملزماً به بسائق العلم الاجمالي يكون وجوب الصوم حرجياً عليك ، فيسقط عنك عند ما تأتي بالكون في مسجد الكوفة ، ويكون وجوب الصوم عليك واقعاً ـ لو كان هو الواجب الواقعي ـ منحصراً بما إذا لم تأت بالكون في مسجد الكوفة ، وهكذا الحال في طرف العكس ، وبالأخرة تكون النتيجة هو سقوط الاحتياط فيما يرتكبه وبقاءه فيما لم يرتكبه ، ولا يكون ذلك مسقطاً للعلم الاجمالي بالمرّة ، لأنّ هذه العملية متأخّرة عن تأثير العلم الاجمالي أثره ، لكن حيث إنّ دليل نفي الحرج لمّا

١٢٦

لم يمكن تحكيمه على نفس الاحتياط العقلي ، جعلناه وارداً على الوجوب الواقعي لو كان منطبقاً على هذا الطرف مع فرض إتيانه بالطرف الآخر بسائق من العلم الاجمالي.

ولا يخفى أنّه بناءً على ذلك يكون قبل الشروع فيهما عالماً بوجود التكليف الواقعي بينهما ، لحصول شرط وجوبه وهو عدم الاتيان بالآخر ، سواء كان الواجب الواقعي هو الصوم أو كان الواجب الواقعي هو الكون في المسجد ، وعند إقدامه على كلّ منهما مع الحرج في الجمع بينهما لا يكون واحد منهما متّصفاً بالوجوب الواقعي ، لأنّ كلّ واحد منهما يكون وجوده رافعاً لوجوب الآخر ، سواء كان هو الصوم أو كان هو الكون في المسجد ، ولو جاء بأحدهما وترك الآخر كان من الموافقة الاحتمالية ، ولو تركهما معاً كان من المخالفة القطعية.

وربما يقال : إنّ هذا لا يحتاج إلى ما ذكر في الشبهة التحريمية من التشبّث بأذيال العلم الاجمالي ، بل يكون حاله حال التدريجيين ، فإنّه بمجرّد إقدامه على أحدهما يتعيّن الآخر للسقوط لو كان هو الواجب الواقعي ، نعم في صورة الاتيان بهما معاً يكون الحكم بكون كلّ منهما غير واجب مبنيّاً على ما تقدّم ، فإنّ فعله الصوم مقارناً لكونه في مسجد الكوفة يكون حرجياً عليه ، بواسطة كون العلم الاجمالي ملزماً له بالكون في مسجد الكوفة الموجب لكون الصوم حرجياً عليه ، فتأمّل.

وربما يقال في صورة الاضطرار إلى واحد غير معيّن : بالمنع من ارتكاب الطرفين دفعة ، وجواز ارتكابهما تدريجاً ، والوجه فيه هو أنّ المنع من ارتكاب النجس الموجود بينهما يكون مقيّداً بارتكاب أحد الطرفين الرافع لاضطراره ،

١٢٧

وحينئذ ففي حال ارتكابهما لمّا كان قد ارتفع اضطراره بارتكابه لأحدهما ، كان وجوب الاجتناب عن النجس الموجود في البين غير موقع له في الاضطرار ، فيكون بذلك قد ارتكب النجس في حال كونه غير مضطرّ إليه ، وهذا بخلاف ما لو ارتكب أحدهما فإنّه عند ارتكابه كان مضطرّاً إليه ، فلو كان هو النجس لم يكن اجتنابه واجباً ، لتحقّق شرط ارتفاع التكليف بالاجتناب عن النجس ، وهو عدم الارتكاب الرافع لاضطراره ، وحينئذ فعند إقدامه على الثاني لا يكون إلاّمن قبيل الإقدام على ما يحتمل كونه هو النجس (١)

__________________

(١) بل ربما يقال : إنّه في مرتبة ارتكابهما دفعة واحدة لا يكون الاجتناب عن النجس الذي هو بينهما منجّزاً عليه ، لأنّ تنجّزه إنّما يكون معلولاً لارتفاع اضطراره ، وهو ـ أعني ارتفاع الاضطرار ـ إنّما يكون معلولاً للارتكاب ، وحينئذ لابدّ أن يكون توجّه الاجتناب عن النجس متأخّراً عن الارتكاب رتبة ، فلا يعقل أن يكون في عرض الارتكاب.

بل قد يقال : إنّ توجّه وجوب الاجتناب متأخّر زماناً عن الارتكاب فضلاً عن كونه متأخّراً عنه رتبة ، لأنّه إنّما يتوجّه في حال كونه غير مضطرّ إليه ، ولا يكون ذلك إلاّبعد تحقّق الارتكاب ، ولا يكفي في توجّهه وقوعه في زمان الارتكاب ، فنحن وإن أمكننا دفع إشكال التأخّر الرتبي ، بدعوى أنّ ارتكاب غير النجس وإن وقع مقارناً في الزمان مع ارتكاب النجس ، إلاّ أنه لا مانع من كون ارتكاب غير النجس متقدّماً رتبة على ارتكاب النجس ، ليصحّ أن يكون ارتكاب غير النجس شرطاً في توجّه وجوب الاجتناب عن النجس الذي هو ـ أعني الوجوب المذكور ـ سابق في الرتبة على ارتكاب النجس ، ليكون ارتكاب النجس عصياناً لذلك الوجوب ، إلاّ أنه ـ أعني توجّه وجوب الاجتناب عن النجس ـ لابدّ أن يكون متأخّراً زماناً عن ارتكاب غير النجس ، والمفروض أنّ ارتكاب النجس لم يتأخّر زماناً عن ارتكاب غير النجس ليكون ارتكابه ـ أعني النجس ـ عصياناً لوجوب الاجتناب عنه [ منه قدس‌سره ].

١٢٨

وهذا هو الظاهر من المستمسك في ملحقّ الجزء الثاني من مباحث القبلة ، فإنّه قال : والعمدة في ذلك أنّ الارتكاب إنّما أُخذ شرطاً للتكليف من جهة أنّه رافع للاضطرار ، فلا مانع من ثبوت التكليف معه ، بخلاف الارتكاب غير الرافع للاضطرار ، فإنّه إذا فرض غير رافع للاضطرار لا يجدي التقييد به في كون التكليف غير اضطراري ، بل هو على حاله اضطراري فلا يمكن ثبوته. وعليه فالتقريب المذكور إنّما يقتضي المنع من ارتكابهما دفعة ، لتحقّق الارتكاب الرافع للاضطرار فيتحقّق معه التكليف كما عرفت ، ولا يمنع من ارتكابهما تدريجاً ، فإنّه إذا ارتكب أحدهما ارتفع اضطراره حينئذ ، فلا يكون ارتكاب الثاني ارتكاباً رافعاً للاضطرار ، فتكون المخالفة فيه احتمالية من أجل احتمال كونه النجس لا قطعية ، لاحتمال كون النجس هو الذي ارتكبه أوّلاً ، والتكليف باجتنابه منتف لعدم تحقّق شرطه ، وهو ارتكاب غيره الرافع للاضطرار كما لا يخفى بالتأمّل (١).

قوله : فلا يكون ارتكاب الثاني ارتكاباً رافعاً للاضطرار (٢).

يمكن التأمّل فيه ، فإنّ ارتكاب الثاني وإن لم يكن هو الرافع للاضطرار ، إلاّ أنّ الاضطرار قد ارتفع بارتكابه الأوّل ، ومعه لا يكون وجوب الاجتناب عن النجس حكماً اضطرارياً. نعم هناك جهة أُخرى وهي أنّه لا ريب في أنّه يجوز ارتكاب الأوّل حتّى لو كان هو النجس ، لأنّ وجوب الاجتناب عن النجس كان إلى أن شرع في ارتكاب الأوّل ضررياً عليه ، فيكون مرفوعاً ، وبعد فراغه منه نقول إنّه لو كان الثاني هو النجس كان وجوب الاجتناب عن النجس متوجّهاً إليه ، لكنّه لا يعلم ذلك إجمالاً ولا تفصيلاً ، لاحتمال كون النجس هو ما ارتكبه أوّلاً.

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ٥ : ٢٠٣.

(٢) مستمسك العروة الوثقى ٥ : ٢٠٣.

١٢٩

ولكن وجوب الاجتناب عن النجس إنّما يكون ضررياً قبل الارتكاب بواسطة الجهل بعينه وتردّده بين الطرفين ، الموجب بحكم العقل لاجتنابهما ، وحينئذ يكون ذلك الوجوب الواقعي بواسطة انتهائه إلى الاجتناب عن الاثنين ضررياً عليه ، لكن لا يرتفع بقول مطلق ، بل في خصوص حال كونه ضررياً وهي ما لو لم يرتكب البعض ، وذلك عبارة أُخرى عن قولنا إنّ النجس لو كان هو الآنية الصغرى لكان وجوب الاجتناب عنها مع فرض كونه مجتنباً عن الكبرى باقتضاء العلم الاجمالي ضررياً عليه فيكون مرتفعاً. وحاصله : هو أنّه عند ارتكاب الكبرى يلزمه الاجتناب عن الصغرى لو كانت هي النجسة ، وهكذا الحال من ناحية الكبرى ، ويكون الحاصل هو علمه الاجمالي بأنّه إمّا يجب عليه الاجتناب عن الكبرى عند ارتكابه للصغرى ، وإمّا أن يجب عليه الاجتناب عن الصغرى إن ارتكب الكبرى ، وهذا العلم الاجمالي حاصل قبل ارتكابهما ، لكنّه لا يوجب الترخيص في كلّ منهما نظراً إلى حصول شرطه ، بدعوى أنّه يعلم بأنّه مرخّص في هذه على تقدير ترك تلك وفي تلك على تقدير ترك هذه ، وحينئذ فعند تركهما يكون مرخّصاً في كلّ منهما ، فإنّ ذلك خلاف العلم الوجداني الحاصل قبل ارتكابهما ، فإنّه في ذلك الحال يعلم بأنّ أحدهما نجس يجب عليه اجتنابه.

نعم ، إنّه في ذلك الحال مرخّص في أحدهما على البدل ، وهو معنى الترخيص في أحدهما المقيّد بترك الأُخرى ، وقد حقّق في محلّه (١) أنّ الترخيص وغيره من الأحكام المشروطة لا ينقلب إلى الاطلاق عند وجود شرطه ، فإنّ الترخيص في هذه على تقدير ترك تلك لا يكون ترخيصاً مطلقاً إن وجد شرطه ، وكذلك الترخيص في تلك ، بل هو قبل ارتكابهما متوجّه إليه أحد الترخيصين ،

__________________

(١) راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣١٧ وما بعدها.

١٣٠

كما أنّه متوجّه إليه أحد التكليفين ، وهو الاجتناب عن هذه لو ارتكب تلك ، أو الاجتناب عن تلك لو ارتكب هذه ، فلو فعلهما معاً فقد ارتكب المعصية قطعاً ، بمعنى أنّه لم يجتنب عن النجس في حين علمه بوجوب الاجتناب عنه. ولو ارتكب أحدهما وهي الصغرى ثمّ أراد ارتكاب الكبرى كان ممنوعاً عنه عقلاً ، لأنّه قد علم أوّلاً بأنّه إمّا أن يجب عليه اجتنابها إن ارتكب الصغرى ، أو الاجتناب عن الصغرى إن ارتكب الكبرى ، فهذا وهو اجتنابه للكبرى عند ارتكابه للصغرى هو أحد طرفي العلم الاجمالي ، فيكون متنجّزاً عليه قبل أن يرتكب الصغرى ، فيكون ارتكابها ممنوعاً عنه عقلاً ، فإنّ المخالفة في ارتكاب الكبرى بعد الصغرى وإن كانت احتمالية ، إلاّ أنها أحد طرفي العلم الاجمالي ، فتكون منجّزة مستحقّاً عليها العقاب لو صادفت الواقع ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّك قد عرفت الوجه في قولنا : إنّ الصغرى لو كانت هي النجسة لكان وجوب الاجتناب عنها ضررياً عند تركه للكبرى ، مع أنّ ذلك الوجوب على تقديره لا يكون ضررياً ، لأنّ الكبرى في ذلك الحال تكون مباحة ، ولا ريب أنّ ترك المباح لا يوجب كون وجوب الاجتناب عن الصغرى ضررياً.

وحاصل ذلك الوجه هو كون الترك للكبرى مستنداً للعلم الاجمالي بوجود النجس بينهما الموجب بحكم العقل لتركه لكلّ منهما ، وحينئذ فيكون الترخيص في ارتكابه للصغرى معلولاً لمنجّزية العلم الاجمالي في الكبرى ، فكيف يعقل أن يكون هذا الترخيص مسقطاً لما يقتضيه العلم الاجمالي في الكبرى ، وهل ذلك إلاّ من قبيل ما يلزم من وجوده عدمه ، أعني أنّه يلزم من منجّزية العلم الاجمالي في الكبرى الترخيص في الصغرى ، وهو يوجب عدم منجّزية العلم في الكبرى ، هذا خلف فتأمّل. هذا في المحرّمات.

١٣١

وأمّا الواجبات ، فإن كانت اقترانية كما مثّلنا به من وجوب صوم يوم بعينه أو البقاء في المسجد تمام ذلك اليوم ، فإنّه بعد العملية المذكورة يكون عالماً بوجوب أحدهما عند تركه الآخر ، فلا يجوز له تركهما معاً ، لأنّه حينئذ عالم بأنّه يترك واجباً متنجّزاً عليه. نعم يجوز له ترك الآخر إن فعل أحدهما.

وإن لم تكن اقترانية بل كانت تدريجية ، كما في مثل الصلاة إلى الجهات الأربعة التي يعلم أنّ القبلة فيها وقد ضاق الوقت عن إتمام الأربع ، وكما في مثال الدرهم الذي يعلم بأنّه يجب دفعه إلى زيد وقد تردّد زيد بين أشخاص أربعة ، وليس عنده إلاّثلاثة دراهم ، فلا يحتاج التبعيض فيه إلى هذه العملية ، بل يلزمه الجري على مقتضى العلم الاجمالي حتّى يعجز أو يبلغ العسر والحرج أو الضرر ، فيكون التكليف ساقطاً لو كان في الباقي.

نعم ، لو كان العذر في طرف معيّن ، كان العلم الاجمالي ساقطاً لو كان ذلك العذر سابقاً أو مقارناً ، بخلاف ما لو كان بعد العلم ، وإن كان للشيخ قدس‌سره كلمة في ذيل الشبهة الوجوبية غير المحصورة ربما كان ظاهرها منافياً لذلك.

وللمرحوم الحاج آغا رضا قدس‌سره كلام في هذا المقام نقلناه فيما سيأتي إن شاء الله فيما علّقناه على ما أفاده شيخنا في التنبيه الأوّل ، ونقلنا هناك كلمة الشيخ المشار إليها ، فراجع (١).

ويمكن أن يوجّه ما ذكرناه ، من أنّ الساقط بدليل العسر والحرج هو إطلاق التكليف بالاجتناب عن الميتة الواقعية وشموله لما إذا اجتنب عن الطرف الآخر وتركه ، بعد تكميله بما ذكرناه من اقتضاء العلم الاجمالي للزوم الترك المذكور ، بأن يقال : ليس المراد بسقوط وجوب الاجتناب عن الميتة الواقعية عند ترك

__________________

(١) راجع الحاشية الآتية في الصفحة : ٢١٣ وما بعدها.

١٣٢

الطرف الآخر هو سقوط وجوب الاجتناب عنها بالمرّة ، ليكون مقتضاه هو أنّه قبل ارتكاب أحد الطرفين تكون الميتة الواقعية محكومة بالإباحة واقعاً ، ويكون لازمه أنّ تحريم الطرف الباقي على تقدير كونه هو الميتة بعد ارتكاب الطرف الأوّل تحريم جديد لينفى بالبراءة ، بل المراد بذلك هو سقوط حرمة الميتة وجواز ارتكابها لخصوص رفع الحرج لا مطلقاً ، بناءً على أنّ تحريم أكل الميتة يقتضي المنع من ذلك الأكل وسدّ جميع أبواب وجوده ، فينحلّ المنع من أكلها إلى المنع من جميع أنحاء وجود الأكل ، ويكون دليل نفي الحرج رافعاً للمنع من وجود الأكل إذا كان بنحو رفع الحرج به ، فيبقى تحريم الميتة الموجودة في البين على ما هو عليه من اقتضائه سدّ أنحاء وجود أكلها ، إلاّنحواً واحداً من تلك الأنحاء وهو كونه سادّاً للضرورة ورافعاً للحرج عن المكلّف ، فلا يرتفع بدليل نفي الضرر والعسر والحرج إلاّهذا المقدار من أثر التحريم ، دون باقي الآثار وهو المنع من وجوده الذي لا يكون لأجل سدّ الضرورة ورفع الحرج.

فنقول : إنّ الميتة الموجودة هي حرام واقعاً ، ويلزم الاجتناب عن جميع أنحاء أكلها إلاّ النحو الذي يسدّ به الضرورة ، وهو لا ينطبق إلاّعلى أكل الطرف الأوّل دون أكل الطرف الثاني بعد أكل الطرف الأوّل ، فيبقى أكل الطرف الثاني على ما هو عليه من اقتضاء حكم العقل بلزوم الاجتناب عنه ، لكونه طرفاً للعلم الاجمالي بالميتة بين الطرفين ، الذي يكون حكمها المنع من جميع أنحاء أكلها ما عدا ما يرتفع به الحرج وتنسدّ به الضرورة ، المفروض انحصار انطباقه على أكل الأُولى في ظرف عدم أكل الأُخرى ، وعدم انطباقه على أكل الثانية بعد أكل الأُولى ، فتأمّل جيّداً.

لا يقال : يمكن إتمام هذه الطريقة ـ أعني طريقة تبعيض الاحتياط فيما

١٣٣

نحن فيه ـ بما ذكرتموه في باب الترتّب في مسألة الغريقين اللذين لا يكون أحدهما أهمّ من الآخر ، مع فرض عدم قدرة المكلّف على إنقاذهما معاً ، من أنّ العقل يقيّد إطلاق وجوب الإنقاذ في كلّ منهما بعدم إنقاذ الآخر ، أو أنّه يسقط كلا الخطابين وينتزع خطاباً تخييرياً بينهما ، فيلزم إنقاذ أحدهما وترك الآخر ، فلِمَ لا تجرون هذه الطريقة فيما نحن فيه ، فإنّ الحكم الواقعي الشرعي وهو وجوب الاجتناب عن النجس الموجود في البين وإن لم يكن في حدّ نفسه تكليفاً بغير المقدور ، إلاّ أن العلم الاجمالي بذلك التكليف الواقعي في البين يولّد حكمين عقليين احتياطيين وهو حكم العقل بوجوب الاجتناب عن هذا الطرف ووجوب الاجتناب عن ذلك الطرف ، وهذان الوجوبان العقليان لا يقدر المكلّف على الجمع بينهما ، فقهراً يحكم العقل ثانياً بتقييد كلّ من الاجتنابين بعدم الاجتناب عن الآخر ، أو يحكم ثانياً بحكم تخييري بينهما ، وهو معنى تبعيض الاحتياط.

وهذه الطريقة جارية في كلّ ما يكون من هذا القبيل ، كما لو علم إجمالاً على نحو الشبهة الوجوبية بأنّه يجب عليه عصر الجمعة إمّا الكون في مسجد الكوفة أو الكون في حرم سيّد الشهداء مثلاً ، أو أنّه كان قد نذر أحدهما واشتبها عليه ، بل هذا جارٍ في الشبهة قبل الفحص فيما لو احتمل وجوب هذا الضدّ واحتمل أيضاً وجوب ضدّه الآخر ، أو احتمل وجوب هذا الفعل واحتمل وجوب الفعل الآخر واتّفق أنّه لم يقدر على الجمع بينهما ، فإنّ الحكم في جميع ذلك هو التبعيض.

لأنّا نقول : إنّ ذلك مسلّم لا ريب فيه ، ولكنّه إنّما يتمّ فيما لو كان الاضطرار بالغاً حدّ عدم القدرة عقلاً ، دون ما لم يكن في البين إلاّمجرّد العسر والحرج ، الذي ينحصر رافعيته للتكليف بحكم الشارع ، الموقوف على كون المرفوع حكماً

١٣٤

شرعياً يكون هو الموجب للعسر والحرج.

قوله : قلت : العلم الاجمالي وإن كان بالنسبة إلى متعلّقه لا يكون إلاّ كاشفاً وطريقاً ، إلاّ أنه بالنسبة إلى التنجيز وجريان الأُصول في الأطراف وتعارضها وتساقطها يكون تمام الموضوع ... الخ (١).

محصّله : أنّ كون العلم الاجمالي منجّزاً إمّا من جهة نفس علّية العلم لذلك ، وإمّا من جهة تعارض الأُصول ، وكلّ منهما غير متحقّق في المقام.

أمّا الأوّل ، فلأنّ العلم وإن كان منجّزاً بنفسه إلاّ أنه في المقام لا يكون كذلك ، أمّا بالنظر إلى ما بعد حصول العلم الذي هو بعد الاضطرار إلى الطرف المعيّن الذي هو الآنية الكبرى مثلاً ، فلأنّ المفروض أنّه ليس له أثر بالنسبة إليها ، لفرض كونه مضطرّاً إليها. وأمّا بالنسبة إلى ما قبل الاضطرار فلاستحالة كون التنجيز الذي هو أثر العلم سابقاً عليه وإن كان نفس المعلوم سابقاً.

وأمّا الثاني أعني تعارض الأُصول ، فلأنّ الأصل لا يجري في الطرف الذي اضطرّ إليه أعني الآنية الكبرى ، لأنّ جريان الأصل فيها إن كان قبل الاضطرار الذي هو قبل العلم الاجمالي فلأنّها في ذلك الظرف مقطوعة الطهارة وإن كانت في الواقع إحدى طرفي العلم الاجمالي. وإن كان المراد إجراء الأصل فيها الآن بالنظر إلى ظرف ما قبل الاضطرار ، فذلك لا يترتّب عليه أثر. وإن كان المراد إجراء الأصل فيها الآن بالنظر إلى هذا الظرف أعني ظرف ما بعد العلم والاضطرار ، فذلك لغو ، لأنّها جائزة الارتكاب في هذا الحال أعني حال ما بعد الاضطرار. فعلى أيّ لا تكون الآنية الكبرى مجرى للأصل في شيء من هذه الظروف ، ويكون الأصل جارياً في الصغرى بلا معارض ، هذا ملخّص الجواب عمّا تضمّنه قوله : إن قلت.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٩٥.

١٣٥

لكن بقيت جهة أشار إليها في ضمن قوله : « إن قلت » لم يصرّح في الجواب عنها ، وهي قوله : ولم يعلم وقوع الاضطرار إلى متعلّق التكليف ليسقط الخ (١) ، لم يتعرّض في الجواب (٢) ، وشرح هذه الجهة ما تضمّنه ما حرّرته عنه فيها والجواب عنها ، وذلك هو قوله فيما حرّرته عنه : ودعوى أنّه فعلاً يعلم بوجود ملاك التكليف وتوجّهه إليه فيما قبل الاضطرار ، ويشكّ في كون هذا الاضطرار مسقطاً له ، فيكون العلم منجّزاً ، لكونه من قبيل من علم بوجود ملاك التكليف وشكّ في تحقّق مسقطه ، ومعه يجب الفحص أو الاحتياط ، ممنوعة.

أمّا أوّلاً : فلأنّ عدم الاضطرار ليس من قبيل الشروط العقلية كعدم القدرة العقلية في كون ملاك التكليف موجوداً في مورده بتمامه ، وأنّ العجز العقلي يكون مسقطاً للتكليف من دون تأثير في ناحية الملاك ، كي يكون من قبيل الشكّ في السقوط مع إحراز تحقّق الملاك التامّ ، بل هو ـ أعني عدم الاضطرار ـ شرط شرعي يكون وجوده موجباً لنقصان ملاك التكليف ، فلا يكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ في المسقط مع إحراز ملاك التكليف ، إذ ليس المراد من الاضطرار ما يكون بالغاً إلى درجة العجز وعدم القدرة العقلية ، بل المراد منه ما يكون مجامعاً للقدرة العقلية وموجباً لحكم الشارع بجواز الارتكاب ، وحينئذ فلابدّ أن يكون المصحّح لحكم الشارع بجواز ارتكاب مورده هو نقصان ملاك وجوب الاجتناب عنه عن أن يكون قابلاً للتأثير في ذلك الوجوب.

وأمّا ثانياً : فلأنّ هذه الدعوى بمسألة الخروج عن الابتلاء أولى منها بمسألة الاضطرار ، لما عرفت من رجوع الابتلاء إلى التمكّن العادي الملحق

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٩٤.

(٢) [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، والأمر سهل بعد وضوح المراد ].

١٣٦

بالتمكّن العقلي في كونه من الشروط العقلية ، التي يكون انتفاؤها موجباً لسقوط التكليف دون نقصان ملاكه ، فيكون جريان هذه الدعوى فيها من العلم بملاك التكليف والشكّ في مسقطه أولى من جريانها في مسألة الاضطرار ، لما عرفت من كون عدم الاضطرار من الشروط الشرعية التي يكون انتفاؤها موجباً لنقصان الملاك ، مع أنّهم لم يلتزموا بذلك في مسألة الابتلاء.

وأمّا ثالثاً : فلأنّ ملاك التكليف والشكّ في مسقطه إنّما يوجب الاحتياط حيث يكون ملاك التكليف محرزاً بالقياس إلى المكلّف كما تقدّم من المثال ، والوجه فيه هو أنّ بناء العقلاء على الفحص عن المسقط ولزوم الاحتياط مع عدم إحرازه يكون طريقاً عقلائياً حاكماً على مثل أصل البراءة من الأُصول النافية ، وفي مثل الابتلاء كما إذا كان أحد الأطراف خارجاً عن الابتلاء ، لا يكون ملاك تكليف ذلك المكلّف محرزاً عنده ، لتردّد الأمر بين كون النجس هو هذا الطرف الذي هو داخل في ابتلائه ، فيكون الموجود هو ملاك تكليفه ، وبين كونه ذلك الطرف الخارج عن ابتلائه ، فلا يكون الموجود هو ملاك تكليفه ، بل ملاك تكليف شخص آخر ممّن يدخل ذلك الطرف في ابتلائه ، فلا يكون المعلوم هو ملاك تكليفه.

قلت : وكذا من اضطرّ إلى واحد معيّن فإنّه يدور الأمر عنده بين كون الموجود ملاك تكليفه إن كان النجس هو ما لم يضطرّ إليه ، وبين كونه ملاك شخص آخر ممّن لم يكن مضطرّاً إن كان النجس هو ما اضطرّ إليه ، انتهى.

ولكن الظاهر أنّ ذلك كلّه إذا لم يكن الاضطرار أو الابتلاء بعد التكليف الواقعي ، بأن يكون الطرف حين توجّه التكليف به واقعاً خارجاً عن الابتلاء أو مضطرّاً إليه كما في الصورة الأُولى.

١٣٧

أمّا لو كان التكليف الواقعي قد توجّه إليه في حال كونه غير عالم به ، ثمّ بعد مدّة خرج الطرف عن الابتلاء أو صار مضطرّاً إليه ، ثمّ بعد الخروج أو الاضطرار علم بسبق التكليف الواقعي ، فإنّ الإشكال في هذه الصورة لا يندفع بما أُفيد أوّلاً وثالثاً ، بل يكون الجواب هو ما أُفيد في أصل المطلب الذي تضمّنه قوله : « قلت » ، وهو أنّ العلم لا يعقل أن يكون منجّزاً فيما قبل حدوثه ، والمفروض أنّ ما بعد حدوثه كان مقروناً بعدم الابتلاء بالطرف المذكور أو بالاضطرار إليه ، وما ذلك إلاّنظير من صلّى الظهر معتقداً أنّها هي الواجبة ثمّ بعد الفراغ علم إجمالاً بالوجوب المردّد بينها وبين الجمعة ، ولا مجرى في ذلك لأصالة الاشتغال ، لانحصار موردها بالتكليف المنجّز بأحد طرق التنجيز ثمّ الشكّ في سقوط ذلك الذي تنجّز وانشغلت ذمّته به ، وفيه تأمّل.

وهذه الأجوبة الثلاثة التي حرّرناها عنه قدس‌سره قد حرّرها السيّد ( سلّمه الله تعالى ) في تحريره (١) ، ولكن على اختلاف في ذلك بينه وبين ما حرّرناه ، فإنّ الجواب الأوّل كأنّه راجع إلى دعوى كون المقام من قبيل التردّد بين ما هو مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، وأنّ ما هو مقطوع البقاء غير معلوم الحدوث ، ولكن هذا بمجرّده غير نافع ، فإنّه آت فيما لو كان الاضطرار إلى المعيّن بعد حصول العلم الاجمالي.

وأمّا الجواب الثاني ، فهو راجع إلى عدم تعارض الأُصول على ما عرفت توضيحه ، ولكن ذلك أيضاً بمجرّده غير نافع بعد أن [ كان ] مقتضى الشكّ في السقوط هو لزوم الاجتناب عن غير المضطرّ إليه ، فلابدّ في إتمامه من أنّ قاعدة الطهارة في الباقي حاكمة على أصالة الاشتغال بالتكليف بالاجتناب ، حيث إنّ هذا

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٥٤ ـ ٤٥٦.

١٣٨

التكليف متفرّع على احتمال كون الباقي نجساً ، وحاصل ذلك أنّ نسبة أصالة الطهارة في الباقي إلى أصالة الاشتغال نسبة الأصل الموضوعي إلى الأصل الحكمي.

مضافاً إلى ما عرفت من أنّ أصالة الاشتغال إنّما تجري بعد الفراغ عن الاشتغال المتوقّف على تنجّز ما تشتغل به الذمّة ، وذلك لا يكون إلاّبالعلم أو ما يقوم مقام العلم ، والمفروض أنّه ليس في البين إلاّهذا العلم المتأخّر الذي لا يكون أثره وهو التنجّز سابقاً عليه ، فأين الاشتغال المنجّز حتّى تجري أصالة الاشتغال.

وأمّا الثالث ، فحاصله الركون إلى حديث الرفع فيما اضطرّ إليه (١) ، وهي إنّما ترفعه من حين الاضطرار ، فما أشكل به المشكل من أصالة الاشتغال بالنسبة إلى ما قبل الاضطرار باقٍ بحاله ، فراجع وتأمّل.

ثمّ إنّه في التحرير المذكور (٢) ذكر صورة المقارنة وأشكل فيها بما مفاده : أنّ للاضطرار مرتبتين : مرتبة صدوره وتلبّس المضطرّ به الذي نعبّر عنه بالمعنى المصدري ، ومرتبة تحقّقه أعني كون المكلّف مضطرّاً ، وهو الذي نعبّر عنه بالاسم المصدري ، وهذه الثانية هي مرتبة سقوط التكليف ، لأنّ أثر الاضطرار الذي هو سقوط التكليف يكون متأخّراً رتبة عن نفس الاضطرار وصدوره ، وحينئذ ففي المرتبة السابقة يكون العلم بالتكليف متحقّقاً ، إذ في هذه المرتبة لا سقوط ، وإنّما السقوط في المرتبة اللاحقة ، فعند الوصول إلى المرتبة اللاحقة تكون المسألة من قبيل الشكّ في السقوط. وأجاب عنها بما محصّله : أنّه لا يعقل

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧.

١٣٩

التكليف في المرتبة الأُولى التي يحصل السقوط معها غايته أنّه متأخّر رتبة ، ففي المرتبة الأُولى لا علم بتكليف على كلّ حال.

بل حسبما أشار إليه في الوسيلة (١) أنّه لابدّ في تأثير العلم من مضي زمان يمكن فيه المخالفة ، فلو علم بالنجاسة بين الاناء والثوب وكان أثر نجاسة الاناء منحصراً بالشرب مثلاً ، لم يكن العلم المذكور مؤثّراً إلاّ إذا كان بعد العلم يمكنه الشرب ، فلو كان قد حصل له العلم المذكور ، وبعده بلا فصل زمان يسع الشرب اضطرّ إلى الشرب ، لم يكن العلم المذكور مؤثّراً ، فراجع وتأمّل.

قوله : وما قيل في المقام من الفرق بين تلف البعض بعد العلم والاضطرار إليه بعده ـ إلى قوله ـ واضح الفساد ، فإنّه لا فرق في تأثير العلم الاجمالي واقتضائه التنجّز بين أن يتعلّق بالتكليف المطلق الغير المحدود شرعاً ، وبين أن يتعلّق بالتكليف المردّد بين المحدود وغير المحدود مع تعدّد المتعلّق ... الخ (٢).

ينبغي أن لا يفرّق في ذلك بين علمه من أوّل الأمر بطروّ الاضطرار إلى ذلك الواحد المعيّن أو طروّ التلف عليه ، وبين عدم علمه بذلك لكن بعد مدّة اتّفق عروض الاضطرار أو عروض التلف. أمّا الثاني فواضح ، وأمّا الأوّل فلعلمه بتوجّه تكليف فعلي ، غايته أنّه مردّد بين الطويل على تقدير كونه في الطرف الذي يعلم أنّه لا يعرضه الاضطرار ، والقصير على تقدير كونه في الطرف الذي يعلم بأنّه يضطرّ إليه بعد ساعة مثلاً ، فيكون ذلك التكليف الطويل في قبال هذا التكليف القصير في مقام العلم المتعلّق بوجود أحدهما ، فأيّ منهما كان هو الواقع كان

__________________

(١) وسيلة النجاة : كد ـ كه [ لا يخفى أنّه قد رُمز للصفحات الأُولى بالحروف ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٩٧.

١٤٠